رسالة استنباطية في قوله تعالى ﴿وَأَنّا لَمّا سَمِعنَا الهُدى آمَنّا بِهِ فَمَن يُؤمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخسًا وَلا رَهَقًا﴾
الحمدلله رافع العماد وهادي العباد إلى سبيل الرشاد، فإن من أعظم ما تفضّل به الرب علينا جل وعلا أن نزّل علينا القرآن نورًا ورحمة وهداية وشفاءً وبصيرة وحكماً ودليلًا للحق وبه يفرح المؤمنون، كما قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدورِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنينَ قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذلِكَ فَليَفرَحوا هُوَ خَيرٌ مِمّا يَجمَعونَ﴾ [يونس: 57-58].
فإن الله تعالى قال في حديث الجنّ عن أنفسهم مما كان من قولهم: ﴿وَأَنّا مِنَّا الصّالِحونَ وَمِنّا دونَ ذلِكَ كُنّا طَرائِقَ قِدَدًا وَأَنّا ظَنَنّا أَن لَن نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرضِ وَلَن نُعجِزَهُ هَرَبًا﴾ وأيضًا قالوا: ﴿وَأَنّا لَمّا سَمِعنَا الهُدى آمَنّا بِهِ فَمَن يُؤمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخسًا وَلا رَهَقًا﴾ فهم يصفون حالهم عند سماعهم القرآن وما يشعرون به داخل نفوسهم وما يحدث فيهم من حالة شعورية إيمانية تقربهم من الله عزوجل.
وقد ورد في هذه الآية الجليلة وحكاية الجن عن أنفسهم عدة مسائل وفوائد، ومما وقفت عليه:
منها: بعثة الله عزوجل للنبي المصطفى ﷺ للناس كافة إنسًا وجنًا، ويدل عليه أيضا قوله تعالى ﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ﴾ [الذاريات: 56]
ومنها: وصف القرآن العظيم بالهدى كما قال الجن: ﴿وَأَنّا لَمّا سَمِعنَا الهُدى﴾، وقد ورد هذا الوصف في عدة مواضع من القرآن منها: ﴿هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدًى وَمَوعِظَةٌ لِلمُتَّقينَ﴾ [آل عمران: 138]، وأيضا قوله تعالى: ﴿هذا بَصائِرُ مِن رَبِّكُم وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾ [الأعراف: 203] وغيرها من المواضع التي وصف فيها بالهدى.
ومنها: سماع القرآن للكفار سبب في هدايتهم ودخولهم الإسلام بمجرد سماع الحق، وقد وردت وقائع في مثل هذا المعنى في عهد النبي ﷺ بعد سماع الآيات يشهر إسلامه كعمر بن الخطاب وغيره من الصحابة، وقد ورد في القرآن في مثل هذا المعنى في معرض الحديث عن الكفار من الديانات الأخرى قوله تعالى: ﴿وَإِذا سَمِعوا ما أُنزِلَ إِلَى الرَّسولِ تَرى أَعيُنَهُم تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ مِمّا عَرَفوا مِنَ الحَقِّ يَقولونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكتُبنا مَعَ الشّاهِدينَ﴾ [المائدة: 83]
ومنها: تكليف الجن بمسائل الدين ومطالبتهم بها وهم محاسبون عليها في الدنيا والآخرة، وقد ذكره ابن قيم.
ومنها: انتفاء الخوف عن المؤمن بالله عزوجل، كما قال عزوجل: ﴿إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ﴾ [البقرة: 277]
ومنها: تأثير القرآن في القلوب الحيّة ويزيد من إيمانها ويربطها بربها عزوجل.
ومنها: معنى "البخس" : الغبن والنقص في الحسنات، فالمؤمن لا يخاف أن يبخس في الجزاء على إيمانه.
ومنها: معنى "الرهق": الزيادة والإثم الذي يحمله من سيئات غيره.
ومنها: الإيمان سبب داع لحصول كل خير وانتفاء كل شر، كما ذكره السعدي.
ومنها: أن القرآن يورث اليقين والتصديق، فهم لما سمعوا القرآن آمنوا بالله عزوجل مباشرة بلا فواصل في الآية.
ومنها: الإيمان بوجود الجن وأنهم عالم غيبي وأنهم خلقٌ يتكلمون ويتحدثون ويعقلون ويسمعون.