دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > لمعة الاعتقاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 ذو القعدة 1429هـ/1-11-2008م, 12:11 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي صفة العلو

وقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] ، وقول النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((رَبَّنَا اللهَ الَّذي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ)).
(وقال للجارية: ((أَيْنَ اللهُ؟ قالت: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمَّة.
(وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لِحُصَيْنٍ: ((كَمْ إِلَهًا تَعْبُدُ ؟))
قَالَ: سَبْعَةً: ستّةً في الأَرْضِ، وَوَاحدًا في السَّمَاءِ.
قَالَ: ((مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟)).
قَالَ: الَّذِي في السَّمَاءِ.
قَالَ: ((فَاتْرُكِ السِّتَّةَ وَاعْبُدِ الَّذِي في السَّمَاءِ، وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْنِ)).
فَأَسْلَمَ، وَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَنْ يَقُولَ: ((اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي)).
وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ عَلاَمَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأَصْحَابِهِ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ: ((أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ بِالأَرْضِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ إِلَههُمْ في السَّمَاءِ)).
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ كَذَا وَكَذا...))، وَذَكَرَ الخَبَرَ إِلى قَوْلِهِ: ((وَفَوْقَ ذَلِكَ العَرْشُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ ذَلِكَ)).


  #2  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 08:51 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن عثيمين

(1) الصفةُ الرابعةَ عشَرَةَ: العُلُوُّ.

العُلُوُّ مِنْ صفاتِ اللهِ الثابتةِ لهُ بالكتابِ والسنَّةِ وإجماعِ السلَفِ.

قالَ اللهُ تعالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] وكانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ يقولُ في صلاتِهِ في السجودِ: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى)) ، رواهُ مسلمٌ منْ حديثِ حُذَيْفَةَ ، وأَجْمَعَ السلفُ على ثُبُوتِ العُلُوِّ للهِ ، فيَجِبُ إثباتُهُ لهُ مِنْ غيرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ ، ولاَ تكييفٍ ولا تمثيلٍ ، وهوَ عُلُوٌّ حقيقيٌّ يَلِيقُ باللهِ.
وينقسِمُ إلى قسميْن (1):

(أ) عُلُوُّ صِفَةٍ : بمعنى أنَّ صفاتِهِ تعالَى عُلْيَا ليسَ فيها نقْصٌ بوجْهٍ مِن الوجوهِ ، ودليلُهُ مَا سَبَقَ.
(ب) وعُلُوُّ ذاتٍ : بمعنى أنَّ ذاتَهُ تعالَى فوقَ جميعِ مخلوقاتِهِ، ودليلُهُ معَ ما سَبَقَ: قولُهُ تعالَى: {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [المُلْك: 16] ، وقولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: ((رَبَّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ...)) الحديثَ، رَواهُ أبو داودَ ، وفيهِ : زِيادةُ ابنُ محمدٍ ، قالَ البخاريُّ : مُنْكَرُ الحديثِ.
وقولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ للجاريَةِ : ((أَيْنَ اللهُ؟ )) قالتْ: في السماءِ، قال: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) ، رواهُ مسلمٌ فى قصَّةِ معاويَةَ بنِ الحكَمِ.
وقولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ لحُصَيْنِ بنِ عُبَيدٍ الخُزَاعِيِّ والدِ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ : ((اتْرُكَ السِّتَّةَ وَاعْبُدِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)) هذا هوَ اللَّفظُ الذي ذكَرَهُ المؤلفُ ، وذكَرَهُ في (الإصابَةِ) منْ روايَةِ ابنِ خُزَيْمَةَ في قصَّةِ إسلامِهِ بلفْظٍ غيرِ هذا ، وفيهِ إقرارُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ لحُصَيْنٍ حينَ قالَ : ((سِتَّةً فِي الأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ))(2).
وأَجْمَعَ السَّلَفُ على ثُبُوتِ عُلُوِّ الذاتِ للهِ وكوْنِهِ في السماءِ ، فيَجِبُ إثباتُهُ لهُ مِنْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ.
وقدْ أنْكَرَ أهلُ التعطيلِ كوْنَ اللهِ بذاتِهِ في السماءِ وفسَّرُوا معناها : أنَّ في السَّماءِ مُلْكَهُ وَسُلْطَانَهُ ، ونحوَهُ ، ونَرُدُّ عليهم بما سَبَقَ في القاعدةِ الرابعةِ.

وبوجهٍ رابِعٍ: أنَّ مُلْكَ اللهِ وسُلْطانَهُ في السماءِ وفي الأَرضِ أَيضًا.

وبوجهٍ خامِسٍ: وهوَ دَلالةُ العقلِ عليهِ؛ لأنَّهُ صفةُ كمالٍ.

وبوجهٍ سادسٍ: وهوَ دلالةُ الفِطْرَةِ عليهِ ؛ لأَنَّ الخلْقَ مَفطُورُونَ على أنَّ اللهَ في السماءِ.

معنَى كونِ اللهِ في السماءِ:
المعنَى الصحيحُ لكونِ اللهِ في السماءِ أن اللهَ تعالَى علَى السماءِ ، فـ (فِي) بمعنى : (علَى) وليسَتْ للظرفِيَّةِ ؛ لأنَّ السماءَ لا تُحيطُ باللهِ أوْ أنَّهُ في العُلُوِّ ، فالسماءُ بمعنَى العُلُوِّ ، وليسَ المرادُ بها السماءَ المبْنِيَّةَ.

تَنْبيهٌ : ذَكَرَ المؤلِّفُ - رحِمَهُ اللهُ - أنَّهُ نَقَلَ عنْ بعضِ الكُتُبِ المتقدِّمَةِ أن مِنْ علاماتِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ وأصحابِهِ أنَّهُم يَسْجُدُون بالأَرضِ ، ويَزْعُمون أنَّ إلهَهم في السماءِ ، وهذا النَّقْلُ غيرُ صحيحٍ ؛ لأنَّهُ لا سَنَدَ لهُ(3) ؛ ولأَنَّ الإِيمانَ بعُلُوِّ اللهِ ، والسجودَ لهُ ، لا يَخْتَصَّانِ بهذه الأُمَّةِ ، وما لا يَخْتَصُّ لا يَصِحُّ أن يكونَ علامةً ؛ ولأَنَّ التعبيرَ بالزَّعْمِ في هذا الأَمرِ ليسَ بمدْحٍ ؛ لأَنَّ أكْثَرَ ما يأتِي الزَّعْمُ فيما يُشَكُّ فيهِ.


حاشية الشيخ صالح العصيمي حفظه الله :

(1) وهو أتقن من قسمته إلى ثلاثة أقسام بزيادة علو القهر لرجوعه إلى علو الصفات.

وقد أشرت إلى ذلك بقولي:


علو ربنا لدى الثقات = عـلو ذاته مع الصفاتِ

أمـاعـلـو قـهره فردوا = لسابق إذ منه يستمد

(2) هو في (كتاب التوحيد) لابن خزيمة (ص120 ـ 121) وإسناده ضعيف ، وهو في مقام اعتضاد لا اعتماد.

(3) أي لا سند له صحيح ، وإلا فقد أخرجه صاحب (اللمعة) في كتابه (العلو) (21) مسنداً عن عدي بن عميرة رضي الله عنه.

قال الذهبي في العلو (ص27) : (هذا حديث غريب).
ولو صح أمكن حمل معناه على معنى صحيح.


  #3  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:04 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ ابن جبرين

(1) الدَّليلُ الثَّاني:

قولُهُ تَعَالَى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [المُلْك: 16] ، {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [المُلْك: 17]، اللهُ تَعَالَى قَطَعَ الكلامَ عَمَّا بَعْدَهُ في قولِهِ تَعَالَى : {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} ، هذا وَقْفٌ مُطْلَقٌ ، {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} ، هذا وَقْفٌ جَائِزٌ ، {أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [المُلْك: 17]، ولا شَكَّ أنَّ هذا دليلٌ واضحٌ على إثباتِ العُلُوِّ.

وَ{ فِي السَّمَاءِ } يُفَسِّرُونَهَا بِتَفْسِيرَيْنِ:
التَّفسيرُ الأوَّلُ: أنْ تكونَ (في) بِمَعْنَى عَلَى.


وهذا مشهورٌ في اللُّغةِ ، كما في قولِهِ تَعَالَى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 26]، يَعْنِي: على الأرضِ ،{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [غافر: 82] ، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [النمل: 69] ، ليسَ المرادُ في جَوْفِهَا، بل المرادُ عليها.
وكذلكَ قولُهُ عنْ فِرْعَونَ : {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] ، ليسَ المرادُ أنَّهُ يَنْحِتُ لَهُم وَيُدْخِلُهُم في الجذوعِ ، بل المرادُ أنَّهُ يَصْلُبُهُم على جذوعِ النَّخلِ.
فَدَلَّ على أنَّ (فِي) تَأْتِي بِمَعْنَى (على) ، {فِي السَّمَاءِ} [المُلْك: 17] ، يَعْنِي: على السَّماءِ.
التَّفسيرُ الثَّاني: أنَّ السَّماءَ بِمَعْنَى العُلُوِّ ، وأنَّ كلَّ ما ارْتَفَعَ فإنَّهُ سماءٌ ، يَقُولُونَ : سَمَا فلانٌ ، يَعْنِي: ارْتَفَعَ ، سَمَا هذا البناءُ : ارْتَفَعَ ، هذا بناءٌ سَامٍ ، أيْ: مُرْتَفِعٌ ، هذا جَبَلٌ سَامٍ ، أيْ : مُرْتَفِعٌ ، فالسُّمُوُّ بِمَعْنَى الارتفاعِ.


فإذا قِيلَ: {مَن فِي السَّمَاءِ} أيْ: في جِهَةِ العُلُوِّ الَّتي لا يَعْلَمُ نِهَايَتَهَا وَقَدْرَهَا إلاَّ هوَ سبحانَهُ.

فإنْ قِيلَ: فيها دليلٌ على الحصرِ؟

فالجوابُ: ليسَ معنَى (في السَّماءِ) أنَّ السَّماءَ تَحْصُرُهُ ، أوْ تَحْوِيهِ ، تَعَالَى اللهُ ، بلْ هوَ فَوْقَهَا كَمَا يَشَاءُ.

وإذا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزُّخرف: 84] ، وقالُوا: هذا دليلٌ على أنَّهُ في الأرضِ كما أنَّهُ في السَّماءِ؟
فالجوابُ عنْ هذهِ الآيَةِ ، وعن الآيَةِ الَّتي في سورةِ الأنعامِ : {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] ، أنَّ المرادَ : الإلهُ في السَّماواتِ ، والإلهُ في الأرضِ، بِمَعْنَى المَأْلُوهِ الَّذي تَأْلَهُهُ القلوبُ ، والَّذي يَسْتَحِقُّ أنْ يكونَ إِلَهًا مَعْبُودًا وَحْدَهُ ؛ وذلكَ لأنَّهُ لمْ يَقِفْ عندَ (السَّماءِ) ، بلْ وَصَلَهَا ولم يَقُلْ : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماءِ) ، (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ وَفِي الأَرْضِ)، بلْ قالَ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزُّخرف: 84] ، يَعْنِي: إِلَهٌ في السَّماءِ ، وَإِلَهٌ في الأرضِ .


وَيُمَثِّلُ بعضُهُم ذلكَ بما إذا قُلْتَ مَثَلاً : فلانٌ أميرٌ في العراقِ ، وأميرٌ في الشَّامِ ، معَ أنَّهُ بِأَحَدِهِمَا ، والمعنَى أنَّ إِمَارَتَهُ عامَّةٌ لهذهِ البلادِ.

فاللهُ تَعَالَى أُلُوهِيَّتُهُ عَامَّةٌ لأهلِ السَّماواتِ والأرضِ ، وَلِمَا شاءَ اللهُ، هذا دليلُ إثباتِ أنَّهُ في السَّماءِ . (2)كَمَا وَرَدَ أَيْضًا في الأحاديثِ ، مثلَ حديثِ رُقْيَةِ المَرِيضِ ، هُوَ حديثٌ مشهورٌ ، رَوَاهُ أبو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ ، وإنْ كانَ في سَنَدِهِ مَقَالٌ ، ولكنَّ شَيْخَ الإسلامِ يُكْثِرُ الاستدلالَ بهِ مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ المَقَالَ لا يَقْدَحُ فيهِ ، وفيهِ : ((إِذَا مَرِضَ أَحَدُكُمْ ، أَوْ مَرِضَ أَخٌ لَهُ، فَلْيَقُلْ: رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ، فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ)) .
والشاهدُ قولُهُ: ((رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)) ، ولمْ يَقُلْ : (في السَّماءِ والأرضِ) ، ولمْ يَقُلْ: (مُلْكُكَ) كما يُعَبِّرُونَ عنهُ ، أوْ (فِي السَّمَاءِ سُلْطَانُكَ) كما تَقُولُهُ النُّفَاةُ ، أوْ (في السَّماءِ أَمْرُهُ) كما يَقُولُونَهُ ، والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ .
(3) ومِثْلُهُ قِصَّةُ الجَارِيَةِ: جَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ عَلَيَّ عِتْقَ رَقَبَةٍ ، وَإنَّ عِنْدِي جَارِيَةً، أَفَأُعْتِقُهَا؟ فَقَالَ : ((ائْتِ بِهَا)) ... الحديثَ.

فَلَمَّا جاءَ بها امْتَحَنَهَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هلْ هيَ مُؤْمِنَةٌ؟ لأنَّ منْ شَرْطِ العِتْقِ أنْ يَكُونَ العَتِيقُ مُؤْمِنًا ؛ لقولِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النِّساء: 92] .

فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَهَا بقولِهِ: ((أَيْنَ اللهُ؟)) فقالَتْ: في السَّماءِ.
إِمَّا أنَّ ذلكَ فِطْرَةٌ ، وإمَّا أنَّ ذلكَ عنْ عِلْمٍ تَلَقَّتْهُ وَتَعَلَّمَتْهُ، قالَ : (( مَنْ أَنَا؟ )) قالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، فقالَ : ((أَعْتِقْهَا ؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) زَكَّاهَا، وَشَهِدَ لها بالإيمانِ ؛ لَمَّا اعْتَرَفَتْ بأنَّ اللهَ في السَّماءِ ، فَدَلَّ على أنَّهُ لا يَكْمُلُ الإيمانُ إلاَّ بهذا الشَّرطِ ، وهوَ الاعتقادُ أنَّ اللهَ في السَّماءِ ، وَيُفِيدُ أنَّ مَن اعْتَقَدَ غيرَ ذلكَ فإنَّهُ ناقِصُ الإيمانِ .
ومثلُ هذا أَيْضًا قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) ، أيْ: رَبُّكُم الَّذي في السَّماءِ.
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً)) ، والأحاديثُ كثيرةٌ.


والحاصلُ أنَّ هذا دليلٌ على إثباتِ العُلُوِّ ، وَمَحْمَلُهُ كما قُلْنَا.
(4) هذا حديثٌ مَرْوِيٌّ في سُنَنِ التِّرمذيِّ في قِصَّةِ حُصَيْنٍ والدِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ الأَسَدِيِّ ، جاءَ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلَ أنْ يُسْلِمَ، ولكنَّهُ لمْ يَسْأَلْهُ عن الرَّغبةِ في الإسلامِ ، فَسَأَلَهُ: ((كَمْ إِلَهًا تَعْبُدُ؟)) قالَ: سبعةً، ثمَّ فَصَّلَ فقالَ: ستةً في الأرضِ، وواحدًا في السَّماءِ، فقالَ: ((مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَلِرَهْبَتِكَ؟)) قالَ: الَّذي في السَّماءِ ، فَدَعَاهُ إلى الإسلامِ ، وقالَ لهُ: ((إِذَا أَسْلَمْتَ فَإِنِّي سَوْفَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَتَيْنِ نَافِعَتَيْنِ)) ، فَأَسْلَمَ ، وَعَلَّمَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولَهُ : ((اللهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي)) ، وهذهِ دعوةٌ عظيمةٌ.
قولُهُ: (مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَلِرَهْبَتِكَ؟) : يَعْنِي: مَنْ تَعُدُّهُ إذا كانَتْ رَغْبَتُكَ مُلِحَّةً وشديدةً. (وَرَهْبَتِكَ) : يَعْنِي: خَوْفِكَ.

فالرَّهبةُ: الخوفُ، والرَّغبةُ: الرَّجاءُ.
يَعْنِي: مَن الَّذي تَرْجُوهُ عِنْدَمَا تَحِلُّ بكَ الأَزَماتُ أنْ يُفَرِّجَ عَنْكَ ، ومَن الَّذي تَخَافُهُ عِنْدَمَا تَفْعَلُ المَعَاصِيَ والمُحَرَّمَاتِ أنْ يَبْطِشَ بكَ ، مَن الَّذي تَعُدُّ للرَّغبةِ والرَّهبةِ ؟ فَقَالَ : الَّذي في السَّماءِ.
أَقَرَّهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلكَ ، ولوْ كانَ هذا غيرَ جائزٍ لأََنْكَرَ عليهِ ، وَلَقَالَ لهُ: هذا تَجْسِيمٌ ، أوْ تَشْبِيهٌ ، أوْ إثباتُ جِهَةٍ ، أوْ نحوُ ذلكَ.
فَإِنَّ المُبْتَدِعَةَ يُسَمُّونَ أَهْلَ السُّنَّةِ بِأَلْقَابٍ ابْتَدَعُوهَا ؛ يُسَمُّونَهُم: نَوَابِتَ ، وَيُسَمُّونَهُم : غُثَاءً ، وَمُجَسِّمَةً ، وَحَشَوِيَّةً ، وَمُشَبِّهَةً ، وَمُمَثِّلَةً ، وما أَشْبَهَ ذلكَ ، وهُمْ أَوْلَى بِتِلْكَ الأسماءِ الَّتي ابْتَدَعُوهَا وَنَبَزُوا بها أهلَ السُّنَّةِ.


وعَلَى كلِّ حالٍ ؛ فإنَّ هذا دليلٌ واضحٌ على إقرارِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أنَّ اللهَ في السَّماءِ .
(5) هذا الأثرُ في صِفَةِ هذهِ الأُمَّةِ من الآثارِ الَّتي تُنْقَلُ عن الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ، وهيَ من الأخبارِ الَّتي قَالَ فيها النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ}... الآيَةَ)) ، ولكنَّهُ مُطَابِقٌ للواقعِ ، مُطَابقٌ لوصفِ هذهِ الأمَّةِ بأنَّهُم يَسْجُدُونَ في الأرضِ ، وَإِلَهُهُم في السَّماءِ.
وَمَعْلُومٌ أنَّهم على الأرضِ وأنَّهم يَسْجُدُونَ عليها ، وأنَّهُم يَضَعُونَ جِبَاهَهُم عليها تَوَاضُعًا لِرَبِّهِم، وأنَّهُم يَعْتَقِدُونَ أنَّ رَبَّهُم فَوْقَهُم.
(6) هذا الحديثُ يُسَمَّى حديثَ الأَوْعَالِ ، ذَكَرَهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ في (الوَاسِطِيَّةِ) ، وَلَمَّا حَصَلَت المناظرةُ بَيْنَهُ وبينَ الأشاعرةِ في دِمَشْقَ ، وَأَرَادُوا أنْ يُنْكِرُوا عليهِ ، وكانَ مِمَّا اسْتَدَلَّ بهِ هذا الحديثُ الَّذي ذَكَرَ فيهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْقَ المخلوقاتِ ، ثمَّ قالَ في آخرِهِ : ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ )) .

لمَّا ذَكَرَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّماواتِ ، وَذَكَرَ البِحَارَ الَّتي فَوْقَهَا ، وَذَكَرَ الأَوْعَالَ الَّتي هيَ الملائكةُ الَّذينَ يَحْمِلُونَ العرشَ ، قالَ بعدَ ذلكَ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ)) ، يَعْنِي: فوقَ ظُهُورِ الأَوْعَالِ ، معَ ذِكْرِهِ لِعِظَمِ خَلْقِهِم ، ((وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ)) ، دليلٌ صريحٌ بِذِكْرِ الفَوْقِيَّةِ.

قالُوا: إنَّ الحديثَ في إسنادِهِ عبدُ اللهِ بنُ عُمَيْرَةَ ، وإنَّهُ لا يُعْرَفُ إلاَّ بهِ .

ولكنَّ شيخَ الإسلامِ يقولُ: ( إنَّ هذا الحديثَ قدْ رَوَاهُ كَثِيرٌ من الأَئِمَّةِ مُؤَيِّدِينَ لهُ، ومِنْ جُمْلَةِ مَنْ رَوَاهُ إمامُ الأئمَّةِ ابنُ خُزَيْمَةَ في كتابِهِ (التَّوحيدِ) ؛ المطبوعِ المشهورِ المُحَقَّقِ .
ذَكَرَ في أوَّلِ الكتابِ أنَّهُ لا يَرْوِي إلاَّ الأحاديثَ الَّتي صَحَّتْ ، وليسَ في أَسَانِيدِهَا طَعْنٌ ولا انْقِطَاعٌ ، فَهُوَ رَوَى هذا الحديثَ وَسَكَتَ عَنْهُ ، وذلكَ دليلٌ على ثُبُوتِهِ .
وفيهِ إثباتُ الفَوْقِيَّةِ ؛ أنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ العرشِ الَّذي هوَ فوقَ المخلوقاتِ ، ولا دَلاَلَةَ أَصْرَحُ منْ هذا الدَّليلِ.
((واللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) ، يَعْنِي : أنَّهُ معَ عُلُوِّهِ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَطَّلِعُ عليكم ، ولا يَخْفَى عليهِ منكمْ خَافِيَةٌ، يَعْلَمُ القَرِيبَ والبعيدَ.
وآياتُ المَعِيَّةِ وآياتُ القُرْبِ كثيرةٌ ، وقدْ ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ أنَّ ما ذُكِرَ في القرآنِ منْ عُلُوِّ اللهِ تَعَالَى وَفَوْقِيَّتِهِ لا يُنَافِي ما ذُكِرَ منْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ ، وليسَ كمثلِهِ شيءٌ ، هُوَ عَلِيٌّ في دُنُوِّهِ ، قَرِيبٌ في عُلُوِّهِ ، نَصِفُهُ بأنَّهُ هوَ الأَعْلَى ، وهوَ مَعَنَا ، وَمُطَّلِعٌ عَلَيْنَا ، يَرَى عِبَادَهُ ، وَيَعْلَمُ أَحْوَالَهُمْ ، كما في قولِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ، وفي قولِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7] .
هذهِ الأدلَّةُ وَنَحْوُهَا أَدِلَّةٌ صريحةٌ في إثباتِ العُلُوِّ ، والأدلَّةُ كَثِيرَةٌ ، وقدْ مَرَّ بِنَا آيَاتُ الاستواءِ ، وآياتُ ذِكْرِ السَّماءِ ، وَهَذَانِ نَوْعَانِ مِن الدَّليلِ .
والدَّليلُ الثَّالثُ: آياتُ العُلُوِّ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] ، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [اللَّيْل: 20] ، {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النِّساء: 34] ، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشُّورى: 51] ، ونحوِ ذلكَ.


فالعُلُوُّ ثَابِتٌ للهِ تَعَالَى بجميعِ أنواعِهِ.
وأنواعُ العلوِّ ثَلاَثَةٌ:
- عُلُوُّ القَدْرِ.


- وَعُلُوُّ القَهْرِ.

-وعُلُوُّ الذَّاتِ.

ومثلُهُ آياتُ الفَوْقِيَّةِ، مثلُ قولِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] ، {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النَّحل: 50] .

فإذا قالَ النُّفاةُ : إنَّ قولَهُ تَعَالَى : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ؛ إنَّ الفَوْقِيَّةَ هنا فَوْقِيَّةُ الغَلَبَةِ ، يَعْنِي: الغالبُ فوقَ عِبَادِهِ ، يَعْنِي: غَالِبًا لَهُم ، وَقَاهِرًا لَهُم.
وَشَبَّهُوا ذلكَ بقولِ فرعونَ: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] ، وكذلكَ قَالُوا: إِنَّ العُلُوَّ هنا عُلُوُّ الغَلَبَةِ ، وَعُلُوُّ القَهْرِ ، وقالوا: إنَّ هذهِ شَبِيهَةٌ بقولِ فرعونَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النَّازعات: 24].
الجوابُ أَوَّلاً:

هذا لا يَتَأَتَّى في آيَةِ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} ؛ فإنَّهُ صريحٌ في أنَّ الفوقيَّةَ ثَابِتَةٌ مِنْ فَوْقِهِم.

وَيُمْكِنُ أنْ يَصِحَّ في قولِهِ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ، أنَّهَا فَوْقِيَّةُ القهرِ ، وفوقيَّةُ الغَلَبَةِ ، وَفَوْقِيَّةُ القَدْرِ ، ومعَ ذلكَ يَلْزَمُ مِنْ فوقيَّةِ القهرِ فوقيَّةُ الذَّاتِ ؛ فاللهُ تَعَالَى فوقَ عِبَادِهِ بِذَاتِهِ ، كما أنَّهُ فَوْقَهُم بِقَدْرِهِ ، وفوقَهُم بِقَهْرِهِ وغَلَبَتِهِ.
وكذلكَ العَلِيُّ بذاتِهِ ، والعَلِيُّ بِقَدْرِهِ ، والعَلِيُّ بِقَهْرِهِ ، يَعْنِي: القاهرُ لهم ، والَّذي هوَ فَوْقَهُم كما يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.
ومثلُ ذلكَ آياتُ الرَّفعِ ، كقولِهِ تَعَالَى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] ونحوِهَا.
وآياتُ العُرُوجِ، قالَ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ، {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السَّجدة: 5].
وآياتُ الصُّعودِ، قالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10].
وَمِثْلُهَا ما ذَكَرَ اللهُ عنْ فرعونَ أنَّهُ أَرَادَ الصُّعودَ إلى السَّماءِ، قالَ تَعَالَى في قِصَّتِهِ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36 - 37] ، لاَ بُدَّ أنَّ مُوسَى أَخْبَرَهُ بأنَّ اللهَ في السَّماءِ ، ولوْ كانَ مُوسَى أَخْبَرَهُ بأنَّ اللهَ في كلِّ مكانٍ لَمَا تَكَلَّفَ أنْ يَبْنِيَ الصَّرحَ ؛ فهذا دليلٌ على أنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى بأنْ يُبَيِّنَ لهُ وَيُعَلِّمَهُ أنَّ الرَّبَّ تَعَالَى في السَّماءِ ؛ فلذلكَ بَنَى الصَّرحَ مُحَاوِلاً أنْ يَطَّلِعَ على إِلَهِ مُوسَى.
ومِن الأدلَّةِ على ذلكَ : إقرارُ الأشاعرةِ بالرُّؤْيَةِ ؛ رؤيَةِ المؤمنينَ لِرَبِّهِم ؛ ولذلكَ أَنْكَرَهَا المعتزلةُ وقالُوا : إنَّها تَسْتَلْزِمُ أنَّ اللهَ تَعَالَى في جِهَةٍ ، ونحنُ نَقُولُ: نَعَمْ ، إنَّ اللهَ في جِهَةِ العُلُوِّ.


وبكلِّ حالٍ ؛ هذا هوَ القولُ الواضحُ ، ومعَ ذلكَ فإنَّهم أَنْكَرُوا صفةَ العُلُوِّ معَ كثرةِ ما عَلَيْهَا من الأدلَّةِ وَوُضُوحِهَا ، حتَّى إنَّ بَعْضَ الأشاعرةِ رَدَّ على ابنِ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ) ، ومنهم السُّبْكِيُّ.

ثمَّ إنَّ زَاهِدًا الكَوْثَرِيَّ حَقَّقَ هذا الرَدَّ الَّذي عَلَى ابنِ القَيِّمِ ، وَقَدَّمَ لهُ مُقَدِّمَةً بَشِعَةً ؛ أَخَذَ يَسُبُّهُ فيها وَيَصِفُهُ بصفاتٍ تَصِلُ إلى الكُفْرِ -والعِيَاذُ باللهِ- كَفَّرَهُ ، وَفَسَّقَهُ ، وَشَتَمَهُ ، وَلَعَنَهُ ، وَدَعَا عليهِ ، وَشَنَّعَ بهِ ، وما ذاكَ إلاَّ لأِنَّهُ يَعْجَزُ الكَوْثَرِيُّ وأمثالُهُ أنْ يَتَأَوَّلُوا هذهِ الأدلَّةَ ، وأنْ يَرُدُّوهَا ، فَلَمَّا رَآهَا صَرِيحَةً ، وَرَأَى أنَّ الَّذينَ رَدُّوا عليهِ تَكَلَّفُوا في ذلكَ ، لم يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أنْ يَحْمِلَ عليهِ .


  #4  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:11 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ صالح آل الشيخ

القارئ:
(وقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] ، وقول النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((رَبَّنَا اللهَ الَّذي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ)).
وقال للجارية: ((أَيْنَ اللهُ؟ قالت: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمَّة.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لِحُصَيْنٍ:
((كَمْ إِلَهًا تَعْبُدُ ؟)).
قَالَ: (سَبْعَةً: ستّةً في الأَرْضِ، وَوَاحدًا في السَّمَاءِ).
قَالَ: ((مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟)).
قَالَ: (الَّذِي في السَّمَاءِ).
قَالَ: ((فَاتْرُكِ السِّتَّةَ وَاعْبُدِ الَّذِي في السَّمَاءِ، وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْنِ)).
فَأَسْلَمَ، وَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَنْ يَقُولَ: ((اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي)).
وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ عَلاَمَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وأَصْحَابِهِ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ: (أَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ بِالأَرْضِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ إِلَههُمْ في السَّمَاءِ).
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ في (سُنَنِهِ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ كَذَا وَكَذا...)) وَذَكَرَ الخَبَرَ إِلى قَوْلِهِ: ((وَفَوْقَ ذَلِكَ العَرْشُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ ذَلِكَ)).
فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا أَجْمَعَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللهُ عَلَى نَقْلِهِ وَقَبُولِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِرَدِّهِ، وَلاَ تأْوِيلِهِ وَلاَ تَشْبِيهِهِ وَلا تَمْثِيلِهِ.
سُئِلَ الإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللهُ فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]

كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: (الاسْتِواءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالإيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، ثُمَّ أَمَرَ بِالرَّجُلِ فَأُخْرِجَ) ).
الشيخ:
هذه الجملُ فيها إثباتٌ لصفةِ العلوِّ للهِ جلَّ وعلا.
فذكرَ استواءَ اللهِ -جلَّ وعلا- على العرشِ ، ثمّ ذكرَ صفةَ العلوِّ ؛ واستدلَّ لها بقولِهِ تعالى: {أأمنْتُمْ مَنْ في السَّماءِ} وبحديثِ حُصينٍ المعروفِ ، وبوصفِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وأصحابِهِ في الكتبِ المتقدِّمةِ.

وصفةُ العلوِّ للهِ -جلَّ وعلا- ثابتةٌ بالكتابِ ، والسّنَّةِ ، والإجماعِ ، وبدلالةِ الفطرةِ ، على ذلك، فإنَّ علوَّ اللهِ -جلَّ وعلا- مركوزٌ في الفطرِ ، وقد جاء من الأدلَّةِ في كتابِ اللهِ وفي سنَّةِ نبيِّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ما يزيدُ على ألفِ دليلٍ يَدلُّ على أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- عالٍ على خلقِهِ.
والعلوُّ ثلاثةُ أقسامٍ:
-علوُّ الذَّاتِ.
-وعلوُّ القهرِ.
-وعلوُّ القدرِ.

وأهلُ السّنَّةِ والجماعةِ : يثبتون علوَّ اللهِ -جلَّ وعلا- بأقسامِهِ الثَّلاثِ ، فهو -جلَّ وعلا- عالٍ على خلقِهِ بذاتِهِ ، كما أنَّهُ -جلَّ وعلا- عالٍ على خلقِهِ بقدرِهِ ، كما أنَّه -جلَّ وعلا- عالٍ بقهرِهِ وبجبروتِهِ .
وأمَّا المبتدعةُ:فإنَّهُم يؤوِّلون العلوَّ بِعلوِّ القهرِ والقدرِ؛ وينفون علوَّ الذَّاتِ.
وهذه المسألةُ من المسائلِ العظيمةِ الَّتي يجري فيها الامتحانُ بين أهلِ السّنّةِ والجماعةِ وبين المبتدعةِ الضُّلال.
فمن أنكر العلوَّ فهذا منْ أهلِ الضَّلالِ ومنْ أهلِ الزَّيغِ ، بل قد حكمَ طائفةٌ من أهلِ العلمِ بكفرِهِ ؛ لأنَّهُ ينفي ما دلَّ القرآنُ عليه ودلَّتْ نصوصُ السّنّةِ عليه بأكثرَ من دليلٍ.
فمسألةُ العلوِّ هي من أظهرِ مسائلِ الصِّفاتِ ، فمن أنكرَ العلوَّ فهو على شفيرِ هلكةٍ ، ومبتدعٌ بدعةً مغلَّظةً ، هذا إن لم يصلْ بهِ أمرُهُ إلى الكفرِ باللهِ جلَّ وعلا.
قولُ النَّبيِّ - عليهِ الصلاةُ والسَّلام - للجاريةِ: ((أين اللهُ؟ قالت: في السَّماءِ)) فيما رواه مسلمٌ في (الصَّحيحِ).
وكذلك قولُهُ تعـالى: {أأمنْتُم مَن في السَّماءِ} (في) -هنا- الصَّحيحُ أنَّهَا بمعنى (على) {أأمنْتُمْ من في السَّماءِ} يعني: من على السَّماءِ، فهذا فيه إثباتُ العلوِّ.
ومجيء (في) بمعنى (على) ثابتٌ معروفٌ في لغةِ العربِ ، وجاء استعمالُ ذلك في القرآنِ ، أَرأيتَ قولَ اللهِ جلَّ وعلا: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ في جذُوعِ النَّخلِ} ومعلومٌ أنَّ التَّصليبَ إنما يكون على الجذوعِ، لا أن تُجعلَ الجذوعُ ظرفاً للمصلّبين، يعني: أنَّهُم يصلَّبونَ عليها.
فقولُهُ تعـالى: {أأمنْتُمْ من في السَّماءِ} يعني: من على السَّماءِ ، وذلك أنَّ السَّماءَ تُفسَّرُ تارةً بالعلوِّ ، فإنَّ السَّماءَ اسمٌ لما علا ، فالعلوُّ يُطلَقُ عليهِ السَّماءُ ، فكلُّ ما علا يطلَقُ عليه السَّماءُ، والعلوُّ المطلَقُ يُطلَقُ عليه السَّماء.
وسمّيـت السَّماواتُ بهذا الاسمِ لعلوِّهَا، وكذلك سُمِّيَ المطرُ سماءً لأجلِ عُلوِّهِ ، قالَ الشَّاعرُ:


إذا نزلَ السَّماءُ بأرضِ قومٍرعيناه وإن كانوا غضابـاً

ويعني: بالسَّماءِ: المطرَ، وهذا لأنَّه يأتي من جهةِ العلوِّ، فالسَّماءُ بمعنى العلوِّ.
قالَ بعضُ أهلِ العلمِ: المرادُ هنا بالسَّماءِ ليس هو العلوَّ ، ولكنْ جنسُ السَّماواتِ السَّبعِ ، فيكون المعنى: من على السَّماواتِ ، وذلك أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- متَّصفٌ بأنَّه مستوٍ على عرشِهِ العظيمِ.
أخصُّ من العلوِّ الاستواءُ على العرشِ.
والعرشُ في اللغةِ : هو سريرُ المُلْكِ ، وهو مشتقٌّ من الارتفاعِ ، فسُمِّيَ العرشُ عرشاً لارتفاعِهِ ولعلوِّهِ {وهو الَّذي أنشأَ جنَّاتٍ معروشاتٍ وغيرَ معروشاتٍ} و{ممَّا يعرِشُونَ} ونحو ذلك ، هذا كلُّهُ فيه معنى الارتفاعِ والعلوِّ.
فاللهُ -جلَّ وعلا- استوى على عرشِهِ ؛ وهو سريرُ ملكِهِ -جلَّ وعلا- استواءً يليقُ بجلالِهِ وعظمتِهِ.


  #5  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:13 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post شرح الشيخ:صالح الفوزان .حفظه الله (مفرغ)


المتن:
(وقوله تعالى: { أأمنتم من في السماء } )


الشرح:
وقوله تعالى: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعملون كيف نذير } { من في السماء } من هو؟ هو الله جل وعلا ,والسماء ما المراد بها؟ المراد بها العلو ,فمن في السماء ,أي: في العلو سبحانه وتعالى ,تكون (في) هنا على معناها { في السماء } ,يعني: في العلو، على ظاهرها، أما إذا أريد بالسماءالسماء المبنية ,التي هي السبع الطباق، فيكون في السماء ,بمعني: على السماء؛ لأن (في) تأتي بمعنى (على), مثل قوله: { فسيروا في الأرض } يعني: على الأرض، { ثم لأصلبنكم في جذوع النخل } يعني: على , على جذوع النخل، فإذا أريد بالسماء العلو فإن (في) على ظاهرها ظرفية، الله جل وعلا في العلو، وإن أريد بها السماء المبنية فيكون معنى قوله: { في السماء } بمعني: على السماء، وليس معنى (في السماء)أن الله داخل السماوات؛ لأن السماوات مخلوقة ,الله جل وعلا لا يحل في شيء من مخلوقاته ,ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ,ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، بل هو بائن من خلقه سبحانه وتعالى ,فتكون (في) بمعنى (على) , إذا أريد بالسماء السماوات المبنية، أما إذا أريد بالسماء مجرد العلو فإن (في) ظرفية على ظاهرها، فيكون { في السماء }يعني: في العلو.
ففي الآية إثبات علو الله جل وعلا،{ من في السماء } هذه فيها إثبات العلو ,وأن الله في السماء , يعني : في العلو ,هذا فيه رد على الجهمية والمعطلة ,الذين يقولون: إن الله لا يوصف بأنه في العلو ,ولا داخل العالم ولا خارج العالم ,ولا يمنة ولا يسرة ,ولا ولا، وهذا معناه العدم؛ لأن الذي ليس داخل العالم ولا خارج العالم ,ولا يمنة ولا يسرة ,ولا أمام ولا كذا ولا كذا كله أسلوب نفي هذا معناه أنه معدوم، تعالى الله عما يقولون.
وكذلك رد على الحلولية ,الذين يزعمون أن الله حال في كل شيء ,تعالى الله عما يقولون.



المتن:
(وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء) )

الشرح:
كما أن الله وصف نفسه بأنه في السماء ,كذلك النبي صلى الله عليه وسلم وصف ربه بأنه في السماء ,فقال في حديث الرقية المعروف: (ربنا الله الذي في السماء ,تقدس اسمك ,أمرك في السماء والأرض ,كما رحمتك في السماء ,اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا ,أنت رب الطيبين ,أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا المرض).
الشاهد منه قوله: (الذي في السماء) وصف ربه بأنه في السماء، وفي السماء كما ذكرت لكم تفسر على وجهين ,وعلى كلا الوجهين ففيها إثبات علو الله جل وعلا فوق مخلوقاته.
وهذا الحديث وإن كان فيه ضعف ,لكن الآية التي قبله: { أأمنتم من في السماء } قلت: إن المصنف وغيره قد يذكرون أحاديث ضعيفة في باب العقائد؛لأنها تدخل تحت أدلة صحيحة تؤيد معناها , فهي من باب الاعتضاد ,ومن باب الاستئناس بها ,لا من باب الاعتماد عليها كلياً.


المتن:
(فقال للجارية: (أين الله؟) . قالت: في السماء)

الشرح:
هذا الحديث صحيح، وهو أن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه كانت له جارية ,فغضب عليها ولطمها على وجهها ثم ندم رضي الله عنه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن إعتاقها، أراد أن يعتقهاكفارة عما حصل منه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟). قالت: في السماء. قال: (من أنا؟) قالت: أنت رسول الله. قال: (أعتقها ؛ فإنها مؤمنة).
شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان لما قالت: إن الله في السماء ,وأن محمداً رسول الله، فهو أقرها على ذلك، ووصفها بالإيمان، وقد وصفت ربها بأنه في السماء، فهذا مثل ما جاء في الآية: { أأمنتم من في السماء } وفي الحديث جواز السؤال عن الله بأن يقال: أين الله؟
وهذا أشد ما يكون على المعطلة ,عندهم لا يقال: أين الله أبداً؛ لأن الله عندهم ليس في جهة ,والذي ليس في جهة لا يقال: أين هو؟ فهذا الحديث يطعن في أعينهم ,وهو أشد حديث عليهم.
ومنهم من يقول وليس اللفظ كذا اللفظ (أين) معناها (من) , فمعنى قوله: (أين الله؟) أي: من الله؟
فسبحان الله! هل ورد في لغة العرب أو في لغة العجم أن (أين) بمعنى (من)؟! لم يرد أبداً.
لكن هؤلاء كذبة , فالحديث صريح مثل الآية ,والحديث الذي قبله: (أين الله؟) قالت: في السماء.قال: (أعتقها ؛ فإنها مؤمنة) وصفها بالإيمان، فدل على أن الذي يجحد أن الله في السماء ليس بمؤمن - نسأل الله العافية -.


المتن:
(وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين: (كم إلهاً تعبد؟) قال: سبعة؛ستة في الأرض وواحداً في السماء.قال: (من لرغبتك ورهبتك؟) قال: الذي في السماء.قال: (فاترك الستة واعبد الذي في السماء وأنا أعلمك دعوتين). فأسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم ألهمني رشدي وقني شح نفسي).


الشرح:
هذا الحديث من أدلة العلو، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحصين والد عمران رضي الله تعالى عنهما: (كم تعبد؟) النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقرر التوحيد ,وأن يبطل الشرك ,وذلك بالبرهان الذي يعترف به الخصم (قال: أعبد سبعة) يعني: سبعة آلهة , (ستة في الأرض وواحداً في السماء) ,الواحد الذي في السماء هو الله سبحانه وتعالى ,قال: (فماالذي تعده لرغبتك ورهبتك؟) قال: (الذي في السماء).
فهذا يبين ما كان عليه المشركون من تخبط في العبادة ,وأنهم لما تركوا التوحيد صاروا يعبدون آلهة كثيرة، قال الله سبحانه وتعالى: { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } ,وقال سبحانه وتعالى: { ضرب الله مثلا رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون }.
وذلك مَثَلٌ للموحد والمشرك ,فالمشرك مثل العبد الذي يملكه عدة أسياد ,لا يدري من يرضي منهم؛ لأن رغباتهم مختلفة ,كل له إرادة تخالف إرادة الآخر ,فهو في حيرة من أمره ,لا يدري من يرضي منهم؛لتفاوت مطالبهم ,وهو في قلق في حياته من هؤلاء الشركاء المتشاكسين.
وأما الموحد فهو مثل الذي يملكه سيد واحد ,يعرف رغبته ويعرف مطالبه ,فهو معه في راحة ,كذلك الذي يعبد إلهاً واحدا , يكون مطمئن البال ,وأما الذي يعبد آلهة متعددة فإنه يكون قلقاً مشوشاً ,لا يدري بماذا يتقرب إلى كل واحد منهم، وهذا حصين يقول: إنه يعبد ستة في الأرض من الأصنام، ويعبد واحداً في السماء، وهو الله، ففيه إثبات أن الله في السماء حتى عند المشركين ,وهم مشركون معترفون بأن الله في السماء ,فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: االذي تعده لرغبتك ورهبتك؟) يعني: عندما ترغب شيئاً ,وتحتاج إلى شيء من الذي تطلب منه حوائجك؟ وعندما تخاف من شيء من الذي تطلب منه أن يؤمنك من هذا الخوف؟ قال: الذي في السماء.
إذن تقرر التوحيد بدليله ,في أن هذه الآلهة المتعددة لا تنفع في الرخاء ولا في الشدة، وإنما الذي ينفع في الرخاء والشدة هو الله سبحانه وتعالى ,وهذا أيضاً متقرر عند المشركين، أنهم إذا وقعوا في الشدة فإنهم يخلصون الدعاء لله عز وجل ,وينسون آلهتهم؛لأنهم يعلمون أنه لا يخلص من الشدائد والكربات إلا الله سبحانه وتعالى، فقال: (دع الستة واعبد الذي في السماء وأعلمك كلمتين) فأسلم حصين رضي الله عنه ,وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هاتين الكلمتين: (اللهم ألهمني رشدي وقني شح نفسي).
فإذا ألهم الله العبد رشده حصل له خير الدنيا والآخرة، ألهمه يعني: وفقه للرشد ,وهو الصواب والحق في كل شيء، وإذا وقاه شح نفسه فإنه أيضاً يسلم من البخل ومنع الحقوق، ويسلم من التعدي على الناس بأخذ أموالهم وسلب أموالهم بأي طريق، ويقتصر على ما أباح الله له، الذي وقي شح نفسه هذا يقتصر على الحلال ,وأيضاً تسمح نفسه بالإنفاق في سبيل الله عز وجل ما يجده مدخراً له عند الله جل وعلا ,فإذا وفق الإنسان لهاتين الخصلتين ألهمه الله رشده، ووقاه شح نفسه؛فإنه قد جمع الله له خيري الدنيا والآخرة.
الشاهد من الحديث أن فيه إثبات العلو، فإن حصينا اعترف لله جل وعلا بالعلو ,وقال: واحد في السماء.
(في السماء) يعني: في العلو، وأنه هو الذي يعده للرغبة والرهبة دون غيره، ففيه إثبات التوحيد وإفراد الله جل وعلا بالعبادة والرغبة والرهبة.


المتن:
(وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة ,أنهم يسجدون في الأرض ,ويزعمون أن إلههم في السماء).

الشرح:
هذا الأثر من الإسرائيليات ,فيه وصف هذه الأمة بأنهم يسجدون في الأرض ويزعمون أن إلههم في السماء ,ففيه أن عقيدة هذه الأمة إثبات العلو، وأن الله سبحانه وتعالى في السماء، وهذا من الإسرائيليات التي نحن بغنىً عنها من كتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ,ولكن لعل المؤلف ذكره من باب الاستئناس فقط ؛ لأنه أثبت ما تدل عليه الأدلة الصحيحة من أن الله في السماء.


المتن:
(وروى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا) وذكر الخبر إلى قوله: (وفوق ذلك العرش , والله سبحانه فوق ذلك).

الشرح:
هذا الحديث حديث العباس بن عبد المطلب وغيره من الأحاديث التي فيها ذكر المسافة التي بين السماء والأرضأنها خمسمائة عام، وذكر ما بين كل سماء وسماء ,وأن ذلك خمسمائة عام بين كل سماء وسماء، وأن كثف كل سماء خمسمائة عام، وأن فوق السماوات بحر ,ما بين أسفله وأعلاه خمسمائة عام ,وأن فوق ذلك العرش ,وأن الله سبحانه وتعالى فوق العرش.
فهذا فيه إثبات علو الله جل وعلا فوق مخلوقاته جميعاً ,وأنه سبحانه وتعالى مستو على العرش الذي هو أعلى المخلوقات وأعظم المخلوقات، ففيه إثبات العلو، وإثبات الاستواء لله عز وجل، وفيه عظمة هذه المخلوقات , وهذه الكائنات ,وبيان سعتها وما بينها من المسافات العظيمة، والشاهد منه إثبات العلو لله سبحانه وتعالى فوق مخلوقاته ,وأنه مستو على عرشه سبحانه وتعالى كما دلت على ذلك الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة.


  #6  
قديم 29 ذو القعدة 1429هـ/27-11-2008م, 09:23 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post تيسير لمعة الاعتقاد للشيخ :عبد الرحمن بن صالح المحمود .حفظه الله ( مفرغ )


ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى :
((وقوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) من هذه الآية وما بعدها من الأدلة)) .

بدأ الشيخ يتحدث عن مسألة كبرى ؛ ألا وهي مسألة إثبات العلو لله سبحانه وتعالى, وصفة العلو لله سبحانه وتعالى من القضايا الكبار في العقيدة الإسلامية التي قررها الأئمة سلفاً وخلفاً, ومن القضايا الكبار التي خاض فيها المتكلمون قديماً وحديثاً .
وإن الإنسان ليصيبه أشد الحزن حينما يرى كثيراً من الناس, بل كثيراً من المنتسبين للعلم ممن لم يدرس ويتفهم عقيدة السلف الصالح , لايقر بهذه
الحقيقة الكبرى , قضية إثبات أن الله سبحانه وتعالى في جهة العلو في السماء وأنه فوق المخلوقات , فلقد ماج المتكلمون منذ القرن الأول وإلى عصرناالحاضر في هذه القضية التي جاء الدليل عليها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
بما يزيد على أكثر من ألف دليل .
وهذه حقيقة تدل على أهمية مدارسة منهج السلف الصالح , وتربية الأمة عليه, وتنشئتهم على أصوله, ولكن عمي عن هذه الحقيقة ألوف مؤلفة ممن ينتسب إلى الإسلام , فمنذ القرون الأولى وإلى عصرنا الحاضر نشأ فئام ممن نهج منهج المتكلمين أو تأثر بهم , إذا سألته : عن علوالله , أو سألته بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم حين سأل الجارية وقال لها ( أين الله ) (1) قالت : في السماء .
أقول إذا سألته أين الله ؟ إو إذا سألته : هل تقر بأن الله سبحانه وتعالى في العلو فوق خلقه بائنٌ منهم ؟ قال لك : لا . لا يجوز أن تقول هذا, إنك إذا قلت هذا فأنت تشبه الله بخلقه, وتجسمه وتقول : إنه متحيز في مكان . هكذا يقولون. ولو سألت هؤلاء : ماذا تقولون ؟ تجدهم اختلفوا في بذلك على قولين :
بعضهم يقول : الله في كل مكان . وهذا قول لبعض المتكلمين .
وبعضهم يقول : الله لا داخل العالم ولا خارجه .
وأهل السنة والجماعة وعلى رأسهم سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم
وصحابته من بعده , والسائرون على منهاجه يقولون : إن الله في السماء, إن الله تبارك وتعالى بائن من خلقه فوق العالم , على العرش استوى استواء يليق بجلاله وعظمته .
مع العلم أن هذه القضية التي وقع فيها المخالفة من قبل المتكلمين والفلاسفة والمبتدعة- تكاد تكون من المعلوم من الدين بالضرورة ؛ لأن من قرأ كتاب الله من أوله إلى آخره , ومن اطلع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأقوال سلف الأمة - خاصة القرون المفضلة - علم علم اليقين ثبوت هذه الصفة لله ثبوتاً يقينياً لا مجال مع للشك والارتياب .
وهي من الأمور الظاهرة التي يميز فيها بين من ينهج منهج السلف الصالح , ومن ينهج نهج من خالفهم من المتكلمين فالأدلة صريحة في ذلك, ونحن هنا سنعرض لما ذكره الشيخ من أدلة, أما استقصاء الأدلة فيرجع فيها إلى الكتب التي ألفت في هذا الموضوع بالذات, ومنها : كتاب العلو لهذا الإمام الذي نشرح كتابه (( ابن قدامة )) , فإن لـه كتاباً مطبوعاً اسمه العلو , ومنها كتاب (( العلو )) أيضاً لشيخ الإسلام الإمام الذهبي رحمه الله تعالى , وقد اختصره الشيخ الإمام المحدث ناصر الدين الألباني في كتاب سماه (( مختصر العلو )) وخرج أحاديثه فجزاه الله خيراً وأثابه, وغيرها من الكتب , ولا يكاد يخلو كتاب من كتب السنة ومن كتب العقيدة السلفة إلا وفيه تقرير للأدلة الدالة على أن الله سبحانه وتعالى في العلو .
وليست أدلة العلو مقتصرة على دلائل الكتاب والسنة, بل دلّت على ذلك الفطرة , فإن الله فطر عباده جميعاً - حتى ذلك الذي يقول : إن الله في كل
مكان - فطر عباده جميعاً على انه سبحانه وتعالى في العلو, وقد كان من مواقف السلف رحمهم الله تعالى العملية الاستدلال بدليل الفطرة على تقرير هذه القضية .

فقد ذكر أن أحد أئمة السلف دخل على الإمام الجويني أحد الأشاعرة وهو يلقي درسه على المنبر يقرر فيه عقيدته الأشعرية, وما قرره إنكار أن الله في العلو, فكان هذا الشيخ يتكلم ويلقي درسه امام الناس ويقول : إن الله كان ولا مكان, وهو الآن على ما كان عليه , ويقرر نفي العلو عن الله سبحانه وتعالى, فقال له أحد الشيوخ الحاضرين واسمه الهمذاني : ياإمام - يخاطبه أمام الناس- دعنا من أقوالك, ومن حججك, ما هذه الحاجة التي يجدها كل واحد منا , ما أراد ربه قط إلا ورفع بصره إلى السماء, أجب عن هذه القضية الفطرية . قال : فنزل الإمام الجويني من المنبر وهو يقول : حيرني الهمذاني, حيرني الهمذاني, وجلس بن أصحابه يبكي بكاءً شديداً , ومعلومٌ أنه في آخر أمره رجع وأبطل تأويل الاستواء بالاستيلاء, وبين أنه يجب إثبات هذه الصفات ومنع من تأويلها على تفصيل في مذهبه رحمه الله تعالى .
لكن المهم هو كيف أن الفطرة التي فطر الله سبحانه وتعالى العباد عليها, دالة يقيناً على أن الله سبحانه وتعالى في العلو .

وقد جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية موقف, آخر شبيه بهذا الموقف حيث ذكر - رحمه الله - قصته فقال :جاءني أحد مشايخ هؤلاء ممن ينفي علو الله سبحانه وتعالى , في حاجة , وتعمدت أن أنشغل عنه قليلاً, فكلمني في هذه الحاجة وأنا متشاغل عنه . فلما انتظر قليلاً وسئم إذا بي ألمحه وهو يرفع بصره
إلى السماء وزفر زفرة وهو يقول ( يالله ) . فنظرت إليه وقلت لـه : ماذاصنعت أنت موحد, مثبت للعلو ؟ يقول : فاعتذر مني . وكان هذا الموقف سبباً في توبته ورجوعه إلى مذهب السلف, فهو في لحظة ذهول عن هذا الذي كان يقررفيه أن الله ليس في السماء, بل في كل مكان , ولا داخل العالم ولا خارجه إلى آخره , وجد نفسه فطرياً يرفع بصره إلى السماء متوسلاً مستغيثاً بالله سبحانه وتعالى فدليل الفطرة دال على العلو, وكذلك أيضاً دلّ عليه دليل العقل كما بينه الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية ابن القيم وغيرهما , وذكره شارح الطحاوية, وسنعرض إلى شيء من ذلك بعد بيان ما ذكره الشيخ من الأدلة الشرعية الدالة على صفة العلو .

وأول دليل ذكره الشيخ هو قوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5) , وهو من الأدلة الدالة على علو الله سبحانه وتعالى على خلقه, فآيات الاستواء السبعة كلها تدل على صفة العلو لله سبحانه وتعالى , كما سبقت الإشارة إليه .
الدليل الثاني : قال : (( وقوله تعالى (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء) (الملك: من الآية16), ولا يقول عاقل : إن (( في )) هنا ظرفية , وان الله داخل في السماء ؛ لأن القول بأن الله داخل في السماء يلزم منه أن السماء فوقه, وأنها محيطة به , وهذا لا يقول به عاقل .

وهذه الآية من أدلة علو الله تعالى على جميع مخلوقاته, ولها معنيان كل منهما صحيح :

أحدهما : أن السماء هنا يقصد بها العلو وليس مجرد السماء التي
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ربُّنا الله الذي في السماء تقدَّس اسمُك )) .
نشاهدها وهي سماء الدنيا أو ما فوقها , فقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء) أي أأمنتم من في العلو .
والقول بأن السماء تعني مطلق العلو مستخدم كثيراً فتقول : طار الطائر في السماء , وحلقت الطائرة في السماء , وأنت لا تقصد أنها داخل السماء , بل تقصد أنها ارتفعت في العلو , ومن ذلك إنزال الله المطر من السماء , أي العلو , إذن قول : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء) أي العلو المطلق على جميع المخلوقات .

الثاني : أن تكون ((في )) بمعنى على, فقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء) أي من على السماء , وقد جاءت في اللغة العربية بمعنى ((على )) كثيراً . يقول الله تعالى عن فرعون لما أراد أن يصلب السحرة المؤمنين قال: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (طـه: من الآية71) فقوله : (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) لم يقصد به انه سيضعهم في داخل تلك الجوع وإنما سيصلبهم على تلك الجذوع وهذا واضح ولله الحمد .

ثم قال الشيخ رحمه الله:
(( وقول النبي صلى الله عليه وسلم :(( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك )) (2) .

هذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد وغيره, لكنه حديث ضعيف ؛ لأن فيه راويا يقال لـه : زيادة الأنصاري , متكلم فيه وقد تفرد بهذا الحديث, ومن ثم فنحن حينما نتحدث عن مثل هذا الحديث نقول : هذا الحديث ضعيف .
وليس هو الدليل الوحيد على هذه المسألة حتى لا يأتي قائل ويقول : إنكم تحتجون لمذاهبكم بالأحاديث الضعيفة .

وهنا مسألة لا بد من بيانها تتعلق بهذا الأمر , فابن قدامة رحمه الله استشهد بحديث تكلم فيه العلماء وقالوا : ضعيف, فقد يدخل من هذا الباب بعض المخالفين لأهل السنة وقول : إن كثيراً من كتب السنة التي ترواى بالأسانيد يذكرون أحياناً أحاديث ضعيفة, فكيف تذكر هذه الأحاديث في باب العقائد ؟ وكيف يتسأهل في إيرادها ولاحتجاج بها ؟

والجواب عن ذلك من وجوه .
الوجه الأول : أن هؤلاء العلماء لم يثبتوا هذه الصفة أو تلك بحديث ضعيف يكون هو العمدة في الباب, وإنما يثبتونها بالأحاديث الصحيحة أولاً, فما أوردوه بعد من حديث ضعيف فإنه يتقوَّى بما ورد من الصحيح, وإن لم يتقوَّ فإن الصفة المقصودة ثابتة, لأن الدليل الصحيح دل عليها .
فليس إثبات العلو لله سبحانه وتعالى مقتصراً على هذا الحديث الذي معنا والذي استشهد به ابن قدامة رحمه الله وإنما هناك أحاديث أخرى كثيرة وصحيحة سيرد بعضها, بل والأدلة من القرآن أكثر من ذلك .
الوجه الثاني : أن العلماء إذا أوردوا تلك الأحاديث وهي ضعيفة, فإنهم يوردونها بالأسانيد وإيراداها بالأسانيد يرفع العهدة عنهم ويجعل العهدة على القارئ والمطلع
والمحذور أن يصحح حديثاً ضعيفاً أو أن يحتج به وحده مع ضعفه, لكن إذا أورده بالإسناد فقط ولم يحكم عليه فحينئذ يكون قد أعذر لنفسه , فعلى
القارئ وطالب العلم أن ينظر في هذا الإسناد وأن يسأل أهل الشأن إذا كان لا يستطيع التمييز بين الصحيح وغيره .
ولهذا نجد بعض من جمع الدواوين في الحديث كالبخاري ومسلم مثلاً أشترط أن لا يورد في كتابه إلا الصحيح , ليس في صحيح البخاري او صحيح مسلم إلاماهو صحيح .
أما ابو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي والإمام أحمد فلم يشترطوا ذلك ؛ ولذلك ففي كتبهم الصحيح والحسن والضعيف .
كذلك أيضاً كتب السنة الخرى كالسنة لابن أبي عاصم , والسنة للخلال والسنة للالكائي والعلو للذهبي وغيرها , هذه الكتب وإن وردت فيها إلى جانب الأحاديث الصحيحة روايات ضعيفة , إلا أنهم أوردوها بالأسانيد فالعهدة على القارئ .
الثالث : أن إيرادها وإن كانت من طرق أحياناً ضعيفة إلا أن فيها فائدة كبرى , وهي أن هذه الرواية قد تتقوى بغيرها وقد تقوي غيرها, فأحياناً تكون الرواية ضعيفة , لكن ترد في كتاب آخر من كتب السنة أو الحديث من طريق آخر, فإذا جمعنا ذلك الطريق إلى هذا الطريق , تبين منه أنه حديث ثابت, وقد يكون هذا الحديث روي من طريق فيه رجل ضعيف , فيتبين من الرواية الخرى أنه مروي من طريق آخر عن غير هذا الراوي الضعيف فيصح أو يرتقي إلى درجة الحديث الحسن .
وكثير من الأحاديث إذا جمعت طرقها وفحصها العالم النحرير في علم
الحديث , تبين لـه أنها تتقوى فتصل إلى درجة الحسن أو تصل أحياناً إلى درجة الصحيح .
إذن إيراد هذه الأحاديث فيه فائدة . وتكتفي بهذه الأجوبة .

فقوله : (( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك )) هذا الحديث كما أشرنا قبل قليل وإن كان ضعيفاً , إلا أنه يواكب الأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى في السماء. قوله : (( الذي في السماء )) أي العلو. (( تقدس اسمك )) أي تنزه اسمك فهو كقوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى:1) .

ثم يقول ابن قدامة : (( وقال للجارية : (( أين الله ؟)) قالت : في السماء )) قال : (( اعتقها فإنها مؤمنة ))(3) رواه مالك بن انس ومسلم وغيرهما من الأئمة))(4).

هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه ورواه الإمام مالك ورواه غيرهما وقد استقصى طرقه أحد الأخوة الفضلاء, فألف رسالة أو جزءاً حديثياً بعنوان ( أين الله ) ذكر فيه من رواه من الأئمة مع ذكر طرقه التي ورد بها . وهذا الكتاب جيد ومطبوع .

وقد تأول المتأولة هذا الحديث الصريح لأنه يخالف منهج المتكلمين في أمرين مهمين جداً :
أحدهما : أنه يجوز السؤال عن الله بأين, وان هذا السؤال لا يلزم منه لازم
باطل ؛ كالتجسيم أو المكان أو غير ذلك ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وأعمهم بالله سأل بأين, وقال للجارية (( أين الله ؟)).
الثاني : أن الجارية اشارت بيدها أو براسها وقالت : في السماء, فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : (( اعتقها فإنها مؤمنة )).
إذاً هذا يدل دلالة صريحة قطعية على أن الله سبحانه وتعالى في العلو وأنه في السماء , وانه يسأل عنه بأين ولا يلزم من ذلك لازم باطل كما يدعي هؤلاء .

والعجيب أيضاً أن المتكلمين خاضوا وتأولوا هذا الحديث الصحيح تأويلات غريبة جداً, فبعضهم ضعف رواية (( أين )) وقال : الرواية الصحيحة : ((من الله )) فيقال لـه : أين وردت كلمة من؟ ومن الذي رواها ؟ والأئمة الجهابذة يروونها بالأسايند الصحيحة بلفظ (( أين )), إن من المؤسف أن الواحد من هؤلاء يردُّ هذه الرواية الصحيحة ويرد الحديث خوفاً من أن يدل عل بطلان ما يعتقده هو ويقول به .
وبعضهم اجاب بجواب أعجب من هذا فزعم أن الرسولصلى الله عليه وسلم لم يقصد حينما قال : (( اعتقها فإنها مؤمنة )) إقرارها عل قولها بأن الله في السماء , وإنما إأراد أن يبين هل هي تعبد الأصنام أم تعبدالله, فسألها (( أين الله )) فقالت : في السماء , فدل على أنها لاتعبد هبل ولا العزى؛ لأنها لو كانت تعبد واحداً منهما لقالت : هبل او العزى في مكة أو في الطائف فما قالت : في السماء . دلَّ ذلك على أنها تعبد الله ولا تعبد الأصنام .
وهذا تأويل ضعيف جداً, ولا يمكن أن يقول عاقل : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتي بها كان يقصد هذا المعنى البعيد الذي لايدل عيه الفظ ولا السياق.
فهذه تأويلات بعيدة لايليق بمن ينتسب إلى العلم أإن يلجا إليها خوفاً من إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته لـه رسوله صلى الله عليه وسلم بل هي تمحلات اضطر إليها هؤلاء بسبب هذا الاعتقاد الباطل الذي اعتقدوه وهو توهمهم أن القول بان الله في السماء , يلزم منه أن الله محتاج إلى مكان, وأن المخلوقات تحوزه ونحو ذلك من اللوازم الباطلة التي توهموها .

ثم قال الشيخ :
((وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين - وهو والد عمران بن حصين- : (( كم إلهاً تَعْبُدُ ؟)) قال :سبعة, ستة في الأرض وواحداً في السماءِ . قال : (( ومن لرهبتك ورغبتك )) قال : الذي في السماء )).

ستة : يعني ستة اصنام من أصنام الجأهل ية التي كانت موجود في مكة وغيرها وواحداً في السماء ؛ أي الله سبحانه وتعالى فهو يعبد هؤلاء جميعاً , فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (( من لرهبتك ورغبتك )) أي من الذي تعلم أنه يقدر على تحيق الخير الذي تريده , وكشف الضر الذي تخشاه وتريد زواله؟ من هو الذي ترغب وترهب إليه؟ فقال : الذي في السماء. أي الله سبحانه وتعالى .
قال صلى الله عليه وسلم له :(( فاترك الستةَ واعبد الذي في السماء , وأنا أعلمُك
دعوتين )).
فأسلم رضي الله عنه, وعلُمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقول : (( اللهمًّ ألهمني رشدي, وقني شر نفسي)) (5) .
وهذا الحديث رواه الترمذي وغيره, وحسنه .

ووجه الدلالة منه قوله : (( وواحداً في السماء )) وهو يدل على أنه يقصد بقوله : في السماء ؛ أن الله سبحانه وتعالى في العلو ولهذا قال (( من الذي لرغبتك ورهبتك)) قال : الذي في السماء ، وهذا دلٌّ على أن حصيناَ حتى قبل إسلامه كان يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى في السماء ، ولقد كانوا في الجأهل ية, يؤمنون بذلك , وهذا معروف ومشهور عند أهل الجأهل ية, فهذا الحديث دال على إثبات العلو لله سبحانه وتعالى.

وكما أسلفنا في آية (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) فقوله في هذا الحديث : (( في السماء )) ليس معناه أن السماء تحيط به, أ و أنه داخل السماء , وإما المعنى (( في السماء )) أي في العلو , أو في السماء أي على السماء ,وكلا المعنيين صحيح.

ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى:
(( وفيما نُقل من علامات النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدّمة أنهم يسجدون بالأرضِ ، ويزعمون أن إلههم في السماءِ)).

هذا الكلام مروي عن الصحابي عديِّ بن عميرة بن فروة العبدي, وقد رواه عنه بإسناده ابن قدامة في كتابه (( العلو ))(6) وكذلـك أيضاً الذهبي في كتـاب (( العلـو )) من طريقين أحدهما عن ابن قدامة .

وقال الذهبي عنه : هذا حديث غريب (7) , وقوله في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إنهم يسجدون بالأرض . أي يسجدون على الأرض , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الخائص التي اختص بها مع أمته :(( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ))(8), ورواية ابن قدامة في العلو (( يسجدون على وجوهم)) , وكذا في العلو للذهبي , والمعنى كماسبق : يسجدون على وجوهم على الأرض .

والشاهد قوله (( ويزعمون أن إلههم في السماء )), أي في العلو أو على السماء ، وقوله : يزعمون ، الزعم يرد بمعنى الظن ، وفيما يشك فيه ، وبمعنى الكذب، وبمعنى القول أو الخبر (9) وهو المقصود هنا, والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه يقولون ويخبرون بأن إلههم في السماء ، وقد ورد في إحدى النسخ الخطية المتقدمة للعلو اللذهبي لفظ الرواية الأولى - من غير طريق ابن قدامة – [ويعلمون ] بدل [ويزعمون ] كما نبه على ذلك المحقق وفقه الله تعالى ، وهي موافقة في المعنى لما ذكرناه .

ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى :
(( وروى أبو داود في سننه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ((إن ما بين سماءٍ إلى سماءٍ مسيرة كذا وكذا وذكر الخبرَ إلى قوله : وفوق ذلك العرشُ ، والله سبحانه فوق ذلك )) )).

هذا الحديث رواه الترمذي وحسنه ورواه أيضاً ابن ماجه ، وبعض العلماء تكلموا في إسناده .
وهو أيضاً دال على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى , ففيه وصف ما بين سماء إلى سماء مسيرة كذا خمسمائة عام, والشاهد قوله : (( وفوق ذلك العرش والله سبحانه فوق ذلك )) وهذا نص صريح أن فوق السموات العرش , وأن الله سبحانه وتعالى فوق العرش , وهذا دليل على إثبات علو الله تعالى على جميع المخلوقات .





_____________________________

(1) اخرجه مسلم رقم (537) كتاب المساجد
(2) أخرجه أبو داود رقم (3892) كتاب الطب الحاكم في المستدرك (1\344) وقال الحاكم : قد احتج الشيخان بجميع رواة هذا الحديث غير زيادة بن محمد وهو شيخ من أهل مصر قليل الحديث وقال الذهبي : قال الخاري وغيره : منكر الحديث وقال الحافظ في التقريب: منكر الحديث
(3) أخرجه مسلم رقم (537) كتاب المساجد
(4) كأبي داود رقم (930) ككتاب الصلاة والنسائي رقم (1218) كتاب السهو
(5) اخرجه الترمذي رقم (3483) كتاب الدعوات واحمد في المسند ( 4\444) وقال الترمذي غريب ونقل النووي في الأذكار عن الرمذي تحسينه وحسنه الحافظ ابن حجر
(6) العلو لابن قدامة رقم 21 ت بد=ر البدر
(7) العلو للذهبي رقم (35,53) ت د\ عبدالله البراك
(8) أخرجه البخاري رقم (353) كتاب التيمم مسلم رقم (521,522,523) كتاب المساجد
(9) انظر المصباح المنير مادة زعغم







  #7  
قديم 5 محرم 1430هـ/1-01-2009م, 11:24 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
افتراضي شرح لمعة الاعتقاد,الشيخ الغفيص


من صفات الله تعالى وأقوال السلف الثابتة بالأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة:

صفة الاستواء، وصفة العلو، وهما صفتان حقيقيتان لائقتان بالله تعالى، متضمنتان للكمال المطلق، وليس فيهما نقص بوجه من الوجوه، وقد أثبت أهل السنة هاتين الصفتين لله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع، فبعضهم نفوها، وبعضهم أولوها، وبعضهم فوض معانيها، والحق هو ما عليه أهل السنة.


إثبات صفة الاستواء لله تعالى:

قال: [ (ومن ذلك قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]، وقوله تعالى: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) [الملك:16] ]

قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]ذكر الله تعالى استواءه على عرشه في سبعة مواضع في كتابه، والاستواء على العرش هو من صفاته سبحانه وتعالى الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، وقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]
المراد بالاستواء العلو؛ وهو علو مضاف في هذا المقام، وإن كان قد ورد ذكر العلو في مقام آخر على الإطلاق، كقوله تعالى: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) [الملك:16]. من هنا فإن علو الرب سبحانه وتعالى صفة أزلية، لم يزل سبحانه وتعالى علياً، وأما الاستواء على العرش المذكور في هذه الآيات، فهو بعد خلق العرش، والعرش مخلوق حادث بعد أن لم يكن، فالمقصود أن قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]أي: علا، وهذا هو المعنى الصواب المعروف عند جمهور السلف.

وثمة بعض المعاني التي فسر بها الاستواء على العرش، فمنهم من قال: صعد، وهذا ليس بجيد في التفسير، ومنهم من قال: استقر، وهذا أبعد منه، وإن كان بعض أهل العلم من بعض أئمة اللغة كمعمر بن المثنى يذهب إلى مثل هذا؛ لكنه ليس بفاضل؛ لأنه تعبير فيه توسع في حق الله سبحانه وتعالى ، وأشد بعداً من هذين (صعد واستقر) ما قاله بعض متأخري أهل السنة أنه الجلوس على العرش! وهذا غلط، ولا يجوز أن يذكر في حقه سبحانه وتعالى ، بل يقال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5]أي: علا على العرش. ......

إثبات صفة العلو لله تعالى :

قال الموفق رحمه الله: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك). وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: أعتقها فإنها مؤمنة)رواه مالك بن أنس و مسلم وغيرهما من الأئمة].

أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله...)فهو على جهة الدعاء، وقد رواه أبو داود ، والحديث مُتَكَلَّم فيه؛ لكن من أهل العلم من قوَّاه، وهذا الحديث والآيتان مِن قبلِه وما ذكره بعده كحديث معاوية بن الحكم ، كلها تدل على إثبات علو الرب سبحانه. وقد قال جملة من علماء السنة كبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد كابن القيم و شيخ الإسلام ابن تيمية : إن دلائل العلو في القرآن أكثر من ألف دليل. وهناك طريقة عند علماء السنة في الاستدلال على الصفات، وهي طريقة التنوع، فالعلو عندهم يثبت بجملة من الأدلة، منها: ذكره سبحانه وتعالى أنه في السماء، كقوله تعالى:( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) [الملك:16]. ذكره سبحانه وتعالى لفوقيته، في مثل قوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل:50]. ذكره سبحانه وتعالى لعروج الأشياء إليه، وذكره لصعود الأشياء إليه: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) [المعارج:4]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر:10]. ذكره سبحانه وتعالى للنزول كنزول الملائكة من عنده، وإنزاله للكتب، والأمر، والرحمة وغيرها، كقوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) [القدر:4]، (الر ، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ) [إبراهيم:1]. فجملة هذه الأدلة بتنوعها تدل دلالة قاطعة مطردة على إثبات العلو لله تعالى، وعلوه سبحانه وتعالى من أخص صفاته، وقد أجمع عليه السلف وكثير من الخلف، حتى من انتسب إلى بعض الطرق الكلامية كأبي الحسن الأشعري ،وكعبد الله بن سعيد بن كلاب ، فإن هذين وأمثالهما من المقاربين للسنة من المتكلمين يثبتون العلو، وأما نفي الأشاعرة المتأخرين للعلو فإن هذا مذهب دخل عليهم من المعتزلة.
وقد صنف ابن كلاب كتابه: الصفات، ورد فيه على المعتزلة في مسألة العلو بالعقل والنقل. ومسألة العلو حكى الإجماع عليها جملة من الأئمة، حتى إن شيخ الإسلام ذكر في درء التعارض هذا الإجماع عن بضعة عشر إماماً من كبار أئمة أهل السنة والجماعة، فهي مسألة متواترة صريحة في كلام الله ورسوله، فضلاً عن كون علوه سبحانه وتعالى يثبت بالعقل، ويثبت بدليل الفطرة، فإن الله فطر الخلق على أنه سبحانه وتعالى في السماء. ويراد بكونه سبحانه وتعالى (في السماء) أي: أنه على السماء، وأما ما قد يتبادر إلى ذهن بعض الجهال أنه في سماء خلقها، كما تقول: إن الملائكة في السماء، فهذا مما ينزه عنه الرب سبحانه وتعالى ، فإنه قد قال: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) [البقرة:255]، وقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) [آل عمران:133]. إذاً قوله:( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) [الملك:16]أي: على السماء، أو يراد بالسماء العلو، أي: من في العلو، وليس وسط السماء.
أما قصة حديث الجارية، وهو حديث معاوية بن الحكم السلمي فقد رواه مسلم في صحيحه، في سياق فيه طول، وفي آخره:
قال معاوية : (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَل أُحُد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسَف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: "ائتني بها" ، قال: فأتيته بها، فقال لها: "أين الله؟" قالت: في السماء، قال: "من أنا؟" قالت: أنت رسول الله، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" ).
وهذا الدليل صريح في أنه سبحانه وتعالى في السماء، وصريح في جواز أن يسأل عنه سبحانه وتعالى بـ(أين)، وهذا ما منعه أهل البدع، قالوا: ولا يجوز أن يسأل عن الرب بـ(أين)، فيرد عليهم: إن أعلم الخلق به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، قال للجارية وهي على قدر يسير من العلم: (أين الله؟ قالت: في السماء). ......

إقرار بعض المشركين بصفة العلو والرد على المعطلة :

قال الموفق رحمه الله: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين : ( "كم إلهاً تعبد؟" قال: سبعة: ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: "من لرغبتك ورهبتك؟" قال: الذي في السماء، قال: "فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين"، فأسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي" ) ] .

هذا الحديث داخل في أدلة إثبات العلو لله عز وجل ، وفيه إشارة إلى أن المشركين كانوا في الجملة يقرون بأصول الصفات، وهذا من دلائل أهل السنة في ردهم على المعطلة، فالمعطلة تقول: إن إثبات الصفات على ظاهرها مخالف لدليل العقل.
قال علماء السنة: إن القرآن نزل وعارضه المشركون بالتكذيب، وقالوا عن صاحبه الذي نزل عليه: إنه ساحر، وقالوا: (إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر:25]، إلى غير ذلك.
فالقصد أن آيات الصفات لو كان فيها ما يعارض دليل العقل لاعترض به المشركون. فإنه لم ينقل عن واحد من المشركين، لا من العرب ولا من اليهود ولا من النصارى؛ الذين بلغهم القرآن، أنه اعترض بدليل عقلي على صفة من الصفات، مع أنهم حاولوا الطعن في بعض أخبار القرآن من جهة العقل، كقول الله تعالى عن كافرهم: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس:78]، فهذا اعتراض بالعقل على مسألة البعث، ولما ذكر سبحانه البعث قال: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) [التغابن:7]؛ لكنه لم يذكر أنهم كذبوا بأسمائه وصفاته، فهذا يدل على أن المشركين لم يقع منهم الإنكار لشيء من أسماء الرب وصفاته في الجملة.
فإن قال قائل: فقد أنكر سهيل بن عمرو اسم الرحمن في صلح الحديبية، كما جاء في الصحيح لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : ( "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم" قال سهيل بن عمرو : أما الرحمن فلا أدري ما هو، ولكن اكتب (باسمك اللهم) ).

فهذا ليس من باب المعارضة العقلية، بل من باب: أن سهيل بن عمرو ومن في دائرته من المشركين ما كانوا يعرفون أن هذا الاسم مضاف لله سبحانه وتعالى. فهذا نوع من الجهل وليس من المعارضة العقلية، والدليل على ذلك: أن المشركين كان منهم من يسمى بعبد الرحمن، كعبد الرحمن الفزاري ، الذي قتله أبو قتادة الأنصاري في غزوة ذي قرد - كما في الصحيح- وكان امراً مشركاً، مات على الشرك. فالقصد أن قول سهيل بن عمرو : أما الرحمن فلا أدري ما هو، هو كما قال لا يدري ما هو، أي: أنه جاهل به وليس معارضاً له بالعقل، ولهذا لم ينكر سهيل أن الله رحيم؛ لأنهم كانوا يقرون بذلك، ولذلك قال عنترة : يا عبل أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها وفي الجملة فباب الربوبية قد أقر به المشركون.
وتعلم أن الصفات والأسماء هي من أخص مقامات الربوبية، ولكن القول: إن مشركي العرب كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ليس على إطلاقه، بل الصحيح أنهم ليسوا محققين له، وإنما هم مقرون به في الجملة، وإلا فحال الجاهليين العرب بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته؛ أنهم على قدرٍ من الغلط في توحيد الربوبية. ومن ذلك مثلاً: الاستقسام بالأزلام، أي: إمضاء الأمر أو عدم إمضائه، على ما يفعلونه في أقداحهم أو أزلامهم، وهذا طعن في توحيد الربوبية. ومن ذلك أيضاً: الطيرة، فهي لا تحقق توحيد الربوبية، إلى غير ذلك. وإن كان هذا في الجملة: من عوائد أهل الجاهلية وإلا فهم غالباً لا يصدقون بمسألة الأزلام. ولهذا روى البخاري في صحيحه عن عكرمة عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام قد وضعوها داخل الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتلهم الله! أما لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط).
ومما يروى عن امرئ القيس الشاعر الجاهلي المعروف، أن بني أسد عندما قتلت أباه ذهب يستقسم بالأزلام: هل يأخذ الثأر لأبيه أو لا يأخذ؟ فاستقسم الأولى، فخرج أنه لا يفعل، ثم الثانية، فخرج لا يفعل أيضاً، والثالثة كذلك، وكان عند العرب: أنه إذا ظهر المنع في الأول والثاني والثالث، ينقطع، فلما انتهت المحاولة الثالثة، وخرج أنه لا يفعل، قام وكسّر الأزلام، وقال: لو أنت قتل أبوك ما فعلت هذا. فكان فعلهم هذا يدل على عوائدهم، أكثر مما يدل على حقائق ما في نفوسهم، ومع ذلك فهو شرك.

أدلة إثبات العلو في الكتب المتقدمة:
قال الموفق رحمه الله تعالى: [وفيما نقل من علامات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الكتب المتقدمة: إنهم يسجدون بالأرض، ويزعمون أن إلههم في السماء] .

هذه إشارة من المصنف إلى أن توحيد الأسماء والصفات متواتر في سائر الكتب السماوية، لأن أصول الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحدة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- عن أبي هريرة : (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات) والمقصود بأبناء العلات هم الإخوة من أمهات شتى وأب واحد، فأراد باتفاق أبيهم الاتفاق في أصل الدين، وأراد باختلاف أمهاتهم اختلاف شرائعهم. ولهذا فإن عقيدة الأنبياء واحدة وتوحيدهم واحد، ولا يمنع هذا أن يكون ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم فيه تفصيل لهذه العقيدة بما لم يقع مثله من التفصيل في غيره من الكتب. فلا شك أن الدلائل والتفاصيل المذكورة في القرآن، أكثر من التفاصيل المذكورة في الكتب السماوية الأخرى، وإن كانت كلام الله سبحانه وتعالى.


  #8  
قديم 5 محرم 1430هـ/1-01-2009م, 11:25 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Post العناصر

العناصر

- إثبات صفة العلو لله تعالى .
- دلائل إثبات صفة العلو لله تعالى .
- منهج أهل السنة في إثبات صفة العلو لله تعالى .
- أقسام العلو .
- الرد على من أنكر صفة العلو لله تعالى .
- معنى كون الله تعالى في السماء .
- مسألة العلو من المسائل العظيمة التي خالف فيها أهل البدع .
- دلالة قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء)، وحديث الجارية على صفة العلو .
- شرح حديث الرقية .
- شرح حديث الجارية .
- شرح حديث الحصين بن منذر .
- شرح الخبر الإسرائيلي .
- شرح حديث الأوعال .

  #9  
قديم 5 محرم 1430هـ/1-01-2009م, 11:27 PM
طيبة طيبة غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,286
Question الأسئلة

الأسئلة
س1: اذكر الأدلة على إثبات صفة العلو لله تعالى .
س2: اذكر بإيجاز أنواع الأدلة الدالة على إثبات صفة العلو لله تعالى .
س3: اذكر أقسام العلو .
س4: ما هو قول الأشاعرة في مسألة العلو ؟ وكيف ترد عليهم ؟
س5: بين معنى العرش.
س6: هل الاستواء صفة ذاتية أم فعلية ؟
س7: ما هو حديث الأوعال؟ مع بيان وجه دلالته على إثبات صفة العلو لله تعالى .
س8: اذكر تفسيراً مختصراً لقول الله تعالى :{أأمنتم من في السماء} مع بيان وجه استدلال المؤلف به.
س9: من سمات أهل البدع نبزهم أهل السنة بألقاب مستبشعة ، اذكر بعض أمثلة ذلك ، وما الذي ينبغي للمسلم المستمسك بالسنة إذا واجه مثل هذا النبز ؟
س10: اذكر دليلاً على أن أهل الجاهلية يقرون بعلو الله تعالى على خلقه .

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
العلو, صفة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:05 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir