(ص) العام: لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر.
(ش) (لفظ) جنس يتناول العام والخاص، وفيه احتراز من المعاني، فإن العموم من عوارض الألفاظ، ويعني به الواحد للاحتراز عن الألفاظ المتعددة الدالة على أشياء متعددة وقوله: يستغرق أي: يستغرق لما يصلح أن يدخل تحته فخرج النكرة في الإثبات ولو بصيغة الجمع كالرجال، وقوله: من غير حصر، يحترز به عن أسماء العدد، فإنها متناولة لكل ما يصلح له، لكن مع الحصر، وهذا بناء على أنها ليست بعامة وهو المعروف وبه صرح ابن الحاجب هنا وجعل الحد غير مانع لو لم يحترز عنها لكن كلامه في بحث الاستثناء يقتضي أنها عامة وقد تابعه المصنف هناك، ومنهم من زاد في هذا الحد بوضع واحد ليحترز عما يتناوله بوضعين فصاعدا كالمشترك وما له حقيقة ومجاز، لأن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا، وإنما لم يذكره المصنف للتنبيه على أنه غير محتاج إليه، لأنا إن قلنا: لا يحمل المشترك على معنييه، فقد خرج بقيد الاستغراق فإنه لا يستغرق جميع ما يحصل له عندهم، وإن قلنا: يحمل، فلأن التعريف للعام بحسب الشمول والمشترك، وما له حقيقة ومجاز له عموم على رأي الجمهور، ولكن بطريق البدلية.
(ص) والصحيح دخول النادرة وغير المقصودة تحته.
(ش) فيه مسألتان:
إحداهما: أن الصورة النادرة هل تدخل تحت العموم؟ فيه خلاف زعم المصنف أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي: حكاه، ولم أجده في كتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين:
أصحهما: نعم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا سبق إلا في خف أو حافر)).
والثاني: لا لأنه نادر عند المخاطبين بالحديث، ولم يرد باللفظ، وقال الغزالي في (البسيط): لو أوصى بعبد، أو برأس من رقيق جاز دفع الخنثى وذكر صا حب (التقريب) وجها، أنه لا يجزئ لأنه نادر لا يخطر بالبال، وهو بعيد، لأن العموم يتناوله انتهى.
وذكروا في المتمتع العادم للهدي أنه يصوم الأيام في الحج قبل عرفه فلو أخر طواف الزيارة عن أيام التشريق وصامها، لا يكون أداء وإن بقي الطواف، لأن تأخيره عن أيام التشريق مما يبعد ويندر، فلا يقع مرادا من قوله تعالى:{ثلاثة أيام في الحج} بل هو محمول على الغالب المعتاد، قال الرافعي: كذا حكاه الإمام وغيره.
وفي (النهاية) حكاية وجه ينازع فيه قلت: وهذا الخلاف ينبغي أن يكون فيما ظهر اندراجه في اللفظ، فإن لم يظهر وساعده المعنى فلم أرهم تعرضوا له وينبغي أن يجري فيه خلاف بين أصحابنا في منع الأب مال ولده من نفسه وبالعكس هل يثبت فيه خيار المجلس؟ على وجهين:
أحدهما: لا، فإن المعول الخبر، وهو إنما ورد في المتبايعين، والولي قد تولى الطرفين وأصحهما الثبوت وأنه بيع محقق، وغرض الشارع إثبات الخيار في البيع وإنما خصص المتبايعين بالذكر إجراء للكلام على الغالب المعتاد وكذا وجهه الإمام في (النهاية) فلو قال المصنف: والصحيح دخول النادرة تحت العموم ولو بالمعنى ليشمل هذه الصورة.
الثانية: إن الصور غير المقصودة هل تدخل في العموم؟ فيه خلاف حكاه القاضي عبد الوهاب في كتابه المسمى بـ (الملخص) والصحيح الدخول، لأن المراد إنما هو اللفظ، فلا مبالاة بصورة لم تقصد، فإن المقاصد لا انضباط لها، والرجوع إلى منضبط أولى. قلت: ويوجد الخلاف فيها في كلام أصحابنا أيضا، ولهذا لما حكى في (البسيط) الخلاف في التوكيل بشراء عبد، فاشتري من يعتق على الموكل.
قال: ومثار الخلاف التعلق بالعموم أو الالتفات إلى المقصود، هذا لفظه، قال المصنف: وليست غير المقصودة هي النادرة، كما توهم بعضهم، بل النادرة هي التي لا تخطر غالبا ببال المتكلم لندرة وقوعها، وغير المقصودة قد تكون مما يخطر بالبال ولو غالبا فرب صورة تتوفر القرائن على أنها لم توجد وإن لم تكن نادرة، ورب صورة تدل القرائن على إنها مقصودة وإن كانت نادرة، فإذا ذكر اللافظ لفظا عاما وهناك صورة لم تقصد ولكنها داخلة في دلالة اللفظ وكثيرا ما يقع هذا في ألفاظ الواقفين – فهل يعتبر لفظه، وتدخل تلك الصورة وإن لم يقصدها أو يقتصر على المقصود؟ والأصح الأول، والحنابلة يميلون إلى ترجيح الثاني ويبنون عليه أصولا عظيمة في باب الوقف، واستنبط ابن الرفعة من كلام الغزالي في الفتاوى أن مقاصد الواقفين يعتبر فيخصص بها العموم ويعمم بها الخصوص وليس المراد أن المقصود إخراجها تدخل وفرق بين غير المقصودة والمقصودة الإخراج فمقصودة الإخراج لا سبيل إلى القول بدخولها، غير أنا نقول: لا اطلاع على قصد الإخراج إلا بدليل وذلك الدليل مخصص بهذا اللفظ فلا يمنع دخول الصورة، في مدلوله، لأن التخصيص إخراج من الحكم لا من المدلول، ومسألة الكتاب إنما هي غير المقصودة فبنوا قصد إخراجها أم لا، فإن لم يقصد دخل لفظا وحكما وإن قصد إخراجها دخلت لفظا وخرجت حكما كسائر المخصصات ونظير غير المقصودة المخاطب – بكسر الطاء – هل يدخل في عموم خطابه، فإن المخاطب لا يقصد نفسه غالبا؟
(ص) وأنه قد يكون مجازا.
(ش): لا خلاف أن حكم الحقيقة ثبوت ما وضع اللفظ له خاصا كان أو عاما؟ واختلفوا في المجاز هل هو كذلك فيثبت ما استعير له اللفظ خاصا كان أو عاما؟ فالأكثرون: نعم فيستويان في إثبات الأحكام بهما ولم ينقل عن أحد من أئمة اللغة، أن الألف واللام أو النكرة في سياق النفي وغيرها يفيدان العموم بشرط أن يكون في الحقيقة بل أدلة العمل بالعام مطلقة فيشملها وخالف بعض الحنفية فزعم أن المجاز لا يعم بصيغته لأنه على خلاف الأصل فيقتصر به على الضرورة كما قالوه في مسألة عموم المقتضى، أن ما يفيد بالضرورة يقدر بقدرها فإذا ورد: ((لا تبيعوا الطعام بالطعام، إلا سواء بسواء)). وورد إلا الصاع بالصاعين، أيصرف إليه، ولم يعم كل مكيل؟ وهذا ضعيف وليس المجاز مما يختص بمحال الضرورات بل هو عند قوم غالب على اللغات وليس العموم ذاتيا للحقيقة بل بأسباب زائدة كتعريف الجنس باللام وغيره، فإذا وجد هذا السبب في المجاز تعين المصير إليه، ثم عين الصاع في الحديث غير مراد، بل المراد ما كيل فيه، بطريق المجاز فتعين عموم المجاز، كما تعين عموم الحقيقة، ومن الدليل على أن العام قد يكون مجازا الاستثناء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام)). فإن الاستثناء معيار العموم، فدل على تعميم كون الطواف صلاة، وكون الطواف صلاة. مجاز.
تنبيهان:
الأول: ظهر بهذا أن العبارة مقلوبة، والصواب أن نقول: وأن المجاز يدخل العموم، فإن صورة المسألة أن يشتمل المجاز على السبب المقتضي للعموم من الألف واللام وغيرها، والمحل قابل للعموم، فهل يجب القول بعمومه، عملا بالمقتضى السالم عن المعارضة، كما يجب العمل عند وجوده في الحقيقة أم لا؛ لأنه ثبت للضرورة؟ ومن ثم ذكر هذه المسألة صاحب (البديع) في بحث المجاز لا في بحث العموم وعبارة ابن السمعاني في (القواطع): واختلف أصحابنا في المجاز، هل يتعلق به العموم؟ على وجهين: فقيل: لا يدخل في العموم إلا الحقائق وقال آخرون: يدخل فيه المجاز كالحقيقة، لأن العرب تتخاطب به كما تتخاطب بالحقيقة.
الثاني: ظن المصنف في (منع الموانع) أن هذه مسألة المقتضي وليس كذلك، فإن المقتضي لم يشتمل على دليل العموم، لأنه ليس بملفوظ، وإنما يقدر لأجل صحة الملفوظ، ومن هنا يضعف مأخذ من ألحقه بالمقتضي لأن التقدير لأجل الصحة ضروري فلا يجوز أن يقدر زائد على قدر الحاجة، فإذا خولف هذا الأصل لضرورة لا يجوز أن تزاد المخالفة على قدر الضرورة، بخلاف المجاز المشتمل على إرادة العموم فإنه إذا لم يحمل على العموم يلزم منه إلغاء دليل العموم.
(ص) فإنه من عوارض الألفاظ، قيل: والمعاني وقيل به في الذهني.
(ش) لا خلاف أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة قال في (البديع): بمعنى وقوع الشركة في المفهوم لا بمعنى الشركة في اللفظ يريد أنه ليس المراد بوصف اللفظ بالعام هو وصفه به مجردا عن المعنى فإن ذلك لا وجه له بل المراد وصفه به باعتبار معناه الشامل للكثرة، واختلفوا في المعاني على مذاهب:
أحدها: إنه ليس من عوارضها لا حقيقة ولا مجازا، وهو أبعد الأقوال، بل في ثبوته نظر.
والثاني: إنه من عوارضها مجازا، وعزاه الهندي للجمهور، لأنه لا يتصور انتظامها تحت لفظ واحد، إلا إذا اختلفت في أنفسها، وإذا اختلفت تدافعت وقولهم: عمهم الخصب والرخاء متعدد، فإن ما خص هذه البقعة غير ما خص الأخرى.
والثالث: إنه يعرض لها حقيقة كما يعرض للفظ، فكما صح، في الألفاظ شمول أمر لمتعدد يصح في المعاني شمول معنى لمعاني متعددة بالحقيقة فيهما وقال القاضي عبد الوهاب: مراد قائله: حمل الكلام على عموم الخطاب، وإن لم يكن هناك صيغة تعمها، كقوله تعالى:{حرمت عليكم الميتة} أي: نفس الميتة وعينها، لما لم يصح تناول التحريم لها عممنا بالتحريم جميع التصرف فيها من الأكل والبيع واللبس وسائر أنواع الانتفاع وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم لا بعموم ولا بخصوص.
والرابع: التفصيل بين المعاني الكلية الذهنية، فهي عامة، بمعنى أنها بمعنى واحد متناول لأمور كثيرة دون المعاني الخارجية، لأن كل ما له وجود في الخارج فلا بد أن يكون متخصصا بمحل وحال مخصوص لا يوجد في غيره، فيستحيل شموله لمتعدد، وهذا التفصيل بحث للصفي الهندي.
تنبيهان:
الأول: عطف المصنف على الأصح يقتضي وجود خلاف في كونه من عوارض اللفظ، وليس كذلك، فينبغي أن يجعل استئنافا لا عطفا على ما قبله.
الثاني: ظهر بما سبق أنه ليس المراد بكون العموم من عوارض المعاني – المعاني التابعة للألفاظ، بل المعاني المستقلة، كالمقتضي والمفهوم، فإن المعاني التابعة للألفاظ لا خلاف في عمومها لأن لفظها عام.
(ص) ويقال للمعنى: أعم، وللفظ: عام.
(ش) يقال في اصطلاح الأصوليين للمعنى: أعم وأخص وللفظ: عام وخاص، وقال القرافي: ووجه المناسبة أن صيغة أفعل تدل على الزيادة والرجحان والمعاني أهم من الألفاظ فخصت بصيغة أفعل التفضيل ومنهم من يقول: فيها عام وخاص أيضا.
(ص) ومدلوله كلية، أي: محكوم فيه على كل فرد مطابقة إثباتا أو سلبا لا كل ولا كلي.
(ش) هذا يتوقف على معرفة الفرق بين الكلية والكلي والكل:
أما الكل: فهو المجموع الذي لا يبقى بعده فرد، والحكم فيه على المجموع من حيث هو مجموع لا على الأفراد كأسماء العدد ويقابله الجزء وهو ما تركب منه ومن غيره كل، كالخمسة مع العشرة.
وأما الكلي: فهو الذي يشترك في مفهومه كثيرون، كمفهوم الحيوان في أنواعه والإنسان في أنواعه، فإنه صادق على جميع أفراده ويقابله الجزئي كزيد، فهو: الكلي مع قيد زائد، وهو تشخصه فلك أن تقول: الكلي بعض الجزئي.
وأما الكلية: فهي التي يكون فيها الحكم على كل فرد بحيث لا يبقى فرد، كقولنا: رجل يشبعه رغيفان غالبا، فإنه يصدق باعتبار الكلية، أي: كل رجل على حدته يشبعه رغيفان غالبا لا يصدق باعتبار الكل أي: المجموع من حيث هو مجموع، فإنه لا يكفيه رغيفان لا قناطير متعددة، لأن الكل والكلية تندرج فيها الأشخاص الحاضرة والماضية والمستقبلة وجميع ما في مادة الإمكان وإنما الفرق بينهما: أن الكل يصدق من حيث المجموع والكلية تصدق من حيث الجميع، وفرق بين المجموع والجميع، فإن المجموع الحكم على الهيئة الاجتماعية، لا على الأفراد، والجميع على كل فرد فرد، ويقابلها الجزئية وهي الحكم على أفراد حقيقة من غير تعيين كقولك: بعض الحيوان إنسان فالجزئية بعض الكلية، إذا علمت هذا فمسمي العموم كلية لا كل، وإلا لتعذر الاستدلال به على ثبوت حكمه للفرد المعين في النفي والنهي، إلا إذا كان معناه الكلية التي يحكم فيها على كل فرد فرد، بحيث لا يبقى فرد كما عرفت وحينئذ يستدل بها على فرد ما من الأفراد في النفي والنهي إنما يختلف الحال بين الكل والكلية في النفي النهي لا في الأمر، وحين الثبوت فمدلول العموم كلية لا كل، لصحة الاستدلال به على ثبوت حكمه لكل فرد من أفراده عند القائلين به، إجماعا فإن قوله تعالى:{لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} دال على تحريم قتل كل فرد من أفراد النفوس بالإجماع، وليس معناه: ولا تقتلوا مجموع النفوس وإلا لم يدل على فرد فرد فلا يكون عاصيا بقتل الواحد، لأنه لم يقتل المجموع وبهذا التقرير يزول الإشكال الذي تشعب به القرافي، فإنه قال: فإن دلالة العموم على كل فرد من أفراده نحو: زيد المشرك مثلا من المشركين لا يمكن أن يكون بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام، وإذا بطل أن يدل لفظ العموم على زيد مطابقة وتضمنا والتزاما- بطل أن يدل لفظ العموم مطلقا لانحصار الدلالة في الأقسام الثلاثة وإنما قلنا: لا يدل عليه بطريق المطابقة؛ لانتهاء دلالة اللفظ على مسماه بكماله.
ولفظ العموم لم يوضع لزيد فقط حتى تكون الدلالة عليه مطابقة, وإنما قلنا: لا تدل بالتضمن لأنها دلالة اللفظ على جزء مسماه والجزء إنما يصدق إذا كان المسمى كلا لأنه مقابله ومدلول لفظ العموم ليس كلا كما عرفت فلا يكون زيد جزء فلا يدل عليه تضمنا وإنما قلنا: لا يدل عليه بالالتزام لأن الالتزام هي دلالة اللفظ على لازم مسماه ولازم المسمى لا بد وأن يكون خارجا عن المسمى وزيد ليس بخارج عن مسمى العموم لأنه لو خرج لخرج عمرو وخالد وحينئذ لا يبقى في المسمى شيء وأجاب عنه الشيخ شمس الدين الأصفهاني شارح (المحصول) بأنا حيث قلنا بدلالة اللفظ على الثلاث، إنما هو في لفظ مفرد دال على معنى، ليس ذلك المعنى هو نسبة بين مفردين، وذلك لا يتأتى هنا، فلا ينبغي أن يطلب ذلك وحينئذ فقوله: {فاقتلوا المشركين} في قوة جملة من القضايا وذلك لأن مدلوله: اقتل هذا المشرك واقتل هذا المشرك إلى آخر الأفراد.
وهذه الصيغ إذا اعتبرت بجملتها فهي لا تدل على قتل زيد المشرك، ولكنها تتضمن ما يدل على قتل زيد المشرك، لا بخصوص كونه زيدا، بل بعموم، كونه فردا ضرورة تضمنه اقتل زيد المشرك فإنه من جملة هذه القضايا وهي جزء من مجموع تلك القضايا فتكون دلالة هذه الصيغة على وجهين، قتل زيد المشرك لتضمنها ما يدل على ذلك الوجوب والذي هو في ضمن ذلك المجموع هو دال على ذلك مطابقة، قال: فافهم ما ذكرناه فإنه من دقيق الكلام وليس ذلك من قبيل دلالة التضمن، بل هي من قبيل دلالة المطابقة.
تنبيه: ما قالوه، أن دلالة العموم كلية بمعنى أن الحكم فيها على كل فرد هو في الإثبات فإنه كان في النفي فلا يرتفع الحكم عن كل فرد فرد، وفرق بين عموم السلب وسلب العموم.
(ص) ودلالته على أصل المعنى قطعية، وهو عن الشافعي رضي الله عنه وعلى كل فرد بخصوصه ظنية وهو عن الشافعية، وعن الحنفية قطعية.
(ش) للعام دلالتان إحداهما على أصل المعنى، وهي قطعية بلا خلاف والثانية على استغراق الأفراد، أي: على كل فرد بخصوصه هل هي ظنية أو قطعية المنسوب للشافعية الأول وقالوا لا تدل على القطع إلا بالقرائن كما أنه لا تسقط دلالتها إلا بالقرائن واحتجوا بأن هذه الألفاظ تستعمل تارة للاستغراق وتارة للبعض، فامتنع القطع ولم يضره الإجمال للقطع بأن الصحابة وأهل اللغة طلبوا دليل التخصيص لا دليل العموم. واحتجوا أيضا بأنه لولا ذلك لما جاز تأكيد الصيغ العامة، إذ لا فائدة فيه وقد قال تعالى:{فسجد الملائكة كلهم أجمعون} والمنسوب للحنفية الثاني وأنها توجب الحكم في جميع الأفراد الداخلة تحته قطعا ويقينا كالخاص فيما يتناوله، وعزاه الأبياري في (شرح البرهان) إلى المعتزلة وأن مأخذهم فيه اعتقادهم استحالة تأخير البيان عن مورد الخطاب، فلو كان المراد به غير ما هو ظاهر فيه للزم تأخير البيان وما عزاه المصنف للحنفية، مراده جمهورهم وإلا فطائفة منهم على الأول، منهم أبو منصور الماتريدي ومن تبعه من مشايخ سمرقند وما قيد به محل الخلاف مانع فيه المازري فإنه قيده بما زاد على أقل الجمع.
أما دلالته على الأقل فهو قطعي بلا خلاف وما عزاه في الأول للشافعي رضي الله عنه، فلا خصوصية له به، بل القائلون بصيغ العموم عليه وهو محل وفاق ثم يقتضي أنه لم ينقل عن الشافعي رضي الله عنه، في المقام الثاني.
وقد قال إمام الحرمين في (البرهان) أما الفقهاء فقد قال جمهورهم: إن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الأقل ظواهر فيما زاد عليه، والذي صح عندي من مذهب الشافعي رضي الله عنه، أن الصيغة العامة لو صح تجردها عن القرائن لكانت نصا في الاستغراق قال: وإنما التردد فيما عدا الأقل، من جهة عدم القطع بانتفاء القرائن المخصوصة ثم أشار الإمام إلى توسط في المسألة، وهو أن بعضها يدل على القطع وبعضها بخلافه وكان ينبغي للمصنف إذ قيد محل الخلاف أن يتمم ذلك بتجرده عن القرائن ليخرج ما يثبت إنه غير مجمل للتخصيص بدليل، فإن دلالته على الأفراد قطعية بلا خلاف كقوله تعالى:{والله بكل شيء عليم}.
{لله ما في السموات وما في الأرض} {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} ونحوه، وكذلك ما لا يحتمل إجراؤه على العموم (أي لا يمكن اعتبار العموم فيه، لكون المحل غير قابل له كقوله:{لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} فإنه حينئذ يكون العام كالمجمل، يجب التوقف فيه إلى بيان المراد منه) فإنه خارج عن محل الخلاف وقد استثناه بعض الحنفية، ومن فوائد الخلاف في هذه المسألة، وجوب اعتقاد العموم وتخصيصه بالقياس وخبر الواحد وغيرها من المظنونات.
(ص) وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع وعليه الشيخ الإمام.
(ش) وممن صرح به من المتقدمين الإمام أبو المظفر بن السمعاني في (القواطع) في كلامه على الاستصحاب وخالف في ذلك جماعة من المتأخرين فقالوا العام في الأشخاص مطلق باعتبار الأحوال والأزمنة والبقاع. وقالوا: لا يدخلها العموم إلا بصيغة وضعت لها، فإذا قال: {فاقتلوا المشركين} عم كل مشرك بحيث لا يبقى فرد ولا يعم.... الأحوال حتى يقتل في حال الهدنة وفي حال الذمة لا خصوص المكان حتى يدل على المشركين في أرض الهند مثلا، ولا الزمان حتى يدل على يوم السبت أو يوم الأحد مثلا وقد شغف الشيخ أبو العباس القرافي بهذا البحث، وظن أنه يلزم من هذه القاعدة أنه لا يعمل بجميع العمومات في هذا الزمان، لأنه قد عمل بها في زمن ما والمطلق يخرج عن عهدته بالعمل به في صورة وقد أنكره عليه جماعة من المحققين منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقال: من أخرج شيئا من ذلك فقد خالف مقتضى العموم بلا دليل، واستدل بحديث أبي أيوب، لما قدم الشام فوجد مراحيض قد بنيت قبل القبلة فهذا أبو أيوب من أهل اللسان والشرع فهم العموم من الأمكنة وتوسط الشيخ علاء الدين الباجي بين المقالتين وقال: معنى كون العام في الأشخاص مطلقا في الأزمان والأحوال، إنه إذا عمل به في الأشخاص في زمان ما ومكان ما وحالة ما لا يعمل به في تلك الأشخاص مرة أخرى في زمان آخر ونحوه، أما في أشخاص أخر مما يتناوله ذلك اللفظ العام، فيعمل به لأنه لو لم يعمل به فيهم لزم التخصيص في الأشخاص، كما قال ابن دقيق العيد فالتوفية بعموم الأشخاص أن لا يبقى شخص ما في أي زمان ومكان وحال إلا حكم عليه، والتوفية بالإطلاق أن لا يتكرر ذلك الحكم فكل زان مثلا يجلد بعموم الآية وإذا جلد مرة ولم يتكرر زناه بعد ذلك لا يجلد ثانية في زمان آخر أو مكان آخر، فإن المحكوم عليه وهو الزاني والمشرك ونحوه، فيه أمران:
أحدهما: الشخص والثاني: الصفة، كالزنا والشرك، فأداة العموم لما دخلت عليه أفادت عموم الأشخاص لا عموم الصفة، والصفة باقية على إطلاقها، فهذا معنى قولهم العام في الأشخاص مطلق في غيره.