الدرس الأول: استخلاص مسائل التفسير من كلام المفسرين
هذا الدرس الأول من دروس مهارات التفسير، أسأل الله تعالى أن يعين على حسن عرضها وإتمامها، وأن يبارك فيها وينفع بها إنه حميد مجيد.
وهذا الدرس أصل لما بعده من الدروس، بل هو معقد من معاقد إحسان التعلّم، مَن رزق فيه ملَكة حسنة رأى من نفعها وبركتها شيئاً كثيراً بإذن الله تعالى.
وبيان ذلك أنّ المسائلَ لَبنات العلوم، فكل علم من العلوم له أقسامه وأبوابه ولكل باب مسائله التي هي عماده؛ فمن أحسن معرفة المسائل وترتيبها وبناءها على أصولها حَسُن بنيانه العلمي وتمّ له، ومن أضاع بعضها كان كمن أضاع بعض لبنات بنيانه، فيكون في تحصيله العلمي من الخلل والنقص بقدر ما فرّط فيه من المسائل المهمّة.
وعناية طالب علم التفسير باستخلاص المسائل من كلام المفسّرين وتصنيفها وترتيبها، وتمييز مراتبها ومداومته على ذلك تفيده فوائد جليلة:
منها: أنها تعرّفه بما ينبغي له أن يدرسه من مسائل الآية، ومواصلته الدراسة بهذه الطريقة تنمّي لديه ملكة التصوّر الأوّلي الشامل لمسائل الآيات.
ومنها: أنها تنظّم دراسته وتضبطها بمسائل معدودة إذا درسها فقد أتى على المطلوب منه في ذلك الدرس، فلا يكون كالذي يقرأ ولا يدري نسبة ما حصّله وما بقي عليه.
فمن المفسّرين من يسهب في بعض المسائل إسهابا يستغرق نظر القارئ الذي يقرأ كلامه بتركيز عالٍ في أوّل الأمر؛ فيؤدي به ذلك إلى الغفلة عن بعض المسائل المهمّة التي قد تكون هي عماد تفسير الآية، ويضعف لديه التصور الشامل لمسائل الآية.
ولذلك يوصى الطالب قبل القراءة المفصّلة لكلام المفسر أن ينظر إليه نظراً سريعاً يرصد به أسماء المسائل رصداً كتابياً أو ذهنياً، ثمّ ينظر هل ينتج له من مجموع هذه المسائل ما يفي بتفسير الآية؟
ثم يعود إلى كلام المفسّر في كلّ مسألة فيقرأه قراءة فاحصة يركّز فيها على تلك المسألة، والرصد الكتابي أفضل وأثبت وأحسن عائدة من الرصد الذهني.
مثال ذلك: أسهب ابن كثير رحمه الله في أوّل تفسيره لآية الكرسي في ذكر الأحاديث الواردة في فضل آية الكرسي في نحو ثمان صفحات في طبعة أولاد الشيخ، ثمّ تكلّم في تفسيرها في نحو ستّ صفحات وتخلل كلامه في التفسير استطراد في مسائل متنوّعة.
فإذا قرأ الطالب تفسيره لهذه الآية من أوّله بتركيز ذهني عالٍ وهو يحسب أنه يقرأ تفسير الآية كَلَّ ذهنُه قبل أن يصل إلى صلب تفسيرها.
لكنّه إذا بدأ برصد أسماء المسائل ؛ ومرّ على أوّل تفسيره لآية الكرسي مروراً سريعاً يقيّد فيه أسماء الأحاديث دون الدخول في قراءتها بإجهاد ذهنه، ثم مرّ على المسائل التفسيرية فدوّنها، وميّز المسائل الاستطرادية؛ فهذه القراءة السريعة التي يدوّن فيها رؤوس المسائل قد تستغرق منه دقائق معدودة لأنّه لا يقرأ النص قراءة كاملة، وإنما قراءة الذي يستكشف المحتوى أولاً، ثمّ يبدأ بالمسائل التفسيرية فيدرسها، ويتأمّل كلامه فيها وما أورده من أقوال، ثمّ يقرأ بعد ذلك ما هو خارج عن حدّ التفسير من الكلام في علوم الآية والمسائل الاستطرادية، وإن قسّم هذه المسائل إلى أنواع أفاده ذلك في حسن تصوّر ما أورده الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية.
فيختصر الطالب بذلك كثيراً من الجهد والوقت، ويكون إقبال ذهنه على المسائل المهمّة في أوّل دراسته لتفسير الآية ونشاط ذهنه، فيكون ذلك أدعى لحسن الفهم وجودة التحصيل العلمي.
ومن فوائد هذه المهارة: أنها من أحسن العلاج لضعف التركيز وتشتت الذهن وشروده عند القراءة، وهذه آفة تعرض لبعض القرّاء.
فإذا قسّم الطّالب دراستَه لتفسير الآية إلى مراحل:
- يبدأ فيها بمرحلة رصد أسماء المسائل.
- ثم يثنّي بمرحلة جمع أقوال المفسّرين في كلّ مسألة.
- ثم يثلّث بمرحلة تأمّل أقوال المفسّرين التي جمعها في كلّ مسألة، ويلخّصها.
فإنّه يكون بذلك قد أحسن دراسة تفسير الآية، وأشغل ذهنه في كلّ مرحلة بعمل محدد يمكنه قياس مدى تقدّمه فيه، وتقويم إتمامه وجودة تحصيله فيه تقويما ذهنيّا سريعاً.
ومن فوائد هذه المهارة أيضاً: أنها تبصّر الطالبَ بأنواع المسائل ومراتبها وأساليب التعبير عنها وتفاوت المفسّرين في تناولها، وكثرة تمرّنه على الدراسة بهذه الطريقة تفيده اكتساب مهارة استنتاج مسائل التفسير من قبل أن يَقرأ كلام المفسّرين.
ومن فوائدها: أنها توسّع مدارك الطالب وتنمّي ملكته العلمية وقدرته على التحليل والموازنة والمفاضلة بين التفاسير؛ فيعرف بذلك التفاسير التي تمتاز بوفرة المسائل التفسيرية وجودتها، ويتبيّن مراتب التفاسير ومراتب العلماء في عنصر مهم من عناصر المفاضلة.
ومن أراد أن يجرّب ذلك فليجمع كلام عدد من المفسّرين في تفسير آية أو سورة من قصار السور، ثم ليرصد أسماء المسائل التي ذكرها كلّ مفسّر منهم وليوازن بينها ليتبيّن له تفاوت التفاسير في عدد المسائل ونوعها.
وهذا يفيده كثيراً في المفاضلة بين التفاسير ، وتبقى عناصر أخرى مهمة للمفاضلة يدرسها الطالب لاحقاً إن شاء الله.
وليست العبرة بمجرّد عدد المسائل؛ فكثرة المسائل الاستطرادية والتقصير في المسائل التفسيرية التي هي عماد تفسير الآية مما يؤخذ على بعض التفاسير.
وكذلك التكلّف في ذكر بعض المسائل والغفلة عن مسائل مهمّة من التقصير في التفسير ولو أطال المفسّر في حديثه عن تلك الآيات.
وقد تعرض للمفسّر وطالب علم التفسير مسألة فيها إشكال فيقرأ في نحو مائة تفسير ليجد جواب مسألته ؛ فلا يجد لها ذكراً إلا في تفسيرين أو ثلاثة، وهذا مجرّب معروف.
فإذا عرف الطالب مراتبَ التفاسير في تناول المسائل التفسيرية ومجالات عناية المفسّرين بتلك المسائل أعانه ذلك على اختصار بعض الجهد والوقت، وأفاده فوائد كثيرة.
والمقصود أن رصد أسماء المسائل وتمييز أنواعها ومراتبها وصلتها بتفسير الآية من المهارات المهمّة للمفسّر.
والمسائل التي يذكرها المفسّرون على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مسائل تفسيرية تتعلّق بمعاني بعض المفردات والأساليب.
النوع الثاني: مسائل متعلّقة بعلوم الآية؛ كمقصد الآية ومناسبتها لما قبلها، ونحو ذلك.
النوع الثالث: مسائل يذكرها المفسّر استطراداً، وليست من صلب مسائل التفسير؛ فلو ألغيت لما كان لها أثر على فهم المعنى المباشر للآية.
وليس المراد باستخلاص المسائل مجرّد وضع العناوين على بعض الفقرات، وإنما المراد المهم هو التعرف على المسائل التي تضمّنها كلام المفسّر، وقد يتضمّن السطر الواحد مسائل عدة.
مثال ذلك:
قول الإيجي في تفسير قول الله تعالى: {عمّ يتساءلون} : (كان أهل مكة يتساءلون فيما بينهم عن القيامة استهزاء ومعنى هذا الاستفهام التفخيم والتعظيم).
فقط تضمّن كلامه رحمه الله جملة من المسائل منها:
- مرجع الضمير في قوله تعالى: {يتساءلون}.
- بيان ما يتساءلون عنه.
- بيان غرض التساؤل.
- معنى الاستفهام في الآية.
فلو وضع الطالب عنواناً عاماً لهذا السطر: تفسير قول الله تعالى: {عمّ يتساءلون} ؛ لفاته معرفة المسائل التفسيرية التي تضمّنها كلام المفسّر، والمقصود من هذا الدرس أن يتفطّن طالب علم التفسير للمسائل التفسيرية ، ويعرف طرق المفسّرين في حكايتها وإجمالها، وتفنّن بعضهم في جمع عدد من المسائل في جملة واحدة أو جمل يسيرة.
طرق استخلاص المسائل:
المسائل التي يذكرها المفسرون في تفاسيرهم على درجات:
1: فمنها مسائل نصية ينصون على أسمائها أو يبرزونها بسؤال أو جملة موضّحة.
2: ومنها مسائل خفيّة تُستخرج بالنظر والتأمّل وإيراد الأسئلة على كلام المفسّر وإعمال طرد القضيّة وعكسها والتفكّر في اللوازم والآثار وغير ذلك من الأدوات التي تستنبط بها بعض المعاني والمسائل.
3: ومنها مسائل لا تتبيّن له إلا بالموازنة بين عِدَّةٍ من التفاسير؛ فربّما قرأ الطالب تفسيراً وظنّ أنه استخرج جميع مسائله ثم يقرأ تفسيراً آخر فتظهر له مسألة لم يكن قد وجدها قبلُ في التفسير الأول، فإذا عاد إليه بنظر فاحص ربما وجد لتلك المسألة ذكراً على سبيل الإشارة أو التنبيه الخفي أو عرف من لازم كلام المفسّر ما يتبيّن به قوله في تلك المسألة.
فهذه ثلاث مراتب لاستخلاص المسائل من كلام المفسّرين؛ فأمّا المرتبة الأولى فتقصير الطالب فيها دليلٌ على ضعف مَلَكَتِه في التفسير، فيحتاج إلى تدرّب كثيرٍ على رصد المسائل النصيّة أولاً تحت إشراف علمي مباشر حتى تنمو لديه ملكة التعرّف على المسائل، ثمّ يزاول استخراج مسائل المرتبتين الأخريين بعد أن يتمهّر في استخراج مسائل المرتبة الأولى وما قاربها.
وأما من يجيد التعرف على المسائل النصية بلا مشقة ولا تردد فلديه ملكة تمكّنه بإذن الله من الإتيان ببعض مسائل المرتبتين الأخريين، وبمداومة التمرّن يكتسب مهارة التعرف على المسائل ورصدها حتى يتقنها بإذن الله تعالى، ثمّ يكتسب مهارة استنتاجها قبل قراءة التفاسير.
تنبيهات:
1: فوات بعض المسائل الخفيّة على الطالب في أوّل الأمر لا يقدح في ملَكته وقدرته الذهنية.
2: التعبير عن المسألة وصياغة اسمها قضيّة اجتهادية ويمكن أن يعبر عن المسألة الواحدة بأكثر من طريقة؛ ومحاكاة الطالب لأساليب المفسّرين تعينه على اكتساب لغتهم في التعبير عن مسائل التفسير.
3: ينبغي للطالب أن يتجنّب المبالغة في تشقيق المسائل والتكلّف في استخراج مسائل ضعيفة بعيدة الاحتمال؛ فالدراسة الصحيحة النافعة مرتبة وسط بين التكلّف والتقصير.
4: مَن يستعمل هذا المعيار للمفاضلة بين التفاسير فليحذر من الإزراء ببعضها، وليحرص على حفظ لسانه فربّ كلمة صرفت طالب علم عن كتاب لو قدّر له أن يقرأه لانتفع به، وليس هذا المعيار هو المعيار الوحيد للمفاضلة بين التفاسير فقد يكون لدى بعض المفسّرين تقصير في بعض المسائل التفسيرية لكن لديهم جوانب أحسنوا فيها إحساناً بالغاًكتب الله لهم به القبول، وكذلك فإن من المفسّرين من يختصر جداً في تفسير بعض الآيات لأسباب متعددة ويحسن التفصيل في تفسير آيات أخر.
والمقصود من هذا الدرس أن يتعلّم الطالب المهارة التي يتمكّن بها من الاسترشاد لما ينفعه من كلام أهل العلم في تفسير الآيات حتى في غير التفاسير المصنّفة، ويعرف لهؤلاء الأئمة قدرهم، فقد يكون لبعض أهل العلم كلام في تفسير بعض الآيات في كتاب ألّفه لغرض آخر غير التفسير لا تكاد تجد مثله ولا ما يقاربه في مائة تفسير؛ فعِلْم التفسير علم واسع لا تحيط به التفاسير المصنفة على كثرتها وتنوعها.
الأمثلة والتطبيقات
سأذكر ثلاثة أمثلة لاستخلاص مسائل التفسير من تفسير واحدلكلّ مثال، ثمّ أذكر تطبيقات تؤدّونها في صفحاتكم، ثمّ بعد ذلك أضيف أمثلة أخرى للآيات المذكورة أو غيرها إن اقتضت الحاجة ليتبيّن الطالب أثر تعدد التفاسير في الازدياد من المسائل والتنبّه لبعض ما كان قد فاته من مسائل لم يجدها في التفسير المفرد.
المثال الأول: تفسير قول الله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : (وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: نخصُّكَ وحدكَ بالعبادةِ والاستعانةِ؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يفيدُ الحصرَ، وهوَ إثباتُ الحكمِ للمذكورِ ونفيهُ عما عداهُ، فكأنَّهُ يقولُ: نعبدكَ، ولا نعبدُ غَيركَ، ونستعينُ بكَ، ولا نستعينُ بغيركَ.
وتقديم العبادةِ على الاستعانةِمنْ بابِ تقديمِ العامِّ على الخاصِّ، واهتماماً بتقديمِ حقِّهِ تعالى على حقِّ عبدِهِ.
و(العبادة): اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّهُ اللهُ ويرضاهُ من الأعمالِ والأقوالِ الظاهرةِ والباطنةِ.
و(الاستعانة): هيَ الاعتمادُ على اللهِ تعالىَ في جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ، معَ الثِّقةِ بهِ في تحصيلِ ذلكَ.
والقيامُ بعبادةِ اللهِ والاستعانةِ بهِ هوَ الوسيلةُ للسعادةِ الأبديةِ، والنجاةِ منْ جميعِ الشرورِ، فلا سبيلَ إلى النجاةِ إلاَّ بالقيامِ بهمَا، وإنَّما تكونُ العبادةُ عبادةً إذا كانَتْ مأخوذةً عنْ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مقصوداً بها وجهُ اللهِ، فبهذينِ الأمرينِ تكونُ عبادةً.
وذكرُ (الاستعانة) بعدَ (العبادةِ) معَ دخولِهَا فيهَا، لاحتياجِ العبدِ في جميعِ عباداتهِ إلى الاستعانةِ باللهِ تعالى، فإنَّهُ إنْ لم يعنهُ اللهُ لم يحصلْ لهُ ما يريدهُ منْ فعلِ الأوامرِ واجتنابِ النواهي).[تيسير الكريم الرحمن: 1/39]
المسائل:
· معنى الآية إجمالاً
· فائدة تقديم المعمول في الآية.
· سبب تقديم العبادة على الاستعانة
· معنى العبادة
· معنى الاستعانة
· شروط صحّة العبادة
· سبب ذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها
المثال الثاني: تفسير قول الله تعالى: {عمّ يتساءلون . عن النبأ العظيم}
قال عبد الحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسي (ت:546هـ): (أصل عَمَّ «عن ما» ، ثم أدغمت النون بعد قلبها فبقي «عما» في الخبر والاستفهام، ثم حذفوا الألف في الاستفهام فرقا بينه وبين الخبر، ثم من العرب من يخفف الميم تخفيفا فيقول: «عم» ، وهذا الاستفهام ب عَمَّ هو استفهام توقيف وتعجب منهم، وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود وعكرمة وعيسى: «عما» بالألف، وقرأ الضحاك: «عمه» بهاء، وهذا إنما يكون عند الوقف. والنَّبَإِ الْعَظِيمِ قال ابن عباس وقتادة هو الشرع الذي جاء به محمد، وقال مجاهد وقتادة: هو القرآن خاصة، وقال قتادة أيضا: هو البعث من القبور، ويحتمل الضمير في يَتَساءَلُونَ أن يريد جميع العالم فيكون الاختلاف حينئذ يراد به تصديق المؤمنين وتكذيب الكافرين ونزغات الملحدين. ويحتمل أن يراد بالضمير الكفار من قريش، فيكون الاختلاف شك بعض وتكذيب بعض. وقولهم سحر وكهانة وشعر وجنون وغير ذلك. وقال أكثر النحاة قوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، متعلق ب يَتَساءَلُونَ الظاهر كأنه قال: لم يتساءلون عن هذا النبأ، وقال الزجاج: الكلام تام في قوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب فيقول: يتساءلون عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، فاقتضى إيجاز القرآن وبلاغته أن يبادر المحتج بالجواب الذي تقتضيه الحال والمجاورة اقتضابا للحجة وإسراعا إلى موضع قطعهم، وهذا نحو قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ} [الأنعام: 19] وأمثلة كثيرة، وقد وقع التنبيه عليها في مواضعها).
المسائل:
· أصل (عمَّ) : عن ما
· اللغات في (عمّ)
· القراءات في (عمّ)
· معنى الاستفهام في قوله تعالى: {عمّ يتساءلون}
· المراد بالنبأ العظيم
· مرجع الضمير في (يتساءلون).
· معنى الاختلاف في قوله تعالى : {الذي هم فيه مختلفون} بناء على مرجع الضمير في {يتساءلون}
· الخلاف في متعلّق الجار والمجرور في قوله تعالى: {عن النبأ العظيم}
المثال الثالث: تفسير قول الله تعالى: {الرحمن . علّم القرآن}
قال محمد الأمين الجكني الشنقيطي (ت: 1394هـ): (قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} .
قال بعض أهل العلم: نزلت هذه الآية لما تجاهل الكفار الرحمن جل وعلا، كما ذكره الله عنهم في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ}, كما تقدم في الفرقان.
وقد قدمنا معنى الرحمن وأدلته من الآيات في أول سورة الفاتحة.
قوله تعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} . أي علم نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن فتلقته أمته عنه.
وهذه الآية الكريمة تتضمن رد الله على الكفار في قولهم إنه تعلم هذا القرآن من بشر كما تقدم في قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، وقوله تعالى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي يرويه محمد عن غيره.
وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً, وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.
فقوله تعالى هنا: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي ليس الأمر كما ذكرتم من أنه تعلم القرآن من بشر، بل الرحمن جل وعلا هو الذي علمه إياه، والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا:
- كقوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
- وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.
- وقوله تعالى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ, بَشِيراً وَنَذِيراً}.
- وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
- وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً}.
- وقوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}.
- وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ, ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.
- وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}.
- وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.
- وقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} ومن أعظم ذلك هذا القرآن العظيم.
- وقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}.
وتعليمه جل وعلا هذا القرآن العظيم، قد بين في مواضع أخر أنه من أعظم نعمه كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.
وقد علم الله تعالى الناس أن يحمدوه على هذه النعمة العظمى التي هي إنزال القرآن، وذلك في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}.
وبيّن أن إنزاله رحمة منه لخلقه جل وعلا في آيات من كتابه كقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ، وقوله: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ, رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}, وقد بينا الآيات الموضحة لذلك في الكهف والزخرف.
{عَلَّمَ الْقُرْآنَ} حذف في أحد المفعولين، والتحقيق أن المحذوف هو الأول لا الثاني، كما ظنه الفخر الرازي، وقد رده عليه أبو حيان، والصواب هو ما ذكره، من أن المحذوف الأول، وتقديره: علم النبي صلى الله عليه وسلم وقيل جبريل، وقيل الإنسان).
المسائل:
· سبب نزول هذه السورة مصدّرة باسم "الرحمن"
· معنى "الرحمن"
· من المعلَّم؟
· تضمّن هذه الآية الردّ على الكفّار في قولهم : "إنما يعلّمه بشر"
· بيان مقصد الآيتين.
· الآيات الدالة على أنّ الله تعالى هو الذي علم نبيّه صلى الله عليه وسلم القرآن.
· تعليم القرآن نعمة عظمى تستوجب حمد الله تعالى.
· إنزال القرآن وتعليمه من آثار رحمة الله.
· الخلاف في أيّ المفعولين المحذوف في قوله تعالى: {علّم القرآن}