دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > العقيدة الواسطية

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #8  
قديم 29 ذو الحجة 1429هـ/27-12-2008م, 01:20 PM
فاطمة فاطمة غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 758
افتراضي التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد

( فَصْلٌ: ثُمَّ مِنْ طَريقةِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ اتِّباعُ آثارِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.( 223)
باطِناً وظاهِراً، واتِّباعُ سَبِيلِ السَّابِقينَ الأوَّلِينَ مِنَ المُهَاجِرينَ والأنْصارِ.( 224)
واتِّباعُ وَصِيَّةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيثُ قال: (( عَلَيْكُمْ بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدي، تَمَسَّكُوا بِها، وَعَضُّوا عَلَيها بِالنَّواجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ الأُمُورِ؛ فإِنَّ كُلَّ [مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ ])).( 225)
ويَعْلَمونَ أَنَّ أَصْدَقَ الكَلامِ كَلامُ اللهِ، وخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.( 226)
ويُؤثِرونَ كَلامَ اللهِ على غَيْرِهِ مِن كَلامِ أَصنافِ النَّاسِ.( 227)
ويُقَدِّمونَ هَدْيَ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ، ولهذا سُمُّوا أَهْلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وسُمُّوا أَهْلَ الجَماعَةِ؛ لأنَّ الجَماعَةَ هِيَ [ الإِجماعُ ]، وضِدُّها الفُرْقَةُ، وإِنْ كَانَ لفظُ الجَماعَةِ قَدْ صارَ اسماً لَنفْسِ القَوْمِ المُجْتَمِعينَ.( 228)



(223) فَصْلٌ، قولُه: (طريقةِ) أي: سبيلٌ ومنهاجٌ.

قولُه: (السُّنَّةِ) لغةً: الطَّريقةُ.
وشَرْعا: هي أقوالُ النَّبيِّ وأفعالُه وتقريراتُه، وقد تقدَّمَ، وهَذَا معناها باعتبارِ العُرفِ الخاصِّ،
وأمَّا معناها باعتبارِ العُرفِ العامِّ فهُوَ ما نُقِلَ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أو عن السَّلَفِ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وغيرِهم مِن الأئمَّةِ المُقتَدى بهم،
قال ابنُ رجبٍ: وكثيرٌ مِن المتأخِّرينَ يَخصُّون السُّنَّةَ بما يَتعلَّقُ بالاعتقادِ؛ لأنَّها أصلُ الدِّينِ، والمُخالِفُ فيها على خَطرٍ عظيمٍ، انتهى،
وقد اتَّفقَ مَن يُعتدُّ بِهِ مِن أهلِ العِلمِ على أَنَّ السُّنَّةَ المُطَهَّرةَ مُستقِلَّةٌ بتشريعِ الأحكامِ، وأنَّها كالقرآنِ في التَّحليلِ والتَّحريمِ وغيرِ ذَلِكَ، وقد ثَبَتَ عنه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنَّه قال: ((أَلاَ وَإِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ))،
وما رُوِي مِن الأمرِ بعَرْضِ الأحاديثِ على القرآنِ، فقال يحيى بنُ مَعينٍ: إنَّه موضوعٌ وَضَعَتْهُ الزَّنادِقةُ، وهُوَ مخالِفٌ لقولِه تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} الآيةَ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هَذَا الحديثِ بأكملَ مِن هَذَا فارجِعْ إليه.
قولُه: (اتِّباعُ آثارِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) أي: سُلوكُ طريقِهِ والسَّيْرُ على مِنهاجِهِ، قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الاتِّباعُ سُلوكُ طَريقِ المتَّبَعِ والإتيانُ بمِثلِ ما أتى به. انتهى.
قال اللَّهُ تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسول فَخُذُوهُ}،

وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مَّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}،
وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
وعن أنسٍ أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَ جِئْتُ بِهِ))، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الآياتِ والأحاديثِ التي فيها الأمرُ باتِّباعِ الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- والوعيدِ الشَّديدِ في الإعراضِ عن هَدْيِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-،
فاتِّباعُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وامتثالُ أمْرِه مِن أعظمِ الفُروضِ، بل كُلُّ قولٍ أو عَملٍ يُخالِفُ ما عليه النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصحابُه فهُوَ باطلٌ مردودٌ على فاعلِه كائِناً مَن كان،
كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).
فاتِّباعُ الرَّسولِ شَرطٌ لصحَّةِ العملِ، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}،
وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال الفُضيلُ بنُ عياضٍ: أي: أَخْلُصَهُ وأَصْوَبُه، قيل: يا أبا عليٍّ ما أخْلَصُه وأصوبُه؟ قال: إنَّ العَملَ إذا كان خَالِصاً ولم يكُنْ صَواباً لم يُقبلْ، وإذا كان صَواباً ولم يكُنْ خالِصاً لم يُقْبلْ، حتى يكونَ خالِصاً صواباً، والخالِصُ أنْ يكونَ لِلَّهِ، والصَّوابُ أنْ يكونَ على سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-،
وقد اتَّفقَ المسلمونَ على أنَّ حُبَّ الرَّسولِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فرضٌ بل لا يَتِمُّ الإيمانُ والإسلامُ إلا بكونِه أحبَّ إلى العبدِ مِن نَفْسِه فَضْلا عن غيرِه، واتَّفقوا على أنَّ حبَّه لا يتحقَّقُ إلاَّ باتِّباعِ آثارِه، والتَّسليمِ لما جاء به، والعملِ على سُنَّتِه وتَرْكِ ما خَالَفَ قوْلَه، كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ …} الآيةَ،
فمَن زعَمَ أنَّ أدلَّةَ القرآنِ والسُّنَّةِ لا تُفيدُ اليقينَ، وأنَّ أحاديثَ الأسماءِ والصِّفاتِ أخبارُ آحادٍ لا تُفيدُ العِلمَ فهُوَ بعيدٌ عن هَذَا التَّحكيمِ،
فيَجِبُ اعتقادُ أنَّه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- الواسِطةُ في التَّبليغِ عن اللَّهِ شَرْعَهُ ودِينَهُ، فاللَّهُ –سُبْحَانَهُ- المشرِّعُ ورسولُه المبلِّغُ، فالحلالُ ما أحلَّه اللَّهُ، والحرامُ ما حرَّمَه، والدِّيُن ما شَرَعَه، فاتِّخاذُ الواسطةِ ينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
الأوَّلُ: اتِّخاذُ واسطةٍ بينكَ‌ وبين اللَّهِ على أنَّها تَنفعُ وتضُرُّ، فاتِّخاذُ هَذِهِ الواسطةِ شِرْكٌ وكُفرٌ بالإجماعِ، كما ذكر ذَلِكَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ،
الثَّاني: اتِّخاذُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ واسطةً في التَّبليغِ عن اللَّهِ شَرْعَهُ ودِينَهُ، فإسقاطُ هَذِهِ الواسطةِ كُفرٌ باللَّهِ، فمَنْ زعم أنَّه يَأخُذُ عن اللَّهِ بدُونِ واسطةِ رُسلِه وأنبيائِه فهُوَ كافرٌ، أو زعم أنَّه يَصِلُ إلى حدٍّ تَسقُطُ عنه التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ، أو أنَّه يَسَعُه الخروجُ عن شريعةِ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كما وَسِعَ الخَضِرَ الخروجُ عن شريعةِ موسى، أو أنَّه مُحتاجٌ إلى مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في عِلمِ الظَّاهرِ دُونَ عِلمِ الباطنِ، أو في عِلمِ الشَّريعةِ دُونَ عِلمِ الحقيقةِ، أو أنَّ هَدْيَ غيرِ مُحَمَّدٍ أحْسنُ مَن هَدْيهِ فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ.
قولُه: (آثارِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) أي: ما أُثِرَ عنه ورُوِي عنه مِن قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، وليس المرادُ آثارُه الحسِّيَّةُ كمواضعِ نومِهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وجُلوسِه وقيامِه ونحوِ ذَلِكَ، فلا ينبغي تَتَبُّعُ ذَلِكَ؛ لأنَّه وسيلةٌ إلى الفِتنةِ بتِلكَ المواضعِ، وربما آلَ إلى جَعلِها مَعَابِدَ،

ولذَلِكَ قَطعَ عمرُ بنُ الخطابِ الشَّجرَةَ التي بايعَ النَّبيُّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- تحتها الصَّحابةَ لمَّا بَلَغَه أنَّ أُناسًا يَذْهَبون إلى شجرةٍ فيُصلُّون تحتَها، ونَهَى عن اتِّباعِ آثارِه الحسِّيَّةِ، وقال: إنَّما هَلَكَ مَن كان قَبلَكُم باتِّباعِ آثَارِ أنبيائِهم،
وأمَّا ما كان يَفعلُه ابنُ عمرَ مِن تَتبُّعِ آثارِ رسولِ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- حتى إنَّه بَالَ في الموضِعِ الذي بالَ فيه رسولُ اللَّهِ، فقد خَالَفُه أبوه وجمهورُ الصَّحابةِ، والصَّوابُ معهم حَسْما لموادِّ الشِّرْكِ، وسَداًّ للذَّرائِعِ التي تُوصِلُ إليه، والإسلامُ مَبْنِيٌّ على أصْلَيْنِ: أنْ لا نَعبُدَ إلاَّ اللَّهَ، وأنْ نعبدَه بما شَرَعَ لا نَعبدُه بالبِدَعِ، وقد تقدَّمَ ذِكرُ ذَلِكَ.

(224)
قوله: (باطِناً وظاهرًا) إشارةٌ إلى أنَّه لا بدَّ مِن الإخلاصِ في العَملِ، وأنَّ كُلَّ عملٍ لا يُرادُ بهِ وجْهُ اللَّهِ فليس لعامِلِه فيه ثوابٌ، كما أنَّ كُلَّ عَملٍ لا يكونُ عليهِ أمرُ اللَّهِ ورسولِه فهو مردودٌ على عامِلِه.
قوله: (واتِّباعُ سبيلِ السَّابِقينَ) إلخ أي: سلوكُ طريقِهم والسَّيْرُ على منهاجِهم، والسَّبيلُ في الأصلِ: الطَّريقُ،

فمِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ اتِّباعُ سبيلِ السَّابِقينَ، وذلك لما خَصَّهُم اللَّهُ بِهِ مِن العِلمِ والفَضلِ والفِقهِ عن اللَّهِ ورسولِه، فقد شَاهدوا التَّنـزيلَ وسَمِعوا التَّأويلَ وتَلَقَّوْا عن الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بلا واسطةِ أحدٍ، فهم أحقُّ بإصابةِ الصَّوابِ وأَجْدَرُ باتِّباعِ السُّنَّةِ والكتابِ.
قال ابنُ القيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في أعلامِ الموقِّعين: ومِن المُحالِ أنْ يكونَ الصَّوابُ في غيرِ طريقِ مَن سَبَقَ إلى كُلِّ خيرٍ على الإطلاقِ، انتهى،

قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وَذَلِكَ مُتَناوِلٌ لكُلِّ مَن اتَّبعَهم إلى يومِ القيامةِ، كما ذَكرَ ذَلِكَ أهلُ العِلمِ، قال الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: للصَّحابةِ سُنَّةُ يُعملُ عليها ويُرجَعُ إليها، ومِن الدَّليلِ على ذَلِكَ أمورٌ، ثم ساقَها،
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: مَن كان منكم مُسْتناً فَلْيَسْتَنَّ بمَن قد ماتَ فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفتنةُ، أولئكَ أصحابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الأمَّةِ قُلوباً وأَعْمقُها عِلْماً وأقَلُّها تَكلُّفا، قومٌ اختارَهُم اللَّهُ لصُحبةِ نبِّيِه وإقامةِ دِينِهِ، فاعْرِفُوا لهم حقَّهم وتَمسَّكُوا بِهَدْيِهِم، فإنَّهم كانوا على الهُدى المستقيمِ، انتهى.
فخيرُ قلوبِ العِبادِ أحقُّ الخَلقِ بإصابةِ الصَّوابِ، فكُلُّ خيرٍ وإصابةٍ ومعارِفَ ومكارِمَ إنَّما عُرِفَت فَوَصَلتْ إلينا منهم -رضي اللَّهُ عنهم-.
وقال الإمامُ أحمدُ: أصولُ السُّنَّةِ عندنا التَّمَسُكُ بما كان عليه أصحابُ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ولهَذَا كانَ اعتقادُ الفِرقةِ النَّاجيةِ هُوَ ما كان عليه رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كما شَهِدَ لهم بِذَلِكَ في قولِه: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)).

وأكثرُ العلماءِ على أنَّ أقوالَ الصَّحابةِ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّباعُها، ويَحرُمُ الخُروجُ عليها حَيْثُ لا نَصَّ نَبويٌّ، وقد غَلِطَ مَن زَعَم أنَّ طريقةَ السَّلَفِ أَسْلَمُ وطَريقةُ الخلَفِ أَعْلمُ وأَحْكمُ، فإنَّ هَذَا القائلَ لم يَعْرِفْ قَدرَ السَّلَفِ، بل ولا عَرفَ اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين حقَّ المعرفةِ،
كَيْفَ يكونُ هؤلاء الْمَحْجُوبونَ الْمَنْقُوصونَ الحَيَارى أَعْلَمَ باللَّهِ وأسمائِه وصِفاتِه وأحكامِه مِن السَّابِقينَ الأوَّلين والأنصارِ، والذين اتَّبعُوهم بإحسانٍ مِن وَرَثةِ الأنبياءِ الذين وَهَبهُم اللَّهُ عِلمَ الكِتابِ والحكمةِ وأَحاطوا مِن حقائِقِه ومعارِفه ما عَجَزَ أولئكَ عَن فَهْمِ مَعانِيه وإدراكِه،
ثم كَيْفَ يكونُ خيرُ قرونِ هَذِهِ الأمَّةِ أَنْقَصَ في العِلمِ والحكمةِ لا سيَّما العِلمُ باللَّهِ وأحكامِ أسمائِه وصفاتِه وآياتِه مِن هؤلاء الأصاغرِ المنقُوصِين الحيَارى المتَهَوِّكِين؟! ولا شكَّ أنَّ هَذَا القولَ إذا تدبَّرَه الإنسانُ وجَدَه في غايةِ الجهالةِ، بل في غايةِ الضَّلالةِ.

(225) قولُه: (حَيْثُ قال) أي: في حديثِ العِرباضِ بنِ ساريةَ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ …)) الحديثُ رواهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والتِّرمذيُّ، وابنُ ماجهْ، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وقال الحافظُ أبو نُعيمٍ: جيِّدٌ صحيحٌ،

وفي هَذَا الحديثِ: الحثُّ على التَّمَسُّكِ بسُنَّةِ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- ووجوبُ اتِّباعِها،
وفيه: قَرْنُ سُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ بِسُنَّتِه، ووجوبُ اتِّباعِها مع عَدمِ وجودِ سُنَّتِه،
وفيه: أنَّ للخلفاءِ سُنَّةً، وأَنَّ الأخْذَ بها واتِّباعَها رشادٌ وهٌدًى،
وفيه: أنَّ ما سَنَّهُ الخلفاءُ الرَّاشِدُونَ أوْ أحَدُهُم حُجَّةٌ لا يَجوزُ العُدولُ عنها، بخلافِ غيرِهم مِن ولاةِ الأمورِ، ولحديثِ: ((اقْتَدُوا بِاللَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ)) ولو لم تَقُم الحُجَّةُ بقولِهم لَمَا أُمِرْنَا باتِّباعِهم، وهَذَا القولُ هُوَ الحقُّ.
قولُه: ((وسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدِينَ)) وهم الخلفاءُ الأربعةُ: أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ، كما في حديثِ سَفينةَ: ((الْخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثُونَ سَنَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكاً)) رواه أحمدُ وصحَّحهُ ورواه غيرُه،

وإنَّما وُصِفَ الخلفاءُ بالرَّاشدِينَ؛ لأنَّهم عَرَفوا الحقَّ وقَضَوْا به، والرَّاشِدُ ضِدُّ الغاوي، والغاوي مَن عَرَفَ الحقَّ وعَمِلَ بِخِلافِه.
قولُه: ((المَهْدِيِّينَ)) يعني أَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- يَهدِيهم إلى الحقِّ ولا يُضِلُّهُم عنه، فالأقسامُ ثلاثةٌ:
رَاشِدٌ وغاوٍ وضالٌّ،
فالرَّاشِدُ عَرَف الحقَّ واتَّبعَه، والغاوي عَرَفه ولم يَتَّبِعْه، والضَّالُّ لم يَعْرِفْه بالكُلِّيَّةِ، انتهى مِن كلامِ ابنِ رجبٍ.
قولُه: ((تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)) هَذَا كنايةٌ عن شِدَّةِ التَّمَسُّكِ بها، والنَّواجِذُ: آخِرُ الأضراسِ.
قولُه: ((مُحْدَثَاتِ)) بضمِّ الميمِ وسكونِ الحاءِ جمعُ مُحْدَثةٍ، والمرادُ بها البِدعُ،

والبِدعةُ لغةً: كُلُّ شيءٍ عُمِلَ على غيرِ مِثالٍ سابِقٍ،
وأمَّا البِدعةُ الشَّرعِيَّةُ فهي ما لم يَدُلَّ عليه دليلٌ شرعيٌّ، فلفظُ البدعةِ في اللُّغةِ أعمُّ مِن لفظِ البدعةِ في الشَّريعةِ،
وهَذَا الحديثُ دلَّ على التَّحذيرِ مِن البدعِ، والرَّدِ على مَن زَعَم تقسيمَ البدعةِ إلى حسنةٍ وقبيحةٍ، وأما قولُ عُمرَ: (نِعْمَتْ البِدْعَةُ) فالمرادُ بها البدعةُ اللُّغويةُ؛ إذْ أَصْلُ صلاةِ التَّراويحِ مشروعةٌ؛ فقد صَلاَّهَا الرَّسولُ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- بأصحابِه ثم تَرَكَها لمَّا خَشِيَ أنْ تُفْرَضَ عليهم، وتَنقسِمُ البدعةُ إلى قسمَيْنِ:
بدعةُ اعتقادٍ، وهُوَ اعتقادُ خلافِ ما أخبَرَ بِهِ الرَّسولُ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كقولُه: ((سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثِلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةٌ)) قالوا: مَن هي يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)).
الثَّانيةُ: بدعةٌ عمليَّةٌ، وهُوَ التَّعبُّدُ بغيرِ ما شَرعَ اللَّهُ ورسولُه، فمَن تَعبَّدَ بغيرِ الشَّرعِ أو حَرَّمَ ما لم يُحرِّمْه الشَّارِعُ فهُوَ مبتدِعٌ، والبِدعتانِ غالباً متلازِمتانِ، قلَّ أنْ تَنفكَّ إحداهما عن الأُخرى.
قال ابنُ دقيقِ العِيدِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: اعلمْ أَنَّ المُحْدَثَ على قسمين:

مُحْدَثٌ ليس له أصلٌ مِن الشَّريعةِ فهَذَا باطلٌ مذمومٌ،
ومُحْدَثٌ يَحْمِلُ النَّظِيرَ على النَّظِيرِ فهَذَا ليس بمذمومٍ؛
لأنَّ البِدعةَ ولفظَ المُحْدَثِ لا يُذَّمانِ لمجرَّدِ الاسمِ، بل لمعنى مخالَفةِ السُّنَّةِ، والدَّاعي إلى الضَّلالةِ، ولا يُذَّمُ ذَلِكَ مُطلَقا، فقد قال -سُبْحَانَهُ-: {مَا يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُحْدَثٍ} الآيةَ، وقال عُمرُ: نِعْمَت البِدعةُ هَذِهِ – يعني التَّراويحَ.
قالَ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأَصْلُ ضَلالِ أهلِ الأرضِ إنَّما تَنْشَأُ مِن هذين:

إمَّا اتِّخاذُ دِينٍ لم يُشَرِّعْه اللَّهُ،
أو تَحريمُ مالم يُحَرِّمْه اللَّهُ،
ولهَذَا كان الأصلُ الذي بَنَى عليه الإمامُ أحمدُ وغيرُه مِن الأئمَّةِ مَذَاهِبَهم أنَّ أعمالَ الخَلقِ تَنقسِمُ إلى عِباداتٍ يتَّخِذُونها، وإلى عاداتٍ يَنْتَفِعون بها في معائِشِهم، فالأصلُ في العباداتِ أنْ لا يُشْرَعَ إلا ما شَرَعَه اللَّه ورسولُه، والأصلُ في العاداتِ أنْ لا يُحْظَرَ منها إلاَّ ما حَظَرَه اللَّهُ اهـ.
قال العلماءُ رَحِمَهُم اللَّهُ: العباداتُ مَبناهَا على التَّوقِيفِ والاتِّباعِ لا على الاختراعِ والابتداعِ، فالأصلُ في العباداتِ التَّحريمُ إلاَّ ما شَرَعَه اللَّهُ ورسولُه، ولهَذَا يُشترَطُ للعبادةِ شَرطانِ: الإخلاصُ والمتابعةُ، كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها- عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) أيْ: مَرْدُودٌ كائِنا ما كان،

وفي صحيحِ مسلمٍ عن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّه كان يقولُ في خُطبتِه: ((إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)) وفي روايةِ النَّسائيِّ: ((وكُلَّ ضَلاَلَةٍ في النَّارِ))
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللَّهُ عنه-: (اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعوا فقد كُفِيتُم)،
وقال الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: (عليكَ بآثارِ مَن سَلَفَ وإنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وإيَّاكَ وآراءَ الرِّجالِ وإنْ زَخْرَفُوه لكَ بالقولِ) إلى غيرِ ذَلِكَ من الأدِلَّةِ على تحذيرِ الأمَّةِ مِن اتِّباعِ الأمورِ المُحْدَثةِ المبتدَعَةِ،
وتقدَّمَ أَنَّ المرادَ بالبِدعةِ ما أُحدِثَ ممَّا لا أصلَ له مِن الشَّرعِ يدلُّ عليه، وأمَّا ما كان له أصلٌ مِن الشَّرعِ يدلُّ عليه فليس ببدعةٍ شَرعا، وإنْ كان بدعةً لغةً.

(226) قولُه: (ويَعلمون أنَّ أصْدَقَ) إلخ: فلا أحدٌ أَصْدقُ منه قُولا ولا خَبَرا، فكُلُّ ما أَخْبَرَ بِهِ -سُبْحَانَهُ- فهُوَ صِدقٌ وحَقٌّ لا مِرْيةَ فيه ولا شكَّ، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}،

وعن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- إذا خَطبَ احمرَّتْ عيناهُ وعلا صَوتُه واشتدَّ غَضَبُه حتى كأنَّه مُنذِرُ جيشٍ يقولُ: ((صبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، ويقولُ: أَمَّا بَعْدُ فِإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)) رواه مسلمٌ.
قولُه: ((وخيرَ الهدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ)) الهَدْيُ بفتحِ الهاءِ وسُكونِ الدَّالِ: السَّمتُ والطريقةُ والسِّيرةُ، وقُرِئَ بالضَّمِّ أي: الدلالةُ والإرشادُ،

والمرادُ تفضيلُ دِينِه وسُنَّتِه على سائرِ الأديانِ والسُّنَنِ، فدِينُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أَكْملُ الأديانِ على الإطلاقِ، وشريعَتُه أفضلُ الشَّرائعِ اختارَها اللَّهُ لخِيرتِه مِن خَلقِه، ولأُمَّتِه خيرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ، وجَعلَها حُجَّةً باقيةً إلى يومِ القيامةِ، لا يَتطرَّقُ إليها النَّسخُ، ولا يَعْترِيها التَّبدِيلُ والتَّغييرُ الذي وَقَعَ في الشرائعِ قَبْلَها،
ولهَذَا المعنى الذي ذَكَرْناهُ كان كُلُّ عاقلٍ مِن اليهودِ والنَّصارى -كما قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ- يَعترِفُ بأنَّ دِينَ الإسلامِ حقٌّ، وأنَّ محمَّداً رسولُ اللَّهِ، وأنَّ مَن أطاعَه منهم دخَلَ الجَنَّةَ، بل كثيرٌ منهم يَعترِفون بأنَّ دِينَ الإسلامِ خيرٌ مِن دِينِهم كما أطبقَتْ على ذَلِكَ الفلاسفةُ، كما قال ابنُ سِينا: أَجْمعَ فلاسِفةُ العالِمِ على أنَّه لم يَطْرُق العالَمَ ناموسٌ أَعْظمُ مِن هَذَا النَّاموسِ،
ولا شكَّ أنَّ هَذِهِ الشَّريعةَ العظيمةَ الكامِلةَ مِن دلائلِ نُبوَّتِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَكَذَلِكَ أخلاقُه وأقوالُه وأفعالُه وسِيرتُه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كُلُّها مِن آياتِه ودلائلِ نبوَّتِه، كما أشار إلى ذَلِكَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، فقد جَبَلَه اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- على أجملِ الأخلاقِ وأَزْكاها، واختارَ له أَفْضَلَها وأَوْلاَها،
وأخلاقُه مُقتَبَسةٌ مِن القرآنِ، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال العَوفيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ: وإنَّكَ لعَلَى دِينٍ عظيمٍ وهُوَ دينُ الإسلامِ،
وفي صحيحِ مسلمٍ عن سعيدِ بنِ هشامٍ قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيُ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- فَقَالَتْ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ).
ومعنى هَذَا أنَّه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مَهْمَا أَمَرَهُ اللَّهِ بِهِ في القرآنِ امْتَثَلَه، ومَهْمَا نَهَاهُ عنه اجْتَنَبَه، هَذَا ما جَبَلَه اللَّهُ –سُبْحَانَهُ- عليه مِن الأخلاقِ الجِبِلِّيَّةِ الأصليَّةِ العظيمةِ، التي لم يكُنْ أحدٌ مِن البشرِ ولا يكونُ على أجملَ منها، فكانَ فيه –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- مِن الحياءِ والكَرَمِ، والشَّجاعةِ، والحِلْمِ، والصَّفِحِ، وسائرِ الأخلاقِ الكاملةِ ما لا يُحَدُّ ولا يُمكِنُ وَصْفُه، وقد خرَّجَ الإمامُ أحمدُ في مسنَدِه مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ)).

(227) قولُه: (ويُؤْثِرونَ كلامَ اللَّهِ) إلخ أي: يُقدِّمونَ كلامَ اللَّهِ على كلامِ غيرِه مِن خَلقِه كائِنا مَن كان، ولا يَعدِلون عنه ولا يُعارِضُونه بمعقولٍ ولا قولِ فلانٍ،

فإنَّه الفُرْقانُ، المفَرِّقُ بين الحقِّ والباطِلِ، والنَّافعِ والضَّارِّ، وهُوَ الإمامُ الذي يَجِبُ اتِّباعُه والرُّجوعُ إليه عند التَّنازُعِ؛ إذْ لا سعادةَ في الدُّنْيَا والآخرةِ إلاَّ بالاعتصامِ بحَبْلِ اللَّهِ، ولا نجاةَ إلاَّ بالتَّمَسُّكِ بما جاء في كتابِه، فإنَّه الشِّفاءُ والنُّورُ والحياةُ الحقيقيَّةُ، قال اللَّهُ تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، قال قتادةُ والسُّدِّيُّ وكثيرٌ مِن أهلِ التَّفسيرِ: هُوَ القرآنُ،
وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَعِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهَ،
وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ عن النَّبيِّ –صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في القرآنِ: هُوَ حَبلُ اللَّهِ المَتِينُ، وهُوَ الذِّكرُ الحكيمُ، وهُوَ الصِّراطُ المستقيمُ، وهُوَ الذي لا تَزِيغُ بِهِ الأهواءُ، ولا تَختلِفُ بِهِ الألسِنةُ، ولا يَشبَعُ منه العُلماءُ، ولا يَخْلَقُ عن كثرةِ الرَّدِّ، ولا تَنْقضِي عجائِبُه، مَن قال بِهِ صَدَقَ، ومَن عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، ومَن حَكمَ بِهِ عَدَلَ، ومَن دَعى إليه هُدِي إلى صراطٍ مستقيمٍ،
وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عبَّاسٍ -رضي اللَّهُ عنهما- قال: جَمعَ اللَّهُ في هَذَا الكتابِ عِلمَ الأوَّلِين والآخِرين، وعِلمَ ما كان، وعِلمَ ما يكونُ، والعِلمَ بالخالِقِ أمْرَه وخَلْقَه. أَخرَجَه ابنُ رزينٍ، انتهى،
وقد سمَّاه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- رُوحًا لتَوَقُّفِ الحياةِ الحقيقيَّةِ عليه، ونُوراً لِتوقُّفِ الهدايةِ عليه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}،
وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنواْ هُدًى وَشِفَاءٌ}،
وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}،
وقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، والرَّدُ إليه: هُوَ الرَّدُ إلى كتابِه، والرَّدُ إلى الرَّسولِ: هُوَ الرَّدُ إليه في حياتِه، والرُّجوعُ إلى سُنَّتِه بعد وفاتِه، هَذَا معناهُ بإجماعِ المفسِّرين،
فيجِبُ الرُّجوعُ إلى كتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رسولِه، ولا يجوزُ العُدولُ عنهما ولا مُعارَضتُها ولا الاعتراضُ عليهما، ففيهما غايةُ البُغيَةِ وفَصْلُ النِّزاعِ، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}.

(228) قولُه: (ويُقدِّمونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-) إلخ أي: يقدِّمونَ شَرْعَه ودِينَه، فدينُه أكملُ الأديانِ على الإطلاقِ، وشريعتُه أفضلُ الشَّرائعِ،

فمَنِ ادَّعى أنَّ هَدْي غيرِ مُحَمَّدٍ أَفْضلُ مِن هدْيهِ، أو ادَّعى غِناهُ عن الرِّسالةِ بمُكاشفةٍ أو مخاطَبةٍ أو عِصمةٍ، سواءٌ ادَّعى ذَلِكَ لنَفْسِه أو لغيرِه فهُوَ مِن أضلِّ النَّاسِ، بل مَن اعتقد أنَّه يَجوزُ له أن يَخرُجَ عن طاعةِ الرَّسولِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وتصديقِه في شيءٍ مِن أمورِه الباطِنةِ والظَّاهرةِ فإنَّه يَجِبُ أنْ يُستتابَ، فإنْ تَابَ وإلاَّ قُتِلَ، كائناً مَن كان.
ذَكرَ ذَلِكَ شيخُ الإسلامِ تَقِيُّ الدِّينِ في كِتابِه الفُرقانُ، وَكَذَلِكَ مَن زَعَمَ أَنَّ الشَّريعةَ قاصِرةٌ، وأنَّها لا تُسايِرُ الزَّمَنَ، وأنَّه يُسَوَّغُ له سَنُّ النُّظُمِ والتَّعليماتِ لكُلِّ زمانٍ بما يُناسِبُه على زَعْمِه، أو زعَمِ أَنَّ النُّظُمَ الأفرنجيَّةَ أَحْسَنُ مِن نظامِ الشَّريعةِ، أو نحوِ ذَلِكَ مِن الأقوالِ فهُوَ زِنديقٌ.
قولُه: (ولهَذَا سُمُّوا أهلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ) وَذَلِكَ لاتِّباعِهم للكتابِ والسُّنَّةِ الثَّابتةِ عن نَبِيِّهم في الأصولِ والفُروعِ، والأخْذِ بهما وتَحكِيمِهما في القليلِ والكثيرِ، والاستغناءِ بهما، وتقديمِهما على قولِ كُلِّ أحدٍ كائنا مَن كان،

بخلافِ الخوارجِ والمعتزِلةِ والرَّوافضِ ومَن وافَقَهم في بعضِ أقوالِهم، فإنَّهم لا يَتَّبِعونَ الأحاديثَ التي رَواها الثِّقاتُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-،
فالمعتزِلَة يقولون هَذِهِ أخبارُ آحادٍ،
والرَّافِضةُ يَطعَنونَ في الصَّحابةِ ونَقْلِهم،
والخوارجُ يقولُ قائِلُهم: اعْدِلْ يا مُحَمَّدُ فِإنَّكَ لم تَعدِلْ، فيُجوِّزون على النَّبيِّ أنَّه يَظْلِمُ،
قال الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّين -رَحِمَهُ اللَّهُ-: السُّنَّةُ ما كان عليه رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- وأصْحَابُه في عَهدِه ممَّا أَمَرَهم بِهِ أو أَقَرَّهُم عليه أو فَعلَه هو.
قولُه: (وسُمُّوا أهلَ الجماعةِ) إلخ: لاجتماعِهم على آثارِ الرَّسولِ، والاستضاءةِ بأنوارِه وتَحكِيمِه في القليلِ والكثيرِ،

فالجماعةُ هم المجتمِعون الذين ما فَرَّقُوا دِينَهم وكانوا شِيعا، والذين فَرَّقُوا دِينَهم خارِجون عن الفِرقةِ النَّاجِيةِ، وقد برَّأَ اللَّهُ نبِيَّه منهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآيةَ،
قال في المِرقاةِ: المرادُ بالجماعةِ أهلُ الفِقهِ والعِلمِ الذين اجتمَعُوا على اتِّباعِ آثارِه -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- في النَّقِيرِ والقِطْميرِ، ولم يَبتدِعوا بالتَّحريفِ والتَّغييرِ،
وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ بالجماعةِ مَن كان على الحقِّ وَلَوْ واحدًا، وَذَلِكَ لأنَّ الحقَّ هُوَ ما كان عليه الجماعةُ في الصَّدْرِ الأوَّلِ،
وقد تكاثَرَت الأدِلَّةُ في الحثِّ على الاجتماعِ والنَّهْيِ عن التَّفرُّقِ والاختلافِ، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}،
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ}،
وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، قال ابنُ عبَّاسٍ: تَبيضُّ وجوهُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، وتَسودُّ وجوهُ أهلِ البِدعةِ والفُرقةِ،
وروى الإمامُ أحمدُ عن مُعاذِ بنِ جبلٍ -رضي اللَّهُ عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((إِنَّ ذِئْبَ الإِنْسَانِ كِذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّارِدَةَ الْقَاصِيَةَ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ))
وورَدَ: ((الجَماعةُ رحمةٌ والفُرقةُ عذابٌ))
وورَدَ عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: (الخِلافُ شَرٌّ)
وحديثُ: ((إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاَثَةٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً …))، يعني: الأهواءَ كُلَّها في النَّارِ إلا واحدةً، وَهِيَ الجماعةُ، إلى غيرِ ذَلِكَ من الأدِلَّةِ في الحثِّ على الاجتماعِ وذمِّ الاختلافِ والتَّفرُّقِ، وينقسمُ الاختلافُ إلى قسمين:
اختلافُ تَنَوُّعٍ، واخِتلافُ تضادٍّ،
فالأوَّلُ هُوَ ما يكونُ القَوْلانِ أو الفِعْلانِ مَشْروعينِ كما في أَنواعِ الاستفتاحاتِ، وأنواعِ القِراءاتِ، والأذانِ، ونحوِ ذَلِكَ ممَّا قد شُرِعَ جَميعُه،
وأمَّا اختلافُ التَّضادِّ فهما القولانِ المتنافِيانِ إمَّا في الأصولِ أو في الفُروعِ.


 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
معنى, أهل

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:03 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir