المجموعة الثانية:
1: فسّر قول الله تعالى:
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}.
بعد ذكر تعالى تحويل القبلة وما قاله السفهاء في ذلك، وحاجَّهم في أمرها، أخبر تعالى أن لكل قوم قبلة يتجهون إليها، او أنه يولي أهل كل دين قبلتهم التي ارتضاها لهم، قال ابن عطية: "وقالت فرقة: المعنى أن للكل دينا وشرعا وهو دين الله وملة محمد وهو موليها إياهم اتبعها من اتبعها وتركها من تركها، وقال قتادة: المراد أن الصلاة إلى الشام ثم الصلاة إلى الكعبة لكل واحدة منهما وجهة الله موليها إياهم"، ثم أمر تعالى باستباق الخيرات والمبادرة غلى الطاعات، فقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}، ومن ذلك الاتجاه نحو الكعبة قبلة المسلمين ودين خاتم النبيين، ثم وعظ تعالى وحذر بالبعث والحشر؛ فقال: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}، وأتبع ذكر بذكر قدرته تعالى على كل شيء؛ فختمت الآية بصفة من صفات الله تعالى متناسبة مع الأمر المتقدم عليها.
2: حرّر القول في كل من:
أ: المراد بالشهادة في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}.
1- المراد الشهادة في الآخرة على جميع الأمم التي كذبت بلاغ رسلها إليها؛ فتشهد هذه الأمة بصدقهم فيما بلغوا- بناء على الوحي الذي جاء إلينا بذلك-، ويشهد رسول الله عليه وسلم بصدقهم في تلك الشهادة.
2- المراد شهادتهم واحتجاجهم في الدنيا على سائر المخالفين، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم لهم واحتجاجه عليهم،، وفي هذا القول نظر؛ لأن الرسول مبين لسائر الناس.
3- وقال مجاهد: معنى الآية تشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ الناس في مدته من اليهود والنصارى والمجوس.
4- معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرت به جنازة فأثني عليها بالخير، فقال: «وجبت» ثم مر بأخرى، فأثني عليها بشرّ، فقال:«وجبت»، يعني الجنة والنار، فسئل عن ذلك، فقال: «أنتم شهداء الله في الأرض»، وروي في بعض الطرق أنه قرأ لتكونوا شهداء على النّاس.
الترجيح: أرى - والله أعلم- أن الأقوال جميعها متعاضدة غير متعارضة فيما بينها؛ فيجوز أن يكون المراد شهادتهم في الدنيا على بعضهم بعد الموت، واحتجاجهم على المخالفين لهم، وفي الآخرة على بلاغ الأنبياء لأقوامهم ومن ذلك بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم لسائر الناس،.
ب: معنى قوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجّة إلا الذين ظلموا منهم}.
المعنى: قد عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة لئلا يكون للناس عليكم حجة، إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك على من حجة إلا الظلم، المعنى: ما لك عليّ من حجة ألبتّة، ولكنك تظلمني، وما لك على حجة إلا ظلمي, وإنما سميّ حجة ؛ لأن المحتج به سماه حجة وحجّته داحضة عند اللّه.
والمراد بالناس عمومهم، عربا ويهودا وغيرهم. فالاستثناء متصل، والمراد بالظلمة كل من تكلم في هذا من مشرك ويهودي وغيرهم في قولهم ما ولّاهم استهزاء، وفي قولهم: تحير محمد في دينه، وغير ذلك من الأقوال. وهذا هو الراجح والله أعلم؛ لأن الحمل على العموم أولى.
وقيل: المراد اليهود؛ فيكون الاستثناء منقطعا، والمراد بالظلمة مشركي العرب، يعني كفار قريش في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله، وقد ضعف ابن عطية هذا القول؛ لقوله تعالى: {منهم}؛ مما دل على اتصال الاستثناء، وهو الأصل.
قال ابن كثير: "ووجّه بعضهم حجّة الظّلمة وهي داحضةٌ أن قالوا: إنّ هذا الرّجل يزعم أنّه على دين إبراهيم: فإن كان توجّهه إلى بيت المقدس على ملّة إبراهيم، فلم رجع عنه؟ والجواب: أنّ اللّه تعالى اختار له التّوجّه إلى بيت المقدس أوّلًا لما له تعالى في ذلك من الحكمة، فأطاع ربّه تعالى في ذلك، ثمّ صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة فامتثل أمر اللّه في ذلك أيضًا، فهو، صلوات اللّه وسلامه عليه، مطيعٌ للّه في جميع أحواله، لا يخرج عن أمر اللّه طرفة عينٍ، وأمته تبع له."
3: بيّن ما يلي:
أ: الحكمة من تكرار الأمر بتحويل القبلة في الآيات.
للعلماء في ذلك أقوال بسطها فخر الدين الرازي، وأهمها كما ذكروا:
1- تأكيدا من الله تعالى؛ لأن أمر التحويل كان صعبا على نفوسهم؛ فهو أول ناسخ في الإسلام، كما روي عن ابن عباس؛ فكررت تأكيدا واهتماما ليقبلوا على الامتثال.
2- هو منزّلٌ على أحوال، فالأمر الأوّل لمن هو مشاهدٌ الكعبة، والثّاني لمن هو في مكّة غائبًا عنها، والثّالث لمن هو في بقيّة البلدان، هكذا وجّهه فخر الدّين الرّازيّ.
3- الأوّل لمن هو بمكّة، والثّاني لمن هو في بقيّة الأمصار، والثّالث لمن خرج، في الأسفار. ذكره القرطبيّ ورجّحه ».
4- إنّما ذكر ذلك لتعلّقه بما قبله أو بعده من السّياق، فقال: «أوّلًا» {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلةً ترضاها...} فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يودّ التّوجّه إليها ويرضاها؛ وقال في الأمر الثّاني: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وإنّه للحقّ من ربّك وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون} فذكر أنّه الحقّ من اللّه وارتقى عن المقام الأوّل، حيث كان موافقًا لرضا الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم فبيّن أنّه الحقّ أيضًا من اللّه يحبّه ويرتضيه، وذكر في الأمر الثّالث حكمة قطع حجّة المخالف من اليهود والمشركين.
ب: فضل سادات الصحابة في حادثة تحويل القبلة، مع الاستدلال.
يتجلى فضل الصحابة رضوان الله عليهم في هذه الحادثة؛ من خلال سرعة امتثالهم للأمر الناسخ لما تقدم الأمر به إليهم؛ حيث كانوا يصلون فأتاهم من أخبرهم بأمر التحويل؛ فاستداروا من فورهم إلى الكعبة، لم يتلكؤوا او يتباطؤوا، أو ينتظروا حتى ينتهوا من صلاتهم ليتأكدوا من صدق الخبر، وإنما امتثلوا وبادروا فور بلوغ الخبر إليهم.
فعن البراء -رضي اللّه عنه-: «أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس ستّة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنّه صلّى أوّل صلاةٍ صلاها، صلاة العصر، وصلّى معه قومٌ. فخرج رجلٌ ممّن كان صلّى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد باللّه لقد صليت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قبل مكّة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجالًا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ:{وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إنّ اللّه بالنّاس لرءوفٌ رحيمٌ}», انفرد به البخاريّ من هذا الوجه. ورواه مسلمٌ من وجهٍ آخر.
ج: متعلّق الاستعانة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة}.
حُذف المتعلق للعموم؛ فيدل على كل ما يستعان عليه من أمور الدين والدنيا، فالعبد إما أن يكون في نعمة يستعين عليها بالشكر، أو نقمة يستعين عليها بالصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.