دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الدورات العلمية > الدورات العلمية العامّة > دورة أصول القراءة العلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 جمادى الآخرة 1438هـ/12-03-2017م, 03:48 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الدرس الثالث: القراءة النافعة

القراءة النافعة



القراءة النافعة لا تُدرك إلا بفضل من الله عزّ وجل وتوفيق منه لمن أراد الله به خيراً، لأنها من التفقيه في الدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)). متفق عليه من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
ولذلك قد تجد رجلين أحدهما قراءته يسيرة دائمة يجعل الله فيها خيراً كثيراً وبركة عظيمة؛ فيحفظ بها من مسائل العلم والفوائد والعبر ما ينتفع به، وينفع به غيره.
وتجد الآخر كثير القراءة والحديث عمّا يقرأ لكنّ بركة قراءته ممحوقة، فلا يُحسن التفقه في الدين، ولا يتعلّم علماً صحيحاً يَنتفع به، ولا يعلّم الناس تعليماً صحيحاً ينفعهم، بل ربّما كان افتتانه بالقراءة عظيماً، وضرره على الناس كبيراً بما يثير من الشبهات المضلّة، ويسوّغ من الشهوات المحرمة بأنواع من الحيل والتأويلات الخاطئة.
وهل ضلّ من ضلّ ممن تتبّع كتب الفلاسفة والمتكلّمين ومقالاتهم إلا بسبب هذه القراءة الضارّة؟!
وما نراه من فتك القراءة الضارّة ببعض من كانوا ممّن يُرجى أن يكون لهم شأن بين أهل العلم، فانحرفوا إلى القراءة فيما يضرّهم ولا ينفعهم من الكتب التي تثير الشكّ في أصول الدين، وتغري بالتهاون في الواجبات واقتراف المحرمات، وتفعل في قلوب أصحابها ما تفعل الخمر في عقول المدمنين، من نشوة وانتفاش، وشعور بعظمة متوهّمة، ولهث وراء سراب لا حقيقة له، حتى إذا أفنى عمره، وقلّب أمره، لم يجد معه من حقيقة العلم في تلك الكتب والمقالات شيئاً ينتفع به.
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)). رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع)) رواه ابن ماجة.

فالقراءة السديدة النافعة نوع من أنواع العلم، وسبب من أسباب التفقّه في الدين، وإنما يوفَّق لها من أراد الله به خيراً.

أسباب الانتفاع بالقراءة
وللانتفاع بالقراءة أسباب ينبغي على طالب العلم أن يجتهد في تحصيلها، وأن يعرف أثرها في تحصيل المطلوب من القراءة.
السبب الأول: الإخلاص لله تعالى، وذلك بتصحيح النيّة في القراءة؛ فيقرأ بنيّة طلب الهدى من الله تعالى، وكلما عظمت هذه النية في قلبه ازداد حظّه من الانتفاع بما يقرأ والاهتداء به إلى ما ينفعه، فيُفتح له من أبواب العلم والفَهْم ما لا يفتح لمن يقرأ لمجرّد تحصيل المعلومات.
وللقراءة مقاصد صالحة إذا قامت في قلب القارئ أثيب على قراءته ؛ فمنها أن يقصد بها رفع الجهل عن نفسه وعن الأمة، وأن يطلب العلم الذي يحبّه الله ليتقرّب به إليه، وأن يعدّ العدّة لأعمال صالحة يحبّها الله لا يحسنها إلا بالعلم، وأن يرغب أن يأتسي بالعلماء الربانيين ويسلك سبيلهم، حتى يُعدّ منهم، ويُحشر في زمرتهم، وكلّ تلك المقاصد قد تجتمع في قلب القارئ حين قراءته، ومن علم الله منه الصدق في تلك النية كان نصيبه من التوفيق والفتح الإلهي أعظم.

السبب الثاني: الصدق في القراءة، وذلك بصدق العزيمة على القراءة النافعة، وصدق الحال فيها.
فالصادق في قراءته لا تجد قراءته عبثية متفرّقة، ولا قراءاته قراءة متململ فَتور، ولا قراءة مستكثر مُعجَب، بل قراءة طالب علم جادّ مجتهدٍ في طلبِ الهدى واتّباعه، وتحصيل العلم من وجهه، والانتفاع به، وتعليمه وتقريبه لمن ينتفع به.
والصدق كما يكون في القول فإنّه يكون كذلك في العمل والحال؛ ولما عدّ الله ما عدّ من أعمال البرّ في قوله تعالى: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى ...}
قال تعالى: {أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} ، وقال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}.
فالصدق يكون في حديث المرء، ويكون في عزيمته وعمله، ويكون في حاله؛ فمن جمع هذه الخصال الثلاث فهو من الصادقين، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( عليكم بالصدق)). ، وقال: (إن تصدق الله يصدقك).
- فصدق القول مطابقته للمخبَر عنه.
- وصدق العمل مطابقة أدائه لما عُزِم عليه وأريد منه؛ وهذا يستلزم صحة العزيمة واتباع الهدى.
-وصدق الحال مطابقته للهُدى والرشاد.
فلفظ الصدق يوصف به الحديث، ويوصف به العمل، ويوصف به الحال.
وأصل هذه الإطلاقات في اللغة ظاهر، وشواهد استعمالها في كلام العرب وفي نصوص الكتاب والسنّة وآثار السلف كثيرة، وقد ذكرت طائفة منها في شرح التحفة العراقية.
والصدق عِصْمة للعبد بل هو سبب نجاته ورفعته وهو ميزان التفريق بين الإيمان والنفاق، وبين مَن يريد ما عند الله ومَن يريد متاع الدنيا وزينتها.
وإذا تخلّف الصدق عن العبد تداعت عليه الآفات من كلّ جانب؛ وضلّ في أودية الشقاء والحرمان؛ فإما أن تصيبه آفات الوهن والفتور، أو تصيبه آفات العجب والغرور:
- فآفات النوع الأول تَضعف بها عزيمته.
- وآفات النوع الثاني: ينحرف بها قصدُه عمّا يُحبّه الله، والعياذ بالله.
وإذا حلّ الصدق في قلب العبد أورثه الجدّ والاجتهاد، وإقبال القلب على أداء العمل بإحسان؛ فإن أدّاه كُتب له أجره، وبورك له في عمله، وإن عَرض له ما يمنعه كُتب له أجره كأنّه عمله، وبورك له في نيّته، وهذه من أعظم ثمرات الصدق.
وإذا تحققت هذه الصفة الحميدة في القارئ نفعته نفعاً عظيماً بإذن الله؛ لأنها تثمر في قلبه ما يثمر الصدق للصادقين من الجدّ والاجتهاد، وأخذ العمل بالقوّة التي يحبّها الله، وأدائه بإحسان.
ولذلك فإن القارئ الصادقَ لا يستسلم في قراءته للمثبّطات والمعوّقات التي تحجب أصحاب العزائم الضعيفة، ولا ينحرف قصده انحراف الذين يريدون العلوّ في الأرض بالشُّهرة والرياء والاحتيال على المطامع الدنيوية.
وبهذا تعلم أن بين الصدق والإخلاص تناسب وتلازم؛ فصحة الإخلاص تستلزم وجود الصدق، والصدق يقتضي الإخلاص.
فالإخلاص أن لا تشرك بالله شيئاً، وأن تريد بعملك وجه الله تعالى.
والصدق أن تجمع همَّتك على إحسانِ العمل.
ولابن القيم رحمه الله كلام حسن بديع بيّن به التناسب بين الصدق والإخلاص؛ فقال: (إن للعبد مطلوباً وطلباً؛ فالإخلاص توحيد مطلوبه، والصدق توحيد طلبه؛ فالإخلاص أن لا يكون المطلوب منقسماً، والصدق أن لا يكون الطلب منقسماً؛ فالصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب)ا.هـ.
ومن جمع الصدق والإخلاص فقد نصح لله ولرسوله، وبذلك يكون من المحسنين، وهذه غاية مطالب السالكين.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المشايخ العارفين اتفقوا على أن أساس الطريق إلى الله هو الصدق والإخلاص.
وذُكِرَ للإمام أحمد رحمه الله الصدق والإخلاص فقال: (بهذا ارتفع القوم). أورده أبو يعلى في طبقات الحنابلة وابن مفلح في الآداب الشرعية.
فإن قلت: ما الذي يحملنا على الصدْق؟ ومن أين يستمدّ الصادق صدقَه؟
فالجواب: أن سبب الصدق الحاملِ عليه هو اليقين؛ وكلما عظم اليقين في قلب العبد ارتفعت درجته في الصدق، وقوي تحرّيه إيّاه حتى يكون من الصدّيقين.
ومما يدلّ لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( أثقلُ صلاة على المنافقين : صلاةُ العِشاء وصلاةُ الفجرِ، ولو يعْلَمُونَ ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوا )) متفق عليه من حديث أبي هريرة .
فلمَّا غاب عنهم اليقين بالوعد والوعيد والثواب والعقاب هان عليهم ترك هاتين الصلاتين، ولو كان هذا العلم يقينا في قلوبهم لأتوهما ولو حبواً.

وبهذا تعلم أن أصل الفلاح والنجاح هو اليقين لأنه يقتضي الصدق ويستلزمه، ولذلك كانت نعمة اليقين أعظم نعمة على الإطلاق، بل هي أعظم من نعمة العافية، ويدلّ لذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة في مصنفه وغيرهم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام خطيباً على المنبر بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسَنة؛ فقال: قام رسول الله مقامي هذا عامَ الأوَّل ثم بكى أبو بكر.
ثم قال: (سلوا الله العفو والعافية فإن الناس لم يعطوا بعد اليقين شيئاً خيراً من العافية، وعليكم بالصدق فإنه مع البرّ، وهما في الجنة، وإيَّاكم والكذب؛ فإنه مع الفجور، وهما في النار).

والمقصود في هذا الدرس أن يقين القارئ بفضل القراءة وحسن أثرها وعظم شأنها يثمر له الصدق في طلبها وأدائها، ويورثه الجدّ والاجتهاد فيسلَم – بفضل الله ورحمته - من كثير من المثبّطات والمعوّقات والآفات التي يُبتلى بها غير الصادق ومَن ضَعُفَ صِدْقُه.
وقد أطلت في شرح هذا السبب لأنه أصل مهمّ في انتفاع القارئ بقراءته، ومن اجتهد في تحقيق هذا السبب فإنّه يُرجى له بإذن الله تعالى أن يوفّق لإحسان القراءة، وأن يرشده الله لما ينفعه فيها، ويبارك له فيما يقرأ، ويقرّب له أسباب التوفيق والبركة، ومن يصدق اللهَ يصدقه.

السبب الثالث: شكر نعمة القراءة، وذلك بأن يحسن تلقّي ما ينعم الله به عليه بسبب القراءة، وأن يؤدّي حقّ الله فيها، ومَن شكر الله عزّ وجل زاده الله من فضله كما قال الله تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم..}.
فشكر التلقّي: يكون بأن يفرح بما يجده من الهدى، ويعظّم قَدْرَ تلك النعمة في نفسه، ويحمد الله، ويثني عليه بها.
والله تعالى يُحبّ أن تُتلَقّى نعمه بالفرح بفضله، والابتهاج بعطائه، ومعرفة قدرها، والثناء عليه بها؛ فمن فعل ذلك فقد أحسن قبول النعمة، ومن أعرض عن ذلك فقد كفر نعمة الله.
ويدلّ على هذا الأصل قول الله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}، وكذلك ما في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الصبح بالحديبية في إثر سماءٍ كانت من الليل؛ فلما انصرف أقبل على الناس؛ فقال: (( هل تدرون ماذا قال ربكم؟! )).
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (( قال:[أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب] )).
وهذا مما يدلّ على أنّ القول الذي يقوله العبد حين يتلقى النعمة له أثر في رضى الله عنه أو سخطه عليه، وهذا القول ناشئ عن العمل الأولي للقلب، وهو نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)). متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وينبغي أن يعي المؤمن هذا الأصل في النعم كلها ما استطاع؛ وما ظنّ المؤمن إذا قال قولاً حسناً يرضى الله به حين يتلقى نعمته ويعرف قدرها، ويفرح بفضل الله عليه بها !!
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وابن عمر أنهما قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة الرحمن على أصحابه حتى فرغ، قال : (( ما لي أراكم سكوتا ؟!!
لَلجنُّ كانوا أحسنَ منكم ردا؛ ما قرأت عليهم من مرة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إلا قالوا: و لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)).
حديث جابر رواه الترمذي وابن عدي والحاكم وصححه وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم.
وحديث ابن عمر رواه البزار وابن جرير والخطيب البغدادي.
وفي كلا الحديثين ضعف في الإسناد، وقال الألباني: (لكن الحديث بمجموع الطريقين لا ينزل عن رتبة الحسن).
فهذا في شكر قبول النعمة وحسن تلقّيها، وهو نصف الشكر، فينبغي أن لا يغفل عنه القارئ اللبيب، ويتحقق بأربعة أمور:
أحدها: الفرح بفضل الله والابتهاج بعطائه. {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}
والثاني: الاعتراف بالنعمة وتعظيم قدرها في النفس. ((أبوء لك بنعمتك علي))
والثالث: حمد الله تعالى عليها والثناء عليه بنعمته، {وأما بنعمة ربك فحدث}
والرابع: أن لا يعيب نعمة الله عليه ولا يزدريها {فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي العلاء بن الشخير قال: حدثني أحدُ بني سليم ولا أحسبه الا قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله تبارك وتعالى يبتلي عبده بما أعطاه فمن رضي بما قسم الله عز وجل له بارك الله له فيه ووسّعه، ومن لم يرضَ لم يبارك له)).
إسناده صحيح، وجهالة اسم الصحابي لا تضرّ.

وأما شكر أداء حقّ النعمة فيتحقق بأربعة أمور أيضاً:
أحدها: أن يعرف حقّ الله تعالى في تلك النعمة من العلم والعمل والحال؛ فيؤدّيه لله مخلصاً له في ذلك، سليم القلب، طيّب النفس.
ومن كانت همّته من القرّاء أن يتفقّه في سُبُل شكر ما أنعم الله به عليه من نعمة القراءة؛ فإنه يُرجى له أن يمنّ الله عليه بنعم عظيمة، ويختصّه بفضل عظيم، وهذا السبب الخفيّ من أعظم أسباب تفاضل العلماء في الانتفاع بما يقرَأون.
وبه تعلم أن القراءة التي يكون قصد صاحبها التفقّه في الدين واتّباع الهدى وإعلاء كلمة الله تشتمل على عبادات وأحوال عظيمة يحبّها الله تعالى ويقرّب أصحابها، وهو من حين عزمه على القراءة عزماً صادقاً قبل شروعه فيها متلبّس بعبادات جليلة يُثاب عليها.
والثاني: أن يحفظ تلك النعمة بما أمر الله أن تُحفظ به، وفي مستدرك الحاكم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها) وأصله في صحيح مسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: (لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)
وكذلك من أنعم الله عليه بالقراءة ثمّ ترك القراءة فإنه يخشى عليه أن يُسلب بركة هذه النعمة، وأما من شكرها بالمحافظة عليها والمداومة على قراءة ما ينفعه فإنه يرجى له أن يبارك الله له في قراءته وينفعه بها.
والثالث: أن لا يقابل النعمة بالمعصية وفي هذا المعنى أحاديث؛ ومن أسوأ ما يقع من العبد أن يستعمل نعمة الله في معصيته؛ فيقرأ ما يغضب الله عزّ وجلّ من القراءات المحرّمة، وقد كثرت في هذا العصر وتفشّت وانتشرت نسأل الله السلامة والعافية منها.
والرابع: أن يقابل إحسان الله إليه بإحسان العمل، فيعمل عملا صالحا يشكر به ربه على نعمته، ولما كُلّم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وقيامه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال: (أفلا أكون عبدا شكورا)، وقال تعالى: {اعملوا آل داوود شكراً وقليل من عبادي الشكور}.
فالقارئ الشَّكور يستعمل قراءته في طاعة الله، طيّب النفس، صالح القصد، حسن الاتّباع للهدى؛ فيظهر أثر نعمة الله عليه، ويزيده الله من فضله، وهذه الزيادة التي يزيده الله إيّاها خير له من عمله، بل ربما كانت أعظم البركات في قراءته فيما زاده الله من فضله.

فمن حقق هذه الأمور فإنه يرجى له أن يكون من الشاكرين، وأن يُفتح له بسبب شكره ما لم يكن يخطر على قلبه، أو يناله عمله، أو يبلغه أمله.
ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يربّي نفسه على الشكر لله تعالى في جميع أحواله، فإنه مفتاح خير عظيم له.
تأمّلوا قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}
فبيّن الله تعالى أنّه يحبّ الإنعام على من يشكره من عباده، وأنّه يعلم أهل شكر نعمته.
وقال تعالى: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}
فقلب الشاكر قلب طيّب تُثمر فيه النعمة، ويظهر أثرها عليه، فيزيده الله من فضله حتى يبلغه الدرجات العلى.
وقلب الكَفور خبيث لا يقبل النعمة، ولا يظهر أثرها عليه، وإن اجتهد في بعضها فلا يلبث خبث طبعة وسوء قصده أن يغلبه فلا ينتفع بتلك النعمة، ولا يظهر عليه شيء من أثرها إلا بنكد ولأواء.

وهذا المثل من أجلّ الأمثال وأعظمها عبرة في باب النعم والمنع، والعطاء والحرمان، والتوفيق والخذلان، وقضاء الخير وقضاء الشرّ.

وشُكْرُ المتعلِّمِ نِعمةَ العلمِ يكون بحسن تلقّي ما يعلّمه الله، والفرح بفضل الله ورحمته وبما فتح له من أبواب العلم، وما يسّر له من معرفة الهدى، والبصيرة في الدين؛ فهذا شكر تلقّي النعمة.
وشكر أداء حقّها بأن يعمل بما علم ويعلّم غيره، وأن يتخلّق بأخلاق أهل العلم والإيمان، ويتأدّب بآدابهم.
وطالب العلم الجادّ كثير القراءة؛ فإذا كان يقرأ بقلبٍ منيب لله تعالى حريص على الهدى يفرح بفضل الله ويشكر نعمته؛ فإنه يرجى له أن يفيض الله عليه من فضله ورحمته وبركاته ويفتح له من أبواب العلم والهدى والخير ما لم يكن يخطر له على بال ولا يدور في خيال، ولا يسار إليه بقدم، ولا يُطار إليه بجناح.
ولو لم يخرج الطالب من هذه الدروس إلا بهذه الفائدة لكفته، لأنها مع صلاح النيّة أعظم الأسباب نفعاً؛ فكثير من الأسباب المادّية وطرق القراءة ومناهجها إذا لم يصاحبها توفيق الله عزّ وجل وبركته وفضله وعطاؤه عادت وبالاً على صاحبها.


السبب الرابع: الرفق ، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، حتى في قراءة الكتب ومطالعتها؛ فإنّ من حمل نفسه على ما يشقّ عليها أوشك أن ينقطع، والمنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع.
وإنّ من الرفق أن يرفق طالب العلم بنفسه فلا يبغّض إليها طلبَ العلم، ولا ينفّرها منه، ولا يحملها على ما يشقّ عليها، ولا يعرّضها لما يفتنها.
ومن أخذ نفسه بالرفق والحزم انتظم له سيره، وصلح أمره.
والرفق من أسباب إعطاء الله تعالى، كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطى على ما سواه ».
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «من يحرم الرفق يحرم الخير»، وفي رواية لأبي داوود (يُحرم الخير كلّه).
وهذا الأمر إن تأمّلته في أحوال من لم يرفقوا بأنفسهم في القراءة وجدته حقاً:
- فكم ممن كلّف نفسه ما لا تطيق المداومة عليه فلمّا ثقل عليه الأمر ترك القراءة كلها ، أو ترك الانتظام فيما ينفعه منها، وصارت قراءاته متفرقة متناثرة لا تبني له علماً، ولا تفيده تحقيقاً.
- وكم من طالبٍ في مُقتَبَل طَلَبِه لم يرفق بقلبه؛ فعرّضه لأنواع من الفتن؛ حتى انحرف قصده في القراءة، ومال إلى ما يضرّه ولا ينفعه.
فجرى لهذين الصنفين من الحرمان من خير القراءة وبركتها ما هو ظاهر بيّن، ونال المتحلّي بالرفق من الخير والبركة ما يغتبط به.

السبب الخامس: المداومة على القراءة بما يتيسّر له، والمداومة على المتيسّر من أعظم أسباب البركة وأنفعها.
وفي الصحيحين من حديث سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل».
وفي رواية لمسلم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإنْ قل»، قال القاسم: (وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته).
وفي مسند الإمام أحمد من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخلَ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة حسنة الهيئة؛ فقال: من هذه؟
فقلت: هذه فلانة بنت فلان، يا رسول الله هي لا تنام الليل؛ فقال: مَهْ مَهْ، خذوا من العمل ما تطيقون؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يملّ حتى تملّوا، وأحب العمل إلى الله عز وجل ما داوم عليه صاحبُه وإنْ قلّ).
وأصله في الصحيحين، وفي رواية لمسلم أن هذه المرأة هي الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزّى ، من قرابة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى.
وقولها: (لا تنام الليل) أي تقوم الليل كلّه تصلّي.
فأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تأخذ من العمل ما تطيق المداومة عليه، وبيّن لها أنّ أحبّ العمل إلى الله أدومه ، وإن قلّ.

وغير خفيّ على المؤمن اللبيب أنّ الله إذا أحبّ عملاً تقبّله وبارك فيه، ونفع صاحبه به؛ فما الظنُّ بأحبّ العمل إليه؟!!
وهذا التنبيه لا ينبغي أن يُقابل بترك العمل أو هضم النفس فيما تطيق المداومة عليه، فإنّ من حيل الشيطان التي يصدّ بها كثيراً من الناس عن الخير أن يزيّن لهم ترك الميسور من الأمر الذي لهم فيه خير كثير لاشتماله على بعض المعسور، ولو أنّهم أتوا الميسور لكان أرجى لهم أن ييسّر الله لهم ما تعسّر، أو يهيّئ لهم خيراً منه بعد أن يكونوا قد أبلوا عُذْرَهم في عمل الميسور، فإنّ المرء إذا صدق اللهَ صدقه الله.
وليعلم طالبُ العلم أن العلم لا يتهيأ لمن ينكبّ على القراءة بكليّته حتى إذا أحسّ بالملل أو استعجل الثمرة أو اصطدم بعائق نفض يده من القراءة وتركها حتى يطول عهده بها.
وإنما يحصل العلم بالمداومة الرفيقة عليه.
كما قال الزهري رحمه الله: «إنَّ هذا العلمَ إنْ أخذته بالمكاثرة له غلبك، ولكنْ خُذْهُ مع الأيَّامِ والليالي أخذاً رفيقاً تظفرْ به» رواه الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.

وقد يُبتلى طالب العلم بما يرى من ضعف الثمرة في أوّل الأمر، وتعسّر بعض أبواب العلم عليه، وتفوّق بعض أقرانه، لكنّه إذا صبر وداوم على ما يتيسّر له لم يلبث حتى يفتح الله له من فضله ورحمته ما يسرّه ويغتبط به، ويتفوّق به على كثير من أقرانه، وإن سبقوه في أوّل الأمر.
وهذا الأمر ظاهر لمن يتأمّل أحوال طلاب العلم اليوم، وما يبلغ إليه أكثرهم بعد سنوات من الطلب.
فلو أنّ طالب علم داوم على قراءة درسين يومياً لأمكنه أن يتمّ دراسة نحو عشرة متون علمية في عام واحد، ونحو عشرين متناً في عامين، وقليل من طلاب العلم اليوم من يبلغ هذا القدر.
ومن فُتح له في الحفظ فحفظ كلّ يوم عشرة أبيات أمكنه أن يحفظ في عام واحدٍ ألفية ابن مالك في النحو والصرف، وألفية العراقي في علوم الحديث، ونظم الآجرومية للعمريطي أو للشنقيطي، ونظم الورقات، وغيرها.
وكذلك يُقال في حفظ الأحاديث، وقراءة كتب أهل العلم بتقسيم مقاديرها على الأيام والأسابيع.
وقد يُبتلى العبد ببعض الصوارف والقواطع والحوادث المعوّقة عن الانتظام في بعض الأيام، فإذا أخذ نفسه بالمجاهدة والانتظام على ما يطيق رُجي له أن يكتب له أجره كأنما عمل ذلك العمل، وأن يَفتح الله له ما يعوّضه عمّا فاته.
والمقصود التنبيه على هذا السبب المهمّ للانتفاع بالقراءة.

السبب السادس: اتباع سبيل أهل العلم في القراءة؛ فإنّ القراءة العلمية ليست وسيلة مستحدثة بل هي من صالح سنن أهل العلم الذين أحسنوا القراءة والتعلّم حتى تبوأوا من المكانة العالية في العلم والإمامة في الدين ما عُرف به فضلهم وسَبْقهم، وأن من أراد أن يظفر بمثل ما ظفروا به فعليه أن يسلك سبيلهم ويقتفي أثرهم.
وقراءة سير أهل العلم ، وتعرّف طرائقهم في القراءة، وتنبيهات علماء كلّ فنّ على كتبهم ومؤلفات أئمته، من أعظم أسباب تمكن طالب العلم من المعرفة الحسنة بتنظيم قراءته وتحسينها.
وسنتعرّف في هذه الدروس بعون الله تعالى على شيء من ذلك.

السبب السابع: الإعراض عن اللغو، ولا سيما القراءة فيما لا نفع فيه، وما فيه فتنة لقلب صاحبه وتضييع لوقته.
ولا يخفى أنّ للقراءة تأثيراً على القلب والنفس، وكم من فتنة حصلت للعبد بسبب أمر قرأه، أو شيء اطّلع عليه فقاده للبحث والقراءة فيما يضرّه أو يضيع وقته.
وقد بيّن الله تعالى أن من أسباب فلاح عباده المؤمنين: إعراضهم عن اللغو كما قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون ...}
ولا يستقيم للعبد حفظ وقته ، وحفظ زكاة نفسه، وطهارة قلبه، وهو لا يعرض عن اللغو.
فلذلك فإنّ من أهمّ الصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها القارئ اللبيب أن يعرض عن لغو القراءة، وقد كثر اللغو في هذا الزمان، وكثرت وسائل القراءة بتعدد وسائل تقنية المعلومات وكثرت الفتن وعظمت، ومن جاهد نفسه ليحفظ وقته من اللغو؛ فإنه يسلم بذلك من فتن كثيرة، ويحفظ قلبه من شرور عظيمة، ويجنب نفسه خسارات مني بها من تساهل في هذا الأمر ، وفرّط في حفظ وقته وقلبه وزكاة نفسه.
ومن وقع في شيء من ذلك فليبادر إلى التوبة والاستغفار، وليحرص على إتباع السيئة الحسنةَ؛ فإنّ الحسنات يذهبن السيئات.


وهذه الأسباب تورث الآخذ بها الحرص على القراءة النافعة، واجتناب القراءة الضارّة، وتورثه تصحيح مقاصد القراءة وإحسانها؛ فيحسن اختيار الكتاب الذي يقرأه، ويكون همّه أن ينتفع بالكتاب بقراءته إيّاه؛ فيحرص على تفهّمه، ويعرف حقّ الله فيه.
وأما من يقرأ للتكثّر بالقراءة والزهو بها فإنّه على خطر من أن يحرم الانتفاع بقراءته والاعتبار بما يرى من العبر والآيات، وقد قال الله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا }
قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه في ذمّ من يتكثّر برواية الأحاديث فيجمع الصحيح والضعيف ورواية من لا يعتدّ بروايته تكثراً قال: (ولا أحسب كثيراً ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن والضعف - إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال: ما أكثر ما جمع فلان من الحديث، وألّف من العدد!!
ومن ذهب في العلم هذا المذهب، وسلك هذا الطريق فلا نصيب له فيه، وكان بأن يسمّى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم)ا.هـ.

وكان بعض العلماء لا يكثرون من اقتناء الكتب، وإنما ينتقون من الكتب أهمّها وأجمعها وأنفعها فيقبلون على قراءتها وتفهّمها وتكرارها حتى يستظهرون ما فيها.
وهذا مذهب من يرى الاقتصار على ضبط القليل وترك الازدياد مما لا يستطيع ضبطه.
ومن أهل العلم من يهبه الله سعة اطلاع بعد أن يضبط أصول العلم؛ فيقرأ كتباً كثيرة جداً لكنها قراءة عن علم وبصيرة؛ ليست تكثّراً، ولا قراءة عشوائية، ولا لأجل أن يقال: ما أكثر ما قرأ فلان.
والمقصود أن القراءة إنما تنفع صاحبها إذا صحّت نيّته فيها، وصحّت طريقته، ولا ينال العبد ذلك إلا بتوفيق من الله تعالى؛ فعاد الأمر كلّه إلى فضل الله ورحمته، نسأل الله من فضله ورحمته.


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثالث, الدرس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:41 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir