911- وعن أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لاَ آكُلُ مُتَّكِئاً)). رَواهُ البخاريُّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- مُتَّكِئاً: قالَ في (المُحيطِ) وغَيْرِه: اتَّكَأَ اتِّكَاءً: جَلَسَ مُتَمَكِّناً مُتَرَبِّعاً، قالَ ابْنُ الأثيرِ: والعامَّةُ لا تَعْرِفُ الاتِّكاءَ إلاَّ المَيْلَ في القُعودِ مُعْتَمِداً على أحَدِ الشِّقَّيْنِ، وهو يُسْتَعْمَلُ في المَعْنَييْنِ جميعاً.
912- وعن عُمَرَ بنِ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((يَا غُلامُ, سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)). مُتَّفَقٌ عليهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- غُلامُ: الغلامُ من الوِلادَةِ إلى سنِّ البُلوغِ، وجَمْعُ القِلَّةِ: غِلْمَةٌ، وجَمْعُ الكَثْرَةِ: غِلْمَانٌ، ويُسْتعارُ الغلامُ للعَبْدِ والأجيرِ.
- سَمِّ اللهَ: فِعْلُ الأَمْرِ من سَمَّى، يُقالُ: سَمَّى في العَمَلِ، أي: ذَكَرَ اسمَ اللهِ عليه، بقولِه: بِسْمِ اللهِ.
- مِمَّا يَلِيكَ: وَلِيَهُ يَلِيهِ وَلْياً: دَنَا منه وقَرُبَ، والمُرادُ: أَنْ يَأْكُلَ مِن أَقْرَبِ جَوانِبِ القَصْعَةِ إليه.
913- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أُتِيَ بقَصْعَةٍ مِن ثَرِيدٍ، فقالَ: ((كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَلاَ تَأكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا؛ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا)). رواهُ الأربعةُ، وهذا لفظُ النَّسائِيِّ، وسندُه صحيحٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* دَرجَةُ الحَديثِ:
الحَديثُ صَحِيحٌ.
أخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَهْ، وابنُ حِبَّانَ، والحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ من طريقِ عَطَاءِ بنِ السَّائِبِ، عن سَعيدِ بن جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قالَ الحَاكِمُ: صَحِيحُ الإسنادِ. ووَافَقَهُ الذهبيُّ.
وله شاهِدٌ عن عَمرِو بنِ عُثمانَ بنِ سَعيدٍ الحِمْصِيِّ، قالَ: حَدَّثَنا أبي، قال: حَدَّثَنا مُحمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الحِمْصِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا عبدُ اللهِ بنُ بُسْرٍ، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.. فذَكَرَ الحديثَ.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ، رجالُه كُلُّهم ثِقاتٌ.
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- قَصْعَةٍ: بفتحِ القافِ، وسُكونِ الصادِ المُهملَةِ، هو إناءٌ مُعَدٌّ ليُؤْكَلَ بهِ ويُشرَبَ، والغَالِبُ أنَّه مِن خَشَبٍ.
- ثَرِيدٍ: بفتحِ الثاءِ المُثلَّثَةِ، ثم راءٍ مكسورةٍ، الثَّرِيدُ: هو ما يُفَتُّ من الخُبْزِ، ثم يُبَلُّ بمَرَقِ اللَّحْمِ، وقَدْ يَكُونُ مَعَه اللحمُ.
914- وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: ما عَابَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ طعاماً قَطُّ، كانَ إذا اشْتَهَى شَيْئاً أَكَلَهُ، وإنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عليهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- عَابَ: يَعِيبُ عَيْباً، والعَيْبُ: النَّقْصُ في الشيءِ، جَمْعُه: عُيوبٌ، والمرادُ أنَّه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لَمْ يَنْسُبْ طَعَاماً إلى عَيْبٍ.
- قَطُّ: بفتحِ القافِ، وضمِّ الطاءِ المُشدَّدةِ.
قالَ في (المُعْجَمِ الوسيطِ): قَطُّ ظَرْفُ زمانٍ لاستغراقِ الماضي، وتَخْتَصُّ بالنفْيِ، يُقالُ: ما فَعَلْتُ هذا قَطُّ فيما مَضَى. وقالَ في (المُحيطِ): والعامَّةُ تقولُ: لا أَفْعَلُه قَطُّ، وهو غَلَطٌ.
قُلْتُ: لأنَّها مُخْتَصَّةٌ بالزَّمَنِ الماضي.
915- وعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((لاَ تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ)). رواهُ مُسلمٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- الشَّيْطَانَ: في أَصْلِ اشتقاقِه، قولانِ:
أحدُهما: أنَّه مِن شَطَنَ؛ لأنه بَعُدَ عن الحَقِّ، أو عن رَحْمَةِ اللهِ، فتَكُونُ حِينَئذٍ النونُ أصْلِيَّةً والياءُ زائدةً، ووَزْنُه فَيْعَالٌ.
الثاني: أنَّ الياءَ أَصْلِيَّةٌ والنونَ زَائِدَةٌ، عَكْسُ الأَوَّلِ، واشتقاقُه مِن شَاطَ يَشِيطُ، إذا بَطَلَ واحْتَرَقَ، فوَزْنُه حِينَئِذٍ فَعْلانُ.
الشِّمالُ: ضِدُّ اليَمِينِ، مُؤَنَّثَةٌ، جَمْعُها: شُمُلٌ.
916- وعن أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ)). مُتَّفَقٌ عليهِ.
ولأبي دَاوُدَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما نحوُه، وزادَ ((أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ)). وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- فَلاَ يَتَنَفَّسْ: بالبِنَاءِ للمَعْلُومِ، مَجْزومٌ بلا الناهيةِ، والتَّنَفُّسُ إدخالُ النفَسِ إلى الرِّئتيْنِ، وإخراجُه منهما.
- أو يُنْفَخَ: بالنَّصْبِ معَ البناءِ للمفعولِ؛ لأنه مَعْطوفٌ على قولِه: نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ. والنفْخُ: إخراجُ الرِّيحِ مِن الفَمِ.
* مَا يُؤْخَذُ من الأحاديثِ:
هذهِ الأحاديثُ الشريفةُ كُلُّها في بيانِ آدابِ الأكْلِ والشُّرْبِ؛ ليَكُونَ المُسلمُ في امتثالِها مُتَّبِعاً لسُنَّةِ نبيِّه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حتى في العاداتِ الكريمةِ، وهذه فوائِدُ وأحكامُ هذه الأحاديثِ.
1- أنَّ مِن صِفاتِ جِلْسَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للأكْلِ أَنْ لا يَأْكُلَ مُتَّكِئاً، وذلك بأنْ يَتَرَبَّعَ على الطَّعامِ في جِلْسَتِه؛ لأنَّ هذه الجِلْسَةَ تَتَطَلَّبُ من الإنسانِ أَنْ يَأْكُلَ كثيراً، والمَطْلوبُ هو التَّخَفُّفُ من الطعامِ، والاقتصارُ على قَدْرِ الحاجَةِ منه، فهذهِ الجِلْسَةُ مَكْروهَةٌ شَرْعاً.
ومثلُ ذلك: أنْ يَأْكُلَ وهو مَائِلٌ في جِلْسَتِه، مِمَّا يُشْعِرُ بالكِبْرِ عندَ تَناوُلِ هذه النِّعْمَةِ.
2- استحبابُ التسميةِ في أَوَّلِ الطَّعَامِ، فَقَدْ رَوَى الإمامُ أَحْمَدُ، وأبو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَهْ، عَن عَائِشَةَ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَاماً، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ؛ فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ)).
قالَ الأصحابُ: وتُسَنُّ التسميةُ، بأنْ يَقولَ: بِسْمِ اللهِ.
قالَ الشيخُ: لو زَادَ: الرحمنِ الرحيمِ. عندَ الأكْلِ؛ لَكَانَ حَسَناً؛ فإنَّه أَكْمَلُ، بخلافِ الذَّبْحِ.
3- وُجوبُ الأَكْلِ باليَمِينِ، وتَحْرِيمُ الأكْلِ بالشِّمالِ، إلاَّ مِن عُذْرٍ، فقَدْ جاءَ في مُسْندِ الإمامِ أحمدَ، وصحيحِ مسلمٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((لاَ يَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلاَ يَشْرَبْ بِشِمَالِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ)). فمُتابَعَةُ الشيطانِ مُحَرَّمَةٌ، فمَن تَشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم.
4- استحبابُ تعليمِ الجاهِلِ من كِبارٍ وصِبْيانٍ، لا سِيَّما مَن تَحْتَ كَفالَتِه، فقَدْ قالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). فعُمَرُ بنُ أبي سَلَمَةَ رَبِيبُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ابنُ زَوْجَتِه، وعاشَ في بيتِه.
5- الأَدَبُ هو الأكْلُ ممَّا يلي الآكِلَ، فلا يَتعَدَّاهُ إلى الجوانِبِ الأُخَرِ، فَقَدْ جاءَ في بعضِ طُرقِ الحديثِ رَقْمِ (912). قالَ عُمَرُ بنُ أَبِي سَلَمَةَ: (كُنْتُ غُلاماً في حِجْرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ)؛ فقالَ لي: ((يَا غُلامُ, سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).
6- استحبابُ الأكلِ مِن جَوانِبِ الإناءِ، وأنْ لا يُؤْكَلَ مِن وَسَطِها، فإنَّ البَرَكَةَ تَنْزِلُ في وَسَطِها.
ولعَلَّ مِن بَرَكَةِ الأكْلِ من الجوانِبِ، أنَّه إذا بَقِيَ بَقِيَّةٌ مِن الطعامِ، فإنَّها تَبْقَى نَظِيفَةً لَمْ تَمَسَّهَا يَدٌ، فيَسْتَفِيدُ منها مَن يَأْتِي بعدَ الآكِلِينَ، أمَّا البَدْءُ من الوَسَطِ: فإنه يُفْسِدُ الطعامَ ويُقْذِرُهُ على مَن بعدَه، فيُلْقَى، ولو كانَ كثيراً.
7- أنَّ مِن خُلُقِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ السَّمَاحَ؛ فإنَّه لَمْ يَعِبْ طَعاماً قُدِّمَ إليه؛ لأنه مِن نِعَمِ اللهِ تعالى على عِبادِه، فإنِ اشْتَهاهُ أَكَلَه، وإنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ.
فقَدْ جَاءَ في الصحيحيْنِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (دَخَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على مَيْمُونَةَ فَقُدِّمَ له ضَبٌّ، فأهْوَى بيَدِه إلى الضَّبِّ، فقَالَتِ امْرَأَةٌ مِن النِّسْوَةِ الحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بِمَا قَدَّمْتُنَّ. قُلْنَ: هُوَ ضَبٌّ يا رَسُولَ اللهِ. فرَفَعَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَدَهُ، فقالَ خالِدُ بنُ الوَلِيدِ: أَحَرَامٌ هو يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: ((لاَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ)). فاجْتَرَّهُ خالِدٌ فَأَكَلَهُ).
وجاءَ في صحيحِ مُسلمٍ، عن جابِرٍ، قالَ: دَخَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعضَ حُجَرِ نِسائِه، فقالَ: ((هَلْ مِنْ أُدْمٍ؟)). قالوا: لا, إلاَّ شَيْءٌ مِن خَلٍّ. قالَ: ((هَاتُوا فَنِعْمَ الأُدْمُ هُوَ)).
8- النهْيُ عن التنَفُّسِ في الإناءِ ففيهِ مِن المَضارِّ, تقذيرُ الإناءِ، والشَّرابِ على الشارِبِ بعدَ المُتَنَفِّسِ، وفيه: أنَّه يَتَنَفَّسُ ويَشْرَبُ في آنٍ وَاحِدٍ، فرُبَّما سَبَّبَ له الاخْتِناقَ، وفيه: أنَّ الشُّرْبَ من ثَلاثَةِ أَنْفاسٍ خَارِجَ الإناءِ أَمْرَأُ، وأَلَذُّ، وأَهْنَأُ، فالشريعةُ الإسلاميةُ المُطَهَّرَةُ لا تَأْمُرُ إلاَّ بِمَا فيهِ الخَيْرُ، ولا تَنْهَى إلاَّ عَمَّا فيهِ الشَّرُّ والضُّرُّ.