فصلٌ: وقد يُحْذَفُ عاملُ الحالِ جوازاً لدليلٍ حاليٍّ؛ كقولِكَ لقَاصِدِ السفرِ: "رَاشِداً". وللقادِمِ من الحَجِّ: "مَأْجُوراً". أو مَقالِيٍّ([1]) نحوَ: {بَلَى قَادِرِينَ}([2]) {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْباناً}([3]) بإضمارِ: تُسافِرُ, ورَجَعْتَ, ونَجْمَعُها, وصَلُّوا.
ووُجوباً قِياساً في أربعِ صُورٍ: نحوَ: "ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً", ونحوَ: "زيدٌ أبوكَ عَطُوفاً", وقدْ مَضَتَا([4]) والتي يُبَيَّنُ بها ازديادٌ أو نَقْصٌ بتدريجٍ؛ كـ "تَصَدَّقْ بدينارٍ فصَاعِداً", و:"اشْتَرِهِ بدينارٍ فسَافِلاً", وما ذُكِرَ لتوبيخٍ؛ نحوُ: "أقَائِماً وقَدْ قعَدَ الناسُ" و"أَتَمِيمِيًّا مَرَّةً وقَيْسِيًّا أُخْرَى"؛ أي: أتُوجَدُ وأتتحَوَّلُ.
وسَماعاً في غيرِ ذلك نحوَ: "هَنِيئاً لكَ", أي: ثَبَتَ لكَ الخَيْرُ هَنِيئاً, أو أهْنَأَكَ هَنِيئاً([5]).
([1]) للدليلِ المقاليِّ صورٌ، منها أنْ يقَعَ في جوابِ استفهامٍ، كأنْ يَقولَ لك قائِلٌ: كيفَ جِئْتَ؟ فتقولَ في جوابِه: رَاكِباً. ومنها أنْ يقَعَ في جوابِ نَفْيٍ، كأنْ يَقُولَ لكَ قَائِلٌ: مَا سَافَرْتَ. فتقولَ في جوابِه: بَلَى مُصْطَحِباً أُسْرتِي. ومنه قولُه تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ}. ومنها أنْ تقَعَ في جوابِ شَرْطٍ، نحوُ قولِه تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْباناً}. أي: فإنْ خِفْتُمْ فَصَلُّوا رِجالاً أو رُكْباناً، فهذهِ مواضِعُ جوازِ حذفِ عاملِ الحالِ، وسيذكُرُ المُؤلِّفُ عَقِيبَها مواضِعَ وُجوبِ حَذْفِ عاملِ الحالِ، وبَقِيَ مواضِعُ امتناعِ حذفِ عاملِ الحالِ, وتَتلخَّصُ في أنَّه إذا كانَ عاملُ الحالِ مَعْنوِيًّا؛ كالظرفِ والجارِّ والمجرورِ واسمِ الإشارةِ وحرفِ التنبيهِ- لم يَجُزْ حذفُه؛ لأنَّ العاملَ المَعْنوِيَّ ضعيفٌ؛ لأنَّه إنَّما عَمِلَ بالحملِ على غيرِه، فلا يَصِحُّ التصرُّفُ في عاملِه, لا بالتقديمِ عليهِ, ولا بالحذفِ.
([2]) سورة القيامةِ، الآية: 4.
([3]) سورة البقرةِ، الآية: 239.
([4]) الصورةُ الأولى هي الحَالُ التي تَسُدُّ مَسَدَّ خَبَرِ المبتدأش، ومثالُها الذي ذكَرَه المُؤلِّفُ تقديرُه: ضَرْبِي زَيْداً حَاصِلٌ إذا كانَ قَائِماً، وقدْ تقدَّمَ شرحُ ذلك في بابِ المبتدأِ والخبرِ، والصورةُ الثانيةُ هي الحالُ المُؤكِّدَةُ لمضمونِ جملةٍ. وقد مَضَى الكلامُ عليها في هذا البابِ قَرِيباً.
([5]) الأصلُ في الحالِ أنْ تكُونَ مُسْتَغْنًى عنها؛ وذلكَ لأنَّها فَضْلَةٌ، وهذا هو الحُكْمُ العامُّ للفَضَلاتِ، إِلاَّ أنَّه قد يَعْرِضُ لها عارِضٌ يُوجِبُ ذِكْرَها ولا يَجوزُ معَه حَذْفُها؛ ولهذا اضْطَرُّوا في بابِ الحالِ إلى تعريفِ الفَضْلَةِ تَعْرِيفاً آخرَ غيرَ التعريفِ المَشْهورِ، فقالوا: الفَضْلَةُ مَا يَجِيءُ بعدَ تمامِ الكلامِ، أي: بعدَ استيفاءِ الأركانِ التي يَتألَّفُ أصلُ الكلامِ منها؛ كالفعلِ وفاعلِه، والمبتدأِ وخبرِه، والحالُ تَجِيءُ في هذه المنزلةِ، وذلك أعَمُّ من أنْ يكُونَ المعنَى المقصودُ للمُتكلِّمِ مُفْتقِراً إلى ذكرِها, وألا يَكُونَ مُفْتَقِراً إلى ذكرِها.
ولوجوبِ ذكرِ الحالِ معَ الكلامِ مَواضِعُ نحن ذَاكِرُوها لكَ هنا تَتْمِيماً لمباحثِ الكتابِ.
الموضعُ الأولُ: أنْ تكُونَ الحالُ جواباً لسؤالِ السائلِ، كأنْ يقولَ لكَ قائِلٌ: كيفَ جِئْتَ؟ فتقولَ: جِئْتُ رَاكِباً. أو تقولَ: جِئْتُ مَاشِياً، وقدْ عَلِمْتَ قَرِيباً أنَّه يَجوزُ لك في هذا المثالِ أنْ تذكُرَ العاملَ في الحالِ، كما مَثَّلْنا لكَ، ويَجوزُ أنْ تَحْذِفَ العاملَ فتَقولَ: رَاكِباً. أو تَقُولَ: مَاشِياً.
الموضعُ الثاني: أنْ يكُونَ الكلامُ نَهْياً، وتكونَ الحالُ هي المقصودةَ بالنهْيِ؛ وذلك كقولِه تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً}. وقولِه تعالى: {وَلاَ تَقرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكَارَى}. فأنتَ لو تأمَّلْتَ تُدْرِكُ أنَّه ليسَ مِمَّا تُسوِّغُه العقولُ أنْ يكُونَ إنسانٌ مَنْهِيًّا عن المشيِ في الأرضِ من غيرِ قَيْدٍ، فكانَ ذِكْرُ قَيْدِ المرحِ في الآيةِ الأُولَى وذِكْرُ التلَبُّسِ بالسُّكْرِ في الآيةِ الثانيةِ، كلُّ واحدٍ من القيديْنِ هو المقصودُ بالنهْيِ.
الموضِعُ الثالثُ: أنْ تكُونَ الحالُ مَحْصوراً فيها، ومن أمثلةِ ذلك قولُه تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ}.
الموضِعُ الرابعُ: أنْ يَتوقَّفَ على ذكرِها صِحَّةُ الكلامِ, ومن ذلك قولُه تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ}. وقولُه جلَّتْ كلمتُه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ}. ومن ذلك كقولِ عَدِيِّ بنِ الرَّعْلاءِ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فاسْتَرَاحَ بمَيْتِ = إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ
إنَّما المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً = كَاسِفاً بَالُهُ قَلِيلَ الرَّجَاءِ
أفلا ترَى أنَّكَ لو قُلْتَ: "إِنَّما المَيْتُ مَن يَعِيشُ". ولم تَزِدْ على ذلك كانَ كلاماً باطلاً؛ لأنَّكَ حَكَمْتَ على الشيءِ بضِدِّه، فلَمَّا زِدْتَ عليهِ"كَئِيباً كَاسِفاً بَالُهُ قَلِيلَ الرَّجَاءِ" صَحَّ المعنَى.