مجلس أداء التطبيق الرابع من تطبيقات مهارات التخريج
المجموعة الثالثة:
( 1 ) قول الشعبي في تفسير قول الله تعالى: {تتخذون منه سكراً} السكر: النبيذ.
الدراسة والتخريج:
روى هذا القول عن الشعبي ابن جرير في تفسيره من ثلاثة طرق:
طريقين أصل الإسناد فيهما أبو روق عن الشعبي وذكر فيهما أن السكر النبيذ والخل
والطريق الثالثة عن وكيع عن أبو أسامة وأحمد بن بشير عن مجالد عن الشعبي وذكر فيه أن السكر النبيذ
وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد استعراضه للأقوال الواردة في الآية.
[يقال في تخريج القول المطلوب تخريجه: رواه ابن جرير الطبري من طريق مجالد عن الشعبي قال: ( السكر النبيذ ) ، ثم تذكر الأقوال الأخرى المروية عنه ]
كما روى ابن جرير في تفسيره والبيهقي في السنن والآثار مرويات عن الشعبي تخالف هذا القول أصل الإسناد فيها: المغيرة عن الشعبي أفادت بأن الآية منسوخة مما يعني أن تفسير السكر هنا هو ما حرم من الخمر ونحوه.
وذكر السيوطي في الدر المنثور أن ابن الأنباري أخرج نفس القول عن الشعبي.
وقد مر علينا في سير أعلام المفسرين أن ممن روى عن الشعبي
مغيرة بن مقسم، ومجالد بن سعيد ولم يذكر أبو روق ولا أستطيع الحكم على صحة الأسانيد عنهم .
[ لفظ النبيذ عام ؛ فقد يكون منه ما يسكر، وقد يكون منه ما لا يسكر ، ولذلك اختُلف في فهم قول الشعبي، ولهذا الاختلاف أثره في القول بنسخ الآية أو بقاء حكمها ]
التوجيه:
المسألة لها علاقة باللغة وابن جرير حين رجح القول بأن معنى السكر النبيذ والخل وغيره مما هو حلال، احتج بأن أحد معاني السكر في اللغة ما طعم من الطعام، ورجح هذا القول كونه مما صح في اللغة
العربية.
وغيره ممن رجح القول بأن المعنى هو الخمر وما أسكر من الشراب قال بأن العرب تطلق اسم السكر على ما يحصل به السكر.
كما أن للمسألة تعلق بالأصول ومتى يجوز اطلاق النسخ على الآية ومتى لا يجوز، وهل يصح نسخ الخبر؟ ولعل هذا هو سبب ميل بعض المفسرين لتفسير السكر بما هو حلال من الشراب تجنبا للقول بنسخ الآية.
ولها علاقة بالمعنى المستفاد من الآية فالبعض أنكر الامتنان بما حرم والبعض ذكر بأن السكر ذكر على سبيل الاعتبار
وقد روي القولين عن الشعبي ولعل تحرير المسألة يفيدنا أكثر في توجيه كل قول.
تحرير المسألة:
الأقوال في معنى السكر
القول الأول: أن المعنى الخمر وما في معناه مما يحرم بسبب الإسكار وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة، وإبراهيم والشعبي وأبي رزين والحسن وابن أبي ليلى والضحاك وذكره البخاري في صحيحه، قال الشنقيطي وهو قول الجمهور.
واحتج أصحاب هذا القول بأن العرب تطلق اسم السكر على ما يحصل به السكر
وأصحاب هذا القول وجهوا سبب ذكر المحرم في الآية بعدة توجيهات منها.
1. أن الآية منسوخة بآية تحريم الخمر كونها مكية وتحريم الخمر وقع في المدينة.
2. أن اتخاذ السكر هنا جاء على سبيل الاعتبار.
3. أن الله سبحانه ذكر نعمته في السكر قبل تحريم الخمر.
4. إِنَّ قَوْلَهُ" تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً" خَبَرٌ مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ أَتَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدَعُونَ رِزْقًا حَسَنًا الْخَلَّ وَالزَّبِيبَ.
القول الثاني أن السكر هو كلّ ما كان حلالاً شربه مما يستخلص من هذه الثمار، كالنّبيذ الحلال، والخلّ وغيره.
وقد روى هذا القول الطبري عن الشعبي ومجاهد ورجحه.
واحتج بأن للسكر معان لغوية صحيحة غير السكر مع عدم وجود دليل على النسخ.
ومن خلال الرجوع لبعض التفاسير فقد ذكر الزجاج القولين واعترض على بعض ما استدل به أصحاب القول الثاني، وذكر ابن عطية القولين دون ترجيح، ونقل القرطبي عن ابن العربي ترجيحه للقول الأول، ورجح الشنقيطي القول الأول، ولم يذكر ابن عاشور إلا القول الأول.
أما السعدي فقد أجمل جميع المعاني بعبارة مختصرة توحي بأن جميع المعاني له وجه من الصحة والاعتبار فقال:
وجعل تعالى لعباده من ثمرات النخيل والأعناب منافع للعباد، ومصالح من أنواع الرزق الحسن الذي يأكله العباد طريًّا ونضيجا وحاضرا ومدخرا وطعاما وشرابا يتخذ من عصيرها ونبيذها، ومن السكر الذي كان حلالا قبل ذلك، ثم إن الله نسخ حلَّ المسكرات، وأعاض عنها بالطيبات من الأنبذة، وأنواع الأشربة اللذيذة المباحة.
الترجيح:
لعل الصواب أن قول الجمهور أكثر ورودا للذهن والمعنى المتبادر للسكر هو شرب المحرم من المسكرات ولا بأس بذكره في الآية على سبيل الامتنان قبل التحريم وعلى سبيل الإعجاز والاعتبار بعده، ولا مانع من تفسير الآية بغير ذلك من المعاني اللغوية الصحيحة للسكر فكلها نعم عظيمة من رب كريم
[ حرف المسألة أن لفظ السكَر بفتح الكاف أعمّ من المسكِر؛ فهو يُطلق على ما يُستحلى من الشراب وعلى ما يُسكر منه، وكذلك النبيذ يطلق على المُسكر من الشراب الذي يُنتبذ فيه بعض الثمرات وعلى ما لم يبلغ حدّ الإسكار منه؛ وعلى ذلك فقول الشعبي: (السكر النبيذ) جامع للقولين، ولذلك اختلف الرواية عنه فروى عنه أبو روق أنها غير منسوخة، وروى عنه مغيرة أنها منسوخة ]
( 2 ) قول محمد بن سيرين ( {السابقون الأولون} الذي صلوا القبلتين.
التخريج:
روى هذا القول عن ابن سيرين الطبري في تفسيره قال:
حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن بعض، أصحابه، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، وعن أشعث، عن ابن سيرين، في قوله: {والسّابقون الأوّلون} قال: هم الّذين صلّوا القبلتين.
وذكر السيوطي أن ابن المنذر وأبو نعيم أخرجا عن محمد بن سيرين في قوله {والسابقون الأولون} قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعا وهم أهل بدر. ولم أعثر عليه.
[ تفسير ابن المنذر لم يطبع كاملاً فلك العذر إذا لم تجدي هذا الأثر فيما طبع منه، لكن كتب أبي نعيم المطبوعة موجودة فيبحث عن هذا الأثر فيها قبل ذلك ، وقد أخرجه في كتاب "معرفة الصحابة"]
[ يقال في التخريج: رواه ابن جرير في تفسيره وأبو نعيم في معرفة الصحابة من طريق أشعث بن سوار عن ابن سيرين، ورواه ابن المنذر كما في الدر المنثور للسيوطي]
التوجيه:
يمكن أن تكون من في الآية للتبعيض وهو القول الذي اختاره ابن سيرين، فيكون المقصود بعض المهاجرين الذين صفتهم أنهم السابقون الأولون ولبيان حد سبقهم جاء عدة أقوال منها ما روي عن ابن سيرين أنهم الذين أسلموا وهاجروا وصلوا قبل تغيير القبلة
[ من هنا بيانية، لكن ما أشرت إليه يُسمّى التخصيص بالصفة ]
تحرير المسألة:
جاء في المسألة قولين:
[ قولان ]
القول الأول: أن من للتبعيض فيكون المقصود بعض المهاجرين والأنصار الذين لهم السبق وقد اختلفت أقوال المفسرين في بيان حد سبقهم على أقوال:
1. أنهم الذين صلوا القبلتين جميعا وهو قول أبو موسى، وقتادة، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين
2. أنهم الذين شهدوا بيعة الرضوان وهو قول الشعبي وعامر
3. أنهم الذين شهدوا بدرا ذكره ابن عطيه عن عطاء
القول الثاني: أن من لبيان الجنس فيشمل القول جميع المهاجرين إلى أن انقطعت الهجرة، ذكره ابن عطية وحصره بالمهاجرين قال ابن عاشور عن اختيار ابن عطية: لَا يُلَاقِي قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِخَفْضِ الْأَنْصارِ، وأكد أن من للتبعيض وليست للبيان.
الترجيح:
لم أجد تحريرا يمكنني من البت في المسألة، لكن لفت نظري أن ابن عطية لما قال أن من هنا لبيان الجنس ولست للتبعيض قصر السبق على جميع المهاجرين دون الأنصار وفي فهمي القاصر أن اللفظ يحتمل شمول الفريقين فيكون السبق لجميع المهاجرين والأنصار فيعطون الفضل جميعا، وبذلك ينتفي اعتراض ابن عاشور على خفض لفظ الأنصار والله أعلم.
[ الصحيح أنّ من بيانية على القولين ، لكن هل السابقون الأولون هم جميع المهاجرين والأنصار أو بعضهم ؟ هذه مسألة تعرف ببيان المراد بالصفة هل هي كاشفة أو مقيّدة؟
فإذا قيل بأنها كاشفة فجميع المهاجرين والأنصار سابقون أولون، وهذا صحيح باعتبار سائر الأمة، ويكون معنى {والذين اتبعوهم} أي اتبعوا الصحابة من المهاجرين والأنصار.
وعلى القول بأنها صفحة مقيّدة فالسابقون الأولون هم أئمة المهاجرين والأنصار الذين سبقوا إلى الإسلام ثم تذكر الأقوال في تعيينهم بالوصف
والقولان صحيحان لا تعارض بينهما؛ فالصحابة بالنسبة لسائر الأمة سابقون أولون، وبالنسبة لبعضهم البعض فمنهم سابق ومنهم لاحق]
( 3 ) قول عطاء بن أبي رباح: ( التفث: حلق الشعر وقطع الأظفار )
التخريج:
وجدت هذا التفسير بهذا النص في تفسير القرآن العظيم ليحيى بن سلام، حيث روى هذا التفسير عن قيس بن سعد عن عطاء، وقيس بن سعد أحد الثقات من المرتبة الأولى ممن روى عن عطاء
وقد رويت عن عطاء روايات أخرى تدل على نفس المعنى بألفاظ مختلفة.
منها ما رواه الطبري عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس قال: التّفث: حلق الرّأس، وأخذٌ من الشّاربين، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقصّ الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والموقف بعرفة، والمزدلفة.
[ يقال: رواه يحيى بن سلام البصري من طريق قيس بن سعد عن عطاء به. ثم تذكر الأقوال الأخرى ]
التوجيه
ذكر عطاء في الرواية محل الدراسة بعض ما رواه عن ابن عباس في رواية أخرى واختصر ما فصل من أخذ الشعر، لكنه لم يذكر بقية المناسك التي رويت في الرواية الأخرى، ولعله ربط المعنى بالمعنى اللغوي للتفث على رأي البعض أنه الوسخ وقضاؤه قطعه والله أعلم.
تحرير المسألة:
بعض اللغويين ذكر بأن هذه الكلمة لم تكن معروفه قبل القرآن وأنه لم يجد لها شواهد، والبعض أنكر ذلك وذكر بأنها كانت معروفة وذكر لها شاهدا من اللغة، والقاعدة أن المثبت مقدم على النافي لكن ابن عاشور رجح القول الأول كون من قال به أقوى وشكك في شواهد أصحاب القول الثاني
أما المفسرين
[ المفسرون] فبعضهم رأى أن التفث هو الوسخ وقطعه إزالته
وبعضهم شمل مناسك الحج وأفعاله كلها، ومنها ما يحدث من التقصير والتنظف بعد التحلل
الترجيح:
رجح ابن عاشور أن المراد المناسك حيث قال:
وَعِنْدِي: أَنَّ فِعْلَ لْيَقْضُوا يُنَادِي عَلَى أَنَّ التَّفَثَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَلَيْسَ وَسَخًا وَلَا ظُفْرًا وَلَا شَعْرًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ آنِفًا. وَأَنَّ مَوْقِعَ (ثُمَّ) فِي عَطْفِ جُمْلَةِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَبْلَهَا يُنَادِي عَلَى مَعْنَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَيَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِ (ثُمَّ) أَهَمُّ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهَا فَإِنَّ أَعْمَالَ الْحَجِّ هِيَ الْمُهِمُّ فِي الْإِتْيَانِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ التفث هُوَ من مَنَاسِكُ الْحَجِّ
وقد وجدت عددا من المفسرين شملوا المناسك مع إزالة الأوساخ، قال ابن عطية::
«التفث» ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك
وقال الشوكاني في فتح القدير:
فَإِذَا قَضَى نُسُكَهُ وَخَرَجَ مِنْ إِحْرَامِهِ حَلَقَ شَعْرَهُ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ، فَهَذَا هُوَ قَضَاءُ التَّفَثِ. قَالَ الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال.
وكذلك جمع السعدي بين الاثنين وهذا هو المروي عن ابن عمر وابن عباس والله أعلم