مقرر المسائل التفسيرية – التطبيق الرابع
أسلوب الحِجاج
تفسير قوله تعالى:
﴿أَیَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَن یُتۡرَكَ سُدًى (36) أَلَمۡ یَكُ نُطۡفَة مِّن مَّنِیّ یُمۡنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَة فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَیۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰۤ (39) أَلَیۡسَ ذَ ٰلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یُحۡـِۧیَ ٱلۡمَوۡتَىٰ (40)﴾ [القيامة]
الحمد لله رب العالمين الذي خلق فسّوى والذي قدر فهدى، أنزّل الكتاب فيه الهدى والنور فمن اتبعه فقد فاز ومن أعرض عنه فقد خاب وخسر والصلاة والسلام على النبي محمد المبعوث رحمة للعالمين، وبعد فهذه بعض تأملات في تفسير قوله تعالى { أَیَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَن یُتۡرَكَ سُدًى (36) أَلَمۡ یَكُ نُطۡفَة مِّن مَّنِیّ یُمۡنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَة فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَیۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰۤ (39) أَلَیۡسَ ذَ ٰلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یُحۡـِۧیَ ٱلۡمَوۡتَىٰ (40)} والتي فيها اظهار الحجة على الكافرين المنكرين لقدرة الله على البعث بعد الموت وذلك من وجوه:
الأول: الاستفهام في قوله تعالي { أَیَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَن یُتۡرَكَ سُدًى} استفهام انكاري أي كيف يظن هذا الانسان الكافر بربه هذا الظن الذي لا يليق فنفى سبحانه ان يخلق الانسان ثم يتركه هملاً قال الشافعي{ سُدى} اي لا يؤمر ولا ينهى ويُفهم من ذلك الجزاء في الاخرة لأن المقصود بالتكاليف في الدنيا المجازاة في الاخرة وأصل التَرك بمعنى مفارقة الشيء اختيارا وفي لسان العرب : التَّرْكُ: وَدْعُك الشَّيْءَ، تَركه يَتْرُكه تَرْكاً واتَّرَكه. وتَرَكْتُ الشيءَ تَرْكاً: خَلَّيْتُهُ وقوله سدى أي هملاً وذكر ابن فارس: (سَدَوَ) السِّينُ وَالدَّالُ وَالْوَاوُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى إِهْمَالٍ وَذَهَابٍ عَلَى وَجْهٍ وورد هذا المعنى عن ابن عباس وقال ابن زيد، في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ قال السديّ: الذي لا يفترض عليه عمل ولا يعمل وذكره ابن جرير. وفي إعادة قوله { أَیَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَـٰنُ} تهيئة لما سيأتي بعده من إمكان البعث بعد الموت بقوله { أَلَمۡ یَكُ نُطۡفَة مِّن مَّنِیّ یُمۡنَىٰ} الى أخر السورة وفيها تنزيه الله عن العبث فكما خلق الانسان في أحسن تقويم لا يتركه سدى وهو كما قال سبحانه {أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ عَبَثا وَأَنَّكُمۡ إِلَیۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ}.
الثاني: سياق الآيات تدل على تكرار الانكار على الكافرين المكذبين للبعث وذلك في مجيء قوله تعالى { أَیَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَن یُتۡرَكَ سُدًى} بعد ذكر أحوال الاخرة في قوله تعالى {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} وما بعدها من الآيات.
الثالث: الامر بالتفكّر في خلق الانسان وهو كما قال سبحانه ﴿أَوَلَمۡ یَرَ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَـٰهُ مِن نُّطۡفَة فَإِذَا هُوَ خَصِیم مُّبِین﴾ فاذا نظر هذا المنّكر للبعث في أصل خلقه من النطفة وما بعدها من مراحل الخلق حتى يصير بشراَ سوياً دله على أن الحكمة تأبى ان ُيترك سدى فكما لم يُترك سدى في أطوار خلقه لا يُترك هملاً بعد ذلك وذكر ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة : "احتج سبحانه على أنه لا يترك الإنسان مهملا معطلا عن الأمر والنهي والثواب والعقاب وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك فإن من نقله من نطفة مني إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم خلقه وشق سمعه وبصره وركب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أسره وأتقن خلقه وأحكمه غاية الإحكام وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى فلا يليق ذلك بحكمته ولا تعجز عنه قدرته. فانظر إلى هذا الحجاج العجيب بالقول الوجيز الذي لا يكون أوجز منه والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقرب منه" انتهى كلامه.
الرابع: في قوله {أَلَمۡ یَكُ نُطۡفَة مِّن مَّنِیّ یُمۡنَىٰ} وما بعدها استئناف وبيان لما ورد في اول السورة من قوله تعالى { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ} أي أن من خلق الانسان من النطفة الضعيفة وتدرّج بها في اطوار الخلق حتى وصل بها الى تمام الخلق قادر على جمع عظامه بعد تفرقها من باب أولى فتبارك الله أحسن الخالقين.
الخامس: في قوله {أَلَیۡسَ ذَ ٰلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یُحۡـِۧیَ ٱلۡمَوۡتَىٰ} استفهام تقريري لأثبات قدرة الله على أن يحيي الموتى وهو النتيجة من الدليل وذلك أن خلق الانسان من العدم كما هو مشاهد أولى بالإنكار من إعادة الخلق وفيها بيان ثقة المتكلم في الرد على من اراد الانكار من المخاطبين.
والله أعلم.