دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 ربيع الأول 1439هـ/16-12-2017م, 04:14 AM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي مراجعة تطبيقية لدورة المهارات المتقدّمة في التفسير- المرحلة الخامسة والأخيرة

مراجعة تطبيقية على دروس مهارات التفسير المتقدّمة.
- المرحلة الخامسة والأخيرة -




موضوع البحث:
تعيين المراد بمواقع النجوم في قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم (75)} الواقعة.



المطلوب:

9: العرض النهائي لتحرير المسألة.



إرشادات:
- هذه هي المرحلة الأخيرة في تحرير المسألة، يجمع فيها الطالب ما أتمّه من خطوات سابقة، مراعيا حسن العرض والصياغة، وأن يكون أسلوبه حاضرا بداية من التقديم لمسألته مرورا بعرض مراحل التحرير وصولا إلى خلاصة ما توصّل إليه في بحثه، ثم يختم بذكر مصادره.



رزقكم الله العلم النافع والعمل الصالح
والحمد لله الذي بنعمته تتمّ

الصالحات

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 28 ربيع الأول 1439هـ/16-12-2017م, 09:12 PM
نورة الأمير نورة الأمير غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز - مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 749
افتراضي

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ففي القول في المراد بمواقع النجوم في قوله :(فلا أقسم بمواقع النجوم) أقوال، نذكرها ونحررها ونحاول الترجيح بينها بإذن الله في مدارستنا لهذه المسألة، فنقول:
اختلف العلماء في المراد بمواقع النجوم على أقوال:
القول الأول: أنها منازل القرآن, وذلك أنه نزل على رسول الله نجوما متفرقة.
ومبنى القول وتفسير منشئه ذكره ابن عاشور فقال: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَواقِعِ جَمْعُ مَوْقِعٍ المَصْدَرُ المِيمِيُّ لِلْوُقُوعِ. ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن تَأوَّلَ النُّجُومَ أنَّها جَمْعُ نَجْمٍ وهو القِسْطُ الشَّيْءُ مِن مالٍ وغَيْرِهِ كَما يُقالُ: نُجُومُ الدِّياتِ والغَراماتِ وجَعَلُوا النُّجُومَ، أيِ: الطَّوائِفَ مِنَ الآياتِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ القُرْآنِ.
وهو قول ابن عباس, وله قول آخر يصب في نفس المعنى وهو أن المراد: مستقر الكتاب أوله وآخره.
وقال بذلك أيضا عكرمة, وقد فسر عكرمة كونه منجما بعدة تفسيرات: الأول: أنه نزل على ثلاث وأربع وخمس آيات متفرقات, فالنجوم هنا نزول الآيات متفرقات, والثاني: أن القرآن نزل جميعا فوضع بمواقع النجوم, فجعل جبريل يأتي بالسورة.
وقال بذلك السدي كذلك.
وقال به ابن مسعود, ومجاهد إلا أنهما خصصا القول بأنه محكم القرآن, ولم أجد لتخصيصه تفسيرا أبدا.
وقد قال به الثعلبي في تفسيره.
وإن مما يقوي هذا القول ما حكاه ابن عطية وأشار إلى مثله الفراء فقال: وذَلِكَ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ القُرْآنَ نَزَلَ مِن عِنْدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في لَيْلَةِ القَدْرِ إلى السَماءِ الدُنْيا- وقِيلَ: إلى البَيْتِ المَعْمُورِ - جُمْلَةً واحِدَةً، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ نُجُومًا مُقَطَّعَةً في مُدَّةٍ مِن عِشْرِينَ سَنَةً، ويُؤَيِّدُ هَذا القَوْلَ عَوْدُ الضَمِيرِ عَلى القُرْآنِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾، وذَلِكَ أنَّ ذِكْرَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إلّا عَلى هَذا التَأْوِيلِ.
وقد برر ابن عطية لمن لا يقول بهذا القول تبريرا آخر فقال: ومَن لا يَتَأوَّلُ هَذا التَأْوِيلَ يَقُولُ: إنَّ الضَمِيرَ يَعُودُ عَلى القُرْآنِ وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِشُهْرَةِ الأمْرِ ووُضُوحِ المَعْنى، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: 32]، و﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: 26]، وغَيْرِ ذَلِكَ.
وقد رجح محمد المختار الأمين الشنقيطي هذا القول لأمرين :
أحدهما : أن الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على حق وأنه ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى - موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم، وهو قوله : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون إلى قوله : تنزيل من رب العالمين.
والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم. وقوله تعالى: حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم. ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
والثاني : أن كون المقسم به المعبر بالنجوم هو القرآن العظيم - أنسب لقوله بعده : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة.
ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض . والعلم عند الله تعالى .
وَفِي جَعْلِ الْمُقْسَمِ بِهِ وجواب القسم هو القرآن تنويه ذكره ابن عاشور فقال: وَهَذَا ضَرْبٌ عَزِيزٌ بديع لِأَنَّهُ يومىء إِلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَى شَأْنِهِ بَلَغَ غَايَةَ الشَّرَفِ فَإِذَا أَرَادَ الْمُقْسِمُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى ثُبُوتِ شَرَفٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ مَا هُوَ أَوْلَى بِالْقَسَمِ بِهِ لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ.
التخريج:
- أما قول ابن عباس فقد رواه النسائي في سننه, وابن جرير في تفسيره, والبغوي في الجعديات, والحاكم في مستدركه بألفاظ متقاربة, عن سعيد بن جبير ، عنه.
- وقوله الآخر رواه ابن جرير قال: حدثني محمد بن سعيد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عنه.
- وأما قول عكرمة الأول فرواه ابن جرير في تفسيره قال: حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عنه.
- والثاني رواه ابن جرير في تفسيره قال: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عنه.
- وأما قول السدي فذكره الماوردي في النكت والعيون, وابن كثير في تفسيره دون إسناد, وقد حاولت العثور على إسناده في الكتب والشبكة العنكبوتية فلم أستطع.
- وأما قول ابن مسعود فقد رواه الفراء في معاني القرآن, وذكر السيوطي أن الفريابي أخرجه بسند صحيح عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو ورَفَعَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فيما أعلم -شك الفراء-.
- وأما قول مجاهد فرواه ابن جرير في تفسيره, وابن الضريس في فضائل القرآن عن الأعمش، عنه.

القول الثاني: أن المراد بالنجوم نجوم السماء لا القرآن, وقد خصصها الضحاك بأنها الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا.
وتخريج قوله:
- ذكره الماوردي في النكت والعيون, والقرطبي في أحكام القرآن, وابن كثير في تفسيره دون إسناد, وقد حاولت العثور على إسناد له في الكتب والشبكة العنكبوتية فلم أستطع.
وقد ذكر ابن عطية أن القول بأن المراد بالنجوم هو الكواكب المعروفة هو: "قول جمهور كثير من المفسرين ", وقال ابن الجوزي: "قاله الأكثرون" لكن اختلف في المراد بمواقعها على أقوال:
الأول: أنها منازل النجوم. وهو قول قتادة, وعطاء بن أبي رباح.
وقد ذكر ابن عاشور في تفسير ذلك القول ومعرفة مبناه وأصله تفسيرا حسنا فقال: ويُطْلَقُ الوُقُوعُ عَلى الحُلُولِ في المَكانِ، يُقالُ: وقَعَتِ الإبِلُ، إذا بَرَكَتْ، ووَقَعَتِ الغَنَمُ في مَرابِضِها، فالمَواقِعُ مَحالُّ وُقُوعِها وخُطُوطُ سَيْرِها فَيَكُونُ قَرِيبًا مِن قَوْلِهِ ﴿والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ﴾ [البروج: 1] . والمَواقِعُ هي: أفْلاكُ النُّجُومِ المَضْبُوطَةِ السَّيْرِ في أُفُقِ السَّماءِ، وكَذَلِكَ بُرُوجُها ومَنازِلُها.
التخريج:
-أما قول قتادة فقد رواه عبدالرزاق في تفسيره, وابن جرير في تفسيره, عن طريق معمر عنه.
- وأما قول عطاء فذكره البغوي في معالم التنزيل, والقرطبي في أحكام القرآن دون إسناد, وقد حاولت العثور على إسناد له في الكتب والشبكة العنكبوتية فلم أستطع.

الثاني: أنها مساقط النجوم ومغايبها, وهو قول مجاهد, وقتادة, والحسن, وأبو عبيدة في مجاز القرآن, وهو ما رجحه ابن جرير, فقال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فلا أقسم بمساقط النجوم ومغايبها في السماء، وذلك أن المواقع جمع موقع، والموقع المفعل، من وقع يقع موقعًا، فالأغلب من معانيه والأظهر من تأويله ما قلنا في ذلك، ولذلك قلنا: هو أولى معانيه به.
وقد ذكر ابن عاشور في ذلك كلاما حسنا فقال: ومَواقِعِ النُّجُومِ جَمْعُ مَوْقِعٍ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَكانَ الوُقُوعِ، أيْ: مَحالُّ وُقُوعِها مِن ثَوابِتَ وسَيّارَةٍ. والوُقُوعُ يُطْلَقُ عَلى السُّقُوطِ، أيِ الهَوى، فَمَواقِعُ النُّجُومِ مَواضِعُ غُرُوبِها فَيَكُونُ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿والنَّجْمِ إذا هَوى﴾ [النجم: 1] والقَسَمُ بِذَلِكَ مِمّا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشارِقِ والمَغارِبِ﴾ [المعارج: 40] . وجَعَلَ مَواقِعِ النُّجُومِ بِهَذا المَعْنى مُقْسَمًا بِهِ لِأنَّ تِلْكَ المَساقِطَ في حالِ سُقُوطِ النُّجُومِ عِنْدَها تُذَكِّرُ بِالنِّظامِ البَدِيعِ المَجْعُولِ لِسَيْرِ الكَواكِبِ كُلَّ لَيْلَةٍ لا يَخْتَلُّ ولا يَتَخَلَّفُ، وتُذَكِّرُ بِعَظَمَةِ الكَواكِبِ وبِتَداوُلِها خِلْفَةً بَعْدَ أُخْرى، وذَلِكَ أمْرٌ عَظِيمٌ يَحِقُّ القَسَمُ بِهِ الرّاجِعُ إلى القَسَمِ بِمُبْدِعِهِ.
التخريج:
- أما قول مجاهد فرواه ابن جرير في تفسيره قال: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عنه, وذكر السيوطي أن عبد بن حميد وابن المنذر أخرجاه كذلك, ولكني لم أستطع العثور على ما يؤكد ذلك, وقد بحثت في الكتب والشبكة العنكبوتية فلم أستطع العثور على شيء.
- وأما قول قتادة فرواه ابن جرير في تفسيره قال: حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عنه, وقد ذكر السيوطي أن عبد بن حميد أخرجه كذلك ولكني لم أستطع العثور على مرويات له في ذلك.
-أما قول الحسن فذكره مكي بن أبي طالب في الهداية, وابن كثير في تفسيره دون إسناد, وذكر السيوطي في الدر المنثور أن عبد بن حميد قد أخرجه ولكني لم أستطع العثور على مروياته.

الثالث: وهو قول محدد في أن المراد بذلك انتثار النجوم عند قيام الساعة, وهو قول الحسن.
التخريج:
- قول الحسن رواه ابن جرير في تفسيره قال: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عنه.

الرابع: وهو قول محدد كذلك, وهو أن المراد مواقعها عند الانقضاض إثر العفاريت. ذكره ابن عطية في تفسيره.

القول الثالث: أن المراد بمواقع النجوم السماء, وهو قول ابن جريج.
التخريج:
- أما قول ابن جريج فقد أورده الماوردي في النكت والعيون, ولكني استقصيت قوله في كتاب جمع أقواله للمؤلف علي حسن عبدالغني وذلك بالرجوع للكثير من المصادر إلا أني لم أجده.

العرض النهائي للمسألة والترجيح بين الأقوال:
فإنه مما سبق يتبين لنا أن القول الثالث أضعف الأقوال سندا ومعنى, وذلك لعدم العثور على سند له, وكذلك المعنى غريب شاذ, إلا إن كان المراد به النجوم فأطلقت كلمة السماء مجازا, أو أن المراد به السماء حقيقة وذلك لكون النجوم تقع فيها, فكان مبنى اختيار هذا القول هو أن مواقع النجوم في السماء, فكان القسم إذن بالسماء, وفي كل الأحوال القول شاذ والقول الثاني أوضح منه وأكثر جماهيرية بين أهل التفسير, وأكثر دقة.
نجيء الآن للقول الأول والثاني, وهما الأقوى والأكثر ترجيحا, وفي الحقيقة يصعب الترجيح بينهما, لكن قبل الترجيح بينهما فإن القول الثاني تندرج تحته أقوال تستحق التصفية واختيار القول الأرجح بينها لمقارنته مع القول الأول, وتحريرها فيما يلي:
أما القول الثالث والرابع المندرجان تحت القول الثاني فمستبعدات وذلك لضعف قائليهما فالأول لم يرو إلا عن الحسن ولم يوافقه أحد, والثاني نقله ابن عطية ولم يذكر قائله, أما الضعف في المقولين فآت من كونهما مخصصين دون قرينة تبين سبب التخصيص, فلا السياق سياق حديث عن يوم القيامة, ولا هو كذلك سياق حديث عن رجم الشياطين, وأظن أن منشأ القولين آت من قياس القائلين على آيات أخر ورد فيها ذكر أهوال القيامة كقوله :"وإذا النجوم انكدرت", ورجم الشياطين كقوله :"ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين", والحديث في كلا الآيتين عن النجوم, ولكن السياق كما ذكرنا مختلف هنا فالأولى عدم صحة هذين القولين, لعدم وجود قرينة تدل على التخصيص في السياق.
أما القول الأول والثاني الواردين تحت القول الثاني فأجدهما قويين, وقد أوضحت فيما نقلت عن ابن عاشور منشأ الخلاف بينهما, وذلك لاختلاف القائلين بهما في تناول مفردة (مواقع) من حيث مبنى الكلمة, وكونها تصح أن تطلق على المنازل والمساقط, وإن كان لا بد من الترجيح فلعل القول الثاني هو الأرجح لكثرة القائلين به, وترجيح ابن جرير له, وحسن توضيح ابن عاشور للفائدة من القسم بالمساقط, وما يحمله سقوط النجم من معان بديعة تُذَكِّرُ بِالنِّظامِ البَدِيعِ المَجْعُولِ لِسَيْرِ الكَواكِبِ كُلَّ لَيْلَةٍ لا يَخْتَلُّ ولا يَتَخَلَّفُ، وتُذَكِّرُ بِعَظَمَةِ الكَواكِبِ وبِتَداوُلِها خِلْفَةً بَعْدَ أُخْرى، وذَلِكَ أمْرٌ عَظِيمٌ يَحِقُّ القَسَمُ بِهِ الرّاجِعُ إلى القَسَمِ بِمُبْدِعِهِ.
نجيء الآن للترجيح بين القول الثاني المندرج تحت القول الثاني والقول الأول, والذي وضحنا منشأه ومبناه في نقلنا لكلام ابن عاشور مسبقا, فنقول: أن الترجيح بينهما صعب جدا، ولا أجد ميلا لأحدهما دون الآخر, فالقول الأول يدعمه الكثير من القرائن التي ذكرناها وأعيد ذكرها باختصار هنا وهي: أن القسم بالقرآن قسم عظيم بل هو أعظم من القسم بأي مخلوق بلا شك, ومجيء آية :"وإنه لقسم لو تعلمون عظيم" بعد آية :"فلا أقسم بمواقع النجوم" تدعم اختيار هذا القول, كما أن القرآن كما نعلم متشابه في منهجه وأساليبه, وقد اعتدنا منه القسم بالقرآن في مواطن كثيرة كقوله :"والقرآن المجيد", مما يدعم القول بأن القسم هنا كذلك بالقرآن, كما أن كون المقسم عليه هو القرآن فيه دلالة على أن الله أقسم بأكرم أمر على كرم هذا الأمر, ففيه نوع من البلاغة والتفخيم كما أشار إلى ذلك ابن عاشور, فكل ذلك مما يدعم هذا القول, ناهيك عما ورد من أقوال للسلف كثيرة في ترجيح هذا القول, وكذلك ذكر حديث أن القرآن نزل منجما في عشرين سنة, وكون الضمير كما أشار إلى ذلك ابن عطية يرجع للقرآن في قوله :"إنه لقرآن كريم"-وإن كان هذا التأويل كما ذكر ابن عطية قد يرد عليه بأن الضمير قد لا يعود على متقدم لوضوح الأمر وشهرته (أي: القرآن)-, فكل ما ذكرنا من القرائن ترجح كفة هذا القول, ولكن كذلك إذا أتينا للقول الثاني فإننا سنجد نقل أكثر من مفسر القول بأنه قول جمهور التفسير, كما أن هذا القول من الأقوال التي فسرت الآية تفسيرا مباشرا, وقد يكون سبب القسم بالنجوم ومساقطها لما في ذلك المشهد من عظمة, وقد ثبت في غير موضع من القرآن إقسام الله بمخلوقاته, بل وبالنجم إذا هوى تحديدا كما في قوله :"والنجم إذا هوى", بل وفي هذه السورة أقسم الله بالنجم على هذا الوحي, مما يجعل سياق الآيات متشابها, مما لا يجعلنا نستبعد هذا القول, ويكون مقصد القسم لفت النظر إلى هذه المشاهد الرهيبة التي تستحق التأمل, والتي تزيد من إيمانك بعظمة الله ودقة صنعه وخلقه, وربما مشابهة الآي بالنجم في نوره وهدايته للسائلين، وكونه يستعان به في رجم الشياطين، فإذن بالنسبة لي لا أميل إلى ترجيح قول دون قول, فكلا القولين أجدهما متساويين في القوة, ولكن من أراد أن يعرف ما رجحه المفسرون, فإن ابن جرير رجح القول الثاني, والشنقيطي رجح القول الأول, فقد يكون في ترجيحهما لمن يميل إلى أحدهما وضوح في اختيار ما يكون أقرب للصواب.
والعبرة كل العبرة بمقاصد الآيات ومدار معانيها، وفي معرفة قدر وأهمية المقسم عليه، أما المقسم به فسواء كان القرآن أو النجم فكلاهما قد أقسم الله بهما في مواضع أخر، وفي تدبر الأول وتأمل الثاني معان وإشارات، يهدي بها الله من شاء من بريات، والموفق من وفقه الله لمعرفة الغايات، وأرشده طرق الخير والهدايات، ولم تشغله المسائل عن المقاصد والكليات.
والحمدلله رب العالمين..

المصادر:
- تفسير عبدالرزق.
- فضائل القرآن لابن الضريس.
- السنن الكبرى للنسائي.
- تفسير الطبري.
- الجعديات لأبي القاسم البغوي.
- تفسير ابن أبي حاتم.
- المستدرك على الصحيحين للحاكم.
- الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي.
- الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن أبي طالب.
- النكت والعيون للماوردي.
- التفسير الوسيط للواحدي.
- معالم التنزيل للبغوي.
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية.
- زاد المسير في على التفسير لابن الجوزي.
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
- تفسير ابن كثير.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي.
- التحرير والتنوير لابن عاشور.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 29 ربيع الأول 1439هـ/17-12-2017م, 05:28 PM
سارة المشري سارة المشري غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 544
افتراضي

الحمد لله المبدئ المعيد ، الذي أحسن كل شء خلقه ثم هدى ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
وبعد ،
فقد أنزل الله تعالى سورة الواقعة في مكة ، وقرّر فيها ربوبيته الكاملة ، وردّ على المشركين سوء ظنّهم بربهم وذهولهم عن نعمه الجليلة ونسبتها لغيره سبحانه ، كما أقسم بأمرٍ عظيم على صدق القرآن وأنه حق من عند الله تعالى ، فقال عزّ من قائل : ( فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لوتعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم )
وقد اختلف المفسرون في المراد ( بمواقع النجوم ) على قولين ، سنفصل القول فيهما ونبحث القول الراجح إن شاء الله تعالى .

أولاً : ماجاء في سبب نزول الآية :
قال الإمام مسلم : وحدثني عباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة وهو ابن عمار حدثنا أبو زميل قال حدثني ابن عباس قال مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) .
وبيان سبب النزول له أهميته في إدراك معنى الآية ، وفي فهم أقوال العلماء والترجيح بينها .

ثانيا : أقوال العلماء في المراد بمواقع النجوم :
في "النجوم" قولان .
القول الأول : نجوم السماء ، قاله أكثر المفسرين ، وهو قول مجاهد وقتادة والحسن .
وعلى هذا في مواقعها أربعة أقوال .
أحدها : انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله الحسن .

والثاني: هي مواضعها في السماء في بروجها ومنازلها . قاله قتادة .
قال ابن عاشور : ويطلق الوقوع على الحلول في المكان ، يقال : وقعت الإبل ، إذا بركت ، ووقعت الغنم في مرابضها ، ومنه جاء اسم الواقعة للحادثة كما تقدم ، فالمواقع محال وقوعها وخطوط سيرها فيكون قريبا من قوله والسماء ذات البروج .

والثالث: المشارق والمغارب أو مغيبها في المغرب وحده ، فإن عندها سقوط النجوم . وهو قول مجاهد ، و قتادة ، وقاله أبو عبيدة ، واليزيدي ، والزجاج ، ومكي بن أبي طالب . وذكره ابن عطية وابن الجوزي والرازي .

والرابع : مواقعها عند الانقضاض على مسترقي السمع من الشياطين ، ذكره ابن عطية والرازي والألوسي ، ولم أجد له أصلاً عند المتقدمين .

توجيه هذا القول :
يعتمد القول الأول على الأصل الذي تعتمد عليه لفظة النجوم ، ثم اختلفوا بعد ذلك في المراد بمواقعها ، فقيل الوقوع هو الحلول في المكان وعلى هذا فسروا القول بمنازلها ، قال ابن عاشور : والمواقع هي : أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء ، وكذلك بروجها ومنازلها .
وقيل المراد السقوط ، ففسروها بمكان الوقوع : قال ابن عاشور : والوقوع يطلق على السقوط ، أي الهوى ، فمواقع النجوم مواضع غروبها فيكون في معنى قوله تعالى والنجم إذا هوى والقسم بذلك مما شمله قوله تعالى فلا أقسم برب المشارق والمغارب ، وعلى هذا تفسيرها بأنها الأنواء التي يزعم الجاهلية أنهم يمطرون بها لوروده في سبب النزول ، وقال الألوسي : وليس نصا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد المغارب مطلقا .
وتفسير المتأخرين بأنها انقضاضها على الشياطين من مسترقي السمع مأخوذ من هذا المعنى .

القول الثاني: أنها نجوم القرآن، وهو قول ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة .
قال الزجاج : وقيل إن مواقع النجوم يعنى به نجوم القرآن، لأنه كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجوما شيئا بعد شيء , ودليل هذا القول : {وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم * إنّه لقرآن كريم}).
ومواقعها: قيل : 1- منازل القرآن ( أوقات نزولها )أنزل نجوما متفرقة ، قاله ابن قتيبة ، و ذكره ابن الجوزي .
قال النسائي : أخبرنا إسماعيل بن مسعودٍ، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبي عوانة، عن حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: " نزل القرآن جميعًا في ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا، ثمّ فصّل فنزل في السّنين، فذلك قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم} [الواقعة: 75]
2- - محكم القرآن (وعبر بعضهم بقولهم أحكامه ومعانيه ) ، وهو قول ابن مسعود ومجاهد ، و هو قول البخاري .
قال الفراء: حدثنا فضيل ابن عبّاس عن منصور عن المنهال بن عمرو. وقال: قرأ عبد الله (فلا أقسم بمواقع النّجوم) قال: بمحكم القرآن، وكان ينزل على النّبي صلى الله عليه وسلم نجوما .
3- قلوب عباده وملائكته ورسله وصالحي المؤمنين ، ذكره الرازي ، وذكر البقاعي مايدل على معناه .

توجيه هذا القول :
يعتمد هذا القول على أنّ المراد بالنجوم هي نزول القرآن منجّما في آيات متفرقة ، بعد نزوله تاما إلى السماء الدنيا ، وهذا له أصل لغوي معتمد في كتب اللغة ، ذكر ابن منظور أنّ النجم : الوقت المضروب ومنه تنجيم الدين والمكاتب ، ويؤيده ماروي عن ابن عباس ، قال: " نزل القرآن جميعًا في ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا، ثمّ فصّل فنزل في السّنين، فذلك قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم} [الواقعة: 75] .
ويؤيد هذا القول ماذكره الألوسي : بأن الضمير في قوله تعالى بعد : إنه لقرآن يعود حينئذ على ما يفهم من مواقع النجوم حتى يكاد يعد كالمذكور صريحا ولا يحتاج إلى أن يقال يفسره السياق كما في سائر الأقوال ،
ثم اجتهدوا بعد ذلك في ربط معاني القرآن ومايتضمنه من نور بنور النجوم والاهتداء بها .
و اختلفوا في المراد بالمواقع على هذا المعنى فقيل هي أوقات نزوله ، وقال آخرون هي محكم القرآن وقال بعضهم قلوب عباده الصالحين وذلك باعتبار محلها .

الدراسة :
أولاً : تحرير القول في سبب النزول :
قال الإمام مسلم : وحدثني عباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة وهو ابن عمار حدثنا أبو زميل قال حدثني ابن عباس قال مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) .
وقال أبو السعادات ابن الأثير الجزري في شرح الغريب :
(بمواقع): مواقع النجوم: مساقطها ومغاربها، وقيل: منازلها ومسايرها) .

في لفظ هذا الحديث ربطٌ لمساقط الأنواء بمواقع النجوم ، قال ابن الصلاح - رحمه الله - ،( كما في شرح مسلم : النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب فإنه مصدر ناء النجم ينوء نوءا أي سقط ، وغاب . وقيل : أي نهض وطلع . وكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر ينسبونه إلى الساقط الغارب منهما . وقال الأصمعي : إلى الطالع منهما ، قال النووي : ثم إن النجم نفسه قد يسمى نوءا تسمية للفاعل بالمصدر ) .

ثانياً : دراسة أقوال المفسرين في المسألة :
أمّا القول الأول وهو أنها نجوم السماء ، فهو يعتمد على الأصل في إطلاق النجوم ، ومواقعها هي منازلها أو مساقطها ( على اختلاف تفسيرهم للمساقط فهو من قبيل التنوع ) وهو قولٌ قوي قال به أكثر المفسرين ، ويؤيّد هذا القول عدّة أمور:
الأول لغويٌ : فالوقوع يطلق على السقوط ، أي الهوى ، فمواقع النجوم مواضع غروبها فيكون في معنى قوله تعالى (والنجم إذا هوى ) والقسم بذلك مما شمله قوله تعالى( فلا أقسم برب المشارق والمغارب )،
و مواقع النجوم جمع موقع يجوز أن يكون مكان الوقوع ، ويطلق الوقوع على الحلول في المكان ، يقال : وقعت الإبل ، إذا بركت ، ووقعت الغنم في مرابضها ،
والمواقع هي : أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء ، وكذلك بروجها ومنازلها ،كما ذكر ذلك ابن عاشور .
وكان مدار ترجيح ابن جرير لهذا القول بناءً على معناه اللغوي .

والثاني : ماصحّ في سبب النزول ، وسبق ذكره .

والثالث : سياق الآيات ، ففي قوله تعالى بعد ذلك : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) ، تنديدٌ بفعلهم لكفرهم نعمة الله تعالى عليهم بنسبتهم المطر إلى النوء .
ومن لطائف الربط بين الآية وسبب النزول ما ذكره الألوسي : من أنّ في غروبها زوالٌ لأثرها ودلالة على وجود خالق مدبر لهذا الكون مؤثر دائم لا يتغير ، وأنّ هذا سبب استدلال إبرهيم عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جلا وعلا .
وذكر الرازي لطائف أخرى في تخصيصها بالقسم منها أنه سبحانه لمّا ذكر قبلها دليل الأنفس ودليل الآفاق ذكر الدلائل السماوية على عظمته وتدبيره للكون .

والرابع : اسم السورة ، فهي سورة الواقعة ، والتفسير بانكدارها وانتثارها يوم القيامة فيه تأكيدٌ على وقوع هذا اليوم ، وقال بهذا الحسن ، وهوقول ٌصحيح ، لكنّه ضعيف الدلالة على معنى الآية .

وأمّا القول الثاني : بأنها نجوم القرآن ، وتُفسّر مواقعه بأنها منازل القرآن أي أوقات نزوله فتنزل الآية والآيتين والثلاث متفرقة ، وقيل مواقعه : محكم القرآن وقيل قلوب عباده الصالحين فيكون باعتبار المحلّ ، و يمكن أن يُوجّه هذا القول بأمور :

- أثر ابن عباس : قال النسائي : أخبرنا إسماعيل بن مسعودٍ، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبي عوانة، عن حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: " نزل القرآن جميعًا في ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا، ثمّ فصّل فنزل في السّنين، فذلك قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم} [الواقعة: 75] .
فاستشهاد ابن عباس بهذه الآية على نزول القرآن منجّما من السماء الدنيا ، له اعتباره ، إذ لا يُظنّ به رضي الله عنه أنه قاله تخرّصاً وإنما عن علم واتبّاع .

- له معنى لغوي سائغ في اللغة ، فالنجوم جمع نجم وهو القسط ، قال ابن منظور : و تَنْجِيمُ الدَّينِ : هو أَن يُقَدَّرَ عطاؤه في أَوقات معلومة متتابعةٍ مُشاهرةً أَو مُساناةً ، وقوله عز وجل : فلا أُقْسِمُ بمواقع النُّجوم ؛ عنَى نُجومَ القرآن لأَن القرآن أُنْزِل إِلى سماء الدنيا جملة واحدة ، ثم أُنزل على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، آيةً آيةً ، وكان بين أَول ما نزل منه وآخره عشرون سنةً .

- يؤيده سياق الآية بعده ( إنه لقرآن كريم ) ، وهذا القول يؤول إلى القسم بالقرآن على حقيقته على نحو ما تقدم في قوله تعالى ( والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا ) كما ذكر ذلك ابن عاشور ، فيعود الضمير في قوله تعالى بعده ( إنّه لقرآن كريم ) على مواقع النجوم مباشرة .

ويُمكن أن يُنقد على هذا القول صرفه عن ظاهره وإن كان معنىً محتملاً في أمرين الأول في تفسير النجوم والثاني في المراد بالمواقع ، و يمكن أن يُجاب عن ذلك بأنّ هذا التفسير ورد في مقام الإجابة عن شبهة وقعت لأحد التابعين ، فأجابه ابن عباس بدليل من القرآن يُطمئنه ، ويرفع عنه الإشكال . كما في رواية ابن مردويه في الدر المنثور : {فلا أقسم بمواقع النجوم} قال: أتى ابن عباس علبة بن الأسود أو نافع بن الحكم فقال له: يا ابن عباس إني أقرأ آيات من كتاب الله أخشى أن يكون قد دخلني منها شيء، قال ابن عباس: ولم ذلك قال: لأني أسمع الله يقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) (سورة القدر الآية 2) ويقول: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) (سورة الدخان الآية 3) ويقول في آية أخرى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) (سورة البقرة الآية 185) وقد نزل في الشهور كلها شوال وغيره، قال ابن عباس: ويلك إن جملة القرآن أنزل من السماء في ليلة القدر إلى موقع النجوم يقول: إلى سماء الدنيا فنزل به جبريل في ليلة منه وهي ليلة القدر المباركة وفي رمضان ثم نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة الآية والآيتين والأكثر، فذلك قوله: {لا أقسم} يقول: أقسم {بمواقع النجوم}).
ولاشكّ أن الحديث المروي في سبب النزول هو عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه وهو في صحيح مسلم ، هذا إن أردنا الترجيح من جهة الثبوت والإسناد .
وقد جمع بعض العلماء بين القولين ، فجعل المراد بمواقع النجوم مساقطها والمقسم عليه هو القرآن لما بين النجوم والقرآن من تشابه في النور والهداية والنعمة والإحكام والإعجاز .
أمّا الإمام البقاعي فقد جمع بين القولين من خلال ربطه بين هذه الآية والتي قبلها ، فحين ذكر الماء الذي هو أعظم نعمة أنعم بها عليهم وقد رتب سبحانه لإنزاله الأنواء بقانون محكم ، وجعل إنزال القرآن نجوما مفرقة وبوارق متلالئة متألقة ، جعل مساقط آيات القرآن محيية للقلوب ، كما تحيى الأرض بآثار الأنواء ، وفي ذلك من إبداع الصانع وإحكامه سبحانه ، وبدائع قدرته على تسخير المخلوقات ، وإنزال البينات .
فوجب ردّ الإنعام إلى المنعم ، ومعرفة فضله وقدرته على الإحياء والإماتة ، والبعث بعد ذلك .

و أرى أنّ القول بأنها نجوم السماء ، ويُراد بالمواقع مساقط النجوم ، أقوى الأقوال ، وذلك لموافقتها لسبب النزول ، وللمعنى اللغوي الظاهر ، وللآية بعد ذلك ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) ، فهي مطابقة لحال المشركين ومناسبة في الرد عليهم ، ولا يضر أن يكون المقسم عليه هو القرآن ، لأنه واضحٌ جليّ ، ويستفادُ من أقوال العلماء في بيان المعاني الإبداعية في الربط بين الآيات ، والكلام فيما ورائها من معانٍ لطيفة خفية تدلّ على قدرة الله تعالى وعظمته وكبير نعمته علينا ومنّته .

والله تعالى أعلم وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 29 ربيع الأول 1439هـ/17-12-2017م, 05:41 PM
سارة المشري سارة المشري غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 544
افتراضي

المراجع :
تفسير عبد الرزاق .
صحيح البخاري .
فتح الباري .
عمدة القاري .
إرشاد الساري .
حاشية السندي على البخاري .
السنن الكبرى للنسائي .
صحيح مسلم .
شرح النووي على مسلم .
تفسير ابن جرير الطبري .
تفسير مجاهد .
المستدرك للحاكم .
جامع الأصول لأبي السعادات ابن الأثير الجزري .
مجمع الزوائد للهيثمي .
تفسير الدر المنثور للسيوطي .
تفسير ابن كثير .
تفسير ابن عطية .
تفسير ابن الجوزي .
تفسير الماوردي .
التفسير الكبير للرازي .
التحرير والتنوير لابن عاشور .
تفسير القرطبي .
تفسير الألوسي .
نظم الدرر للبقاعي .
معاني القرآن للفراء .
مجاز القرآن لأبي عبيدة .
غريب القرآن لليزيدي .
معاني القرآن للزجاج .
العمدة في غريب القرآن لمكي بن أبي طالب .
لسان العرب لابن منظور .

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 30 ربيع الأول 1439هـ/18-12-2017م, 12:11 AM
علاء عبد الفتاح محمد علاء عبد الفتاح محمد غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 599
افتراضي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله وكفى به محموداً وصلى الله سلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً؛
أما بعد:


فهذا بحث في بيان الأقوال الواردة عن سلفنا الصالح في بيان المراد بقول الله تعالى في سورة الواقعة: "فلا أقسم بمواقع النجوم" حيث قال تعالى قبلها:
(أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) ۞ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80))

وإنما سردت الآيات قبلها وبعدها حتى يتبين السياق فيعين هذا على بحث المسألة ومعرفة القول الأنسب للمراد في الآية،
ويظهر من الآيات أن الله سبحانه يعطي براهين على قدرته تثبت أنه الرب المستحق للعبادة وقد بدأها بخلق الإنسان ثم موته ثم حياته بعد الموت،
ثم بين أنه سبحانه الذي ينبت الزرع بعد أن كان ميتا،
وأنه سبحانه الذي ينزل الماء الذي يحيا به كل المخلوقات،
وأنه سبحانه منشئ النار التي نستخدمها،
ثم أٌقسم سبحانه بمواقع النجوم على أنه أنزل كتابا هو القرآن هو كلامه سبحانه وتعالى حتى يتبعه الناس ويعبدوا الله بما جاء فيه.

ومن خلال البحث في أقوال السلف في تفسير المراد بقوله تعالى "فلا أقسم بمواقع النجوم" وجدت أن لهم أقوالاً في المراد سوف أتناولها في ثلاثة مراحل:
المرحلة الأولى: سردها مع ذكر من قالها ثم تخريج هذا القول لمن أراد الرجوع للنص،
المرحلة الثانية: تحرير هذه الأقوال، وبيان مأخذها ووجهها.
المرحلة الثالثة: الترجيح بينها

وأسأل الله التوفيق والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه.

-----------------------------------------------------------------------------------------------------
== فأما الأقوال وتخريجها:

فالقول الأول: المراد القرآن وأنه نزل منجماً أي مفرقا في عشرين سنة تنزل منه الآية أو الآيتين أو أكثر.
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَجُعِلَ عِنْدَ مَوَاقِعِ النُّجُومِ: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ إِلَى قَوْلِهِ: الْمُطَهَّرُونَ «5» الْمَلائِكَةُ، وَيَنْزِل ُبِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ كُلَّمَا أُتِيَ بِمَثَلٍ يَلْتَمِسُ عَيْبَهُ نَزَل َبِهِ كِتَابُ اللَّهِ نَاطِقً فَقَالَتِ الْيَهُودُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ: لَوْلا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ: كَذَلِكَ لِنُثَبِّت َبِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا وَقَرَأَ: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ [تفسير ابن أبي حاتم]
القائلون به:
- قال به: ابن مسعود، ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد
ونقله عبد الرزاق تفسيره عن الكلبي، وذكره البخاري في صحيحه، والزجاج في تفسيره، والحاكم في المستدرك، وذكره عنه ابن كثير،
-وقال به الخليل بن أحمد في العين،
تخريج الأقوال:
-أما قول ابن مسعود:
فذكره الفراء عن النهال ابن عمرو عنه،
وذكره السيوطي في الدر المنثور عن الفريابي عن المنهال عنه،
-وأما قول ابن عباس:
فأخرجه النسائي في السنن الكبرى من حديث سعيد بن جبير عنه،
وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث سعيد بن جبير أيضا عنه أيضا،
والطبري في تفسيره من حديث سعيد ابن جبير عنه،
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث سعيد ابن جبير وغيره عن ابن عباس.
وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ في تفسير مجاهد من حديث سعيد ابن جبير عنه،
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان وابن مردويه كما نقله السيوطي في الدر المنثور.
-وأما قول عكرمة:
فأخرجه الطبري في تفسيره من حديث يزيد عنه،
-وأما قول مجاهد:
فأخرجه الطبري في تفسيره من حديث الأعمش عنه،
وذكره السيوطي في الدر المنثور وقال أخرجه: ابن نصر وابن الضريس عن مجاهد،

القول الثاني: النجوم في السماء، ومواقعها هي مساقطها إذا سقطت -وهي التي يقال لها مغاربها-، وقيل مطالعها.
القائلون به:
قال به: مجاهد، قتادة،
وذكره البخاري في صحيحه، والفراء في معاني القرآن، والزجاج في تفسيره، والبغوي في تفسيره أيضاً.
تخريج الأقوال:
-أما قول مجاهد:
فأخرجه الطبري في تفسيره من حديث ابن أبي نجيحٍ عنه،
وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ في تفسير مجاهد من حديث سعيد ابن جبير عنه،
-وأما قول قتادة:
فأخرجه الطبري في تفسيره من حديث سعيد عنه،

القول الثالث: منازل النجوم.
القائلون به:
-قال به قتادة، وعطاء.
تخريج الأقوال:
--أما قول قتادة:
فأخرجه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عنه،
وأخرجه الطبري في تفسيره من حديث سعيد عنه، وذكره ابن كثير في تفسيره.
-وأما قول عطاء:
فذكره البغوي في تفسيره عنه بغير إسناد. وكذا ذكره عنه العيني في عمدة القاري.


القول الرابع: بانتثار النّجوم عند قيام السّاعة.
القائلون به:
-قال به الحسن
تخريج الأقوال:
--أما قول الحسن:
فأخرجه الطبري في تفسيره من حديث سعيد عن قتادة عنه، وذكره البغوي في تفسيره، وذكره أيضا ابن كثير في تفسيره.
----------------------------------------------------------------------------------------------------
== والآن نأتي لدراسة هذه الأقوال وبينان مآخذها ووجهها:
فقد تبين من بحث المراد بقوله تعالى: "فلا أقسم بمواقع النجوم" أنه ينقسم إلى قولين أساسيين وتحت كل قول أقوال ترجع له وتبينه؛

فأما القول الأول: فهو أن المراد القرآن نزل منجماً أي مفرقا في عشرين سنة تنزل منه الآية أو الآيتين أو أكثر وهذه الآيات كالنجوم.

وأما دراسة هذا القول:
فهذا القول اندرج تحته قولان كلاهما يرجع إليه ويفسره ولهذا جعلته قولا واحداً جامعاً لهما:
-أحدهما: أن النجوم هي آيات القرآن التي تنزل نجوماً،
قال الطبري: عن عكرمة، في قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم}. قال: أنزل اللّه القرآن نجومًا ثلاث آياتٍ وأربع آياتٍ وخمس آياتٍ.

-والآخر: أنه طريقة نزوله من السماء الدنيا على النبي منجماً أي مفرقاً فهو وصف لطريقة النزول.
قال الزجاج: وقيل إن مواقعِ النجومِ يعنى به نجوم القرآن، لأنه كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نُجُوماً شيئاَ بَعْدَ شَيءٍ (2)
ودليل هذا القول (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77). [معاني القرآن].

-فالقول الأول فيه تشبيه آيات القرآن التي تنزل متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم بأنها كالنجوم الساطعة والأنوار اللامعة، وهذا لما فيها من النور والهداية والتبصير للناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
-وأما القول الثاني فهو مبني على وصف لطريقة نزول القرآن وهذا القول استمد من استدلال ابن عباس بالآية لما سئل عن طريقة نزول القرآن وكيفية الجمع بين الآيات التي تبين أنه نزل في ليلة واحدة، والآيات التي تخبر بأنه نزل مفرقاً.

وقد ينتقد هذا القول:
فقد يقال إن هذا القول مبني على تشبيه آيات القرآن التي تنزل متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم بأنها كالنجوم
وهذا التشبيه مع صحة معناه ومأخذه إلا أنه ليس ظاهر الآية.

----------------------------------------

وأما القول الثاني: فهو أن المراد بالنجوم في الآية هو النجوم التي في السماء، ثم جاء في تفسير "مواقعها" أقوال كما سيأتي.

ودراسة هذا القول وما اندرج تحته من أقوال في تفسير المواقع كالتالي:
-هذا القول مبني على قول ابن عباس المذكور آنفاً في بيان أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا فكان عند مواقع النجوم، وهي التي في السماء،
-وأيضا مبني على سبب نزول الآية في الاستسقاء بالأنواء، فالأنواء هي منازل القمر ويسمي واحدها نوءاً وسيأتي بيان ذلك بعد قليل.

-وقد وجدت ثلاثة أقوال مندرجة تحته وهي راجعة إلى تفسير كلمة "مواقع" في هذا القول.
فأولها: أنها مساقطها وهي مغاربها، وقيل مطالعها،
وفي دراسة هذا القول يقال:
أنه مأخوذ من سبب نزول الآية في الاستسقاء بالأنواء، فالأنواء هي منازل القمر ويسمي واحدها نوءاً باعتبار سقوطه أي انتقل منه القمر سُمي نوءاً فهو يسمي نوءاً باعتبار المسقط لا باعتبار المطلع.
وقال قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ في إرشاد الساري:
(قال في الأنوار: وتخصيص المغارب لما في غروبها من زوال أثرها والدلالة على وجود مؤثر لا يزول تأثيره (ومواقع وموقع).
فهذا القول يبين أن المواقع هي الأماكن التي تنزل فيها النجوم أو التي تتركها فهو قسم بهذه المواقع يبين عظمة خلق الله وتدبيره سبحانه وتعالى وأن هذه النجوم لها أماكن محددة بتقدير الله لها.

وثانيها: أنها منازل النجوم.

وأما دراسة هذا القول:
فهو شبيه بالقول الأول ولكنه أخص منه فهو يختص بالمكان الذي يترك فقط وهو مغارب النجوم، كما سبق بيان أن المنازل هي أماكن سقوط القمر إذا غادرها وهي المغارب.
وقد قال ابن عاشور:
وَيُطْلَقُ الْوُقُوعُ عَلَى الْحُلُولِ فِي الْمَكَانِ، يُقَالُ: وَقَعَتِ الْإِبِلُ، إِذَا بَرَكَتْ، وَوَقَعَتِ الْغَنَمُ فِي مَرَابِضِهَا، وَمِنْهُ جَاءَ اسْمُ الْوَاقِعَةِ لِلْحَادِثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمَوَاقِعُ: مَحَالُّ وُقُوعِهَا وَخُطُوطُ سَيْرِهَا فَيَكُونُ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [الْبُرُوجِ: 1] .

وثالثها: بانتثار النّجوم عند قيام السّاعة.
لم أجد له نص يدل عليه بل هو قول الحسن فقط والذي يظهر أنه استنباط من آيات آخرى مثل التي في سورة التكوير والانشقاق ونحوهما.
دراسة هذا القول:
-الذي يظهر أنه تفسير لوقوع النجوم لكن حمل على وقوعها يوم القيامة، فالمذكور هو حالها عند قيام الساعة، ويدل عليه ما جاء في تفسير قوله تعالى : ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾
قال أُبيُّ بن كعب رضي الله تعالی عنه: "ستُّ آيات قبل يوم القيامة: بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوءُ الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرتِ النجوم...".
قال ابن عباس رضي الله تعالی عنهما في تفسير قوله تعالی: ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ "تغيَّرتْ".
وروي عنه أيضًا: "انكدَرتْ تغيَّرتْ فلم يبقَ لها ضوء لِزوالها عن أماكنها". ويؤيِّده قوله تعالی: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾
وقال قتادة رحمه الله تعالی في تفسير قوله تعالی: ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ "تساقطت وتهافتت"[31].

وخلاصة القول في هذه الأقوال الثلاثة أن يقال
أن القول الأول والثاني يمكن الجمع بينهما بأن يقال:
أقسم الله بمواقع النجوم وهي الأماكن التي تتنقل بينها، فهي حينها تترك موقعها ويسمى حينها مطلع، وتقع في موقع جديد ويسمى مغرب، وحين تنقلها هي تمشي في مسارات محددة لها وهذا يدل على كمال مطلق لقدرة الخالق سبحانه وتعالى الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً.
وأما القول الثالث: فهو قول بعيد عن سياق الآيات هنا مع صحته في نفسه.
---------------------------------------------------------------------------------------------------
== وأما المرحلة الثالثة وهي الترجيح

فأولاً أقول إن كلا القولين فيهما جمال وكمال من وجه من الوجوه، وكل منها يبين عظمة المقسم به، والله سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته،

والذي يترجح عندي والله أعلم؛ هو أن القول الثاني هو الأقوى في بيان المراد هنا وهو الأنسب للسياق، وإن كان القول الأول صحيح المعنى في نفسه.
وقد رجح هذا القول الطبري في تفسيره لهذه الآية حيث قال بعد سرد الأقوال فيها:
"وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب قول من قال:
معنى ذلك: فلا أقسم بمساقط النّجوم ومغايبها في السّماء، وذلك أنّ المواقع جمع موقعٍ، والموقع المفعل من وقع يقع موقعًا،
فالأغلب من معانيه والأظهر من تأويله ما قلنا في ذلك، ولذلك قلنا: هو أولى معانيه به.

--------------------------------------------------------------------------------------------------
المصادر:
كتاب العين للخيل بن أحمد.
تفسير عبد الرزاق .
صحيح البخاري .
معاني القرآن للفراء .
تفسير ابن جرير الطبري .
معاني القرآن للزجاج .
تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم
تفسير مجاهد
المستدرك للحاكم .
الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي
معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
جامع الأصول لأبي السعادات ابن الأثير الجزري .
تفسير ابن كثير .
مجمع الزوائد للهيثمي.
فتح الباري .
عمدة القاري .
تفسير الدر المنثور للسيوطي .
إرشاد الساري .
حاشية السندي على البخاري .
تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي.
التحرير والتنوير لابن عاشور .


والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 3 ربيع الثاني 1439هـ/21-12-2017م, 08:36 PM
سارة المشري سارة المشري غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 544
افتراضي

الحمد لله المبدئ المعيد ، الذي أحسن كل شء خلقه ثم هدى ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
وبعد ،
فقد أنزل الله تعالى سورة الواقعة في مكة ، وقرّر فيها ربوبيته الكاملة ، وردّ على المشركين سوء ظنّهم بربهم وذهولهم عن نعمه الجليلة ونسبتها لغيره سبحانه ، كما أقسم بأمرٍ عظيم على صدق القرآن وأنه حق من عند الله تعالى ، فقال عزّ من قائل : ( فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لوتعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم )
وقد اختلف المفسرون في المراد ( بمواقع النجوم ) على قولين ، سنفصل القول فيهما ونبحث القول الراجح إن شاء الله تعالى .

أولاً : ماجاء في سبب نزول الآية :
قال الإمام مسلم : وحدثني عباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة وهو ابن عمار حدثنا أبو زميل قال حدثني ابن عباس قال مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) .
وبيان سبب النزول له أهميته في إدراك معنى الآية ، وفي فهم أقوال العلماء والترجيح بينها .

ثانيا : أقوال العلماء في المراد بمواقع النجوم :
في "النجوم" قولان .
القول الأول : نجوم السماء ، قاله أكثر المفسرين ، وهو قول مجاهد وقتادة والحسن .
وعلى هذا في مواقعها ستة أقوال .
أحدها : انكدارها وانتثارها يوم القيامة، قاله الحسن ، و رواه ابن جرير من طريق سعيد عن قتادة عنه .

والثاني: هي مواضعها في السماء في بروجها ومنازلها . قاله قتادة ، و رواه عبدالرزاق وابن جرير عن معمر عنه .
قال ابن عاشور : ويطلق الوقوع على الحلول في المكان ، يقال : وقعت الإبل ، إذا بركت ، ووقعت الغنم في مرابضها ، ومنه جاء اسم الواقعة للحادثة كما تقدم ، فالمواقع محال وقوعها وخطوط سيرها فيكون قريبا من قوله والسماء ذات البروج .

والثالث: المطالع والمغارب ، وهو قول مجاهد ، و رواه ابن جرير وعبدالرحمن بن الحسن الهمذاني من طريق ابن أبي نجيحٍ، عنه ، وذكره الماوردي والزمخشري .

والرابع : مغيبها في المغرب وحده ، فإن عندها سقوط النجوم . وهو قول قتادة ، والحسن ، وقاله أبو عبيدة ، واليزيدي ، والزجاج ، ومكي بن أبي طالب . وذكره ابن عطية وابن عاشور والشوكاني وابن الجوزي والرازي .
- أما قول قتادة فرواه ابن جرير من طريق سعيد ، عنه ، ورواه عبد بن حميد عنه كما في الدر المنثور .
- وأما قول الحسن فرواه عبدبن حميد عنه ، كما في الدر المنثور .

والخامس : هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا ، قاله الضحاك ، و نقله الشوكاني والماوردي والقرطبي عنه .

والسادس : مواقعها عند الانقضاض على مسترقي السمع من الشياطين ، ذكره ابن عطية والرازي والألوسي ، ولم أجد له أصلاً عند المتقدمين .

توجيه هذا القول :
يعتمد القول الأول على الأصل في إطلاق لفظة النجوم وهو اسم الجنس ، ثم اختلفوا بعد ذلك في المراد بمواقعها ، فقيل الوقوع هو الحلول في المكان وعلى هذا فسروا القول بمنازلها ، قال ابن عاشور : والمواقع هي : أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء ، وكذلك بروجها ومنازلها .
وقيل المراد السقوط ، ففسروها بمكان الوقوع : قال ابن عاشور : والوقوع يطلق على السقوط ، أي الهوى ، فمواقع النجوم مواضع غروبها ، وعلى هذا يُحمل تفسيرها بأنها الأنواء التي يزعم الجاهلية أنهم يمطرون بها ، قال الألوسي : وليس نصا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد المغارب مطلقا .
وتفسير المتأخرين بأنها انقضاضها على الشياطين من مسترقي السمع مأخوذ من هذا المعنى .

القول الثاني: أنها نجوم القرآن، وهو قول ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة .
قال الزجاج : وقيل إن مواقع النجوم يعنى به نجوم القرآن، لأنه كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجوما شيئا بعد شيء , ودليل هذا القول : {وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم * إنّه لقرآن كريم}).
ومواقعها: قيل : 1- منازل القرآن و أوقات نزوله ، فقد أنزل نجوما متفرقة ، وهو قول ابن عباس وعكرمة ، وقاله ابن قتيبة ، و ذكره ابن الجوزي .
- أما قول ابن عباس فرواه النّسائيّ والحاكم من طريق حصينٍ عن سعيد بن جبير عنه ، ورواه ابن جرير وعبدالرحمن بن الحسن الهمذاني من طريق حكيم بن جبيرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عنه ، وقال الهيثمي رواه الطّبرانيّ، وفيه حكيم بن جبيرٍ وهو متروكٌ) ، وأخرجه ابن مردويه عنه كما في الدر المنثور .
- وأما قول عكرمة فرواه ابن جرير من طريق يزيد، عنه ، ومن طريق المعتمر عن أبيه عنه .
قال النسائي : أخبرنا إسماعيل بن مسعودٍ، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبي عوانة، عن حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: " نزل القرآن جميعًا في ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا، ثمّ فصّل فنزل في السّنين، فذلك قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم} [الواقعة: 75]
2- مستقرّ الكتاب أوله وآخره ، وهو قول ابن عباس وعكرمة ، فأما قول ابن عباس فرواه ابن جرير من طريق محمد بن سعد عن آبائه عنه ، وهو ضعيف ، وأما قول عكرمة فرواه ابن جرير من طريق المعتمر عن أبيه عنه .
عن عكرمة : إنّ القرآن نزل جميعًا، فوضع بمواقع النّجوم، فجعل جبريل يأتي بالسّورة، وإنّما نزل جميعًا في ليلة القدر.

3 - قلوب عباده وملائكته ورسله وصالحي المؤمنين ، ذكره الرازي ، وذكر البقاعي مايدل على معناه .

4- أحكامه ومعانيه التي وردت فيه ، وعبّر بعضهم بقوله ( المحكم ) ، وهو قول ابن مسعود ومجاهد ، و هو قول البخاري .
قال الرازي : وأما مواقع نجوم القرآن فهي قلوب عباده وملائكته ورسله وصالحي المؤمنين ، أو معانيها وأحكامها التي وردت فيها .
- أما قول ابن مسعود فقد رواه الفراء قال حدثني الفضيل بن عياض, عن منصور, عن المنهال بن عمرو رفعه إلى عبد الله فيما أعلم ، شك الفراء ، وأخرجه الفريابي بسند صحيح عن المنهال بن عمرو عنه ، ذكر ذلك السيوطي .
- و أما قول مجاهد فرواه ابن جرير من طريق الأعمش، عنه ، وأخرجه ابن نصر وابن الضريس كما في الدر المنثور .
توجيه هذا القول :
يعتمد هذا القول على أنّ المراد بالنجوم هي نزول القرآن منجّما في آيات متفرقة ، بعد نزوله تاما إلى السماء الدنيا ، وهذا له أصل لغوي معتمد في كتب اللغة ، ذكر ابن منظور أنّ النجم : الوقت المضروب ومنه تنجيم الدين والمكاتب ، ويؤيده ماروي عن ابن عباس ، قال: " نزل القرآن جميعًا في ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا، ثمّ فصّل فنزل في السّنين، فذلك قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم} [الواقعة: 75] .
ويؤيده عود الضمير على القرآن ، في قوله تعالى : ( إنه لقرآن كريم ) .
ثم اجتهدوا بعد ذلك في ربط معاني القرآن ومايتضمنه من نور بنور النجوم والاهتداء بها .
و اختلفوا في المراد بالمواقع على هذا المعنى فقيل هي أوقات نزوله ، وقيل هذا اسم للمكان الذي وضع فيه القرآن بعد نزوله للسماء الدنيا ، وقال آخرون هي مواقع معانيه وأحكامه الواردة فيه ، وقال بعضهم قلوب عباده الصالحين وذلك باعتبار محلها .

الدراسة :
أولاً : تحرير القول في سبب النزول :
قال الإمام مسلم : وحدثني عباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة وهو ابن عمار حدثنا أبو زميل قال حدثني ابن عباس قال مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) .
وقال أبو السعادات ابن الأثير الجزري في شرح الغريب :
(بمواقع): مواقع النجوم: مساقطها ومغاربها، وقيل: منازلها ومسايرها) .

في لفظ هذا الحديث ربطٌ لمساقط الأنواء بمواقع النجوم ، قال ابن الصلاح - رحمه الله - ،( كما في شرح مسلم : النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب فإنه مصدر ناء النجم ينوء نوءا أي سقط ، وغاب . وقيل : أي نهض وطلع . وكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر ينسبونه إلى الساقط الغارب منهما . وقال الأصمعي : إلى الطالع منهما ، قال النووي : ثم إن النجم نفسه قد يسمى نوءا تسمية للفاعل بالمصدر ) .

ثانياً : دراسة أقوال المفسرين في المسألة :
أمّا القول الأول وهو أنها نجوم السماء ، فهو يعتمد على أنها اسم جنس ، وهو الأصل في إطلاق النجوم ، ومواقعها هي منازلها أو مساقطها ( على اختلاف تفسيرهم للمساقط فهو من قبيل التنوع ) وهو قولٌ قوي قال به أكثر المفسرين ، ويؤيّد هذا القول عدّة أمور:
الأول لغويٌ : فالوقوع يطلق على السقوط ، أي الهوى ، فمواقع النجوم مواضع غروبها فيكون في معنى قوله تعالى (والنجم إذا هوى ) والقسم بذلك مما شمله قوله تعالى( فلا أقسم برب المشارق والمغارب )، و مواقع النجوم جمع موقع يجوز أن يكون مكان الوقوع ، ويطلق الوقوع على الحلول في المكان ، يقال : وقعت الإبل ، إذا بركت ، ووقعت الغنم في مرابضها ، والمواقع هي : أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء ، وكذلك بروجها ومنازلها ،كما ذكر ذلك ابن عاشور .
وكان مدار ترجيح ابن جرير لهذا القول بناءً على معناه اللغوي .

والثاني : ماصحّ في سبب النزول ، وسبق ذكره .

والثالث : سياق الآيات ، ففي قوله تعالى بعد ذلك : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) ، تنديدٌ بفعلهم لكفرهم نعمة الله تعالى عليهم بنسبتهم المطر إلى النوء .
ومن لطائف الربط بين الآية وسبب النزول ما ذكره الألوسي : من أنّ في غروبها زوالٌ لأثرها ودلالة على وجود خالق مدبر لهذا الكون مؤثر دائم لا يتغير ، وأنّ هذا سبب استدلال إبرهيم عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جلا وعلا .
وذكر الرازي لطائف أخرى في تخصيصها بالقسم منها أنه سبحانه لمّا ذكر قبلها دليل الأنفس ودليل الآفاق ذكر الدلائل السماوية على عظمته وتدبيره للكون .

والرابع : اسم السورة ، فهي سورة الواقعة ، والتفسير بانكدارها وانتثارها يوم القيامة فيه تأكيدٌ على وقوع هذا اليوم ، وقال بهذا الحسن ، وهوقول ٌصحيح ، لكنّه ضعيف الدلالة على معنى الآية .

وأمّا القول الثاني : بأنها نجوم القرآن ، وتُفسّر مواقعه بأنها منازل القرآن أي أوقات نزوله فتنزل الآية والآيتين والثلاث متفرقة ، وقيل : مستقر الكتاب ، وقيل : مواقع أحكامه ومعانيه ، وقيل قلوب عباده الصالحين فيكون باعتبار المحلّ ، و يمكن أن يُوجّه هذا القول بأمور :

- أثر ابن عباس : قال النسائي : أخبرنا إسماعيل بن مسعودٍ، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبي عوانة، عن حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: " نزل القرآن جميعًا في ليلة القدر إلى السّماء الدّنيا، ثمّ فصّل فنزل في السّنين، فذلك قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم} [الواقعة: 75] .
فاستشهاد ابن عباس بهذه الآية على نزول القرآن منجّما من السماء الدنيا ، له اعتباره ، إذ لا يُظنّ به رضي الله عنه أنه قاله تخرّصاً وإنما عن علم واتبّاع .

- له معنى لغوي سائغ في اللغة ، فالنجوم جمع نجم وهو القسط ، قال ابن منظور : و تَنْجِيمُ الدَّينِ : هو أَن يُقَدَّرَ عطاؤه في أَوقات معلومة متتابعةٍ مُشاهرةً أَو مُساناةً ، وقوله عز وجل : فلا أُقْسِمُ بمواقع النُّجوم ؛ عنَى نُجومَ القرآن لأَن القرآن أُنْزِل إِلى سماء الدنيا جملة واحدة ، ثم أُنزل على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، آيةً آيةً ، وكان بين أَول ما نزل منه وآخره عشرون سنةً .

- يؤيده سياق الآية بعده ( إنه لقرآن كريم ) ، وهذا القول يؤول إلى القسم بالقرآن على حقيقته على نحو ما تقدم في قوله تعالى ( والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا ) كما ذكر ذلك ابن عاشور ، فيعود الضمير في قوله تعالى بعده ( إنّه لقرآن كريم ) على مواقع النجوم مباشرة .

ويُمكن أن يُنقد على هذا القول صرفه عن ظاهره - وإن كان معنىً محتملاً -في أمرين الأول : في تفسير النجوم والثاني : في المراد بالمواقع ، و يمكن أن يُجاب عن ذلك بأنّ هذا التفسير ورد في مقام الإجابة عن شبهة وقعت لأحد التابعين ، فأجابه ابن عباس بدليل من القرآن يُطمئنه ، ويرفع عنه الإشكال . كما في رواية ابن مردويه في الدر المنثور : {فلا أقسم بمواقع النجوم} قال: أتى ابن عباس علبة بن الأسود أو نافع بن الحكم فقال له: يا ابن عباس إني أقرأ آيات من كتاب الله أخشى أن يكون قد دخلني منها شيء، قال ابن عباس: ولم ذلك قال: لأني أسمع الله يقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) (سورة القدر الآية 2) ويقول: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) (سورة الدخان الآية 3) ويقول في آية أخرى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) (سورة البقرة الآية 185) وقد نزل في الشهور كلها شوال وغيره، قال ابن عباس: ويلك إن جملة القرآن أنزل من السماء في ليلة القدر إلى موقع النجوم يقول: إلى سماء الدنيا فنزل به جبريل في ليلة منه وهي ليلة القدر المباركة وفي رمضان ثم نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة الآية والآيتين والأكثر، فذلك قوله: {لا أقسم} يقول: أقسم {بمواقع النجوم}).
ولاشكّ أن الحديث المروي في سبب النزول هو عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه وهو في صحيح مسلم ، هذا إن أردنا الترجيح من جهة الثبوت والإسناد .
وقد جمع بعض العلماء بين القولين ، فجعل المراد بمواقع النجوم مساقطها والمقسم عليه هو القرآن لما بين النجوم والقرآن من تشابه في النور والهداية والنعمة والإحكام والإعجاز .
أمّا الإمام البقاعي فقد جمع بين القولين من خلال ربطه بين هذه الآية والتي قبلها ، فحين ذكر الماء الذي هو أعظم نعمة أنعم بها عليهم وقد رتب سبحانه لإنزاله الأنواء بقانون محكم ، وجعل إنزال القرآن نجوما مفرقة وبوارق متلالئة متألقة ، جعل مساقط آيات القرآن محيية للقلوب ، كما تحيى الأرض بآثار الأنواء ، وفي ذلك من إبداع الصانع وإحكامه سبحانه ، وبدائع قدرته على تسخير المخلوقات ، وإنزال البينات .
فوجب ردّ الإنعام إلى المنعم ، ومعرفة فضله وقدرته على الإحياء والإماتة ، والبعث بعد ذلك .

و أرى أنّ القول بأنها نجوم السماء ، ويُراد بالمواقع مساقط النجوم ، أقوى الأقوال ، وذلك لموافقتها لسبب النزول ، ولاسم الجنس وهو الظاهر ، وللآية بعد ذلك ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) ، فهي مطابقة لحال المشركين ومناسبة في الرد عليهم ، ولا يضر أن يكون المقسم عليه هو القرآن عند قولنا بهذا القول ، لأنه واضحٌ جليّ .
و يُستفادُ من أقوال العلماء في بيان المعاني الإبداعية في الربط بين الآيات ، والكلام فيما ورائها من معانٍ لطيفة خفية تدلّ على قدرة الله تعالى وعظمته وكبير نعمته علينا ومنّته .

والله تعالى أعلم وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

المراجع :
تفسير عبد الرزاق .
صحيح البخاري .
فتح الباري .
عمدة القاري .
إرشاد الساري .
حاشية السندي على البخاري .
السنن الكبرى للنسائي .
صحيح مسلم .
شرح النووي على مسلم .
تفسير ابن جرير الطبري .
تفسير مجاهد .
المستدرك للحاكم .
جامع الأصول لأبي السعادات ابن الأثير الجزري .
مجمع الزوائد للهيثمي .
تفسير الدر المنثور للسيوطي .
فتح القدير للشوكاني .
تفسير ابن كثير .
تفسير ابن عطية .
تفسير ابن الجوزي .
تفسير الماوردي .
التفسير الكبير للرازي .
التحرير والتنوير لابن عاشور .
تفسير القرطبي .
تفسير الكشاف للزمخشري .
تفسير الألوسي .
نظم الدرر للبقاعي .
معاني القرآن للفراء .
مجاز القرآن لأبي عبيدة .
غريب القرآن لليزيدي .
معاني القرآن للزجاج .
العمدة في غريب القرآن لمكي بن أبي طالب .
لسان العرب لابن منظور .

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 3 ربيع الثاني 1439هـ/21-12-2017م, 08:38 PM
سارة المشري سارة المشري غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 544
افتراضي

قمتُ بالتصحيح والاستدراك ، والله تعالى أعلم .

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 21 جمادى الآخرة 1439هـ/8-03-2018م, 08:13 PM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

أحسن الله إليكم..
كنا قد أشرنا في تقويم المراحل السابقة مراعاة ملاحظات التقويم في التطبيق النهائي، ومنكم من قدّم تطبيقه النهائي قبل الانتهاء من تقويم المراحل السابقة، ومع ثنائي على حسن اجتهادكم ومبادرتكم في إتمام الواجبات إلا أنه من المفترض أن هذا التطبيق خاصّة لا يقدّم إلا بعد أن يتمّ التأكّد من صحة مراحله الأولى.
وعليه فإن من اقتصر على ما قدّمه مبكّرا ولم يعدّل فيه ما يحتاج إلى تعديل فإنه مخيّر الآن بين تقويم التطبيق على حاله الآن أو تعديله، علما بأن الخيار الأول سيؤثّر على درجة التقويم لأنه سيكون مبنيّا على تقويم المراحل السابقة.
بارك الله فيكم وسدّد خطاكم.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 8 رجب 1439هـ/24-03-2018م, 05:03 PM
ضحى الحقيل ضحى الحقيل غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 666
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، والصلاة والسلام على النبي الأمي المبعوث رحمة للعالمين، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، الحمد لله رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق، الحمد لله الذي زين السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظا من كل شيطان مارد، الحمد لله الذي سخر النجوم لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر، الحمد لله الذي له الخلق والأمر، الحمد لله الذي أنزل كتابه هدى ورحمة وبصائر، ومن على من يشاء من خلقه بتعلمه وتعليمه وفهمه وتدبره والإيمان به والعمل بما جاء فيه، الله اجعلنا منهم بمنك وفضلك وكرمك

المقدمة
سورة الواقعة سورة من سور جزء الذاريات، سميت باسم من أسماء يوم القيامة، جاءت لتخوف من يوم القيامة، وتقرر وقوعه، وتحدد أصناف الناس فيه، وتبين جزاء كل صنف، نزلت بأسلوب بليغ مؤثر تحث المؤمنين على الاستعداد ليوم القيامة، وتخوفهم من مصير أصحاب الشمال، وتحثهم على السعي للسبق في الأعمال، وتبين لهم عجزهم المطلق أمام قدرة الله تعالى، وأمام قضائه وقدره ومشيئته.
وجاء فيها قسم عظيم، من رب عظيم على "إثبات القرآن، وأنه حق لا ريب فيه، ولا شك يعتريه، وأنه كريم أي: كثير الخير، غزير العلم، فكل خير وعلم، فإنما يستفاد من كتاب الله ويستنبط منه" [السعدي: تفسير الواقعة].

قال تعالى: { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}

أقسم سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة بمواقع النجوم، فما هي مواقع النجوم؟
سنتعرف بإذن الله في هذا البحث المختصر على كلام أهل العلم وترجيحاتهم في معنى هذا القسم العظيم.

تصنيف المسألة وتعيين مراجع البحث:

هذه المسألة من المسائل التفسيرية نرجع فيها لكتب التفسير من دوواوين أهل السنة مثل البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم ، وكتب التفسير من جوامع الأحاديث، وكتب التفسير المسندة ، والتي تنقل أقوال السلف، وكتب التفسير للمتأخرين مثل السعدي والشنقيطي وابن عاشور ، وكتب شروح الحديث وكتب تخريج الأحاديث

ذكر الأقوال في المسألة:
ترجع أقوال لمفسرين في هذه المسألة إلى قولين، يتفرع عنهما أقوال:

القول الأول:
أن النجوم هنا هي نجوم السماء المعروفة وقد فسر أصحاب هذا القول مواقع النجوم بثلاث تفسيرات مختلفة
1. أنها منازلها ومسايرها ومواضعها ، وهو قول قتادة وعطاء بن رباح
2. أنها مغاربها، وقيل مطالعها ومغاربها، وهو قول مجاهد والحسن ورواية عن قتادة
3. أنه انكدارها وانتثارها وانتشارها يوم القيامة، وهو قول الحسن ورواية عن قتادة

وأضاف ابن عطية قولا رابعا هو أنه انقضاضها إثر العفاريت ولم ينسبه لأحد
أضاف ابن كثير قولا للضحاك أنها الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا يقولون مطرنا بنوء كذا.

القول الثاني:

أن المراد القرآن وجاء فيه قولان:
1. أنها منازله، وكان ينزل نجوما، أي متفرقا، وهو قول ابن عباس وعكرمة
2. أنه محكم القرآن وهو قول ابن مسعود ومجاهد.

التخريج:
أولا / تخريج أقوال من قال بأنها نجوم السماء وأن المراد بمواقعها منازلها:
- أما قول قتادة: فقد رواه عبد الرزاق وابن جرير في تفسيرهما كلاهما عن معمر عن قتادة، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وابن عطية، وابن الجوزي، وابن كثير
- وأما قول عطاء بن أبي رباح: فقد ذكره العيني في عمدة القاري، كما ذكره البغوي، ومكي بن أبي طالب ، وابن الجوزي

ثانيا/ تخريج أقوال من قال بأن المراد نجوم السماء ومواقعها بمعنى مغاربها أو مشارقها ومغاربها
- أما قول مجاهد: فقد رواه ابن جرير والهمذاني كلاهما من طريق ابن أبي نجيح، وذكره مكي بن أبي طالب ، وابن عطية، وابن كثير، والماوردي، وذكر السيوطي أنه فسرها بنجوم السماء دون إشارة إلى معنى مواقعها.
- وأما قول قتادة فقد رواه ابن جرير في تفسيره عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة، وذكره السيوطي في الدر المنثور وذكره مكي بن أبي طالب، وابن كثير.
- وأما قول الحسن فقد ذكره مكي بن أبي طالب، وابن كثير، والسيوطي

ثالثا/ تخريج أقوال من قال بأن المراد نجوم السماء ومواقعها بمعنى انتثارها يوم القيامة
- أما قول الحسن: فقد ذكره العيني في عمدة القاري، وذكره السيوطي في الدر المنثور، كما ذكره البغوي، ومكي بن أبي طالب، وابن عطية، وابن الجوزي، وابن كثير ، والماوردي
- وأما قول قتادة: فقد رواه ابن جرير في تفسيره قال " حدّثنا بشرٌ قال: حدّثنا يزيد قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، في قوله: {فلا أقسم بمواقع النّجوم} قال: قال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة".

رابعا/ القول بأن المواقع بمعنى انقضاضها على العفاريت ذكره ابن عطية في تفسيره.

خامسا/ تخريج قول من قال بأن الآيات نزلت بسبب قولهم مطرنا بنوء كذا
- أما قول ابن عباس أن الآيات نزلت بسبب قولهم مطرنا بنوء كذا فقد رواه مسلم وفي شرح النووي مزيد بيان أفصله بإذن الله في مرحلة التحرير، وذكر ابن كثير والماوردي قولا للضحاك أن المعنى الأنواء.

سادسا/ تخريج قول من قال بأن المقصود بالنجوم القرآن حيث كان ينزل متفرقا وبالمواقع منازله أو مكانه أو زمانه
- أما قول ابن عباس : فقد رواه النسائي في السنن، كما رواه ابن جرير في تفسيره، ورواه الهمذاني في تفسير مجاهد، والحاكم في المستدرك، كلهم من طريق ابن أبي نجيح، كما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره والهيثمي في مجمع الزوائد، وذكره السيوطي في الدر المنثور عن عدد من الرواة، كما ذكره البغوي، ومكي بن أبي طالب، وابن عطية، وابن الجوزي، وابن كثير، والماوردي ، والقرطبي.
- وأما قول عكرمة: فقد رواه ابن جرير في تفسيره عن ابن حميد، عن يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة ، وذكره مكي بن أبي طالب، وابن عطية، وابن كثير
- وأما قول عكرمة: وقد رواه ابن جرير في تفسيره "قال حدّثنا ابن عبد الأعلى قال: حدّثنا المعتمر، عن أبيه، عن عكرمة: إنّ القرآن نزل جميعًا، فوضع بمواقع النّجوم، فجعل جبريل يأتي بالسّورة، وإنّما نزل جميعًا في ليلة القدر." وذكره مكي بن أبي طالب.

سابعا/ تخريج قول من قال بأن المراد محكم القرآن.
- أما قول عبد الله بن مسعود فقد رواه الفراء عن الفضيل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو رَفَعَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فيما أعلم شك الفراء وذكره السيوطي في الدر المنثور قال: "وأخرج الفريابي بسند صحيح عن المنهال بن عمرو رضي الله عنه قال: قرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {فلا أقسم بمواقع النجوم} قال: بمحكم القرآن فكان ينزل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم نجوما"، كما ذكره الماوردي، والقرطبي
- أما قول مجاهد: فقد رواه ابن جرير في تفسيره عن يحيى بن إبراهيم المسعوديّ عن أبيه عن أبيه عن جده عن الأعمش عن مجاهد، وذكره السيوطي في الدر المنثور قال" وأخرج ابن نصر، وابن الضريس عن مجاهد رضي الله عنه {فلا أقسم بمواقع النجوم} قال: بمحكم القرآن" كما ذكره ابن عطية، وابن كثير


الدراسة
النقد والتعليق على القول الأول:
لا شك أن القول بأن المقصود نجوم السماء قول قوي وله اعتباره، وهو المعنى المتبادر للذهن، كما أن أكثر استخدام كلمة النجوم هو في نجوم السماء.
قال الشنقيطي: " وَإِطْلَاقُ النَّجْمِ مُرَادًا بِهِ النُّجُومَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرًا ... عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ"
وقد قال بهذا القول من أئمة التفسير، قتادة، ومجاهد، والحسن، وعطاء بن رباح، ولقولهم ما لا يخفى من الوجاهة والقوة، ويأتي بعد ذلك التفصيل في معنى المواقع وتختلف فيه عبارات المفسرين بحسب المعنى اللغوي وكلها متقاربة ولها اعتبار، وكل منها آية تستحق أن يقسم بها، ومرجعها إلى استخدامات صحيحة في اللغة، ومعتبرة في أحوال النجوم فمن قال بأن المواقع هي المنازل أخذها من وقع الشيء موقعه، أي حل في مكانه، وثبوت النجوم في مواقعها وعدم اضطرابها واختلاف مكانها آية عظيمة تستحق القسم بها ودلالة عظيمة على قدرة الخالق سبحانه، ومن قال بأن المعنى هو الغروب أخذه من وقع الشيء إذا سقط وهي أيضا آية عظيمة تندرج تحت آيات إحكام هذا الكون ودقة سيره تحت تدبير رب العالمين، وإضافة مجاهد بأنه طلوعها وغروبها ربما كانت بسبب أن ذكر الغروب يدل على الشروق

وقد رجح الطبري أن المعنى غروب النجوم، وأرجعه للمعنى اللغوي لكلمة مواقع وقال عنه أنه :" الأغلب من معانيه والأظهر من تأويله"
وقال ابن عاشور بعد ذكره للقولين الأول والثاني: " وَذِكْرُ (مَوَاقِعِ النُّجُومِ) عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَعْظِيمٌ لِأَمْرِهَا لِدَلَالَةِ أَحْوَالِهَا عَلَى دَقَائِقَ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ سَيْرِهَا وَبَدَائِعِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَسْخِيرِهَا.

وأما من قال بأن المعنى انكدارها وانتثارها يوم القيامة فقد أخذ القول أيضا من وقع الشيء إذا سقط ولكن جعل المعنى للآخرة، فالنجوم يوم القيامة تسقط وتتناثر، وهو قول له اعتباره أيضا وهو آية من آيات الله يجب التصديق بها، ومعناه في اللغة صحيح، إلا أن القسم لمن لا يؤمن بما يشاهده ويراه ولا يستطيع إنكاره أقوى من القسم بما لا يعرفه، والله أعلم ولا يمنع أن نجمع بين الأقوال و يكون القسم بالنجوم بكل أحوالها في الدنيا والآخرة وفي هذا من سعة لفظ القرآن وشموله ما لا يخفى.

أما قول ابن عطية أنه انقضاضها إثر العفاريت فلعله مأخوذ أيضا من وقوعها بمعنى السقوط، ومما دل عليه القرآن الكريم برجم الشياطين بالشهب كقوله تعالى {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين}
ويمكن إدراج هذا القول مع ما سبقه من أحوال النجوم فيفيد المعنى كل أحوال النجوم العظيمة، في ثبوت منازلها، وطلوعها وغروبها، وانتثارها يوم القيامة، وانقضاضها على الشياطين وتتبين بذلك عظمة الخالق، وعظمة المقسم به، ويستدل به على عظمة المقسم عليه، وإن كانت بعض المعاني اللغوية أكثر تبادرا للذهن من بعض والله أعلم

أما ما ذكر من قول الضحاك أنها الأنواء فقد يكون راجعا لما قيل في سبب نزول الآيات والذي رواه عن ابن عباس، وقد يكون راجعا للمعنى اللغوي للنوء فإذا كان الأول فقد ذكر النووي أن المعني بسبب النزول هنا هو قوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون، وأما إن كان المعنى اللغوي، فقد نقل النووي أن معنى النوء ليس الكوكب نفسه وإنما سقوطه أو طلوعه وقال إن النجم قد يسمى بالنوء.
فنخلص إلى: أن هذا القول مبني على المعنى المتبادر للذهن، وعلى معنا لغوي صحيح، وعلى عظمة المعنى واستحقاقه للتفخيم بالقسم، وهو قول وجيه قوي وله اعتباره بكل ما ذكر من تفاصيله ويمكن الجمع بينها، والله أعلم

اعتراض:
يرد على هذا القول، قوله تعالى بعد هذه الآية { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم* إنه لقرآن كريم} فالضمير هنا عائد على القرآن ولم يتقدم ذكره قبل ذلك إلا على القول بأن مواقع النجوم منازل القرآن
ويمكن الرد عليه بأن الضمير يعود على القرآن وإن لم يتقدم ذكر لشهرة الأمر ووضوح المعنى كقوله تعالى: {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} [ص: 32] ، {وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ} [الرحمن: 26] وغير ذلك

النقد والتعليق على القول الثاني:
القول بأن المقصود القرآن مبني على معنى لغوي صحيح للنجم:" النُّجُومَ جَمْعُ نَجْمٍ وَهُوَ الْقِسْطُ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ: نُجُومُ الدِّيَاتِ وَالْغَرَامَاتِ" ذكره ابن عاشور، وذكر نحوه الشنقيطي.
والمعنى طوائف الآيات التي تنزل من القرآن في أوقات متفرقة
وهذا القول قال به ابن عباس وعكرمة ولا بد أن له وجه واعتبار
وقد رجح الشنقيطي هذا القول مستدلا بتكرار القسم في القرآن على صحة الرسالة وصدق القرآن،
مثل قوله تعالى: { وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: 2، 3]، كما استدل بقوله بعد هذه الآية {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ }وذكر بأن الأحق بهذا الوصف هو القرآن العظيم ، وعلى هذا القول ينتفي الاعتراض الوارد على القول الأول في مرجع الضمير في قوله تعالى { إنه لقرآن كريم }
والمواقع يمكن أن يراد بها نزوله، أو زمنه، أو مكانه، وكلها صالحة للمعنى
والشنقيطي له مكانته واعتباره ولترجيحاته في كثير من مسائل الخلاف من القوة ما لا يخفى،

أما القول بأنه محكم القرآن فقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو من باب إضافة البعض إلى الكل لأن القرآن فيه محكم ومتشابه

الترجيح:
كلا القولين لهما وجاهة وقوة، والقسم على كل وجه منهما له قوته وعظمته، وله مبرراته اللغوية والشرعية، وقد قال بكل من القولين من له اعتبار وقوة من أهل العلم ولا يمنع الجمع بين القولين واعتبار كل منهما معنا صحيحا للقسم، وهذا والله أعلم من سعة لفظ القرآن واتساع معانيه

والله أعلم


المراجع:
من كتب المرتبة الأولى: كتب التفسير في دواوين السنّة
- صحيح البخاري
- صحيح مسلم
- السنن الكبرى للنسائي
- مستدرك أبي الحاكم

من كتب المرتبة الثانية: كتب التفسير في جوامع الأحاديث
- جامع الأصول
- مجمع الزوائد للهيثمي
- الدر المنثور للسيوطي

من كتب المرتبة الثالثة: التفاسير المسندة المطبوعة
- تفسير عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيّ.
- تفسير الطبري.
- تفسير ابن أبي حاتم
- معالم التنزيل للبغوي

من كتب المرتبة الخامسة: أجزاء وصحف تفسيرية مطبوعة، ومنها:
- تفسير مجاهد.

من كتب المرتبة السادسة: التفاسير التي تنقل أقوال السلف في التفسير
- الهداية إلى بلوغ النهاية
- المحرر الوجيز
- زاد المسير
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير
- النكت والعيون
- أحكام القرآن

من كتب المرتبة الثامنة: شروح الأحاديث
- من شروح البخاري : فتح الباري وعمدة القري وإرشاد الساري وحاشية السندي على البخاري
- شرح النووي على صحيح مسلم

من كتب التفسير المتأخرة
- أضواء البيان
- تفسير السعدي
- التحرير والتنوير
- المختصر في التفسير

والحمد لله رب العالمين.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 5 شعبان 1439هـ/20-04-2018م, 01:20 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تقويم المرحلة الخامسة والأخيرة من المراجعة التطبيقية على
دورة مهارات التفسير المتقدّمة




نحمد الله على إتمام هذا التطبيق، ونسأل الله أن ينفعكم بهذه الدورة القيّمة وتطبيقاتها، وأن ينفع بكم الأمة.
وأرجو أن تكون محصّلة تقويمات المراحل السابقة كافية في تصوّر العرض النهائي للتطبيق وتقييم جودته.
وكنا قد نبّهنا على ضرورة مراجعة ملاحظات التقويم على المراحل السابقة وتعديل هذا التطبيق لمن قدّمه مبكّرا، لأن تقويم العرض النهائي سيراعى فيه الأخذ بالتنبيهات السابقة والاستفادة منها في التحرير النهائي للمسألة.



1: سارة المشري أ

أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- رواية قتادة عند عبد الرزاق رواية مقطوعة، فهو لم يصرّح بالسماع بل قال: "معمر عن قتادة".
- عند ذكر قول الضحاك في الأنواء نقول: نسبه فلان إلى الضحاك، ولا نجزم بأنه قاله لأننا لم نعثر على سنده في مصدر أصلي أو بديل.
- اتفقنا سابقا أن تفسير "مواقع النجوم" بقلوب العباد لا يصحّ، ولم يؤثر عن السلف، فإذا ذكرتيه فلابد من التنبيه على ذلك.
- أما قول محكم القرآن فلم يصرّح أصحابه بأن المراد أحكام القرآن ومعانيه، ولا هو ظاهر من كلامهم.
- قول الحسن "انتثارها يوم القيامة" ليس ضعيفا، بل هو من معاني وقوع النجوم، والله سبحانه أقسم بمواقع النجوم عموما فيشمل القسم وقوعها في الدنيا وفي الآخرة، وقد نوّه الله بشأن سقوط النجوم وانكدارها في أكثر من موضع من القرآن.
- قول "منازل القرآن" يحتمل أن يكون المقسم به نفس النزول أي نزول القرآن مفرّقا، أو مواضع نزوله في السماء وفي الأرض، أو أزمان نزوله، وذلك لاحتمالات اللفظ.
وقد جاء في القرآن ما يشير إلى هذه المعاني، منها قوله تعالى: {وقرآنا فرقنا لتقرأه على الناس على مكث} وقوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} وقوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}.

2: ضحى الحقيل أ

أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- اتّفقنا سابقا أننا لا نحتاج إلى المصادر الناقلة في التخريج طالما أمكن التخريج من المصادر الأصلية، إلا إذا كان لذكرها فائدة تتعلّق بالرواية، أما أن يكون الأمر مجرّد إشارة إلى أنهم ذكروا القول فهذا لا يفيد، فإذا تمّ تخريج القول من المصادر الأصلية فلا حاجة أن أقول: وذكره الماوردي وابن عطية وابن كثير و... وغيرهم من أصحاب التفاسير الناقلة.
- رواية قتادة عند عبد الرزاق رواية مقطوعة، فهو لم يصرّح بالسماع بل قال: "معمر عن قتادة"، وقيسي على مثله.
- إذا لم تعثري على قول عطاء "منازل القرآن" مسندا، فقولي: نسبه فلان وفلان إلى عطاء، لأن المصادر التي ذكرتيها لم ترو قوله مسندا، فلا يعدّ ذلك تخريجا.
- فرّقي بين من قال المواقع المساقط، وبين من قال المساقط والمطالع، أو اذكري نصّ القول أثناء التخريج ليفهم ما قاله كل واحد منهم.
- قول "انتثارها يوم القيامة" رواه قتادة عن الحسن.
- قلتِ: "
خامسا/ تخريج قول من قال بأن الآيات نزلت بسبب قولهم مطرنا بنوء كذا" وليس مطلوبا، فتحرير سبب النزول شيء وتحرير المراد بمواقع النجوم شيء آخر، والمطلوب هنا تخريج القول المنسوب للضحّاك بأن مواقع النجوم هي الأنواء.
وقد وجّه قول "محكم القرآن" في المراحل السابقة، فلعلك تراجعينه، بارك الله فيك.

3: نورة الأمير ب

أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.

وتحرير المسألة قدّم مبكّرا، لذا حصل فيه قصور في توجيه ودراسة بعض الأقوال، ولعلك تراجعين ملاحظات التقويم على المراحل السابقة، وكذا تطبيقات الزملاء الجيّدة، وفقك الله.

4: علاء عبد الفتاح ج+

أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
وتحرير المسألة قدّم مبكّرا، لذا حصل فيه قصور في تحرير القول الأول في النجوم وهو "القرآن" والمراد بمواقعه، ولعلك تراجع ملاحظات التقويم على المراحل السابقة، وكذا تطبيقات الزملاء الجيّدة، وفقك الله.



رزقكم الله العلم النافع والعمل الصالح
والحمد لله الذي بنعمته تتمّ

الصالحات


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مراجعة, تطبيقية

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:01 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir