دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 06:39 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي لا يكفي في الإثبات مجرد نفي التشبيه

فَـصْـــلٌ
وَأَمَّا فِي طُرُقِ الْإِثْبَاتِ فَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ الْمُثْبِتَ لاَ يَكْفِي فِي إِثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، إِذْ لَوْ كَفَى فِي إِثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَجَازَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الأَعْضَاءِ وَالْأَفْعَالِ بِمَا لاَ يَكَادُ يُحْصَى مِمَّا هُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَأَنْ يُوصَفَ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي لاَ تَجُوزُ عَلَيْهِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، كَمَا لَوْ وَصَفَهُ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ بِالْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ الْمُفْتَرِي: يَأْكُلُ لاَ كَأَكْلِ الْعِبَادِ، وَيَشْرَبُ لاَ كَشُرْبِهِمْ، وَيَبْكِي وَيَحْزَنُ لاَ كَبُكَائِهِمْ وَلاَ حُزْنِهمْ، كَمَا يُقَالُ: يَضْحَكُ لاَ كَضَحِكِهِمْ، وَيَفْرَحُ لاَ كَفَرَحِهِمْ، وَيَتَكَلَّمُ لاَ كَكَلاَمِهِمْ، وَلِجَازَ أَنْ يُقَالَ: لَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ لاَ كَأَعْضَائِهِمْ، كَمَا قِيلَ: لَهُ وَجْهٌ لاَ كَوُجُوهِهِمْ، وَيَدَانِ لاَ كَأَيْدِيهمْ حَتَّى يَذْكُرَ الْمَعِدَةَ وَالْأَمْعَاءَ وَالذَّكَرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ مَعَ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا أَثْبَتَّهُ، إِذَا نَفَيْتَ التَّشْبِيهَ، وَجَعَلْتَ مُجَرَّدَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ كَافِيًا فِي الْإِثْبَاتِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ فَرْقٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
فَإِنْ قَالَ: الْعُمْدَةُ فِي الْفَرْقِ هُوَ السَّمْعُ، فَمَا جَاءَ السَّمْعُ بِهِ أُثْبِتُهُ، دُونَ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ السَّمْعُ.
قِيلَ لَهُ: أَوَّلًا السَّمْعُ هُوَ خَبَرُ الصَّادِقِ عَمَّا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، فَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَهُوَ حَقٌّ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَالْخَبَرُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُِ لاَ يَنْعَكِسُ، فَلاَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ، فَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ السَّمْعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ السَّمْعَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ نَفَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّمْعَ لَمْ يَنْفِ كُلَّ هَذِهِ الْأُمُورِ بِأَسْمَائِهَا الْخَاصَّةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يَنْفِيهَا مِنَ السَّمْعِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ حِينَئِذٍ نَفْيُهَا، كَمَا لاَ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا. ////
وَأَيْضًا، فَلاَ بُدَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يُثْبَتُ لَهُ وَيُنْفَى عَنْهُ، فَإِنَّ الْأُمُورَ الْمُتَمَاثِلَةَ فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ، يَمْتَنِعُ اخْتِصَاصُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ بِالْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ، فَلاَ بُدَّ مِن اخْتِصَاصِ الْمَنْفِيِّ عَنِ المُثْبَتِ بِمَا يَخُصُّهُ بِالنَّفْيِ، وَلاَ مِن اخْتِصَاصِ الثَّابِتِ عَنِ المَنْفِيِّ بِمَا يَخُصُّهُ بِالثُّبُوتِ.
وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: لاَ بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُوجِبُ نَفْيَ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُثْبِتُ لَهُ مَا هُوَ ثَابِتٌ، وَإِنْ كَانَ السَّمْعُ كَافِيًا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ،فَمَا الْفَرْقُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا؟
فَيُقَالُ كُلُّ مَا نَافَى صِفَاتِ الْكَمَالِ الثَّابِتَةَ لِلَّهِ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْقِدَمِ - عُلِمَ امْتِنَاعُ الْعَدَمِ وَالْحُدُوثِ عَلَيْهِ، وَعُلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ، فَالْمُفْتَقِرُ إِلَى مَا سِوَاهُ فِي بَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ نَفْسُه لَيْسَ هُوَ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ، بَلْ بِنَفْسِهِ وَبِذَلِكَ الْآخَرِ الَّذِي أَعْطَاهُ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ نَفْسُه، فَلاَ يُوجَدُ إِلاَّ بِهِ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَكُلُّ مَا نَافَى غِنَاهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَهُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَدِيرٌ قَوِيٌّ فَكُلُّ مَا نَافَى قُدْرَتَهُ وَقُوَّتَه فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ حَيٌّ قَيُّومٌ فَكُلُّ مَا نَافَى حَيَاتَهُ وقَيُّومِيَّتَه فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّمْعُ قَدْ أُثْبِتَ لَهُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِ الْكَمَالِ مَا قَدْ وَرَدَ، فَكُلُّ مَا ضَادَّ ذَلِكَ فَالسَّمْعُ يَنْفِيه، كَمَا يَنْفِي عَنْهُ الْمِثْلَ وَالْكُفُؤَ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ نَفْيٌ لِضِدِّهِ وَلِمَا يَسْتَلْزِمُ ضِدَّهُ. وَالْعَقْلُ يَعْرِفُ نَفْيَ ذَلِكَ، كَمَا يَعْرِفُ إِثْبَاتَ ضِدِّهِ، فَإِثْبَاتُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ نَفْيٌ لِلْآخَرِ وَلِمَا يَسْتَلْزِمُهُ.
فَطُرُقُ الْعِلْمِ بِنَفْيِ مَا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهُ مُتَّسِعَةٌ، لاَ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ، الَّذِينَ تَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، حَتَّى إِنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا احْتَجَّ عَلَيْهِ مَنْ نَفَاهُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ.
وَكَذَلِكَ احْتَجَّ الْقَرَامِطَةُ عَلَى نَفْيِ جَمِيعِ الْأُمُورِ حَتَّى نَفَوْا النَّفْيَ فَقَالُوا: لاَ يُقَالُ مَوْجُودٌ وَلاَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلاَ حَيٍّ وَلاَ لَيْسَ بِحَيٍّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْمَوْجُودِ أَوِ الْمَعْدُومِ. فَلَزِمَهُمْ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ امْتِنَاعًا، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْجَمَادَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْأَحْيَاءِ الْكَامِلِينَ، فَطُرُقُ تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مُتَّسِعَةٌ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى هَذَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يُنْفَى عَنْهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يُنْفَى لِتَضَمُّنِ النَّفْيِ الْإِثْبَاتَ، إِذْ مُجَرَّدُ النَّفْيِ لاَ مَدْحٌ فِيهِ وَلاَ كَمَالٌ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يُوصَفُ بِالنَّفْيِ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يُشْبِهُ الْمَوْجُودَ، وَلَيْسَ هَذَا مَدْحًا لَهُ؛ لِأَنَّ مُشَابَهَةَ النَّاقِصِ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ نَقْصٌ مُطْلَقٌ، كَمَا أَنَّ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ، يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَالنَّقْصُ ضِدُّ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ وَالْمَوْتُ ضِدُّ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ النَّوْمُ وَالسِّنَةُ ضِدُّ كَمَالِ الْحَيَاةِ، فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ اللُّغُوبُ نَقْصٌ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ فِيهِ افْتِقَارٌ إِلَى مَوْجُودٍ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْغَيْرِ وَالِاعْتِضَادَ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الِافْتِقَارَ إِلَيْهِ وَالِاحْتِيَاجَ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَحْمِلُهُ أَوْ يُعِينُهُ عَلَى قِيَامِ ذَاتِه أَوْ أَفْعَالِهِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ مَنْ يَأْكُلُ ويَشْرَبُ، وَالْآكِلُ وَالشَّارِبُ أَجْوَفُ، وَالْمُصْمَتُ الصَّمَدُ أَكْمَلُ مِنَ الآكِلِ الشَّارِبِ؛ وَلِهَذَا كَانَتِ الْمَلاَئِكَةُ صَمَدًا لاَ تَأْكُلُ وَلاَ تَشْرَبُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ، وَكُلَّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ مَخْلُوقٌ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَالسَّمْعُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ: ( اللَّهُ الصَّمَدُ) وَالصَّمَدُ الَّذِي لاَ جَوْفَ لَهُ، وَلاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ. وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ نَسَبُ الرَّحْمَنِ وَهِيَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ) فَجَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ أَعْضَاءُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبُ، فَالْغَنِيُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ مُنَزَّهٌ عَنْ آلاَتِ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ الْيَدِ فَإِنَّهَا لِلْعَمَلِ وَالْفِعْلِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْصُوفٌ بِالْعَمَلِ وَالْفِعْلِ، إِذْ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ أَكْمَلَ مِمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَعَنْ آلاَتِ ذَلِكَ وَأَسْبَابِهِ، وَكَذَلِكَ الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، الَّذِي يُنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهُ، بِخِلاَفِ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ فَإِنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَكَمَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ دُونَ الْعَجْزِ، وَبِالْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ، وَبِالْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ، وَبِالسَّمْعِ دُونَ الصَّمَمِ، وَبِالْبَصَرِ دُونَ الْعَمَى، وَبِالْكَلاَمِ دُونَ الْبُكْمِ - فَكَذَلِكَ يُوصَفُ بِالْفَرَحِ دُونَ الْحُزْنِ وَبِالضَّحِكِ دُونَ الْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ مَا أَثْبَتَهُ السَّمْعُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لاَ كُفُؤَ لَهُ، وَلاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُه كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، وَلاَ حَقِيقَةُ شَيءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ، لاَ الْمَلاَئِكَةِ وَلاَ السَّمَاوَاتِ وَلاَ الْكَوَاكِبِ، وَلاَ الْهَوَاءِ وَلاَ الْمَاءِ وَلاَ الْأَرْضِ، وَلاَ الْآدَمِيِّينَ وَلاَ أَبْدَانِهِمْ وَلاَ أَنْفُسِهِمْ، وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ يُعْلَمُ أَنَّ حَقِيقَتَهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ شَيْءٍ مِنَ المَوْجُودَاتِ أَبْعَدُ مِنْ سَائِرِ الْحَقَائِقِ، وَأَنَّ مُمَاثَلَتَهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَبْعَدُ مِنْ مُمَاثَلَةِ حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ لِحَقِيقَةِ مَخْلُوقٍ آخَرَ.
فَإِنَّ الْحَقِيقَتَيْنِ إِذَا تَمَاثَلَتَا جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ، وَوَجَبَ لَهَا مَا وَجَبَ لَهَا، وَامْتَنَعَ عَلَيْهَا مَا امْتَنَعَ عَلَيْهَا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ عَلَى الْخَالِقِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُحَدَثِ الْمَخْلُوقِ مِنَ العَدَمِ وَالْحَاجَةِ، وَأَنْ يَثْبُتَ لِهَذَا مَا يَثْبُتُ لِذَاكَ مِنَ الْوُجُوبِ وَالْغِنَى، فَيَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ، مَوْجُودًا مَعْدُومًا، وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ.
وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ بُطْلاَنُ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: بَصَرٌ كَبَصَرِي، وَيَدٌ كَيَدِي وَنَحْوُ ذَلِكَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا اسْتِيفَاءَ مَا يَثْبُتُ لَهُ، وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ، وَاسْتِيفَاءَ طُرُقِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى جَوَامِعِ ذَلِكَ وَطُرُقِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَلاَ نُثْبِتُهُ وَلاَ نَنْفِيه، فَنُثْبِتُ مَا عَلِمْنَا ثُبُوتَهُ، وَنَنْفِي مَا عَلِمْنَا نَفْيَهُ، وَنَسْكُتُ عَمَّا لاَ نَعْلَمُ نَفْيَهُ وَلاَ إِثْبَاتَه، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.

  #2  
قديم 7 ذو الحجة 1429هـ/5-12-2008م, 03:09 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

فَصْلٌ
وأمَّا الضَّابِطُ في بابِ الإِثباتِ فأنْ نُثْبِتَ للهِ تعالى ما أَثبَتَهُ لنفسِه منْ صفاتِ الكمالِ على وجهٍ لاَ نَقْصَ فيهِ بأيِّ حالٍ منَ الأحوالِ لقولِهِ تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)([1]). والمثلُ الأعلى هوَ الوصفُ الأكْمَلُ الذي لاَ يُماثِلُهُ شيْءٌ.
فصفاتُ اللهِ تعالى كلُّهَا صفاتُ كمالٍ، سواءٌ كانتْ صفاتُ ثبوتٍ، أمْ صفاتُ نفيٍ وقدْ سَبَقَ أنَّ النَّفيَ الْمَحْضَ لاَ يُوجدُ في صفاتِ اللهِ تعالى، وأنَّ المقصودَ بصفاتِ النَّفْيِ نفيُ تلكَ الصِّفةِ لاتِّصافِهِ بكمالِ ضِدِّهَا.
ولهذَا لا يَصِحُّ في ضابِطِ الإثباتِ أنْ نَعتمدَ على مجرَّدِ الإِثباتِ بلاَ تشبيهٍ لأنَّهُ لوْ صَحَّ ذلكَ لجازَ أنْ يُثْبِتَ المفتري للهِ سبحانَه كلَّ صفةِ نقْصِ معَ نفيِ التَّشْبِيهِ، فيَصِفُهُ بالحُزْنِ، والبكاءِ، والجوعِ، والعَطَشِ ونحوِهَا مِمَّا يُنَزَّهُ اللهُ عنهُ معَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، فيقولُ: إنَّ اللهَ يَحزَنُ لا كحزنِ العِبادِ، ويَبكِي لا كبكائِهِمْ، ويَجوعُ لا كجُوعِهِمْ، ويَعطَشُ لا كعَطَشِهِمْ، ويأكُلُ لا كأكْلِهِمْ، كما أنَّهُ يَفرَحُ لاَ كفَرَحِهِمْ، ويَضحَكُ لا كضَحِكِهِمْ، ويَتكلَّمُ لا ككلامِهِمْ.
ولَجَازَ أيضاً أنْ يُثْبِتَ المُفْتَرِي للهِ سبْحانَهُ أعضاءً كثيرةً معَ نفيِ التَّشْبِيهِ فيقولَ: إنَّ للهِ تعالى كَبِداً لا كأكبادِ العِبادِ، وأمعاءً لا كأمعائِهمْ، ونحوُ ذلكَ مِمَّا يُنَزَّهُ اللهُ تعالى عنْهُ، كما أنَ لهُ وجْهاً لا كوجوهِهِمْ، ويَدَيْنِ لاَ كأيدِيهِمْ.
ثمَّ يقولُ المفترِي لمنْ نَفَى ذلكَ وأَثْبَتَ الفَرَحَ، والضَّحِكَ، والكلامَ، والوجْهَ، واليديْنِ أيُّ فرْقٍ بينَ ما نفَيْتَ وما أَثْبَتَّ، إذَا جعلتَ مجرَّدَ نفيِ التَّشبيهِ كافياً في الإثباتِ فأنَا لمْ أَخْرُجْ عنْ هذَا الضَّابِطِ فَإنِّي أُثبِتُ ذلكَ بدونِ تشبيهٍ؟
فإنْ قالَ النَّافِي: الفرْقُ هوَ السَّمْعُ (أي الدَّليلُ منَ الكِتابِ والسُّنَّةِ) فمَا جَاءَ بهِ الدَّليلُ أُثْبِتُهُ ومَا لمْ يَجِئْ بهِ لمْ أُثْبِتْهُ.
قالَ المُفْتري: السَّمْعُ خبرٌ والخبرُ دليلٌ على المُخْبَرِ عنْهُ، والدَّليلُ لاَ يَنْعَكِسُ فلاَ يَلزَمُ منْ عدمِهِ عدمُ المدْلولِ عليهِ لأنَّهُ، قدْ يَثبُتُ بدليلٍ آخَرَ فمَا لمْ يَرِدْ بهِ السَّمْعُ يَجوزُ أنْ يكونَ ثابِتاً في نفسِ الأمْرِ وإنْ لمْ يَرِدْ بهِ السَّمْعُ، ومِنَ المعلومِ أنَّ السَّمْعَ لم يَرِدْ بِنَفْيِ كلِّ هذهِ الأمورِ بأسمائِهَا الخَاصَّةِ فلمْ يَرِدْ بنفيِ الحُزْنِ، والبُكاءِ، والجوعِ، والعَطَشِ، ونفيِ الكَبِدِ، والْمَعِدَةِ، والأمعاءِ وإذَا لمْ يَرِدْ بنفِيهَا جازَ أنْ تكونَ ثابتةً في نفسِ الأمْرِ فلا يَجوزُ نفيُها بِلاَ دليلٍ، وبهذَا يَنقطعُ النَّافي لهذِهِ الصِّفاتِ، حيثُ اعْتَمَدَ فيمَا يَنفيهِ على مجرَّدِ نفيِ التَّشْبِيهِ ويُعْلَمُ أنَّهُ لا يَصِحُّ الاعْتِمادُ عليْهَا، وإنَّما الاعْتمادُ على مَا دلَّ عليْهِ السَّمْعُ والعَقْلُ مِنْ وَصْفِ اللهِ تعالى بصفاتِ الكمالِ على وجهٍ لاَ نَقْصَ فيهِ، وعلى هذَا فكلُّ ما يُنافِي صفاتِ الكمالِ الثابتةِ للهِ، فاللهُ منزَّهٌ عنهُ لأنَّ ثبوتَ أحدِ الضِّدَّيْنِ نفيٌ للآخَرِ ولِمَا يَسْتَلْزِمُهُ.
وبهذَا يُمكِنُ دفعُ مَا أَثبَتَهُ هذَا المفتري لله تعالى منْ صفاتِ النَّقْصِ فَيُقَالُ: الحُزنُ، والبكاءُ، والجوعُ، والعَطَشُ صفاتُ نقْصٍ منافيةٌ لكمالِهِ فتكونُ مُنْتَفِيَةً عنِ اللهِ ويُقَالُ أيضاً: الأكلُ، والشُّرْبُ مستلزِمٌ للْحاجةِ والحاجةُ نَقْصٌ وما استلْزَمَ النَّقْصَ فهوَ نَقْصٌ. ويقالُ أيْضاً: الكبِدُ، والمعِدَةُ، والأمعاءُ آلاتُ الأكْلِ والشُّرْبِ والمُنَزَّهُ عنِ الأكْلِ والشُّربِ مُنَزَّهٌ عَنْ آلاتِ ذلكَ.
وأمَّا الفرَحُ، والضَّحِكُ، والغَضَبُ، ونحوُها فهيَ صفاتُ كمالٍ لاَ نَقْصَ فيهَا فلاَ تَنتفِي عنْهُ لكنَّها لا تُمَاثِلُ مَا يَتَّصِفُ بهِ المخْلُوقُ منْهَا فإنَّهُ سبحانَهُ لاَ كُفْؤَ لهُ، ولاَ سَمِيَّ، ولا مِثْلَ فلاَ يَجوزُ أنْ تكونَ حقيقةُ ذاتِهِ كحقيقةِ شيءٍ منْ ذواتِ المخلوقينَ، ولا حقيقةُ شيْءٍ منْ صِفاتِهِ كحقيقةِ شيءٍ منْ صفاتِ المخلوقينَ لأنَّهُ ليسَ منْ جِنْسِ المخلوقاتِ، لاَ الملائكةِ، ولاَ الآدميِّينَ، ولا السَّمواتِ، ولاَ الكواكبِ، ولاَ الهواءِ، ولاَ الأَرْضِ ولاَ غيرِ ذلكَ.
بَلْ يُعْلَمُ أنَّ حقيقَتَهُ عنْ مماثَلةِ شيءٍ منَ الموجوداتِ أبعدُ منْ سائِرِ الحقائِقِ، لأنَّ الحقِيقَتَين إذَا تماثَلَتَا جَازَ على الواحدةِ مَا يَجوزُ على الأخْرى ووَجَبَ لهَا ما يَجبُ لِلأُخْرى، وامتَنَعَ عليْهَا ما يَمتنِعُ على الأخرى فيَلزَمُ أنْ يَجوزَ على الخالِقِ الواجِبِ بنفسِهِ ما يَجوزُ على المخلوقِ المُحْدَثِ، وأنْ يَثْبُتَ لهذَا المخْلوقِ ما يَثْبُتُ لِلخالقِ فيكونُ الشَّيْءُ الواحدُ واجباً بنفسِهِ غيرَ واجبٍ بنفسِهِ، موجوداً معدُوماً، وهذَا جمْعٌ بينَ النَّقِيضَيْنِ.

([1]) سورة النحل، الآية: 60.

  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 05:29 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


فصــلٌ

قولُه:
وأما في طُرقِ الإثباتِ، فمعلومٌ أيضاً أن المثبِتَ لا يكفي في إثباتِه مجرَّدُ نفيِ التشبيهِ، إذ لو كفى في إثباتِه مجرَّدَ نفيِ التشبيهِ لجازَ أن يُوصفَ سبحانَه من الأعضاءِ والأفعالِ بما لا يَكادُ يُحصَى مما هو ممتنِعٌ عليه مع نفيِ التشبيهِ. وأن يوصَفَ بالنقائصِ التي لا تَجوزُ عليه مع نفيِ التشبيهِ، كما لو وَصَفَه مفْتَرٍ عليه بالبكاءِ والحُزْنِ والجوعِ والعطَشِ مع نفيِ التشبيهِ وكما لو قالَ المُفْتَري: يأكلُ لا كأكلِ العِبادِ، ويشربُ لا كشُربِهم، ويَبكي ويَحزنُ لا كبكائِهم و حزنِهم، كما يُقالُ: يَضحكُ لا كضَحِكِهم. ويَفرحُ لا كفرحِهم، ويَتكلَّمُ لا ككلامِهم. ولجازَ أن يُقالَ: له أعضاءٌ كثيرةٌ لا كأعضائِهم كما قيلَ له وجهٌ لا كوجوهِهم، ويدان لا كأيدِيهم حتى يَذكرَ المَعِدَةَ والأمعاءَ والذَّكَرَ. وغيرَ ذلك مما يَتعالى اللهُ عزَّ وجلَّ عنه. سبحانَه وتعالى عما يقولُ الظالمون علوًّا كبيراً. فإنه يُقالُ لمن نَفَى ذلك مع إثباتِ الصفاتِ الخبريَّةِ وغيرِها من الصفاتِ: ما الفرْقُ بينَ هذا وما أَثبَتَّه إذا نَفيتَ التشبيهَ وجعلْتَ مجرَّدَ نفيِ التشبيهِ كافياً في الإثباتِ؟ فلا بد من إثباتِ فرْقٍ في نفسِ الأمْرِ.

الشرْحُ:
يعني أن الاعتمادَ في إثباتِ الصفاتِ للهِ لا يَكفي فيه مجرَّدُ نفيِ التشبيهِ، فلا يُقالُ: نَصفُ اللهَ بكلِّ وصفٍ حتى ولو كان غيرَ واردٍ، ما دُمْنَا نَنْفي مشابهتَه لخَلْقِه، فهذا الطريقُ لا يَكفي لما يَترتَّبُ عليه من اللوازمِ الباطلةِ؛ إذ لو كان الأمرُ كذلك لجازَ أن يُوصفَ الربُّ بما يَمتنِعُ عليه من أوصافِ النقصِ كأن يُقالَ: له بكاءٌ وحُزْنٌ وجوعٌ وعطَشٌ وأكْلٌ وشُربٌ لا يُماثلُ ما يَختصُّ بالمخلوقين، كما يُوصفُ بالعلْمِ والقُدرةِ والسمْعِ والبصرِ والمحبَّةِ والرضا والوجْهِ واليدين إلى غيرِ ذلك من الصفاتِ الواردةِ في الكتابِ والسنَّةِ، أو لجازَ أن يُقالَ: له أعضاءٌ كما أن للمخلوقِ أعضاءٌ دونَ أن يكونَ ما يَختصُّ باللهِ مُماثلاً لما يَختصُّ بالمخلوقِ الفقيرِ المحدَثِ. ولو كان الاعتمادُ في الإثباتِ يَكفي فيه النفيُ المجرَّدُ عن التشبيهِ لقيلَ لِمَن يَنفي أوصافَ النقصِ عن اللهِ ويُثبتُ له أسماءَه الحُسْنى وصفاتِه العُليا دونَ تفريقٍ بينَ بعضِها والبعضِ الآخَرِ: ما الفرْقُ بينَ ما نَفَيْتَ وبينَ ما أَثْبَتَّ ما دامَ أن العمدةَ في الإثباتِ هو مجرَّدُ نفيِ التشبيهِ دونَ اعتبارٍ آخَرَ؟ وحينئذٍ فلابدَّ من فارقٍ ثابتٍ بينَ ما يَجوزُ إثباتُه للهِ وما لا يَجوزُ. وأنتَ خبيرٌ بأن الفارقَ هو ورودُ الوصْفِ أو عدمُ ورودِه، وما يَليقُ باللهِ وما لا يَليقُ به كما سيأتي.

قولُه:
فإن قالَ: العمدةُ في الفرْقِ هو السمْعُ فما جاءَ به السمْعُ أثْبَتُّه دونَ مالم يَجئْ به السمْعُ. قيل له: أوَّلاً: السمْعُ هو خبَرُ الصادقِ عن ما هو الأمرُ عليه في نفسِه، فما أَخبَرَ به الصادقُ فهو حقٌّ، من نفيٍ أو إثباتٍ. والخبرُ دليلٌ على المُخبَرِ عنه. والدليلُ لا يَنعكسُ. فلا يَلزمُ من عدمِه عدمُ المدلولِ عليه. فما لم يَردْ به السمْعُ ويَجوزُ أن يكونَ ثابتاً في نفسِ الأمرِ - وإن لم يَردْ به السمْعُ - إذا لم يكنْ نَفاهُ. ومعلومٌ أن السمْعَ لم يَنفِ هذه الأمورَ بأسمائِها الخاصَّةِ، فلا بدَّ من ذِكرِ ما يَنفيها من السمْعِ وإلا فلا يَجوزُ حينئذٍ نفيُها، كما لا يَجوزُ إثباتُها. وأيضاً فلابدَّ في نفسِ الأمرِ من فرْقٍ بينَ ما يُثبتُ له وبينَ ما يُنفى عنه؛ فإن الأمورَ المتماثِلَةَ في الجوازِ والوجوبِ والامتناعِ يَمتنعُ اختصاصُ بعضِها دونَ بعضٍ في الجوازِ والوجوبِ والامتناعِ. فلابدَّ من اختصاصِ المنفيِّ عن المثْبَتِ بما يَخصُّه بالنفيِ ولابدَّ من اختصاصِ الثابتِ عن المنفيِّ بما يَخصُّه بالثبوتِ.

وقد يُعبَّرُ عن ذلك بأن يُقالَ: لابدَّ من أمرٍ يوجبُ نفيَ ما يَجبُ نفيُه عن اللهِ كما أنه لابدَّ من أمْرٍ يُثبِتُ له ما هو ثابتٌ. وإن كان السمْعُ كافياً كان مخبِراً عمَّا هو الأمرُ عليه في نفسِه. فما الفرْقُ في نفسِ الأمرِ بينَ هذا وهذا. فيُقالُ: كلُّ ما نَافَى صفاتِ الكمالِ الثابتةِ للهِ فهو مُنَزَّهٌ عنه؛ فإن ثبوتَ أحدِ الضدَّيْنِ يَستلزمُ نفيَ الآخَرِ فإذا عُلمَ أنه موجودٌ واجبُ الوجودِ بنفسِه، وأنه قديمٌ واجبُ القِدَمِ - عُلمَ امتناعُ العدَمِ والحدوثِ عليه، وعُلمَ أنه غنيٌّ عمَّا سواه. فالمفتقِرُ إلى ما سواه في بعضِ ما يَحتاجُ إليه لنفسِه ليس هو موجوداً بنفسِه، بل وجودُه بنفسِه وبذلك الآخَرِ الذي أَعطاه ما تَحتاجُ إليه نفسُه فلا يوجدُ إلا به. وهو سبحانَه غنيٌّ عن كلِّ ما سِواه، فكلُّ ما نَافَى غناه فهو مُنَزَّهٌ عنه، وهو سبحانَه قديرٌ فكلُّ ما نَافَى قُدرتَه وقوَّتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه، وهو سبحانَه حيٌّ قيُّومٌ فكلُّ ما نَافَى حياتَه وقيُّوميَّتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه.

الشرْحُ:
يعني أن المُثْبِتَ للإسماءِ والصفاتِ النافي لصفاتِ النقْصِ قد يَعترضُ عليه من يُثبتُ للهِ أوصافاً كالأكلِ والشُربِ والعطَشِ والجوعِ وشبهِ ذلك من أوصافٍ لا تَليقُ به إذا قالَ المثبِتُ: العُمْدةُ في هذا البابِ على السمْعِ فما وَردَ في السمْعِ أَثبتناهُ، وما لم يَردْ به السمْعُ لم يَكفِ في إثباتِه مجرَّدُ نفيِ التشبيهِ. إذا قالَ هذا القولَ, قالَ له المعترِضُ: السمْعُ هو خَبرُ اللهِ أو خبرُ رسولِه عن ما الأمرُ عليه في الواقعِ، فما وَردَ في الكتابِ أو السنَّةِ من نفيٍ أو إثباتٍ فهو حقٌّ يَجبُ تصديقُه دونَ أن ننفيَ ما لم يَنفِ كما لم نُثبتْ ما لم يُثبِتْ؛ فإن الدليلَ دالٌّ على الخبرِ عنه، وحالُ الدليلِ أنه لا يَنعكسُ فلا يَلزمُ من عدَمِ الدليلِ عدمُ المدلولِ. فمَثلاً: ما لم يَرِد السمْعُ بنفيِه يَجوزُ أن يكونَ في الواقعِ ثابتاً للهِ ما دامَ أن السمْعَ لم يَردْ بنفيِه. ومن المعلومِ أن النصوصَ لم تَنفِ الأكْلَ والشرْبَ والبكاءَ والحزْنَ ونحوَ ذلك بأسمائِها الخاصَّةِ بها فلابدَّ والحالةُ هذه من وُرودِ نفيِ هذه الصفاتِ بأسمائِها وإلا فلا يَجوزُ الحكْمُ بنفيِها كما قُلتم لنا بأنه لا يَجوزُ إثباتُها للهِ، ويقولُ المعترِضُ بالإضافةِ إلى ما سَبقَ: لابدَّ من أمرٍ يُميِّزُ لنا بينَ الأشياءِ التي يَجوزُ إثباتُها للهِ وما لا يَجوزُ إثباتُه، ويُميِّزُ لنا بينَ الأشياءِ التي تُنفَى عن اللهِ وبينَ الأشياءِ التي لا يَصحُّ نفيُها؛ فإن الثبوتَ والنفيَ متماثلان فيما يَجبُ ويَجوزُ ويَمتنعُ فلابدَّ من فارقٍ يُمَيِّزُ الإثباتَ عن النفيِ، والنفيَ عن الإثباتِ وإلا فلا يَجوزُ حينئذٍ أن نَنفيَ شيئاً غيرَ منفيٍّ في النصِّ، كما لا يَجوزُ أن نُثبتَ شيئاً غيرَ واردٍ فيه. وبعبارةٍ أَصرحُ قد يُعبَّرُ عما سَبقَ بأن يُقالَ: لابدَّ من اعتبارٍ يُحتِّمُ ما يَجبُ إثباتُه للهِ ويُحتِّمُ ما يَجبُ نفيُه عنه، وإنْ كانَ النصُّ كافياً في ذلك كان خبرُه مطابقاً لما الأمْرُ عليه في نفسِ الواقعِ، وحينئذٍ فما الفرْقُ بينَ نفيِ ما يُنفى وإثباتِ ما يُثبتُ؟ فكما تقولون يَجبُ أن لا يُثبتَ للهِ إلا ما وَردَ في النصِّ فقولوا لا يُنفى عن اللهِ إلا ما جاءَ السمْعُ بنفيِه. هذا حاصلُ كلامِ المعترِضِ. فيُقالُ ردًّا عليهم ودَحْضاً لباطلِهم: كلُّ ما نَافى صفاتِ الكمالِ فهو مَنْفِيٌّ عن اللهِ فإن إثباتَ الشيءِ نفيٌ لضدِّه، كما أن نَفْيَ الشيءِ إثباتٌ لضدِّه. فمَثلاً: هو سبحانَه موصوفٌ بالوجودِ والأوَّليِّةِ والغِنَى والحياةِ والقيُّوميَّةِ والقدْرةِ والقوَّةِ وإثباتُ هذه الأوصافِ مستلزِمٌ لنفيِ أضدادِها.

قولُه:
وبالجمْلَةِ؛ فالسمْعُ قد أَثْبَتَ له من الأسماءِ الحُسنى وصفاتِ الكمالِ ما قد وَردَ. فكلُّ ما ضادَّ ذلك فالسمْعُ يَنفِيه، كما يُنفى عنه المِثْلُ والكفءُ فإن إثباتَ الشيءِ نفيٌ لضدِّه ولِمَا يَستلزِمُ ضدَّه. والعقلُ يَعرفُ نفيَ ذلك كما يَعرفُ إثباتَ ضدِّه فإثباتُ أحَدِ الضدَّيْنِ نَفْيٌ للآخَرِ ولما يَستلزمُه. فطُرُقُ العلْمِ بنفيِ ما يُنَزَّهُ عنه الربُّ متَّسعةٌ لا يُحتاجُ فيها إلى الاقتصارِ على مجرَّدِ نفيِ التشبيهِ والتجسيمِ، كما فعلَه أهل القصورِ والتقصيرِ الذين تَناقَضُوا في ذلك، وفرَّقوا بينَ المتماثِلَيْن، حتى أن كلَّ من أَثبتَ شيئاً احتَجَّ عليه من نَفاه بأنه يَستلزمُ (التشبيهَ)، وكذلك احتَجَّ القرامطةُ على نفيِ جميعِ الأمورِ، حتى نَفَوا النفيَ والإثباتَ، فقالوا: لا يُقالُ لا موجودٌ ولا ليس بموجودٍ ولا حيٌّ، ولا ليس بحيٍّ، لأن ذلك تشبيهٌ بالموجودِ أو المعدومِ، فلَزِمَ نفيُ النقيضين، وهو أظهرُ الأشياءِ امتناعاً، ثم إن هؤلاءِ يَلزمُهم من تشبيهِه بالمعدوماتِ والممتَنِعاتِ والجماداتِ أعظمُ مما فَرُّوا منه من التشبيهِ بالأحياءِ الكامِلِين، فطُرُقُ تنزيهِه وتقديسِه عمَّا هو مُنَزَّهٌ عنه متَّسِعَةٌ لا تَحتاجُ إلى هذا.

الشرْحُ:
بعد أن مَثَّلَ المؤلِّفُ بصفةِ الوجودِ والأوَّليَّةِ والغِنَى المطلَقِ والقوَّةِ والقدْرةِ والحياةِ والقيُّوميَّةِ، وأن إثباتَ هذه الأوصافِ مستلزِمٌ لنفيِ أَضدادِها أَردفَ يقولُ: ومُجمَلُ القولِ أنه قد وَردَ في النصوصِ من أسماءِ اللهِ الحُسْنى وأوصافِه العُليا ما هو ثابتٌ معلومٌ، وإثباتُ ذلك مَستلزِمٌ لنفيِ ضدِّه، كالعلْمِ مع الجهْلِ، والكلامِ مع الخَرَسِ، والسمْعِ مع الصَّمَمِ، وأشباهِ ذلك. ونفيُ الشيءِ إثباتٌ لضِدِّه كالظُلْمِ مع العدلِ، ونفيُ المثيلِ والكفْءِ والشريكِ إثباتٌ للوَحدانيَّةِ والتفرُّدِ بالخلْقِ والتدبيرِ والكمالِ المطلَقِ، فإثباتُ أحدِ الضدَّيْنِ نفيٌ للآخَرِ ولما يَستلزمُه ولقدْ أَحسنَ القائلُ:

والضِّدُّ يُظهرُ حسنَه الضدُّ وبِضدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ

وسيأتي بعد هذا في كلامِ الشيخ أمثلةٌ توضِّحُ هذا المقامَ. والعاقلُ بما وَهبَه اللهُ من عقْلٍ سليمٍ يُدركُ ذلك فهي قضيَّةٌ بدهيَّةٌ ضروريَّةٌ، وحينئذٍ فطُرقُ تنزيهِ اللهِ عمَّا لا يَليقُ به متعدِّدةٌ ليست منحصِرةٌ فيما يدَّعيه أهلُ الجهلِ والتفريطِ من أن نفيَ التشبيهِ يَكفي في إثباتِ ما لم يَردْ من الصفاتِ، أو أنه يُعتمدُ عليه في نفيِ ما وَردَ بحُجَّةِ التنزيهِ كما هي طريقةُ الجهْمِيَّةِ والمعتزِلةِ والأشاعرةِ وأضرابِهم. فقد أَثبتَ البعضُ شيئاً ونَفَى شيئاً، والبعضُ منهم نَفَى الجميعَ، ولا شكَّ أن هذه الطوائفَ قد تَناقضت في مقالاَتِها وفرَّقتْ بينَ الأمورِ المتماثلَةِ في الحكْمِ، وأَخذَ بعضُها يَحتجُّ على البعضِ الآخَرِ بما يُوافقُه فيه. ثم إنهم لم يَستفيدوا من دَعوى التنزيهِ ونفْيِ التشبيهِ إلا تَنَقُّصَ ربِّ العالمين وتشبيهَه بالناقصاتِ؛ فقد فرُّوا من تشبيهِه سبحانَه بالأحياءِ الكاملين على زعمِهم أن إثباتَ صفاتِه تشبيهٌ، فوقَعُوا في التشبيهِ بالجمادِ والمعدومِ والممتنِعِ، شأنُهم في ذلك شأنُ القرامطةِ النافين الإثباتَ والنفيَ زعْماً منهم أن الإثباتَ يَلزمُ منه التشبيهُ بالموجوداتِ, والنفيَ يَلزمُ منه التشبيهُ بالمعدوماتِ، فوَقَعوا في تشبيهِه بالممتنِعاتِ. وحينئذٍ فتنزيهُ اللهِ عمَّا لا يَليقُ به لا يكونُ بوصفِه بأوصافِ النقصِ، كما لا يكونُ بنفيِ أوصافِ الكمالِ.

قولُه:
وقد تَقدَّمَ أن نفيَ ما يُنفَى عنه سبحانَه نفيٌ متضمِّنٌ للنفيِ والإثباتِ؛ إذ مجرَّدُ النفيِ لا مدْحَ فيه ولا كمالَ، فإن المعدومَ يُوصفُ بالنفيِ، والمعدومَ لا يُشبِهُ الموجوداتِ وليس هذا مدحاً؛ لأن مشابَهةَ الناقصِ في صفاتِ النقصِ نقصٌ مطلقاً كما أن مماثَلَةَ المخلوقِ في شيءٍ من الصفاتِ تمثيلٌ وتشبيهٌ يُنزَّه عنه الربُّ تباركَ وتعالى والنقصُ ضدُّ الكمالِ، وذلك مِثلُ أنه قد عُلِمَ أنه حيٌّ والموتُ ضِدُّ ذلك، فهو مُنَزَّهٌ عنه، وكذلك النومُ والسِّنَةُ ضِدُّ كمالِ الحياةِ؛ فإن النومَ أخو الموتِ، وكذلك اللُّغوبُ نقْصٌ في القدرةِ والقوَّةِ، والأكلِ والشُّربِ ونحوِ ذلك من الأمورِ فيه افتقارٌ إلى موجودٍ غيرِه، كما أن الاستعانةَ بالغيرِ والاعتضادَ به ونحوَ ذلك تتَضمَّنُ الافتقارَ إليه والاحتياجَ إليه، وكلُّ من يَحتاجُ إلى من يَحملُه أو يُعينُه على قيامِ ذاتِه وأفعالِه فهو مفتقِرٌ إليه ليس مستغنياً عنه بنفسِه فكيف من يأكلُ ويشربُ، والآكلُ والشاربُ أجوفُ، والمصمَتُ الصمدُ أَكملُ من الآكلِ والشاربِ، ولهذا كانت الملائكةُ صُمُداً لا تأكلُ ولا تَشربُ، وقد تَقدَّمَ أن كلَّ كمالٍ ثَبتَ لمخلوقٍ فالخالقُ أَوْلى به وكلُّ نقْصٍ تَنزَّهَ عنه المخلوقُ فالخالقُ أَوْلى بتنزيهِه عن ذلك، والسمْعُ قد نَفَى ذلك في غيرِ موضعٍ، كقولِه تعالى: {اللهُ الصَّمَدُ} والصَّمَدُ الذي لا جَوْفَ له ولا يأكلُ ولا يشـربُ وهذه السورةُ هي نَسبُ الرحمنِ، أو هي الأصلُ في هذا البابِ. وقالَ في حقِّ المسيحِ وأمِّه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} فجَعلَ ذلك دليلاً على نَفيِ الألوهيَّةِ، فدَلَّ ذلك على تنزيهِه عن ذلك بطريقِ الأَوْلى والأَحْرى. والكبِدُ والطِّحالُ ونحوُ ذلك هي أعضاءُ الأكلِ والشربِ فالغنيُّ مُنَزَّهٌ عن ذلك مُنَزَّهٌ عن آلاتِ ذلك بخلافِ اليدِ فإنها للعملِ والفعلِ وهو سبحانَه موصوفٌ بالعملِ والفعْلِ، إذ ذاك من صفاتِ الكمالِ، فمن يَقدرُ أن يَفعلَ أكملَ ممن لا يَقدرُ على الفعْلِ، وهو سبحانَه مُنَزَّهٌ عن الصاحبةِ والولدِ وعن آلاتِ ذلك وأسبابِه، وكذلك البكاءُ والحزْنُ هو مستلزِمٌ الضعفَ والعجزَ الذي يُنَزَّهُ عنه سبحانَه. وبخلافِ الفرَحِ والغضَبِ. فإنه من صفاتِ الكمالِ. فكما يُوصفُ بالقدرةِ دونَ العجْزِ، وبالعلْمِ دونَ الجهلِ، وبالحياةِ دونَ الموتِ وبالسمْعِ دونَ الصمَمِ، وبالبصرِ دونَ العَمَى، وبالكلامِ دونَ البَكَمِ، فكذلك يُوصفُ بالفرَحِ دونَ الحزْنِ وبالضَّحِكِ دونَ البكاءِ ونحوِ ذلك.

الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ: قد تَقدَّمَ يعني في القاعدةِ الأُولى أن جميعَ ما وَصفَ اللهُ به نفسَه من النفيِ فهو متضمِّنٌ لنفيِ أوصافِ النقصِ وإثباتِ أوصافِ الكمالِ، فنَفْيُ السِّنَةِ والنومِ واللُّغوبِ وكونِه لا يَؤُودُه حِفظُ السمواتِ والأرضِ ولا يَعزُبُ عنه شيءٌ وكونِه يَرى ولا يُحاطُ به رؤيةً، كلُّ ذلك نفيٌ متضمِّنٌ لإثباتِ الكمالِ، ونفيُ ما يضادُّ هذه الحالَ، وهكذا القولُ في سائرِ ما وَردَ. وحينئذٍ فالنفيُ المحْـضُ ليس بشيءٍ، ولهذا يُوصفُ به المعدومُ والمعدومُ لا يُشبِه الموجـوداتِ وليس ذلك مدْحاً له لأن مشابَهةَ الناقصِ نقصٌ بكلِّ حالٍ كما أن المماثلَةَ لشيءٍ من الموجوداتِ فيه مشابَهةٌ ومماثَلَةٌ للغيرِ، وذلك نقصٌ كما أن عدَمَ المماثلَةِ كمالٌ. ولذلك يُوصفُ الربُّ بأوصافِ الكمالِ دونَ أضدادِها كما يَتنزَّهُ ويَتقدَّسُ عن الشبيهِ والمثالِ.

ثم سَردَ المؤلِّفُ أمثلةً لأوصافِ الكمالِ المستلزِمةِ لنفيِ أَضدادِها، ونفيِ أوصافِ النقصِ المستلزِمةِ لإثباتِ أضدادِها فقالَ: (وذلك أنه قد عَلمَ أنه حيٌّ والموتُ ضِدُّ ذلك فهو مُنَزَّهٌ عنه. إلى قولِه: والأكلُ والشربُ فيه افتقارٌ إلى موجودٍ غيرِه). يعني ففي إثباتِ هذه الصفاتِ نفيٌ لأضدادِها ولما يَستلزمُ أضدادَها.

وقولُه: (والآكلُ والشاربُ أجوفُ، والمُصْمَتُ الصمدُ أكملُ من الآكلِ والشاربِ) إلى قولِه: (فجَعلَ ذلك دليلاً على نفيِ الألوهيَّةِ فدَلَّ ذلك على تنزيهِه عن ذلك بطريقِ الأَوْلى والأَحْرى) معناه: إذا عُرِفَ أن من اعتْضَدَ بغيرِه واستعانَ به في أن يَحملَه أو يَقضيَ حوائجَه فهو مفتَقِرٌ إلى ذلك الغيرِ؛ فمَن يأكلُ ويشربُ مفتقرٌ إلى الأكلِ والشرْبِ لتَقومَ به ذاتُه ويَقْوَى به، والمُصْمَتُ أكملُ من الأجوفِ لعدمِ افتقارِه إلى شيءٍ تقومُ به ذاتُه، ومن أجْلِ ذلك كانت الملائكةُ صُمُداً، فهم من هذه الجهَةِ أكملُ من الإنسانِ لحاجتِه إلى الأكلِ والشُّربِ واللهُ تباركَ وتعالى قد وَصفَ نفسَه بأنه الصمَدُ والصمَدُ الذي لا جوْفَ له. وقد عُلمَ أن للهِ المثَلُ الأعلى فهو أحقُّ بالكمالِ من سائرِ خلقِه كما أنه أَوْلى بالتنزُّهِ عن النقائصِ والعيوبِ، وقد وَصفَ اللهُ عبدَه ورسولَه عيسى وأمَّه مريمَ بأنهما كانا يأكلان الطعامَ رادًّا بذلك على من زَعمَهما إِلهيْنِ فجَعلَ الأكلَ دليلاً على عدَمِ الألوهيَّةِ لما فيه من الحاجةِ والافتقارِ فعُلمَ بالضرورةِ انتفاءُ ذلك عن اللهِ سبحانَه من بابِ أَوْلى.

وقولُه: (والكَبِدُ والطِّحَالُ ونحوُ ذلك هي أعضاءُ الأكْلِ والشُّربِ) إلى قولِه: (وبخلافِ الفرَحِ والغضَبِ فإنه من صفاتِ الكمالِ) يعني: كما أن اللهَ سبحانَه مُنَزَّهٌ عن الأكْلِ والشُّرْبِ لأن ذلك وصْفُ نقْصٍ فهو سبحانَه مُنَزَّهٌ عن لوازمِه كالكَبِدِ والطِّحالِ وكما أنه مُنَزَّهٌ عن الصاحبةِ والولدِ؛ إذ هذه مستلزِمَةٌ للحاجةِ والافتقارِ فهو مُنَزَّهٌ عن لوازمِ ذلك، وكما أنه متَّصِفٌ بأوصافِ الكمالِ كاليدِ فهو متَّصِفٌ بلوازمِ ذلك كالعملِ.

وقولُه: (فكما يُوصفُ بالقدرَةِ دونَ العجْزِ وبالعلْمِ دونَ الجهْلِ إلخ) معناه: أن اللهَ سبحانَه يُوصفُ بأوصافِ الكمالِ دونَ أضدادِها مطلَقاً، ومن جملةِ ذلك وصفُه بالضحِكِ دونَ ضدِّه وهو البكاءُ، وبالفرَحِ دونَ ضدِّه وهو الحُزْنُ وبالغِنَى المطْلَقِ دونَ الأكْلِ والشُّربِ. وحينئذٍ فالذين يَصِفون اللهَ بمثلِ هذه الأوصافِ المنافيَةِ للكمالِ ويَكتفون فيها بنفيِ مشابَهةِ اللهِ لخلقِه مخالفون للمعقولِ الصريحِ والمنقولِ الصحيحِ.

وقولُه: (وهذه السورةُ، هي نَسَبُ الرحمنِ أو هي الأصلُ في هذا البابِ) يعني كما أَخرجَ الإمامُ أحمدُ وابنُ خُزَيمةَ والبيهقيُّ في (الأسماءِ والصفاتِ) عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ أن المشركين قالوا للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا محمَّدُ انْسِبْ لنا ربَّكَ فأنزلَ اللهُ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلا سَيَمُوتُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلا سَيُورَثُ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَمُوتُ وَلاَ يُورَثُ) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } (لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلاَ عَدْلٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). وروى البخاريُّ ومسلمٌ عن عائشةَ - رضيَ اللهُ عنها -: (أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعثَ رجلاً في سَرِيَّةٍ فكان يَقرأُ لأصحابِه في صلاتِهم فيَختِمُ بقلْ هو اللهُ أحدٌ فلما رَجَعوا ذَكروا ذلك لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: سَلُوه لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟! فسألوه فقالَ: لأنها صفةُ الرحمنِ وأنا أُحبُّ أن أَقرأَ بها فقالَ: (أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ).

قولُه:
وأيضاً فقد ثَبتَ بالعقلِ ما أَثبتَه السمْعُ من أنه سبحانَه لا كُفْءَ له ولا سَمِيَّ له، وليس كمثلِه شيءٌ، فلا يَجوزُ أن تكونَ حقيقتُه كحقيقةِ شيءٍ من المخلوقاتِ ولا حقيقةِ شيءٍ من صفاتِه كحقيقةِ شيءٍ من صفاتِ المخلوقاتِ، فيُعلمُ قطعاً أنه ليس من جِنسِ المخلوقاتِ لا الملائكةِ، ولا السمواتِ، ولا الكواكبِ، ولا الهواءِ، ولا الماءِ، ولا الأرضِ، ولا الآدميين، ولا أبدانِهم، ولا أنفسِهم، ولا غيرِ ذلك. بل يُعلمُ أن حقيقتَه عن مماثلَةِ شيءٍ من الموجوداتِ أبعدُ من سائرِ الحقائقِ، وأن مماثلتَه (لشيءٍ) منها أَبعدُ من مماثلِةِ حقيقةِ شيءٍ من المخلوقاتِ لحقيقةِ مخلوقٍ آخَرَ، فإن الحقيقتين إذا تماثَلتَا جازَ على كلِّ واحدةٍ ما يَجوزُ على الأُخْرَى ووَجبَ لها ما يَجبُ لها، فيَلزمُ أن يَجوزَ على الخالقِ القديمِ الواجبِ بنفسِه ما يَجوزُ على المحدَثِ المخلوقِ من العدَمِ والحاجةِ، وأن يَثبتَ لهذا ما يَثبتَ لذلك من الوجوبِ والغِنَى فيكونَ الشيءُ الواحدُ واجباً بنفسِه غيرَ واجبٍ بنفسِه، موجوداً معدوماً. وذلك جمْعٌ بين النقيضَيْن. وهذا مما يُعلمُ به بُطلانُ قولِ المشَبِّهةِ الذين يقولون بصَرٌ كبَصَرِي، أو يدٌ كيدي ونحوَ ذلك، تعالى اللهُ عن قولِهم علوًّا كبيراً، وليس المقصـودُ هنا استيفاءَ ما يَثبتُ له ولا ما يُنَزَّهُ عنه، واستيفاءَ طُرُقِ ذلك، لأن هذا مبسوطٌ في غيرِ هذا الموضِعِ وإنما المقصودُ هنا التنبيهُ على جوامِعِ ذلك وطُرُقِه، وما سَكتَ عنه السمْعُ نفْياً وإثباتاً ولم يكنْ في العقلِ ما يُثبتُه ولا يَنفيه سكتنا عنه فلا نُثبتُه ولا نَنفيه، فنُثبتُ ما علِمنا ثبوتَه. وننفي ما علِمنا نفيَه، ونَسكتُ عما لا نَعلمُ نفيَه ولا إثباتَه واللهُ أَعلمُ.

الشرْحُ:
يعني أن العقلَ السليمَ يُدركُ أن الربَّ الخالقَ للكوْنِ بأَسرِهِ لابدَّ أن يكونَ متَّصِفاً بالكمالِ، ومُنَزَّهاً عن النقصِ، كما أن السمْعَ قد وَردَ بذلك فيُعلمُ بالضرورةِ من العقلِ والسمْعِ أن ذاتَ اللهِ سبحانَه ليست كذواتِ المخلوقين ولا صفاتِه كصفاتِهم، فليس كشيءٍ من الموجوداتِ من سماءٍ أو ملائكةٍ أو أبدانِ آدميِّين أو أرواحِهم أو غيرِ ذلك، ويُعلمُ علْماً يقينيًّا أن مباينتَه لمخلوقاتِه أعظمُ من مباينةِ مخلوقٍ لمخلوقٍ، فإذا كان بعضُ الموجوداتِ لا يُماثلُ بعضاً فالمباينةُ التي بينَ الخالقِ والمخلوقِ أعظمُ من ذلك فإذا انتفت المماثلةُ بينَ مخلوقٍ ومخلوقٍ فانتفاؤها بينَ الخالقِ والمخلوقِ بطريقِ الأَوْلى. والحقيقتان إذا تماثلتا جازَ على إحداهما ما يَجوزُ على الأُخرى ووَجبَ لها ما وَجبَ لها، فلو تماثلَ الخالقُ والمخلوقُ لجازَ على اللهِ ما يَجوزُ على المخلوقِ من العَدمِ والحدوثِ والافتقارِ، ووَجبَ للمخلوقِ ما يَجبُ للخالقِ من البقاءِ والقيُّوميَّةِ والغِنى المطلَقِ ووجوبِ الوجودِ، وحينئذٍ فيكونُ كلٌّ منهما واجبَ الوجودِ ليس واجبَ الوجودِ، غنيًّا عمَّا سواه غيرَ غنيٍّ عن ما سِواه، باقياً ليس باقياً، وهكذا وحينئذٍ فيَلزمُ الجمْعُ بين النقيضين وذلك ممتنِعٌ؛ وبهذا يُعلمُ أن قولَ المشَبِّهِ: للهِ سمْعٌ وبصَرٌ ويدٌ واستواءٌ كسمْعِي وبصري ويَدِي واستوائي ونحوَ ذلك قولٌ واضحُ الفسادِ، حيثُ يَلزمُ منه أن يَجوزَ على الخالقِ ما يَجوزُ على المخلوقِ ويَجبُ له ما يَجبُ له، وليس القصْدُ في هذه الرسالةِ المختصَرَةِ استيعابُ طُرُقِ النفيِ والإثباتِ، فمحَلُّ بَسْطِ ذلك هو المطوَّلاتُ وإنما المقصودُ هنا لفتُ النظرِ والتنبيهُ إلى ضوابطَ وقواعدَ نافعةٍ مع لفْتِ النظرِ والتنبيهِ إلى طُرقِ النفيِ والإثباتِ الواجبَيْن للهِ، وإذا عُرفَ هذا فما أَثبَتَه الشرعُ وَجبَ إثباتُه وما نَفاه وَجبَ نفيُه وما سَكتَ عنه فلم يُثبتْه ولم يَنفه فإن كان في العقْلِ ما يُثبتُه ككونِه وَصْفَ كمالٍ لا نَقصَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ أَثْبتناه ضِمْنَ المَثَلِ الأعلى وإن كان في العقلِ ما يَنفيه ككونِه وَصْفَ نقْصٍ نفيناه ضِمْنَ المَثَلِ الأعلى أيضاً، وإن لم يكنْ في العقلِ ما يُثبتُه ولا يَنفيه سَكَتْنا عنه فلم نُثْبِتْه ولم نَنْفِه واللهُ جلَّ وعَلاَ متَّصِفٌ بما وَصفَ به نفسَه في كتابِه أو على لسانِ رسولِه وهو أعلمُ بما يَستحقُّه مما علِمْنا وما لم نَعلمْ من أوصافِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ.

***
إلى هنا تَمَّت القواعدُ الستُّ الموجودةُ في النُّسخِ المتداوَلَةِ، وقد وَجدَ البحَّاثَةُ النجديُّ الشيخُ عبدُ الرحمنِ بنُ قاسمٍ نُسخةً لمتْنِ التدْمريَّةِ بمكتبةِ الأَلُوسِيِّ بالعراقِ، ولما جَمعَ فتاوى ابنِ تيميةَ ورتَّبَها وطَبعَ المجموعَ كان فيه مَتْنُ التدمُرِيَّةِ وكان من ضِمنِه قاعدةٌ سابعةٌ اشتَمَلَتْ عليها الخاتِمةُ الجامعةُ، وقد رَقَّمَ الشيخُ ابنُ قاسمٍ لهذه القاعدةِ بالحروفِ الأبجديَّةِ إشارةً إلى أنها ليست من صُلبِ التَّدْمُريَّةِ في النُّسَخِ المعتمَدَةِ.

وكنتُ قد عزمْتُ على شرحِها وضمِّها إلى القواعدِ الستِّ وبعدَ النظرِ والتأمُّلِ فيها وجدتُها غيرَ خاليةٍ من سقْطٍ في الكلماتِ وارتباكٍ في التعبيرِ في بعضِ المواضعِ. وظَهَرَ لي أنها ربَّما كانت موجودةً في نسخةٍ مسودَّةٍ. ثم بُيِّضَت الرسالةُ بدونِها ولهذا نَجدُها لم تَردْ في النُّسَخِ المشهورةِ والمتداولَةِ بينَ الناسِ بل أُهملَتْ ولم تُذكرْ، ومن أجْلِ ذلك عدَلْتُ إلى إغفالِها وعدَمِ ضمِّها إلى أخواتِها في هذا الشرْحِ. على أن جُلَّ ما فيها قد وَردتْ زُبْدَتُه في كلامِ الشيخِ في موضعين: أحدُهما عندَ قولِه في الأصلِ الأوَّلِ: (فإن قالَ: أنا أَنْفِي النفيَ والإثباتَ قيلَ له فيَلزمُك التشبيهُ بما اجْتمعَ فيه النقيضان من الممتنِعاتِ). إلى قولِه: (فجَعلْتَ الوجودَ الواجبَ الذي لا يَقبلُ العدَمَ هو أعظمُ الممتنِعاتِ وهذا غايةُ التناقضِ والفسادِ).

والثاني عند قولِه: في القاعدةِ الأُولى: (ومن قالَ إنه ليس بحيٍّ ولا سميعٍ ولا بصيرٍ ولا متكلِّمٍ لَزِمَه أن يكونَ مَيِّتاً أصَمَّ أعمى أَبْكَمَ ) إلى قولِه: (واعلَمْ أن الجهْمِيَّةَ المحضَةَ كالقرامطةِ ومن ضَاهاهم يَنْفُون عنه تعالى اتِّصافَه بالنقيضين حتى يقولوا ليس بموجودٍ ولا ليس بموجودٍ ولا حيٍّ ولا ليس بحيٍّ، ومعلومٌ أن الخُلُوَّ من النقيضين ممتنِعٌ في بَدَائهِ العقولِ. كالجمْعِ بينَ النقيضين، والله الموفِّقُ للصوابِ).

  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 05:31 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


ثانيا : الكلامُ في الإثباتِ
قولُه : (فصلٌ وأمَّا في طُرُقِ الإثباتِ : فمعلومٌ أيضًا أن الْمُثْبِتَ لا يَكفِي في إثباتِه مُجَرَّدُ نفيِ التشبيهِ؛ إذ لو كَفَى في إثباتِه مُجَرَّدُ نفيِ التشبيهِ لَجَازَ أن يُوصَفَ سبحانَه وتعالى من الأعضاءِ والأفعالِ بما لا يَكادُ يُحْصَى مِمَّا هو مُمْتَنِعٌ عليه مع نَفْيِ التشبيهِ ، وأن يُوصَفَ بالنقائصِ التي لا تَجوزُ عليه مع نَفيِ التشبيهِ وكما لو قالَ الْمُفْتَرِي : يأكُلُ لا كأكْلِ العِبادِ ويَشرَبُ لا كشُرْبِهم ويَبْكِي ويَحْزَنُ لا كبكائِهم ولا حُزْنِهم, كما يقالُ : يَضْحَكُ لا كَضَحِكِهِم, ويَفْرَحُ لا كفَرَحِهِمْ, ويَتَكَلَّمُ لا ككلامِهم. ولَجَازَ أن يُقالَ : له أعضاءٌ كثيرةٌ, لا كأعضائِهم, كما قيلَ : له وجهٌ لا كوجوهِهم, ويَدَانِ لا كأيدِيهم, حتى يَذْكُرَ الْمَعِدَةَ والأمعاءَ والذَّكَرَ وغيرَ ذلك مِمَّا يَتَعَالى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عنه - سبحانَه وتعالى – عَمَّا يقولُ الظالمون عُلُوًّا كبيرًا).

التوضيحُ

كذلك لا يَصِحُّ الاعتمادُ في الإثباتِ على نفيِ التشبيهِ؛ لأنه بإمكانِ كلِّ أحَدٍ أن يَصِفَ اللهَ تعالى بالنقائِصِ مع نفيِه للتشبيهِ فيقولُ: يُوصَفُ اللهُ بالحُزْنِ والجوعِ والعَطَشِ والأكْلِ والشرْبِ بلا تشبيهٍ فيَخْتَلِطُ الحقُّ بالباطِلِ .
فيقولُ الْمُفْتَرُونَ مَثَلاً:
يُوصَفُ اللهُ بالأعضاءِ كالْمَعِدَةِ والأمعاءِ كما يَصِفُه أهلُ السنَّةِ باليدِ والوجْهِ بلا تشبيهٍ ، ويُوصَفُ بالبكاءِ بلا تشبيهٍ, كما يَصِفُهُ أهلُ السنَّةِ بالضَّحِكِ والفَرَحِ والكلامِ بلا تشبيهٍ ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا, كبيرًا وسيأتي الرَّدُّ تَفْصِيلاً .
سؤالٌ وجوابٌ في الاعتمادِ في النفيِ على عَدَمِ وُرودِ السمْعِ
قولُه : ( فإنه يُقالُ : لِمَنْ نَفَى ذلك مع إثباتِ الصِّفاتِ الخبريَّةِ وغيرِها من الصِّفاتِ : ما الفرْقُ بينَ هذا وما أَثْبَتَه إذا نَفَيْتَ التشبيهَ وجَعَلْتَ مُجَرَّدَ نَفْيِ التشبيهِ كافيًا في الإثباتِ ؟ فلا بُدَّ من إثباتِ فَرْقٍ في نفسِ الأمْرِ .
فإن قالَ : العُمدةُ في الفَرْقِ هو السمْعُ فما جاءَ به السمْعُ أُثْبِتُهُ دونَ ما لم يَجِئْ به السمْعُ .
قيلَ له – أوَّلاً – السمْعُ هو خَبَرُ الصادقِ عمَّا هو الأمْرُ عليه في نفسِه ، فما أَخْبَرَ به الصادِقُ فهو حقٌّ من نفيٍ أو إثباتٍ والخبَرُ دليلٌ على الْمُخْبَرِ عنه ، والدليلُ لا يَنْعَكِسُ فلا يَلْزَمُ من عدَمِه عدَمُ المدلولِ عليه فما لم يَرِدْ به السمْعُ يَجُوزُ أن يكونَ ثابتًا في نفسِ الأمْرِ وإن لم يَرِدْ به السمْعُ إذا لم يكنْ نَفَاهُ ، ومعلومٌ أنَّ السمْعَ لم يَنْفِ هذه الأمورَ بأسمائِها الخَاصَّةِ فلا بُدَّ من ذِكْرِه ما يَنْفِيها من السمْعِ و إلا فلا يَجُوزُ حينئذٍ نفيُها كما لا يَجُوزُ إثباتُها .
و أيضًا فلا بُدَّ في نفْسِ الأمْرِ من فَرْقٍ بينَ ما يَثْبُتُ له وبينَ ما يُنْفَى عنه فإنَّ الأمورَ المُتَمَاثِلَةَ في الجوازِ والوجوبِ والامتناعِ يَمتنِعُ اختصاصُ بعضِها دونَ بعضٍ في الجوازِ والوجوبِ والامتناعِ ، فلا بُدَّ من اختصاصِ المَنْفِيِّ عن الْمُثْبَتِ بما يَخُصُّه بالنفيِ, ولا بُدَّ من اختصاصِ الثابتِ عن المَنْفِيِّ بما يَخُصُّه بالثُّبوتِ .
وقد يُعَبَّرُ عن ذلك بأن يقالَ : لا بُدَّ من أمْرٍ يُوجِبُ نفيَ ما يَجِبُ نفيُه عن اللهِ ، كما أنه لا بدَّ من أمْرٍ يُثْبِتُ له ما هو ثابتٌ, وإن كان السمْعُ كافيًا كان مُخْبِرًا عما هو الأمْرُ عليه في نفسِه, فما الفَرْقُ في نفسِ الأمْرِ بينَ هذا وهذا ؟ .
فيقالُ : كلُّ ما نافَى صفاتِ الكمالِ الثابتةَ فهو مُنَزَّهٌ عنه ، فإنَّ ثبوتَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ نفْيَ الآخَرِ ، فإذا عُلِمَ أنه مَوْجودٌ واجبُ الوُجودِ بنفسِه, وأنه قديمٌ واجبُ القِدَمِ عُلِمَ امتناعُ العدَمِ والحدوثِ عليه ، وعُلِمَ أنه غَنِيٌّ عما سواه, فالمفْتَقِرُ إلى ما سواه في بعضِ ما يَحتاجُ إليه لنفسِه ليس هو مَوْجودًا بنفسِه ، بل وُجودُه بنفسِه وبذلك الآخَرِ الذي أَعطاه ما تَحتاجُ إليه نفسُه فلا يُوجَدُ إلا به, وهو سبحانَه غَنِيٌّ عن كلِّ ما سِواه, فكلُّ ما نافَى غِناه فهو مُنَزَّهٌ عنه, وهو سبحانَه قديرٌ قويٌّ ما نافَى قُدْرَتَه وقوَّتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه, وهو سبحانَه حيٌّ قيُّومٌ فكلُّ ما نافَى حياتَه وقيُّومِيَّتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه ).

التوضيحُ

هنا سؤالٌ لِمَنْ نَفَى النقائصَ عن اللهِ بمُجَرَّدِ نَفْيِ التشبيهِ مع إثباتِه للصفاتِ الخبريَّةِ, وهي التي لا طريقَ إلى معرفتِها إلا بالسمْعِ, وهي قِسمان :

فِعْلِيَّةٌ : كالمجيءِ والنزولِ .
ذاتيَّةٌ : كالوجهِ واليدينِ .

والسؤالُ هو : ما الفَرْقُ بينَ هذه النقائصِ التي نَفَيْتَها وبينَ الصِّفاتِ التي تُثْبِتُها ؟ فإنَّ مَن أَثْبَتَ النقائصَ للهِ بإمكانِه أن يقولَ أُثْبِتُها بلا تشبيهٍ فإن قالَ : العُمدةُ في التفريقِ بينَ النقائصِ والصِّفاتِ هو السمْعُ فما أَثْبَتَه السمْعُ أُثْبِتُه وما لم يُثْبِتْهُ أَنْفِهِ. فيُجابُ عليه بجوابَيْنِ, وخُلاصَتُهما كما يَلِي :-

أوَّلاً : السمْعُ خَبَرُ الصادِقِ عما عليه الأمرُ فما أَخْبَرَ به مِن نَفْيٍ أو إثباتٍ فهو حقٌّ وهو دليلٌ على الْمُخْبَرِ به, والدليلُ لا يَنْعَكِسُ ، أي: إذا انْعَدَمَ الدليلُ لا يَلزَمُ منه انعدامُ المدلولِ ، فإذا لم يَرِد السمْعُ بصفةٍ جازَ أن تكونَ ثابتةً ما لم يكنْ نفاها ، ومعلومٌ أنَّ السمْعَ لم يَنْفِ هذه الصِّفاتِ بأسمائِها الخَاصَّةِ فلم يَقُلْ : إنَّ اللهَ لا يَبْكِي ولا يَأْكُلُ ونحوَ ذلك مِمَّا نَقْطَعُ جميعًا ببُطلانِه, إذن فلا بُدَّ من أمْرٍ يُوجِبُ نفيَ ما يَجِبُ نَفْيُه عن اللهِ, وما يَجِبُ إثباتُه .

ثانيًا: هذه المُقَدِّمَةُ لبيانِ أنَّ تصريحَ السمْعِ لا يَكفِي في النفيِ أو الإثباتِ, بل هناك لوازِمُ عَقْليَّةٌ تَتَوَافَقُ مع الأَدِلَّةِ النقليَّةِ فتُثْبِتُ بمجموعِها كمالَ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ, وقد سَبَقَ بيانُ ذلك ونُبَيِّنُه بما يَلِي :-

الضابِطُ هو كلُّ ما نَافَى صفاتِ الكمالِ الثابتةَ للهِ فهو مُنَزَّهٌ عنه؛ لأنَّ ثبوتَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ نفيَ الآخَرِ كالنقْصِ والعَيْبِ والمُمَاثَلَةِ للخلْقِ فمَثَلا : إذا عُلِمَ أنه قَديمٌ قائمٌ بنفسِه عُلِمَ امتناعُ العدَمِ والحدوثِ والافتقارِ ، فكلُّ ما نافَى غِنَاه فهو مُنَزَّهٌ عنه ، وكذلك كلُّ ما نَافَى قدرتَه وقُوَّتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه ، وكلُّ ما نَافَى حياتَه وقَيُّومَتَه فهو مُنَزَّهٌ عنه ، وهكذا فهذه هي القاعدةُ العامَّةُ في التنزيهِ, لا طريقةُ نفيِ التشبيهِ أو التجسيمِ التي تَناقَضَ فيها المتكلِّمونَ كما سَبَقَ .

الخُلاصَةُ

قولُه : ( وبالجملةِ فالسمْعُ قد أَثْبَتَ له من الأسماءِ الْحُسنى وصفاتِ الكمالِ ما قد وَرَدَ ، فكلُّ ما ضادَّ ذلك فالسمْعُ يَنْفِيهِ كما يَنْفِي عنه الْمِثْلَ والكفْؤَ؛ فإنَّ إثباتَ الشيءِ نفيٌ لضِدِّه وَلِمَا يَسْتَلْزِمُ ضِدَّه, والعَقْلُ يَعْرِفُ نفيَ ذلك كما يَعْرِفُ إثباتَ ضِدِّه ، فإثباتُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ نَفْيٌ للآخَرِ وَلِمَا يَسْتَلْزِمُه .فطُرُقُ العلْمِ بنَفْيِ ما يُنَزَّهُ عنه الربُّ متَّسِعَةٌ لا يُحتاجُ فيها إلى الاقتصارِ على مُجَرَّدِ نَفْيِ التشبيهِ والتجسيمِ كما فَعَلَه أهلُ القُصورِ والتقصيرِ الذين تَناقَضُوا في ذلك وفَرَّقُوا بينَ المُتَمَاثِلَينِ حتى إنَّ كلَّ مَن أَثْبَتَ شيئًا احْتَجَّ عليه مَن نَفاهُ بأنه يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ ) .

التوضيحُ

ومُجْمَلُ القولِ أنه وَرَدَ في الكتابِ والسنَّةِ الكثيرُ من أسماءِ اللهِ الْحُسْنَى وصِفاتِه الْعُلَى ، فكُلُّ ما نَافَى ذلك الكمالَ فإنه يُنْفَى عنه؛ لأنَّ إثباتَ أحَدِ الضِّدَّيْنِ نَفْيٌ للآخَرِ ونَفْيٌ للوازِمِه ، فنَفْيُ الظُّلْمِ إثباتٌ لعَدْلٍ, ونَفْيُ المثيلِ إثباتٌ للتَّفَرُّدِ والوَحْدانيَّةِ, وطُرُقُ التنزيهِ كثيرةٌ لا يُقْتَصَرُ فيها على نفيِ التشبيهِ والتجسيمِ مع ما فيها من التَّناقُضِ والقُصورِ ، وكما سَبَقَ بيانُه فهي تَتَلَخَّصُ فيما يَلِي :-
النفيُ الصريحُ في النصوصِ .
نفيُ النقْصِ والعيبِ, وضابِطُ النقصِ : كلُّ ما نَافَى الكمالَ أو ما نَفَى لوازِمَ الْكَمَالِ .
نَفْيُ المُمَاثَلَةِ لِخَلْقِهِ .

استطرادٌ

قولُه : ( وكذلك احتَجَّ القَرامِطَةُ على نَفْيِ جميعِ الأمورِ حتى نَفَوُا النفيَ, فقالوا: لا يُقالُ مَوْجودٌ, ولا ليس بمَوْجودٍ, ولا حَيٌّ, ولا ليس بِحَيٍّ ؛ لأنَّ ذلك تشبيهٌ بالمَوْجودِ أو المعدومِ, فَلَزِمَ نَفْيُ النقيضينِ, وهو أَظْهَرُ الأشياءِ امتناعًا، ثم إنَّ هؤلاءِ يَلْزَمُهُمْ من تَشبيهِهِ بالمعدوماتِ والمُمْتَنِعَاتِ والْجَماداتِ أَعْظَمُ مما فَرُّوا منه من التشبيهِ بالأحياءِ الكاملينَ ، فطُرُقُ تنزيهِهِ وتقديسِه عمَّا هو مُنَزَّهٌ عنه مُتَّسِعَةٌ لا تَحتاجُ إلى هذا) .






التوضيحُ

رَجَعَ شيخُ الإسلامِ إلى طريقةِ القَرامطةِ ليُثْبِتَ فَسادَ الاعتمادِ على نَفْيِ التشبيهِ ؛ فإنَّ القرامطةَ نَفَوْا عن اللهِ تعالى النفيَ بحُجَّةِ التشبيهِ بالمَوْجوداتِ أو المعدوماتِ, فَوَقَعُوا في التشبيهِ بالمُمْتَنِعاتِ، فلَزِمَهُمْ من التشبيهِ أَعْظَمُ مِمَّا فَرُّوا منه ، وجميعُ هذه الإلزاماتِ تَقَدَّمَتْ فيما سَبَقَ.

النفيُ لا يأتي إلا لإثباتِ الكمالِ

قولُه : ( وقد تَقَدَّمَ أنَّ نَفْيَ ما يُنْفَى عنه سبحانَه: نَفْيٌ مُتَضَمِّنٌ للنفْيِ والإثباتِ؛ إذ مُجَرَّدُ النفيِ لا مَدْحَ فيه, ولا كَمالَ، فإنَّ المعدومَ يُوصَفُ بالنفيِ ، والمعدومَ لا يُشْبِهُ المَوْجوداتِ, وليس هذا مَدْحًا له؛ لأنَّ مُشابَهَةَ الناقِصِ في صِفاتِ النقْصِ نَقْصٌ مُطْلَقًا, كما أنَّ مُمَاثَلَةَ المخلوقِ في شيءٍ من الصِّفاتِ تَمثيلٌ وتشبيهٌ يُنَزَّهُ عنه الربُّ تَبارَكَ وتعالى) .

التوضيحُ

ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ هنا أنَّ النفيَ لا يأتي في الشرْعِ إلا لإثباتِ كمالِ الضِّدِّ ؛ لأنَّ النفيَ المحضَ لا مَدْحَ فيه ، ولأنَّ المعدومَ يُوصَفُ بالنفيِ فيقالُ : ليس بمَوْجودٍ وليس بشيءٍ, ولا يُشْبِهُ المَوْجوداتِ ، ونحوَ ذلك, وليس في هذا مَدْحٌ له ، ويُنَزَّهُ اللهُ تعالى عن مُمَاثَلَةِ المخلوقينَ؛ لأنَّ مُمَاثَلَةَ الناقِصِ نقْصٌ ، وهذه مُقَدِّمَةٌ للتفريقِ بينَ صفاتِ النقْصِ والكمالِ.

الرَّدُّ على ما اسْتَدَلَّ به الْمُفْتَرُونَ وبيانُ الفرْقِ بينَ الكمالِ والنقْصِ

قولُه : ( والنقْصُ ضِدُّ الكمالِ ، وذلك مِثْلَ أنه قد عُلِمَ أنه حيٌّ, والموتُ ضِدُّ ذلك, فهو مُنَزَّهٌ عنه، وكذلك النومُ والسِّنَةُ ضِدُّ كَمالِ الحياةِ، فإنَّ النومَ أَخُو الموتِ، وكذلك اللُّغوبُ نَقْصٌ في القُدْرَةِ والقوَّةِ، والأكْلُ والشرْبُ ونحوَ ذلك من الأمورِ فيه افتقارٌ إلى مَوْجودٍ غيرِه, كما أنَّ الاستعانةَ بالغيرِ والاعتضادَ به ونحوَ ذلك تَتَضَمَّنُ الافتقارَ إليه والاحتياجَ إليه. وكلُّ مَنْ يَحتاجُ إلى مَن يَحْمِلُه أو يُعينُه على قِيامِ ذاتِه وأفعالِه فهو مُفْتَقِرٌ إليه ليس مُسْتَغْنيًا عنه بنفسِه ، فكيف مَن يأكُلُ ويَشرَبُ؟ والآكِلُ والشارِبُ أَجْوَفُ, والْمُصْمَتُ الصَّمَدُأكْمَلُ من الآكِلِ والشاربِ ، ولهذا كانت الملائكةُ صُمُدًا، لا تَأْكلُ ولا تَشربُ ، وقد تَقَدَّمَ أنَّ كلَّ كمالٍ ثَبَتَ لمخلوقٍ فالخالِقُ أَوْلَى به، وكلَّ نقْصٍ تَنَزَّهُ عنه المخلوقُ فالخالِقُ أَوْلَى بتنزيهِه عن ذلك. والسمْعُ قد نَفَى ذلك في غيرِ موضِعٍ كقولِه تعالى : { اللهُ الصَّمَدُ } والصمَدُ الذي لا جَوْفَ له ، ولا يأكُلُ ولا يَشرَبُ، وهذه السورةُ هي نَسَبُ الرحمنِ ، أو هي الأصْلُ في هذا البابِ.

وقالَ في حقِّ المسيحِ وأمِّه: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } فجَعَلَ ذلك دليلاً على نَفْيِ الألوهيَّةِ. فدَلَّ ذلك على تنزيهِه عن ذلك بطريقِ الأَولى والأَحْرَى ، والكَبِدُ والطِّحالُ ونحوَ ذلك هي أعضاءُ الأكْلِ والشرْبِ، فالغنيُّ الْمُنَزَّهُ عن ذلك مُنَزَّهٌ عن آلاتِ ذلك، بخِلافِ اليدِ ، فإنها للعمَلِ والفعْلِ ، وهو سبحانَه موصوفٌ بالعمَلِ والفعْلِ، إذ ذاك من صفاتِ الكمالِ ، فمَن يَقْدِرُ أن يَفْعَلَ أكْمَلَ مِمَّنْ لا يَقْدِرُ على الفِعْلِ، وهو سبحانَه مُنَزَّهٌ عن الصاحِبَةِ والوَلَدِ وعن آلاتِ ذلك وأسبابِه ، وكذلك البُكاءُ والحزْنُ هو مُسْتَلْزِمٌ للضعْفِ والعجْزِ الذي يُنَزَّهُ عنه سبحانَه بخِلافِ الفرَحِ والغضَبِ، فإنه من صفاتِ الكمالِ . فكما يُوصَفُ بالقُدْرَةِ دونَ العجْزِ ، وبالعلْمِ دونَ الْجَهْلِ ، وبالحياةِ دونَ الموتِ ، وبالسمْعِ دونَالصَّمَمِ ، وبالبصَرِ دونَ العَمَى، وبالكلامِ دونَ البَكَمِ، فكذلك يُوصَفُ بالفرَحِ دونَ الْحُزْنِ، وبالضحِكِ دونَ البُكاءِ ، ونحوَ ذلك ) .

التوضيحُ

بدأَ شيخُ الإسلامِ في بيانِ الفَرْقِ بينَ صِفاتِ الكمالِ الثابتةِ للهِ تعالى وصِفاتِ النقْصِ فقالَ : إذا سَوَّى الْمُفْتَرُونَ بينَ صفاتِ النقصِ والكمالِ فيُجابُ عليهم بالقاعدةِ العامَّةِ في التنزيهِ كما يَلِي :
إنَّ اللهَ حيٌّ والموتُ ضِدُّ الحياةِ, فيُنَزَّهُ اللهُ عنه ، وكذلك النَّوْمُ والسِّنَةُ ضِدُّ كمالِ الحياةِ.
واللُّغوبُ نقْصٌ في كمالِ القُدْرَةِ والقوَّةِ فيُنَزَّهُ اللهُ عنه.
الأكْلُ والشرْبُ يُسْتَدَلُّ على نفيِهما عنه من وُجوهٍ:
أنَّ فيهما افتقارًا إلى مَوْجودٍ غيرِه, وهو الطعامُ والشرابُ.
أنَّ الآكِلَ والشارِبَ أجْوَفُ ، واللهُ سبحانَه وتعالى مُصْمَتٌ صَمَدٌ, أي: لا جَوْفَ له, على تفسيرِ جماعةٍ ، وقد ثَبَتَ هذا التفسيرُ عن ابنِ عبَّاسٍ ومجاهِدٍ والحسَنِ والضحَّاكِ وغيرِهم.
بل وثَبَتَ أنَّ الصَّمَدَ هو الذي لا يَأكُلُ ولا يَشْرَبُ عن الشَّعْبِيِّ ، وهو صريحٌ في نَفْيِ هذا النقْصِ عن اللهِ تعالى . قولُه " وهذه السورةُ هي نَسَبُ الرحمنِ " ثَبَتَ ذلك عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: أنَّ المشركينَ قالوا للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْسِبْ لنا رَبَّك ، فَأَنْزَلَ اللهُ سورةَ الإخلاصِ .
أنَّ الملائكةَ صُمُدٌ لا تأكُلُ ولا تَشرَبُ ، هذا كمالٌ لها ، وتَقَدَّمَ قِياسُ الأَوْلَى, وهو أنَّ كلَّ كمالٍ اتَّصَفَ به المخلوقُ فالخالِقُ أَوْلَى به، فيُوصَفُ هنا بأنه صَمَدٌ لا يَأكُلُ ولا يَشْرَبُ.
قولُه : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامِ } فجَعَلَ الأكْلَ دليلاً على نَفْيِ الألوهيَّةِ ، فاللهُ أَوْلَى بالتنَزُّهِ عنه.

أمَّا الكَبِدُ والطِّحالُ وأعضاءُ الأكْلِ والشُّرْبِ فالغنيُّ الْمُنَزَّهُ عن الأكْلِ والشرْبِ مُنَزَّهٌ عن آلاتِ ذلك ولوازمِه، بخِلافِ اليدِ فإنها للفعْلِ ، واللهُ موصوفٌ بالفعْلِ وهو كمالٌ , فالفاعِلُ أكمَلُ مِمَّنْ لا يَقْدِرُ على الفِعْلِ بالإضافةِ إلى ثبوتِها في النصوصِ.
واللهُ مُنَزَّهٌ عن الصاحبةِ والولَدِ فيُنَزَّهُ عن آلاتِ ذلك وأسبابِه كالشهوةِ والأعضاءِ.

وأمَّا البُكاءُ والحزْنُ فمُسْتَلْزِمٌ للضَّعْفِ والعَجْزِ بخِلافِ الفرَحِ والغضَبِ والضحِكِ فإنها من صفاتِ الكمالِ الثابتةِ شَرْعًا, فكما يُوصَفُ بالقُدْرَةِ دونَ العَجْزِ، فكذلك يُوصَفُ بالفرَحِ دونَ الحزْنِ وبالضحِكِ دونَ البُكاءِ؛ لعَدَمِ مُنافاتِها لصفاتِ الكمالِ. ودليلُ ثبوتِ الفَرَحِ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَلَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِه من أَحَدِكم... الحديثَ" ودليلُ ثبوتِ الضَّحِكِ قولُه" يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ, كِلاَهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ" .

نَفْيُ المُمَاثَلَةِ عن اللهِ

قولُه : ( وأيضًا فقد ثَبَتَ بالعقْلِ مَا أَثْبَتَه السمْعُ من أنَّ اللهَ سبحانَه لا كُفْؤَ له ولا سَمِيَّ له ، وليس كَمِثْلِه شيءٌ ، فلا يَجُوزُ أن تكونَ حقيقتُه كحقيقةِ شيءٍ من المخلوقاتِ ، ولا حقيقةُِ شيءٍ من صفاتِه كحقيقةِ شيءٍ من صفاتِ المخلوقاتِ ، فيُعْلَمُ قطعًا أنه ليس من جِنْسِ المخلوقاتِ، لا الملائكةِ ولا السماواتِ ولا الكواكبِ ولا الهواءِ ولا الماءِ ولا الأرضِ ولا الآدميِّينَ ولا أبدانِهم ولا أنفسِهم ولا غيرِ ذلك ، بل يُعْلَمُ أنَّ حقيقتَه عن مُمَاثَلَةِ شيءٍ من المَوْجوداتِ أَبْعَدُ من سائرِ الحقائقِ ، وأنَّ مُمَاثَلَتُهُ لشيءٍ منها أَبْعَدُ من مُمَاثَلَةِ حقيقةِ شيءٍ من المخلوقاتِ لحقيقةِ مخلوقٍ آخَرَ، فإنَّ الحقيقتينِ إذا تَمَاثَلَتَا جازَ على كلِّ واحدةٍ ما يَجُوزُ على الأخْرَى ، ووَجَبَ لها ما يَجِبُ ، فيَلْزَمُ أن يَجُوزَ على الخالقِ القديمِ الواجبِ بنفسِه ما يَجُوزُ على الْمُحْدَثِ المخلوقِ من العَدَمِ والحاجَةِ ، وأن يَثْبُتَ لهذا ما يَثْبُتَ لذلك من الوجوبِ والفَنَاءِ ، فيكونُ الشيءُ الواحدُ واجبًا بنفسِه غيرَ واجبٍ بنفسِه مَوْجودًا معدومًا ، وذلك جَمْعٌ بينَ النقيضينِ ، وهذا مما يُعْلَمُ به بُطلانُ قولِ المشَبِّهَةِ الذين يقولون : بَصَرٌ كبَصَرِي, أو يدٌ كَيَدِي ، ونحوَ ذلك, تعالى اللهُ عن قولِهم عُلُوًّا كبيرًا) .

التوضيحُ

ثَبَتَ نَفْيُ التمثيلِ نَقْلاً وعَقْلاً :-
أمَّا نَقْلاً فكقولِه تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}.
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} .
وأمَّا عَقْلاً : فلو قُلْنَا بالتَّمَاثُلِ لَلَزِمَ أن يَجِبَ له ما يَجِبُ للمخلوقينَ ، وأن يَجُوزَ عليه ما يَجُوزُ على المخلوقينَ ، وهذا باطلٌ؛ لأنه يَلْزَمُ أن يكونَ الخالقُ القديمُ الواجبُ بنفسِه جائزًا عليه العدَمُ والحاجةُ ، ويكونَ للمخلوقِ صفةُ الوجوبِ والقِدَمِ ، فيكونُ الشيءُ الواحدُ واجبًا غيرَ واجبٍ بنفسِه قديمًا ومُحْدَثًا ، وذلك جَمْعٌ بينَ النقيضينِ, وهو مُمْتَنِعٌ ، ومِن هنا يُعْلَمُ بُطلانُ قَوْلِ المشَبِّهَةِ الذين يقولون: له بَصَرٌ كبَصَرِي ويَدٌ كيَدِي, كما سَبَقَ النقْلُ عن إسحاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ قولُه : ( إِنَّمَا يكونُ التشبيهُ إذا قالَ يَدٌ مِثْلُ يَدِي أو سَمْعٌ مِثْلُ سَمْعِي فهذا تَشبيهٌ) .

خاتِمَةُ القاعدةِ السادسةِ

قولُه : (وليس المقصودُ هنا استيفاءَ ما يَثْبُتُ له ولا ما يُنَزَّهُ عنه واستيفاءَ طرُقِ ذلك ؛ لأنَّ هذا مبسوطٌ في غيرِ هذا الموضِعِ ، وإنما المقصودُ هنا التنبيهُ على جوامِعِ ذلك وطُرُقِه, وما سَكَتَ عنه السمْعُ نَفْيًا وإثباتًا ، ولم يكنْ في العَقْلِ ما يُثْبِتُه ولا يَنْفِيه سَكَتْنَا عنه فلا نُثْبِتُه ولا نَنْفِيه ، فنُثْبِتُ ما عَلِمْنَا ثبُوتَه ونَنْفِي ما عَلِمْنا نفيَه, ونَسْكُتُ عما لا نَعْلَمُ نَفْيَه ولا إثباتَه ، واللهُ أَعْلَمُ) .

التوضيحُ

المقصودُ بيانُ جوامعِ الكلامِ عن النفيِ والإثباتِ ، وأنَّ ما سَكَتَ عنه السمْعُ نَفْيًا وإثباتًا, ولم يكنْ في العَقْلِ ما يُثبتُه أو يَنفيهِ بالطريقةِ السابقةِ, وهي أنَّ كلَّ نافي الكمالِ فهو مُنَزَّهٌ عنه ، فإننا نَسْكُتُ عنه فنَنْفِي ما نفاه, ونُثْبِتُ ما أَثْبَتَه ، وما لم نَعْلَمْ نَفْيَه أو إثباتَه فلا نَنفيه ولا نُثْبِتُه ، واللهُ أَعْلَمُ .

خُلاصَةُ القاعدةِ السادسة

للمُتَكَلِّمِينَ طريقتانِ في التنزيهِ: الأُولى التنزيهُ بنَفْيِ التشبيهِ ، الثانيةُ التنزيهُ بنَفْيِ التجسيمِ ، وهما طريقتانِ باطلتانِ.
الطريقةُ الصحيحةُ في التنزيهِ هي:
أوَّلاً : نَفْيُ ما نَفَى اللهُ تصريحًا .
ثانيًا : نَفْيُ النقصِ والعيبِ عن اللهِ وضابطُه.
كلُّ ما يُضَادُّ الكمالَ فهو نَقْصٌ.
كلُّ ما كان من لَوازِمِ النقْصِ.
ثالثًا : نَفْيُ مُمَاثَلَةِ اللهِ لمخلوقاتِه.
نهايةُ المُتَكَلِّمِينَ هي الْحَيْرَةُ والاضطرابُ.
المَوْجوداتُ هي عينُ ماهِيَّتِها في الخارِجِ وزائدةٌ على ماهيَّتِها في الذِّهْنِ.
الوُجودُ متواطئٌ لَفْظًا ومَعْنًى .
الأحوالُ لا حقيقةَ لها في الأعيانِ .
المعدومُ شيءٌ في الذهْنِ وليس بشيءٍ في الخارِجِ, أي: شيءٌ عِلْمِيٌّ لا عَيْنِيٌّ.

المُنَاقَشَةُ

ما الفَرْقُ بينَ التمثيلِ والتشبيهِ؟
ما هي طُرُقُ التنزيهِ عندَ المُتَكَلِّمِينَ؟
اذْكُرْ شُبْهَةَ تَعَدُّدِ القُدَمَاءِ ومَن القائلينَ بها, وما الرَّدُّ عليهم؟
اذْكُر الطريقةَ الصحيحةَ في النفيِ, أي: التنزيهِ؟
اذكُرْ وُجوهَ بُطلانِ طريقةِ التنزيهِ بنفيِ التشبيهِ؟
اذكُرْ وُجوهَ بُطلانِ طريقةِ التنزيهِ بنَفْيِ التجسيمِ؟
كيف تُجيبُ على مَن زَعَمَ أنَّ إثباتَ القَدْرِ المشترَكِ يَسْتَلْزِمُ أن يَجُوزَ على اللهِ ما يَجُوزُ على المخلوقاتِ ، وأنَّهُ يَجِبُ له ما يَجِبُ لهم وأنْ يَمْتَنِعُ عليه ما عليهم ؟
اذكُرْ أَمْثِلَةً من المُتَكَلِّمِينَ الذين شَهِدُوا على أنفسِهم بالْحَيْرَةِ والاضطرابِ.
ما القولُ الحقُّ في المسائلِ التاليةِ؟
وُجودُ الربِّ عينُ ماهيَّتِه أو زائدٌ عنها؟
لفظُ الوُجودِ من قَبيلِ المشترَكِ اللفظيِّ أمْ المتواطِئِ أمْ الْمُشَكَّكِ؟
إثباتُ الأحوالِ ؟
المعدومُ شيءٌ أمْ لا ؟
وُجودُ المَوْجوداتِ عينُ ماهيَّتِها أمْ لا ؟
هل يَكفِي الاعتمادُ في النفيِ على مُجَرَّدِ عَدَمِ وُرُودِ السمْعِ ولماذا ؟
كيف تَرُدُّ على مَن سَوَّى بينَ وَصْفِ اللهِ بالنقائصِ كالْمَعِدَةِ والأمعاءِ والبُكاءِ, ووَصَفَه بالكمالِ كالوجهِ والضَّحِكِ والفَرَحِ؟ .
اذكُرْ أَدِلَّةَ نَفْيِ التمثيلِ نَقْلاً وعَقْلاً؟

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ما, يكفي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:07 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir