دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #6  
قديم 2 رجب 1442هـ/13-02-2021م, 01:12 PM
نورة الأمير نورة الأمير غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز - مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 749
افتراضي

رسالة في تفسير سورة العصر ، وهي مكية:


قال تعالى: ﴿ وَٱلْعَصْرِ ﴿1﴾ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ ﴿2﴾ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلصَّبْرِ ﴾



مقدمة فيها وفي فضلها:
ذكر الطبراني عن عبد الله بن حصن [ أبي مدينة ] ، قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا ، لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر " سورة العصر " إلى آخرها ، ثم يسلم أحدهما على الآخر .
ولا عجب من فعلهم هذا، وذلك لاشتمال السورة على الأسس والمبادئ السليمة للحياة الكاملة السعيدة، فهذه السورة من أكثر السور شمولا رغم أنها من أقصرهن! وقد قال الشافعي رحمه الله: لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم.
وبيان ذلك أن المراتب أربع، باستكمالها يحصل للشخص غاية كماله: إحداها: معرفة الحق. الثانية: عمله به. الثالثة: تعليمه من لا يحسنه. الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المراتب الأربع في هذه السورة، كما ذكر ذلك ابن القيم-رحمه الله-.

لذا سنحاول تفكيك هذه السورة وتحليل آياتها ، والنهل من عذب مفرداتها ، لنعرف أسباب النجاح والفلاح، وسبل النجاة من الخسران المذكور فيها، وقانا الله وإياكم خسران الدنيا والآخرة.


(والعصر):
ابتدأت السورة بالقسم الذي يفيد التعظيم ،

وحرف القسم: هو الواو.
والمقسَم به: هو العصر، وهو من مظاهر بديع التكوين الرباني الدال على عظيم قدرته وسعة علمه .
والمراد بالقسم: تأكيد الخبر. كما ذكره ابن عاشور.

أما سبب القسم بالعصر: فذلك مبني على المراد بالعصر، وذلك أن له معانٍ يتعين أن يَكون المراد منها لا يعدو أن يكون حالة دالة على صفة من صفات الأفعال الربانية ، لذا سنستعرض الأقوال التي أوردها المفسرون في المراد به ، لنستنتج سبب القسم به.



ذكر المفسرون في المراد بالعصر عدة أقوال:

الأول: أنه الدهر، قال به ابن عباس، وذكره البغوي، ورجحه الطبري وابن كثير والقرطبي ، وهذا القول يدخل تحته كثير من الأقوال الأخرى ، فالقول به أشمل وأكمل ، وذكر في الاحتجاج بهذا القول الرازي عدة وجوه:

أحدها: أن الدهر مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، بل فيه ما هو أعجب من كل عجب، وهو أن العقل لا يقوى على أن يحكم عليه بالعدم، فإنه مجزأ مقسم بالسنة، والشهر، واليوم، والساعة، ومحكوم عليه بالزيادة والنقصان والمطابقة، وكونه ماضيا ومستقبلا، فكيف يكون معدوما؟ ولا يمكنه أن يحكم عليه بالوجود لأن الحاضر غير قابل للقسمة والماضي والمستقبل معدومان، فكيف يمكن الحكم عليه بالوجود؟

وثانيها: أن بقية عمر المرء لا قيمة له، فلو ضيعت ألف سنة، ثم تبت في اللمحة الأخيرة من العمر بقيت في الجنة أبد الآباد، فعلمت حينئذ أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة، فكأن الدهر والزمان من جملة أصول النعم، فلذلك أقسم به ونبه على أن الليل والنهار فرصة يضيعها المكلف، وإليه الإشارة بقوله: {وهو الذى جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}.

وثالثها: أنهم كانوا يضيفون الخسران إلى نوائب الدهر، فكأنه تعالى أقسم على أن الدهر والعصر نعمة حاصلة لا عيب فيها، إنما الخاسر المعيب هو الإنسان.

ورابعها: أنه تعالى ذكر العصر الذي بمضيه ينتقص عمرك، فإذا لم يكن في مقابلته كسب صار ذلك النقصان عن الخسران، ولذلك قال: {لفي خسر} ،
ومنه قول القائل:

إنا لنفرح بالأيام نقطعها ** وكل يوم مضى نقص من الأجل

فكأن المعنى: والعصر العجيب أمره حيث يفرح الإنسان بمضيه لظنه أنه وجد الربح مع أنه هدم لعمره وإنه لفي خسر.



القول الثاني: وهو قول أبي مسلم والحسن ، وذكره البغوي والرازي : أن المراد بالعصر أحد طرفي النهار، وذكر ابن عاشور: أن أشهر إطلاق لفظ العصر أنه علَم بالغلبة لوقت ما بين آخر وقت الظهر وبين اصفرار الشمس فمبدؤه إذا صار ظل الجسم مثلَه بعد القَدْر الذي كان عليه عند زوال الشمس ويمتد إلى أن يصير ظلُّ الجسم مثلَيْ قدرِه بعد الظل الذي كان له عند زوال الشمس ، ويعقبه الأصيل والاحمرار وهو ما قبل غروب الشمس ،
قال الحارث بن حِلزة :

آنستْ نبأة وأفزَعها القَنَّـ ... اصُ عَصراً وقَدْ دَنَا الإِمساء

وتعريفه باللام على هذه الوجوه تعريف العهد الذهني أي كل عَصْر .

والسبب في قول القائل أنه المراد بالعصر وجوه ذكرها الرازي:

أحدها: أنه أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعا من دلائل القدرة فإن كل بكرة كأنها القيامة يخرجون من القبور وتصير الأموات أحياء ويقام الموازين وكل عشية تشبه تخريب الدنيا بالصعق والموت، وكل واحد من هاتين الحالتين شاهد عدل ثم إذا لم يحكم الحاكم عقيب الشاهدين عد خاسرا فكذا الإنسان الغافل عنهما في خسر.

وثانيها: قال الحسن رحمه الله: إنما أقسم بهذا الوقت تنبيها على أن الأسواق قد دنا وقت انقطاعها وانتهاء التجارة والكسب فيها، فإذا لم تكتسب ودخلت الدار وطاف العيال عليك يسألك كل أحد ما هو حقه فحينئذ تخجل فتكون من الخاسرين، فكذا نقول: والعصر أي عصر الدنيا قد دنت القيامة و(أنت) بعد لم تستعد وتعلم أنك تسأل غدا عن النعيم الذي كنت فيه في دنياك، وتسأل في معاملتك مع الخلق وكل أحد من المظلومين يدعي ما عليك فإذن أنت خاسر، ونظيره: {اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون}.

وقال ابن عاشور: أن ذلك وقت يؤذن بقرب انتهاء النهار ، ويذكر بخلقة الشمس والأرض ، ونظام حركة الأرض حول الشمس ، وهي الحركة التي يتكون منها الليل والنهار كل يوم وهو من هذا الوجه كالقسم بالضحى وبالليل والنهار وبالفجر من الأحوال الجوية المتغيرة بتغير توجه شعاع الشمس نحو الكرة الأرضية ، وفي ذلك الوقت يتهيأ الناس للانقطاع عن أعمالهم في النهار كالقيام على حقولهم وجنَّاتهم ، وتجاراتهم في أسواقهم ، فيذكر بحكمة نظام المجتمع الإِنساني وما ألهم الله في غريزته من دأب على العمل ونظام لابتدائه وانقطاعه ، وفيه يتحفز الناس للإِقبال على بيوتهم لمبيتهم والتأنس بأهليهم وأولادهم ، وهو من النعمة أو من النعيم ، وفيه إيماء إلى التذكير بمَثَل الحياة حين تدنو آجال الناس بعد مضي أطوار الشباب والاكتهال والهَرم .

وثالثها: أن هذا الوقت معظم، والدليل عليه قوله عليه السلام: "من حلف بعد العصر كاذبا لا يكلمه الله ولا ينظر إليه يوم القيامة" فكما أقسم في حق الرابح بالضحى فكذا أقسم في حق الخاسر بالعصر وذلك لأنه أقسم بالضحى في حق الرابح وبشر الرسول أن أمره إلى الإقبال وههنا في حق الخاسر توعده أن أمره إلى الإدبار، ثم كأنه يقول بعض النهار: باق فيحثه على التدارك في البقية بالتوبة، وعن بعض السلف: تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله فقلت: هذا معنى: {إن الإنسان لفي خسر} يمر به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذن هو خاسر.



القول الثالث: وهو قول مقاتل ، وذكره البغوي والرازي وابن عاشور : أراد صلاة العصر، وتعريفه على هذا تعريف العهد وصار علَماً بالغلبة كما هو شأن كثير من أسماء الأجناس المعرفة باللام مثل العَقَبَة، كما ذكر ذلك ابن عاشور .

وذكر الرازي فيه وجوها:

أحدها: أنه تعالى أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله: {حافظوا على صلاة العصر} في مصحف حفصة وقيل في قوله: {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله} إنها صلاة العصر.

وثانيها: قوله عليه السلام: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".

وثالثها: أن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشها.

ورابعها: أن صلاة العصر بها يحصل ختم طاعات النهار، فهي كالتوبة بها يختم الأعمال، فكما تجب الوصية بالتوبة كذا بصلاة العصر لأن الأمور بخواتيمها، فأقسم بهذه الصلاة تفخيما لشأنها، وزيادة توصية المكلف على أدائها وإشارة منه أنك إن أديتها على وجهها عاد خسرانك ربحا، كما قال: {إلا الذين ءامنوا}.


القول الرابع:أنه قسم بعصر محدد من العصور، كقولنا: عصر فلان، أو عصر النهضة. وخصصه الرازي وابن عاشور بأنه قسم بزمان الرسول عليه السلام، فقوله: {والعصر} أي والعصر الذي أنت فيه، والتعريف فيه تعريف العهد الحضوري مثل التعريف في ( اليوم ) من قوْلك : فعلت اليوم كذا ، فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله: {وأنت حل بهذا البلد} وبعمره في قوله: {لعمرك} فكأنه قال: وعصرك وبلدك وعمرك، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب تعظيم حال الظرف فقس حال المظروف، ثم وجه القسم، كأنه تعالى يقول: أنت يا محمد حضرتهم ودعوتهم، وهم أعرضوا عنك وما التفتوا إليك، فما أعظم خسرانهم وما أجل خذلانهم.

ويجوز أن يراد عصر الإِسلام كلِه كما أورد ذلك ابن عاشور، فعصر الإسلام هو خاتمة عصور الأديان لهذا العالم وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم عصر الأمة الإِسلامية بالنسبة إلى عصر اليهود وعصر النصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بقوله : « مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له يوماً إلى الليل فعملت اليهود إلى نصف النهار ثم قالوا : لا حاجة لنا إلى أجرك وما عملنا باطل ، واستأجر آخرين بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلتَ لنا ، واستأجر قوماً أن يعملوا بقيةَ يومهم فعملوا حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فأنتم هُم » . فلعل ذلك التمثيل النبوي له اتصال بالرمز إلى عصر الإِسلام في هذه الآية .

وسبب القَسَم بالعَصر بناء على هذا القول: هو أن السورة بينت حال الناس في عصر الإِسلام بين مَن كفر به ومن آمن واستوفى حظه من الأعمال التي جاء بها ، ويعرف منه حالُ من أسلموا وكان في أعمالهم تقصير متفاوت ، أما أحوال الأمم التي كانت قبل الإِسلام فكانت مختلفة بحسب مجيء الرسل إلى بعض الأمم ، وبقاء بعض الأمم بدون شرائع متمسكة بغير دين الإِسلام من الشرك أو بدين جاء الإِسلام لنسخه مثل اليهودية والنصرانية قال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } في سورة آل عمران ( 85 ) .



القول الخامس: ذكره البغوي: قيل معناه ورب العصر . 



( إن الإنسان لفي خسر )



المسألة الأولى: الألف واللام في الإنسان، هل هي للجنس أم للمعهود السابق؟ وبناء على هذا فإن المفسرين ذكروا في المراد به عدة أقوال:


القول الأول: أن المراد منه جنس الإنسان وهو كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، ويدل على هذا القول استثناء الذين آمنوا من الإنسان. ذكره الرازي

وقال ابن عاشور: تعريف الإنسان تعريف الجنس مراد به الاستغراق وهو استغراق عرفي لأنه يستغرق أفراد النوع الإِنساني الموجودين في زمن نزول الآية وهو زمن ظهور الإِسلام ، ومخصوص بالناس الذين بلغتهم الدعوة في بلاد العالم على تفاوتها ، ولما استُثني منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقي حكمه متحققاً في غير المؤمنين كما سيأتي ..
ونظير هذا قوله : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) .

وسبب الحكم على الإنسان بالخسر: ذلك أن الإنسان لا ينفك عن خسر، لأن الخسر هو تضييع رأس المال، ورأس ماله هو عمره، وهو قلما ينفك عن تضييع عمره، وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان؛ فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسران، وإن كانت مشغولة بالمباحات فالخسران أيضا حاصل، لأنه كما ذهب لم يبق منه أثر، مع أنه كان متمكنا من أن يعمل فيه عملا يبقى أثره دائما، وإن كانت مشغولة بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها، أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك، لأن مراتب الخضوع والخشوع لله غير متناهية، فإن مراتب جلال الله وقهره غير متناهية، وكلما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر، فكان تعظيمه عند الإتيان بالطاعات أتم وأكمل وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران، فثبت أن الإنسان لا ينفك البتة عن نوع خسران. 

واعلم أن هذه الآية كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة، وتقريره أن سعادة الإنسان في حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، ثم إن الأسباب الداعية إلى الآخرة خفية، والأسباب الداعية إلى حب الدنيا ظاهرها، وهي الحواس الخمس والشهوة والغضب، فلهذا السبب صار أكثر الخلق مشتغلين بحب الدنيا مستغرقين في طلبها، فكانوا في الخسران والبوار.

-مسألة: إن قيل: أنه تعالى قال في سورة التين: {لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين} فهناك يدل على أن الابتداء من الكمال والانتهاء إلى النقصان، وههنا يدل على أن الابتداء من النقصان والانتهاء إلى الكمال، فكيف وجه الجمع؟
الجواب: أن المذكور في سورة التين أحوال البدن، وههنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين. ذكر ذلك الرازي.


القول الثاني: المراد به الكافر . ذكره البغوي وابن عاشور .


القول الثالث: المراد منه شخص معين، قال ابن عباس: يريد جماعة من المشركين كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب.
وقال مقاتل: نزلت في أبي لهب، وفي خبر مرفوع إنه أبو جهل، وروي أن هؤلاء كانوا يقولون: إن محمدا لفي خسر، فأقسم تعالى أن الأمر بالضد مما توهمون. ذكره الرازي



والصواب أن لا تعارض بين الأقوال ، بل إن القول الأول أعم ويدخل فيه القول الثاني والثالث ، فجنس الإنسان خاسر ، ما لم يكن من المؤمنين ، فبالتالي يخرج الكافرون من ذلك ويندرجون تحت قسم الخاسرين ، ويندرج تحت قسم الكافرين ما ذكر من رؤوس المشركين كأبي لهب والعاص بن وائل وغيرهم.

المسألة الثانية: المراد بالخسر:

الخُسر : مصدر وهو ضد الربح في التجارة ، استعير هنا لسوء العاقبة لمن يظن لنفسه عاقبةً حسنة ، وتلك هي العاقبة الدائمة وهي عاقبة الإِنسان في آخرته من نعيم أو عذاب .

-الظرفية في قوله : (لفي خسر) مجازية شبهت ملازمة الخسر بإحاطة الظرف بالمظروف فكانت أبلغ من أن يقال : إن الإنسان لخاسر .

ما الذي يفيده تنكير مفردة { خسر }؟
1- يجوز أن يكون للتنويع.
2- ويجوز أن يكون للتعظيم والتعميم في مقام التهويل وفي سياق القسَم ، والمعنى : إن الناس لفي خسران عظيم .
ومجيء هذا الخبر على العموم مع تأكيده بالقَسم وحرف التوكيد في جوابه ، يفيد التهويل والإِنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس . ذكره ابن عاشور



واعلم أن الله تعالى قرن بهذه الآية قرائن تدل على مبالغته تعالى في بيان كون الإنسان في خسر،
أحدها: قوله: {لفي خسر} يفيد أنه كالمغمور في الخسران، وأنه أحاط به من كل جانب .

وثانيها: كلمة إن، فإنها للتأكيد.

وثالثها: حرف اللام في لفي خسر،
وههنا احتمالان: 
الأول: في قوله تعالى: {لفي خسر} أي في طريق الخسر، وهذا كقوله في أكل أموال اليتامى: {إنما يأكلون فى بطونهم نارا} لما كانت عاقبته النار.

الاحتمال الثاني: أن الإنسان لا ينفك عن خسر، لأن الخسر هو تضييع رأس المال، ورأس ماله هو عمره، وهو قلما ينفك عن تضييع عمره، وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان؛ فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسران، وإن كانت مشغولة بالمباحات فالخسران أيضا حاصل، لأنه كما ذهب لم يبق منه أثر، مع أنه كان متمكنا من أن يعمل فيه عملا يبقى أثره دائما، وإن كانت مشغولة بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها، أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك، لأن مراتب الخضوع والخشوع لله غير متناهية، فإن مراتب جلال الله وقهره غير متناهية، وكلما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر، فكان تعظيمه عند الإتيان بالطاعات أتم وأكمل وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران، فثبت أن الإنسان لا ينفك البتة عن نوع خسران. ذكره الرازي

-تفاوت الخسر:
هذا الخسر متفاوت فأعظمه وخالده الخسر المنجر عن انتفاء الإِيمان بوحدانية الله وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودون ذلك تكونُ مراتب الخسر متفاوتة بحسب كثرة الأعمال السيئة ظاهرها وباطنها، وما حدده الإِسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم إذا ترك صاحبه الكبائر والفواحشَ وهو ما فسر به قوله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ] .


-مسألة: هل الخسر مرتبط بالخسار الدنيوي ؟ وهل نجاح الناس في الدنيا وخسارتهم مرتبطة بالمعنى المذكور في الآية؟
الصواب أن المراد بهذا الخبر الخسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا ، قال تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 196 ، 197 ] .



( إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلصَّبْرِ)


انقسام الناس إلى فريقين بناء على ما تقتضيه الآيات:

1- فريق يلحقه الخسران، وهو جنس الإنسان الذي لم يقم بما أمره الله به.
2- فريق لا يلحقه شيء من الخسران، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر .


-المراد بـ(ال) التعريف في (الصالحات):
ال التعريف في قوله: (الصالحات) هي (ال) تعريف الجنس المراد به الاستغراق؛ أي عملوا جميع الأعمال الصالحة التي أمروا بعملها بأمر الدين. وعَمل الصالحات يشمل ترك السيئات. ذكره ابن عاشور.



معنى ( تواصوا ):
أوصى بعضهم بعضا، ذكره البغوي.


والمراد ( بالحق ):

قيل: بالقرآن ، قاله الحسن وقتادة وذكره البغوي.

وقال مقاتل : بالإيمان والتوحيد . ذكره البغوي

والصواب أن مفردة الحق تشمل هذا كله ، فالقرآن حق والإيمان حق والتوحيد حق.



( وتواصوا بالصبر )

معنى الصبر:
منع المرء نفسه من تحصيل ما يشتهيه أو من محاولة تحصيله ( إن كان صعبَ الحصول فيترك محاولة تحصيله لخوْف ضر ينْشأ عن تناوله كخوف غضب الله أو عقاب ولاة الأمور ) أو لرغبة في حصول نفع منه ( كالصبر على مشقة الجهاد والحج رغبة في الثواب والصبر على الأعمال الشاقة رغبة في تحصيل مال أو سمعة أو نحو ذلك ). ذكره ابن عاشور.


أنواع الصبر:

1- الصبر على أداء الطاعات والفرائض وإقامة أمر الله . ذكره البغوي وأشار إليه ابن عاشور.
2-الصبر على المصائب والأقدار، وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر. ذكره ابن كثير ، وذكر ابن عاشور مثالا على ذلك: وذلك أن المسلم إذا أمَرَ بالمعروف فإنه يلاقي امتعاض بعض المأمورين به كمن يقول لآمره : هَلاّ نظرت في أمر نفسك ، أو نحو ذلك .

ولعل هذا هو سبب ذكر التواصي بالصبر بعد ذكر التواصي بالحق ، وذلك أن التواصي بالحق يحتاج صاحبه إلى مزية الصبر.

3- الصبر عن فعل المعاصي ومنع النفس عن الشهوات والشبهات. أشار إليه ابن عاشور

وأما تحمل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشّم السهر في اللهو والمعاصي ، والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها ، فليس من الصبر لأن ذلك التحمل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها .

والتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة ، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبرَ عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكه لمن راض نفسه عليها ، كما قال عمرو بن العاص:


إذا المرءُ لم يَترُكْ طعاماً يُحبُّه


ولم يَنْهَ قلباً غاوياً حيثُ يمَّما ...


فيوشِك أن تُلفَى له الدَّهرَ سُبّةٌ


إذا ذُكِرَتْ أمثالُها تَمْلأ الفَمَا ...


وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما تميل إليه ، وفي الحديث : " حُفَّت الجنة بالمكارِهِ وحُفّت النار بالشهوات " . وعن علي بن أبي طالب : «الصبر مطية لا تكبو» .



-سبب عطف التواصي بالحق والصبر على عمل الصالحات رغم أنه من عمل الصالحات:
هذا من عَطْف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يُغفل عنه ، يُظن أن العمل الصالح هو ما أثرُه عمل المرء في خاصته ، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشادَ المسلم غيره ودعوتَه إلى الحق ، فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدى وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر .


-وسبب عطف التواصي بالصبر على التواصي بالحق:
-أن هذا من عطف الخاص على العام.
- أن التواصي بالحق يحتاج فيه إلى التوصية بالصبر، لأن الصبر تحمَّل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق .


-شمولية إقامة المصالح الدينية في الآية:

فقد اشتمل قوله تعالى : { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } على إقامة المصالح الدينية كلها ، فالعقائد الإِسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق ، والأعمال الصالحة وتجنب السيئات مندرجة في الصبر .


-استنباطات لطيفة في ظلال الاستثناء المذكور في الآية:
- أن الاستثناء فيه تسلية للمؤمن من فوت عمره وشبابه، لأن العمل قد أوصله إلى خير من عمره وشبابه.
- أنه تنبيه على أن كل ما دعاك إلى طاعة الله فهو الصلاح، وكل ما شغلك عن الله بغيره فهو الفساد. ذكره الرازي.



-مسألة: في جانب الخسر ذكر الحكم ولم يذكر السبب وفي جانب الربح ذكر السبب، وهو الإيمان والعمل الصالح، ولم يذكر الحكم فما الفرق؟

-أنه لم يذكر سبب الخسر لأن الخسر كما يحصل بالفعل، وهو الإقدام على المعصية يحصل بالترك،وهو عدم الإقدام على الطاعة، أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل، فلهذا ذكر سبب الربح وهو العمل.
- وفيه وجه آخر، وهو أنه تعالى في جانب الخسر أبهم ولم يفصل، وفي جانب الربح فصل وبين، وهذا هو اللائق بالكرم. ذكره الرازي.



-فائدة في ظلال قوله تعالى: {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}:
قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما بين في أهل الاستثناء أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر وصاروا أرباب السعادة من حيث أنهم تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب وصفهم بعد ذلك بأنهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضا سببا لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين وعلى هذا الوجه قال تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} فالتواصي بالحق يدخل فيه سائر الدين من علم وعمل، والتواصي بالصبر يدخل فيه حمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب، وفي اجتنابهم ما يحرم إذ الإقدام على المكروه، والإحجام عن المراد كلاهما شاق شديد.

-عظم أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي على ذلك:

وذلك أن الآية فيها وعيد شديد، فقد حكم تعالى بالخسار على جميع الناس إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة، وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور وإنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه فكذلك يلزمه في غيره أمور، منها الدعاء إلى الدين والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ثم كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه، والأول الأمر بالمعروف والثاني النهي عن المنكر، ومنه قوله: {وانه عن المنكر واصبر} وقال عمر: رحم الله من أهدى إلى عيوبي. ذكره الرازي

- دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه، فلذلك قرن به التواصي. ذكره الرازي

-كمال دين المرء ، وكمال مجتمعه بتحصيل الأمور الأربعة المذكورة في الآية:

(إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم. أورده السعدي.



رزقنا الله النجاة من الخسران ، والارتقاء لمرتبة المؤمنين العاملين بالصالحات ، المتواصين بالحق الصابرين عليه ، والحمدلله رب العالمين..

المراجع:

- تفسير البغوي.

-التفسير الكبير للرازي.

- تفسير القرطبي.

- تفسير الطبري.

-التحرير والتنوير لابن عاشور.

- في ظلال القرآن لسيد قطب.
-تفسير السعدي.

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المجلس, السادس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:41 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir