دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الثاني 1440هـ/17-12-2018م, 09:35 PM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي موضوع نشر بحث اجتياز المستوى السابع

موضوع نشر بحث اجتياز المستوى السابع


* هذا الموضوع لنشر بحث اجتياز المستوى السابع، ويصحح في صفحة الاختبارات.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12 ربيع الثاني 1440هـ/20-12-2018م, 12:09 AM
نورة الأمير نورة الأمير غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز - مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 749
افتراضي بحث بعنوان: (تفاضل الآيات والسور)

بحث بعنوان: (تفاضل السور والآيات)



*المقدمة:

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن أشرف الكلام كلام الله، وأشرف العلم ما تعلق بكتابه، ومن هنا جاء اهتمامنا بالبحث حول إحدى المواضيع المتعلقة بعلوم القرآن، والمثرية لمسائله، سائلين المولى أن يرزقنا الإخلاص، وينفع بنا العباد، وأن يهدينا إلى جادة الحق والصواب، راجين منه أن يعيننا على فهم مقاصده، وتحقيقها كما ينبغي، لا مجرد إثراء الساحة العلمية والتباهي بذلك، دونما تحقيق للمعاني، وامتثال للألفاظ.



-أسباب اختيار الموضوع وأهميته:

تكمن أهمية الموضوع في تحريره تحريرا جيدا للوصول للحق، وتقرير الراجح، وعرض آراء من سبقونا بجمعها وتوجيهها، ثم نقدها وبيان الراجح منها، وبتحقيق التفاضل بين الآيات والسور يتقرر فهم الآيات والأحاديث القائلة بذلك فهما صحيحا، كما يتأكد تفاضل بعضها على بعض من حيث تقديمها في مقام دون آخر، وبذلك يعرف حق كل آية وسورة ومقامها، فمن عرف الفضائل تقرب لله بذلك، وكما يتقرب لله بمحبة أهل بيت رسوله، إيمانا بتفضيل الله لهم، فإن معرفة ما فضله الله من آياته وسوره يدعو للتقرب له بما يحبه ويفضله منها في موضع دون آخر، ولعلنا مع البحث يتبين لنا بإذن الله مكامن وأسرار أخر، فنذكرها ونبين علاقتها بأهمية هذا البحث ومضمونه.



-الدراسات السابقة:

أما فيما يخص الدراسات السابقة، فهذا مما زادني حماسة لإفراد هذا الموضوع بالبحث، فاطلاعي المتواضع على ما كتب في هذا الموضوع بين لي عدم وجود مؤلف مفرد في هذا الموضوع، وكل ما ورد فإنما ورد في بحوث ومؤلفات عامة، تناولت علوم القرآن ومسائله، فكان هذا الموضوع أحد مسائلها، أو أشارت إليه تعريضا أو تلميحا، كما وقع ذلك في كتب الحديث وشروحها، والتي أوردت أحاديث تفضيل سورة ما أو آية، أو في كتب التفسير التي تعرضت لبعض الآيات التي يفهم منها تفضيل آية على أخرى، أو كتب العقيدة التي تعرضت لهذا المبحث من خلال الحديث عن صفات الله وكلامه، ونحو ذلك، ومن هذه الكتب: 

جامع البيان للطبري، وإعجاز القرآن والانتصار للقرآن للباقلاني، والهداية لمكي، والاستذكار لابن عبدالبر، وزاد المسير لابن الجوزي، والجامع لأحكام القرآن والتذكار للقرطبي، ومن أهمها بلا شك البرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي، ومجموع فتاوى ابن تيمية، وقد جاءت كذلك مفرقة في كتب الأحاديث وشروحها كشرح الباري، كما لا أنكر استفادتي من كتاب الشيخ الداخل -حفظه الله- والذي بعنوان (بيان فضل القرآن) ومقالات أخرى وضعتها في المراجع عرفانا لأهلها بالجميل، إذ استفدت منها بحسن الجمع، والإثراء بالمراجع، واختلاف العقول والأفهام وحسن التحرير، مما زاد من استفادتي ومحاولة إحاطتي بالموضوع، كما أحب أن أذكر وللأمانة اطلاعي على خطة بحثية نشرت دون البحث، يبدو لي أن صاحبها ضمّن بحثه موضوع التفاضل في القرآن وسوره وآياته، لكنه لم يكن العنوان الرئيسي، وهذا البحث بعنوان: (التفاضل في القرآن الكريم:دراسة موضوعية) للطالب حسين بن عبدالله عبدلي، التابع لكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد جاء البحث بطريقة موضوعية يجمع بها ما ذكر تفاضله من الأشياء والأعمال والأخلاق في القرآن الكريم، فالدراسة هنا متوسعة مستعرضة لعدة مواضيع تحت هذا العنوان، وموضوعنا أحدها، ودراسة أخرى للباحث عبدالسلام الجارالله في فضائل القرآن الكريم، وقد كانت دراسة نفيسة، استفدنا منها استفادة كبيرة، وهي من أفضل ما اطلعنا عليه من المتأخرين، ولكنها كذلك لم تكن من الدراسات المستقلة في هذا الموضوع -وإن أجادت عرضه وأحسنت-، وبذلك يتضح لنا عدم وجود مبحث متخصص بهذا الموضوع اختصاصا مستقلا.



-مما سبق يتضح لك أن ما ستخرج به من دراستي هو: 

-جمع ما يتعلق بموضوع (تفاضل السور والآيات) في بحث مفرد مستقل.

-تحرير الأقوال وعرضها، مع محاولة توجيهها ونقدها.

-بيان الرأي الراجح في المسألة مع ذكر أسباب الترجيح وأدلته.

-تحرير المراد بالتفاضل، وذكر مجالاته، مع طرح أمثلة على ذلك.


*خطة البحث:

*الفصل الأول: مقدمة في تفاضل الآيات والسور.

-المبحث الأول: بيان (التفاضل) لغة.

-المبحث الثاني: بيان (تفاضل الآيات والسور) اصطلاحا.

-المبحث الثالث: الفرق بين خواص القرآن وفضائله.



*الفصل الثاني: تفاضل القرآن والخلاف فيه.

-المبحث الأول: القائلون بعدم تفاضل القرآن، وأدلتهم.

-المبحث الثاني: القائلون بتفاضل القرآن، وأدلتهم.

-المبحث الثالث: منشأ الخلاف في المسألة.

-المبحث الرابع: خلاصة المسألة والرأي الراجح فيها.



*الفصل الثالث: أوجه التفاضل بين الآيات والسور.

*الفصل الرابع: هل التفضيل بين السور والآيات توقيفي أم اجتهادي؟



*الخاتمة:

-ما توصلنا إليه في البحث.

-أهم التوصيات.

-شكر وعرفان.


*الفصل الأول: مقدمة في تفاضل الآيات والسور.

-المبحث الأول: بيان (التفاضل) لغة.
جاء في لسان العرب: فضل: الفضل والفضيلة معروفٌ: ضدّ النّقص والنّقيصة، والجمع فضول.
والفضيلة: الدّرجة الرفيعة في الفضل، والفاضلة الاسم من ذلك. والفضال والتّفاضل: التّمازي في الفضل. وفضله: مزاه. والتّفاضل بين القوم: أن يكون بعضهم أفضل من بعضٍ. ورجلٌ فاضل: ذو فضل. ورجلٌ مفضول: قد فضله غيره. ويقال: فضل فلانٌ على غيره إذا غلب بالفضل عليهم. وقوله تعالى: "وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلًا"، قيل: تأويله أن اللّه فضلهم بالتّمييز.... وتفضل عليه: تمزى. وفي التّنزيل العزيز: "يريد أن يتفضل عليكم" معناه: يريد أن يكون له الفضل عليكم في القدر والمنزلة. والإفضال: الإحسان.(1)
وقال أبو هلال العسكري: الفاضل هو الزائد على غيره في خصلة من خصال الخير، والفضل الزيادة يقال فضل الشيء في نفسه إذا زاد وفضله غيره إذا زاد عليه وفضله بالتشديد إذا اخبر بزيادته على غيره.(2)
فنجد هنا أن مفردة الفضيلة تدور حول معنى الزيادة والرفعة والمزية، واللذان يعودان على الزيادة كذلك، ونجد في تعريف أبي هلال تعريفا دقيقا للتفاضل الذي نتباحثه هنا، والذي لا سيما في جانب التباحث وتحرير المسألة سيتضح أنه هو المعنى المراد في الجانب الاصطلاحي.


*المبحث الثاني: بيان (تفاضل الآيات والسور) اصطلاحا.
بناء على المعنى اللغوي والذي أفاد أن التفاضل يراد به التمايز في الفضل بين شيئين فأكثر، وفاضل الرجل غيره مفضالة وفضالا: إذا تذاكر فضائلهما للنظر أيهما أفضل. فعلى هذا يكون المراد بتفاضل الآيات والسور والمفاضلة بينها: هو النظر في فضل بعضها على بعض، ليحكم به استنادا على الأدلة. (3)

*المبحث الثالث: الفرق بين خواص القرآن وفضائله.

خواص القرآن الكريم تعني تأثير القرآن الكريم، أو بعض سوره وآياته في جلب المنافع، ودفع المضار أو رفعها.(4)
أما فضائل القرآن الكريم فعنوان لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعلم القرآن وتعليمه عموماً، أو في حق بعض الآيات والسور من الفضل والثواب، والأجر الدنيوي والأخروي.(5)
فمن خلال التعريف بخواص القرآن الكريم، وفضائل القرآن الكريم، يظهر الارتباط الوثيق بين خواص القرآن الكريم وفضائله، ولا يبعد قول من قال: إن خواص القرآن الكريم جزء من فضائل القرآن الكريم؛ لأنها توضح وتظهر شرف القرآن الكريم وبركته وفضله ومزاياه، في جلب النعم، ورفع النقم؛ ولذلك يذكر المصنِّفون في فضائل القرآن الكريم ما جاء في بعض السور والآيات من الرقية والاستشفاء بها كسورة الفاتحة، والمعوذتين، وآية الكرسي، وغير ذلك كثير.
حتى تناول بعض العلماء علم خواص القرآن الكريم بانفراد عن فضائل القرآن الكريم، فأصبح له تعريفه المستقل، ومؤلفاته الخاصة به، إما باسم خواص القرآن الكريم، أو أسرار ومنافع القرآن الكريم ونحو ذلك.(6)


*الفصل الثاني: تفاضل القرآن والخلاف فيه.
لما دخل الاضطراب في صفات الله والكلام فيها في كتب العقيدة، خصوصا مسألة أن القرآن كلام الله، وما يجره القول بذلك، والحديث كذلك في قوله تعالى: “ما ننسخ من ءاية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها”، ونحو ذلك مما أثار الحديث حول: هل كلام الله بعضه أفضل من بعض؟ نشأ من هنا الخلاف في المسألة، لوجود هذه المعضلة وصعوبة الحكم فيها لتعلقها بصفات الله، وقد تناول الحديث فيها المفسرون كذلك عند مرورهم بالآيات والسور التي ورد فيها فضل خاص، وعلماء العقيدة في باب الصفات، والمؤصلون في باب النسخ، فكثر الحديث فيها وانتشر الخلاف، وسنحاول بإذن الله حل الإشكال هنا بعرض الآراء أولا ما بين القائلين بالتفاضل والنافين، وأدلة كل قوم النقلية والعقلية، ومن ثم توجيه هذه الأقوال لمعرفة منشأ الخلاف، لنصل إلى خلاصة المسألة والرأي الراجح فيها.


*المبحث الأول: القائلون بعدم تفاضل القرآن، وأدلتهم.
ذهبت طائفة من المتكلمين منهم أبو الحسن الأشعري، وأبو بكر الباقلاني إلى أنه لا فضل لبعض القرآن على بعض، وقال به طائفة من كبار المحدثين.
وبه قال أبو حاتم بن حبان، فقد ذكر في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرك بأفضل القرآن)) قال: أراد به بأفضل القرآن لك، لا أنَّ بعض القرآن يكون أفضل من بعض، لأنَّ كلام الله يستحيل أن يكون فيه تفاوت التفاضل.
ورُويَ معناه عن الإمام مالك، فقد قال يحيى بن يحيى صاحب مالك: تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ، ولذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد سورة دون غيرها. (7)
لكنك لا تجد في قول مالك صراحة في نفي التفاضل، بل هو نقل عن صاحبه يحيى، وقد يراد بالكراهة ألا يهجر بعض القرآن لا أن في ذلك دلالة على عدم تفاضله، كما وقد وجدنا في تفسير آية “ما ننسخ من ءاية..." تفسيرا لا يدل على الأفضلية، لكنه لا يدل كذلك على نفي من فسرها بذلك لوجود التفاضل بين الآيات، وهو ما قد يظنه بعض أهل العلم في نقلهم عن أولئك.
لكن ممن صرح بالنفي شيخ الإسلام في التفسير ابن جرير الطبري، قال: غير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأنَّ جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض، وبعضها خير من بعض.
مع تعليقه لمعنى الخيرية في قوله “نأت بخير منها” بالحكم الذي يأت به الله، بأن يكون أخف من سابقه، ونحو ذلك، لا في كلام الله ذاته. (8) ومعرفة ذلك مهم لتحرير منشأ الخلاف في الآية.
وقال بذلك كذلك عامة المفسرين، كالبغوي في تفسيره لآية النسخ قال: {نأت بخيرٍ منها} أي بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم، لا أنّ آيةً خيرٌ من آيةٍ، لأنّ كلام اللّه واحدٌ وكلّه خيرٌ”. (9)
وقال الثعلبي بمثل ذلك (10).
ويرى ابن عبدالبر - رحمه الله - أنه لاينبغي أن نفضل بعض القرآن على بعض ؛ لأن القرآن كلام الله ، وصفة من صفاته ؛ ولو قلنا بأن بعضه أفضل من بعض للزم من ذلك دخول النقص في المفضول منه .
فبعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى الحديث الوارد في فضل سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وأنها تعدل ثلث القرآن ، وبيّن أن المعنى الذي يشهد له ظاهر الحديث أنها تعدل في الثواب لمن تلاها ثلث القرآن ، قال : “وهذا هو الذي يشهد له ظاهر الحديث، وهو الذي يفر منه من خاف واقعة تفضيل القرآن بعض على بعض، وليس فيما يعطي الله عبده من الثواب على عمل يعمله ما يدل على فضل ذلك العمل في نفسه، بل هو فضله عز وجل يؤتيه من يشاء من عباده على ما يشاء من عباداته تفضلاً منه على من يشاء منهم، وقد قال الله عزوجل :{ما ننسخ من ءايةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ مـنها أو مثلها} [ البقرة : 106 ] .
ولم يختلف العلماء بتأويل القرآن أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إما بتخفيف عنهم وإما بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
فكذلك { قل هو اللّه أحدٌ } خيرٌ لنا، لأن الله يتفضل على تاليها من الثواب بما شاء ، ولسنا نقول [ هي ] في ذاتها أفضل من غيرها لأن القران عندنا كلام الله وصفة من صفاته، ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول منها” (11).
وممن صرح بذلك من الأصوليين:
القاضي أبو يعلى، فبعد حديثه عن فضل الإخلاص وما ورد في كونها تعدل ثلث القران قال في تفاضل القرآن: "...لا يجوز أن يتفاضل، والجميع صفةٌ للّه، ويكون معنى الحديث الحثّ على تعليمه والتّرغيب في قراءته"(12)
ولأبي الوفاء بن عقيل، قوله:"فالقرآن في نفسه لا يتفاضل؛ لكونه كلاماً لله سبحانه، وصفةً من صفاته التي لا تحتمل التّفاضل والتخاير".
وعلق الخيرية في النسخ على التسهيل والتخفيف، أو التكثير لزيادة الثواب.(13)
[وسيأتي عن الأخيرين ما ينقض قولهما وهو القول بالتفاضل].
وحكى ابن تيمية عن أبي عبدالله بن الدراج نقله إجماع أهل السنة على امتناع تفضيل بعض القرآن على بعض، وهو قول غريب بين بطلانه ابن تيمية بقوله: "وهذا النّقل للإجماع هو بحسب ما ظنّه لازمًا لأهل السنّة فلما علم أنّهم يقولون: القرآن كلام اللّه ليس بمخلوق وظنّ هو أنّ المفاضلة إنّما تقع في المخلوقات لا في الصّفات قال ما قال. وإلّا فلا ينقل عن أحدٍ من السلف والأئمة أنّه أنكر فضل كلام اللّه بعضه على بعض، لا في نفسه ولا في لوازمه ومتعلقاته، فضلا عن أن يكون هذا إجماعا" (14).
ونقل عن مكي بن أبي طالب قوله في تفسير قول الله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}: «ولا يجوز لذي علم ودين أن يتأوَّل بهذا النص تفضيلَ بعض القرآن على بعض؛ لأن القرآنَ كلام الله جلَّ ذكره ليس بمخلوق وإنما يقع التفضيل بين المخلوقات فاعلمه»(15).

-واستدل القائلون بالمنع بأمور:
-منها: أنَّ الجميع كلام الله عز وجل، وكلامه صفة له، والصفة لا تتفاضل، ولا سيما مع القول بأنه قديم لا يتفاضل، وذلك ظاهر في القول ابن جرير وابن حبان.
-ومنها: أنَّ القرآن كله واحد مُنزل من عند الله، فكيف يتفاضل بعضه على بعض وأصله واحد، ولذلك قالوا في قوله تعالى: ﴿ ما ننْسخْ منْ ايةٍ أوْ ننْسها نأْت بخيْرٍ منْها أوْ مثْلها ﴾ [البقرة: 106] أن خير تعود إلى غير الآية، مثل نفع العباد وثوابهم.
-ومنها: ألاَّ يوهم التفضيل نقص المُفَضَّل عليه، وبهذا علَّل العلماء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تفضيل بعض الأنبياء على بعض، لأنَّ الغالب أنَّ المُفَضَّل عليه يكون في رتبة دون الأفضل.
وتأولوا الأحاديث الواردة في تفضيل بعض السور على بعض بصيغة أفعل التفضيل كقوله: ((أعظم سورة)) على الأجر، أي أنَّ أجر قراءتها أعظم من أجر قراءة غيرها، لا أنها هي في ذاتها أفضل مما سواها.(16)

*المبحث الثاني: القائلون بتفاضل القرآن، وأدلتهم.
وأمَّا القول الثاني في هذه المسألة فهو القول بالتفضيل، أي أن بعض القرآن أفضل من بعض، وهو القول المأثور عن السلف وأكثر الخلف، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (17).
قال السيوطي في الإتقان : (وذهب آخرون إلى التفضيل لظواهر الأحاديث، منهم: إسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن العربي .
وقال القرطبي : إنه الحق ، ونقله عن جماعة من العلماء والمتكلمين.
وقال ابن الحصّار : العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك ، مع النصوص الواردة بالتفضيل)(18).
وصرح بذلك كذلك الحليمي(19)، وأبو المظفر السمعاني، وأبو إسحاق الشيرازي(20).
وأفرد الغزالي فصلا في كتابه جواهر القرآن بعنوان: (في كيف يَفْضُلُ بعضُ آياتِ القرآن على بعض مع أن الكُلَّ كلامُ الله تعالى) وقال فيه: "لعلَّكَ تقول: قد توجه قصدك في هذه التنبيهات إلى تفضيل بعض القرآن على بعض، والكلُّ قولُ الله تعالى، فكيف يُفارق بعضُها بعضاً؟ وكيف يكون بعضُها أشرفُ من بعض؟
فاعلم: أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات وبين سورة الإخلاص وسورة تبتْ، وترْتاع من اعتقاد الفرق نفسك الجوّارة، المستغرقة بالتقليد، فقلّد صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقد دلت الأخبار على شرف بعض الآيات..."(21) وفي كلامه ما يدل صراحة على تبنيه لهذا القول، والذي فهم نقيضه في حديث له آخر في المستصفى يرد به على القائلين بجواز نسخ القرآن بالسنة، ويقال كذلك في أبي يعلى وأبي الوفاء ماقيل في الغزالي، فكلاهما ثبت عنهما قولين والقول بالتفضيل أقوى لا سيما عند أبي الوفاء (22) فقد قال في الواضح: "وأمَّا قولهم: إن القرآن في نفسهِ لا يتخايرُ ويتفاضلُ فعلمَ أنّه لم يردْ به الخيرَ الذي هو فضيلتُه، فليسَ كذلك، فإنَّ توحيدَ الله في سورة الإخلاصِ وما تَضَمَّنَتْهُ من نفيِ التجزؤ والانقسامِ، أفضلُ من {تَبَّتْ} المضمَّنةِ ذمَّ أبي لهبٍ وذم زوجتِهِ، إنْ شئتَ في كونِ المدحِ أفضلَ من القدح، وإنْ شئت في الإعجازِ، فإنَّ تلاوةَ غيرِها من الآياتِ التي تظهرُ منها الفصاحةُ والبيانُ أفضلُ، وليسَ من حيثُ كانَ المتكلمُ واحداً لا يكونُ التفاضلُ لمعنىً يعودُ إلى الكلامِ ثابتاً، كما أنَّ المُرْسِلَ واحدٌ لذي النونِ وإبراهيم، وإبراهيمُ أفضلُ من ذي النونِ"(23).
وصرح بذلك العز بن عبدالسلام، فقال: "القرآن فيه فاضل ومفضول، فالفاضل كآية الكرسي..... والمفضول كـ(تبت يدا أبي لهب)"(24).
وانتصر لهذا القول ابن تيمية في رسالة أجدها من أقوى ما كتب في هذه المسألة عنونها بـ(جواب أهل العلم الإيمان في أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) في أوائل الجزء السابع عشر من فتاواه، وقد أسهب فيها وذكر الأقوال وأحسن الرد والاستدلال.
ورجح هذا القول النووي، والزركشي، والسيوطي، وجعله ثلاث مراتب: أفضل، وفاضل، ومفضول (25).

-أدلة القرآن على تفضيل بعضه على بعض:
في القرآن آيات تدل على تفضيل بعض القرآن على بعض مع أنَّه كله حَسن وفاضل.
-الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: 106].
فقد دلَّت الآية الكريمة على أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا نسخ آية أتى بخير منها أو بمثلها، ومن أنواع المنسوخ ما رُفع حُكْمه وبقيتْ تِلاوتُه، ومنه ما بقيَ حُكمه ورفعتْ تلاوته، فدلَّ هذا على أنَّ في آي القرآن ما هو متماثل في الخيرية، ومنه ما هو أكثر خيرية وفضلا، وهذا التأويل هو الظاهر من النص، وهو أحد القولين لأهل العلم في تفسير الآية.
-الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ [الزمر: 18] على قولٍ قوي في تفسير هذه الآية، وهو أنَّ المراد بالقول هو القرآن الكريم، وفي الآية وجوه أخرى من التفسير.
-الآية الثالثة: ﴿ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ﴾ [الأعراف: 145]، فالآية نص على أنَّ في التوراة الحَسن والأحسن، وهي من جملة كلام الله الحسن الذي يزداد بعضه حُسنًا على بعض، كما استدل بها الشنقيطي على الآية الثانية في كون المراد هو القرآن الكريم تشبيها له بالتوراة(26). ناهيك عن كون القرآن بلا شك أفضل من التوراة، وبإثبات ذلك يتبين تفاضل كلام الله.
-الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [الزمر: 55]، فهذه الآية دليل على أنَّ في القرآن الحسن والأحسن.
-الآية الخامسة: قوله تعالى :"قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي" [الأعراف: 144]، ففي هذه الآية ما يوحي بتفاضل كلام الله، فكلام الله لموسى بلا حجاب أفضل من الإيحاء إلى غيره بواسطة ملك، وإذا صح ذلك في تفاضل كلام الله، صح في القرآن، لأنه كلام الله.

-أدلة السنة على تفضيل القرآن بعضه على بعض :
1 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم في ميسر له فنزل ونزل رجلٌ إلى جانبه ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { ألا أخبرك بأفضل القرآن ؟ } قال : فتلا عليه { الحمد لله رب العالمين }( 27) .
2 - حديث أبي سعيد بن المعلّى - رضي الله عنه - قال : كنتُ أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبْه ، فقلتُ : يا رسول الله ! إني كنت أصلي فقال : { ألم يقل الله : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ثُمَّ قال لي : { لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد } . ثُمَّ أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلتُ له : ألم تقل : { لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ } قال : { الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته }(28) .
3 - عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا أبا المنذر ، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : الله ورسوله أعلم . قال : { يا أبا المنذر : أتدري : أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : { اللَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... } [ البقرة : 255 ] ، قال : فضرب في صدري ، وقال : { والله، لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر } (29).
4 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يرددها ، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له - وكأنّ الرجل يتقالُّها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن }(30).

كما أن كلامه تعالى الذي هو أجزاءٌ وأبعاضٌ ، بعضه أفضل من بعض ، وليس ذلك من جهة المتكلم به وهو الله تعالى ، وإنَّما هو من جهة ما تضمن من المعاني العظيمة ، فإن كلام الله المتضمن للتوحيد والدعوة إليه ، أفضل من كلامه المتضمن ذكر الحدود والقصاص ونحو ذلك ، وما يخبر به عن نفسه وصفاته أعظمُ مِمَّا يخبر به عن بعض خلقه ، وذلك لشرف الأول على الثاني .


*المبحث الثالث: منشأ الخلاف في المسألة.
ينبغي أن تعرف منشأ الخلاف في المسألة، لأن معرفتك بمنشأ الخلاف يتيح لك أولا: تمييز أصل الرأي، وثانيا: معرفة ما إذا كان الخلاف ظاهريا، أو من باب خلاف التنوع، أو أن فيه سوء فهم للمسألة نشأ عنها هذا الاختلاف، فمعرفة منشأ الخلاف مهمة ومحورية في عرض خلاصة للموضوع، ومعرفة الراجح في المسألة.
ذكر ابن تيمية -رحمه الله- أن القول بإنكار تفاضل القرآن اشتهر بعد المائتين لما أظهرت الجهمية القول بأن القرآن مخلوقٌ. واتفق أئمة السنة وجماهير الأمة على إنكار ذلك ورده عليهم. وظنت طائفةٌ كثيرةٌ - مثل أبي محمد بن كلابٍ ومن وافقه - أن هذا القول لا يمكن رده إلا إذا قيل إن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته ولا كلم موسى حين أتاه ولا قال للملائكة اسجدوا لآدم بعد أن خلقه ولا يغضب على أحدٍ بعد أن يكفر به ولا يرضى عنه بعد أن يطيعه ولا يحبه بعد أن يتقرب إليه بالنوافل ولا يتكلم بكلام بعد كلامٍ فتكون كلماته لا نهاية لها إلى غير ذلك مما ظنوا انتفاءه عن الله. وقالوا إنما يمكن مخالفة هؤلاء إذا قيل بأن القرآن وغيره من الكلام لازمٌ لذات الله تعالى لم يزل ولا يزال يتكلم بكل كلامٍ له كقوله: يا آدم يا نوح. وصاروا طائفتين: طائفةٌ تقول إنه معنى واحدٌ قائمٌ بذاته، وطائفةٌ تقول إنه حروفٌ أو حروفٌ وأصواتٌ مقترنٌ بعضها ببعض أزلًا وأبدًا وإن كانت مترتبةً في ذاتها ترتبًا ذاتيًا لا ترتبًا وجوديًا كما قد بين مقالات الناس في كلام الله في غير هذا الموضع. والأولون عندهم كلام الله شيءٌ واحدٌ لا بعض له فضلًا عن أن يقال بعضه أفضل من بعضٍ. والآخرون يقولون: هو قديمٌ لازمٌ لذاته والقديم لا يتفاضل(31)، لذلك تجد أن المعتزلة يتفقون مع القول بتفاضل القرآن لتماشيه مع قولهم بخلق القرآن، بل ولاعتقادهم بأنه مما يرجح القول به، مما أدى إلى إنكار الفرق المخالفة لهم هذا القول، ومن هنا ابتدأ الخلاف، ولا سيما أن بعض السنة اضطرهم إثبات قدم الله بعدم تفاضل كلامه، وهذا يدخلنا في باب الصفات وفي مسائل عقدية طويلة، ليس المجال هنا لسردها، ولكننا سنتعرض لما يمس مسألتنا ويؤثر على حيثياتها.
كذلك فإن تباحثنا للمسألة يجرنا لمسألة فلسفية طويلة، وهي: هل الذات منفصلة عن الصفات أم لا؟ وهل يمكن وصف آيات الله بكونها أفضل من بعض من حيث تعلقها بالقارئ ونحوه لا في ذاتها؟ هذا سؤال جدلي قديم، والمتأمل في الأقوال يجد الاختلاف فيما بينها يعود للاختلاف في هذه المسألة، ما بين مقر لآيات وأحاديث التفاضل لصراحتها لكنه يعلقها بخارج عنها، وما بين مستنكر لنزع صفة الأفضلية عن ذات الآية، فيجد أنه بالضرورة تفضيل آية على أخرى ما دامت اتصفت بصفات فاضلة عنها، فليست الصفة منفصلة عن ذات الآية.
ولذا تجد بعض العلماء كالغزالي وأبو الوفاء ورد عنهم قولين مختلفين، جرهم لهذه الأقوال رغم اختلافها سياق القول، وأحيانا سوء الفهم لمسألة، أو خيانة اللفظ في التعبير عنها قد تشعر بتناقض أقوالهم، ولكنها قد تتضح لمن يطيل النظر في أقوالهم وأصول منطلقاتهم كما بينا بعون من الله.
نعود فنؤكد أن الخلاف هنا ليس في مسألة تفاضل القرآن، فهذا أدلته في القرآن والسنة صريحة، وإن صاغ العلماء العناوين بتلك الصياغة، إلا أن المقصود بالتفاضل ومنشأ خلاف المسألة: هل التفاضل متعلق بذوات الآيات أم بمتعلقها؟ فيكون المراد أن الآية أفضل لفلان من غيره من حيث الاستفادة والقراءة، أو يكون متعلقها الثواب والفضل، أو الزمان والمكان، ومن هنا نضيق خناق المسألة لنركز عليها كما يجب، فنقول:
هل التفاضل بين السور والآيات في ذاتها موجود؟ أم أنه تفاضل من حيث تعلقها؟
كما أنك ستجد أن الخلاف لفظي في بعض الأحيان، فتجد القائل يقول بعدم التفضيل مع إقراره بأفضلية بعض السور والآيات ولكن بألفاظ أخر، كقوله أحسن القرآن، وسيدة القرآن، وهؤلاء يجب استقراء أقوالهم جيدا لاستخلاص آرائهم بشكل صحيح.
كما ينبغي أن ينتبه إلى أن القائلين بالتفاضل على اختلاف في متعلق التفاضل، ما بين مخصصين له وما بين قائلين بإطلاقه، والنافون كذلك درجات، فمنهم من ينفيه بالكلية، ومنهم من يعلقه بأمور.


-المبحث الرابع: خلاصة المسألة والرأي الراجح فيها.

بقي أن يعلم وبعد معرفة منشأ الخلاف، أن الخلاف في المسألة ما بين خلاف لفظي أو قول شاذ، وأصل الخلاف عقدي، وسيتم تحريره، والقائلون بعدم التفاضل قلة، فإذا استثنينا أبو يعلى والغزالي وأبو الوفاء والذين تبين أن لهم قولين في المسألة، توصلوا إلى القول بالنفي انطلاقا من مسائل عقدية أو أصولية معينة، وإلى الإثبات إما صراحة في الحديث عن المسألة، أو ما أوحى به ظاهر حديثهم كالقول بالتفضيل بصيغة أخرى، فمثلا قد لا يقر القائل بنفي التفضيل بذلك صراحة لكنه يقول بأن تلك السورة تمتاز عن الأخرى بكذا، ونحو ذلك من العبارات، ونحن الحكم بيننا وبينهم اللغة، فاللغة كما ذكرنا في بداية بحثنا بينت بأن التفاضل يدور حول التمزي والزيادة، وهذا ما أثبتوه في ثنايا حديثهم.
وأمّا أبو الحسن الأشعري ومن قال بقوله القديم في القرآن وأنه عبارة عن كلام الله تعالى، وليس هو من كلامه حقيقة، وأنه لا يتبعّض، ولا يتجزّأ، وليس بحرف ولا صوت؛ فهذا مما لا ينبغي أن يُعتدّ به؛ لأنه مبنيّ على اعتقاد باطل في كلام الله تعالى مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح؛ فلا يُتلفت إليه؛ على أنّ أبا الحسن الأشعري قد رجع عن قوله هذا في آخر حياته، وألّف كتاب "الإبانة" الذي أعلن فيه رجوعه إلى مذهب أهل السنة وتأسّيه بالإمام أحمد بن حنبل ، وقد كان رجوعه رجوعاً مجملاً لم يخلُ من أخطاء في تفصيل الاعتقاد.
وأما أبو بكر ابن الطيّب الباقلاني ففي كتابيه "إعجاز القرآن" و "الانتصار للقرآن" مواضع فيها النص على تفضيل القرآن على سائر الكتب، وتفضيل بعض آيات القرآن في أوجه الإعجاز على بعض.
وقد أشكل على بعض الأشاعرة الجمع بين مذهبهم في صفة الكلام وصراحة أدلّة التفاضل بين الآيات والسور، ولهم في جواب هذا الإشكال أوجه متعدّدة لا تخلو من التكلّف والبعد، وقد ذكر الحليمي والزركشي والسيوطي طائفة منها.
والمقصود أن القول بتفاضل سور القرآن وآياته هو القول الصحيح الذي دلّت عليه النصوص الكثيرة، وهو القول المأثور عن السلف.
وأما ما روي عن الإمام مالك في النهي عن التفضيل بين سور القرآن؛ فهو محمول – إن صحّ عنه – على النهي عن التفضيل المُشْعِر بتنقّص المفضول أو التزهيد فيه والترغيب عنه.(32)
وإذا تقرّر أن القول بالتفضيل هو القول الصواب الذي لاينبغي القول بخلافه؛ لقوة الأدلة التي ذكرناها في مبحث (القائلين بالإثبات وأدلتهم)، والتي ورد فيها أدلة نقلية صحيحة صريحة وعقلية، فإن من نافلة القول أن نذكر الشبه التي احتج بها - ابن عبدالبر - على قوله المخالف للصواب، مع الرد عليها والاعتذار له - إن أمكن -، لنكون بذلك أحطنا بالمسألة، وحررناها تحريرا لا يدع مجالا للشك بنتائجها.
الشبهة الأولى : اشتبه عليه المراد بقوله تعالى : {مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [ البقرة : 106 ] ، وذكر أن العلماء بتأويل القرآن لم يختلفوا أن المراد بقوله : { بِخَيْرٍ مّـِنْهَا } أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
قال - رحمه الله - : ( وأمَّا قول الله عزوجل { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) } فمعناه بخير منها لنا لا في نفسها) .
وما استدل به وذكره ابن عبدالبر وإن كان قاله أيضاً إمام المفسرين ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية إلاَّ أنه في الحقيقة لايدل على المراد الذي أراده ابن عبدالبر من نفي وقوع التفاضل في كلام الله ؛ بل إن ظاهر الآية يدل على أن الآية التي يأتي بها الله بدل الآية المنسوخة أو المنسية خيرٌ منها أو مثلها .
ولهذا فقول القائل : إنه ليس بعض ذلك خيراً من بعض بل بعضه أكثر ثواباً ، ردٌّ لخبر الله الصريح ، فإن الله يقول : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [ البقرة : 106 ] فكيف يُقال : ليس بعضه خيراً من بعض ؟ .
وإذا كان الجميع متماثلاً في نفسه امتنع أن يكون فيه شيء خيراً من شيء .
وكون معنى الخير أكثر ثواباً مع كونه متماثلاً في نفسه أمر لايدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازاً ، فلايجوز حمله عليه، فإنه لايُعرف قط أن يقال : هذا خير من هذا وأفضل من هذا ، مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه، بل لابُدّ مع إطلاق هذه العبارة من التفاضل ولو ببعض الصفات، فأمَّا إذا قدر أن مختاراً جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه ، فهذا لايعقل وجوده، ولو عقل لم يقل إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لايتصف به أحدهما البتة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما غلط من قال بالأول لأنه نظر إلى إحدى جهتي الكلام، وهي جهة المتكلِّم به، وأعرض عن الجهة الأخرى، وهي جهة المتكلّم فيه، وكلاهما للكلام به تعلق يحصل به التفاضل والتماثل (33).
قال بعض أهل العلم: من أعاد التفاضل إلى مجرد كثرة الثواب، أو قلته من غير أن يكون الكلام في نفسه أفضل، كان بمنزلة من جعل عَملين متساويين وثواب أحدهما أضعاف ثواب الآخر، مع أنَّ العملين في أنفسهما لم يختص أحدهما بمزيِّهِ، فتفاضل الثواب والعقاب دليل على تفاضل الأعمال بالخير والشر.
وأيضاً ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة : { لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها } فقد صرح الرسول بأن الله لم ينزل لها مثلاً ، فمن قال إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثلٌ لها من كل وجه فقد ناقض الرسول في خبره .
فالآية التي ذكرها ابن عبدالبر تدل على خلاف ما ذهب إليه ، كما قال ابن حجر : ( ويؤيد التفضيل قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مّـِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } ).
الشبهة الثانية : أن القرآن كلام الله ، وكلام الله صفة من صفاته ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول - منها .
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر بعضه صحيح، وبعضه غير صحيح .
فأمَّا الصحيح منه فهو أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة .
وأمَّا غير الصحيح فهو أن التفاضل لايدخل في صفات الله لدخول النقص في المفضول منها، والسبب الذي دعاهم إلى هذا القول، هو أن صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال، وليس فيها نقص، وإذا قلنا بأن بعضها أفضل من بعض كان ذلك وصفاً للمفضول بالنقص، وهذا لايجوز .
والجواب على هذه الشبهة من عدة أوجه:
-أما استدلالهم على منع التفاضل بأنَّ صفات الله لا تتفاضل، ونحو ذلك فلا دليل عليه، بل هو مورد النزاع، وقد ثبت أنَّ الرحمة والغضب من صفاته سبحانه وتعالى، وقد قال: ((إن رحمتي سبقت غضبي))، والتفاضل بين الصفات يكون من وجهين:
-الأول: أنَّ بعضها أدخل في كمال الموصوف بها، وكذلك الأسماء، ولذلك جاء في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسالك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به...)) الحديث.
-الثاني: أنَّ الصفة الواحدة تتفاضل، بأنْ يكون الأمر بمأمورٍ ما أكمل من الأمر بمأمور آخر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كما أنَّ أسماءه وصفاته متنوعة، فهى أيضًا متفاضلة، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة والإجماع من العقل، وإنِّما شبهة مَن منع تفاضلها من جنس شبهة من منع تعددها، وذلك يرجع إلى نفي الصفات كما يقوله الجهمية(34).
ففي الآثار ، ذكر اسمه العظيم واسمه الأعظم ، واسمه الكبير واسمه الأكبر ، كما في السنن ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ، فإذا رجلٌ يصلي يدعو : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلاَّ أنت الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده ، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دُعي به أجاب }.
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي } وفي رواية : { سبقت رحمتي غضبي }.
فوصف رحمته بأنها تغلب غضبه وتسبقه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : { اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك }، ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه، فقد استعاذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته.
وأمَّا استعاذته به منه فلابد أن يكون باعتبار جهتين : يستعيذ به باعتبار تلك الجهة، ومنه باعتبار تلك الجهة، ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ منه، إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه، والجهة الواحدة لاتكون مطلوبة مهروباً منها ، لكن باعتبار جهتين تصح.
ويقال أيضاً في الجواب على هذه الشبهة ما سبق ذكره من أنه لا يوجد في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة.
بل النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تفضيل بعض كلام الله على بعض، وعلى تفضيل بعض صفاته على بعض، وقد سبق ذكر شيء منها في ثنايا هذا المبحث ، وبالله التوفيق .
ومِمَّا سبق يُعلم أن إمامنا ابن عبدالبر لم يوفق للصواب في هذه المسألة ، ويُمكن أن يُعتذر له بأنه - رحمه الله - ظن أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض لايُمكن إلاَّ على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم القائلين بأن القرآن مخلوق، فإنه إذا قيل : إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض، وهذا الظن الذي ظنه - رحمه الله - قد ظنّه غيره من العلماء الذين هم من أهل السنة ووافقوه في هذه المسألة فيما ذهب إليه.
كما ذكرنا عن أبي عبد الله ابن الدراج حينما قال : { أجمع أهل السنة على أن ما ورد في الشرع مِمَّا ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض، إذ هو كلام الله وصفة من صفاته، بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال } .
وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازماً لأهل السنة، فلما علم أنهم يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وظن هو أن المفاضلة إنَّما تقع في المخلوقات في الصفات، قال ما قال . وإلاَّ فلا ينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على بعض، لا في نفسه، ولا في لوازمه ومتعلقاته، فضلاً عن أن يكون هذا إجماعاً .
وأخيراً نقول : إن ابن عبدالبر اجتهد في هذه المسألة فأخطأ، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه، بل يثيبه على ما فعله من طاعته ويغفر له ما أخطأ فيه فعجز عن معرفته والوصول إليه .
وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلاَّ المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه. (35)
وبذلك نكون حررنا المسألة، وبينا مكامن الشبه وعالجناها، ليتضح لك أن القول بتفاضل الآيات والسور هو القول الراجح والأكثر بين جماهير السلف، وحررنا ما حصل من اختلافات إما تعود لأصل عقدي، أو أنها خلاف لفظي بينا التباسه، وفككنا أجزاءه لتتبين المسألة، ويتضح الرأي، ولله الحمد والمنة على ما وفق.


*الفصل الثالث: أوجه التفاضل بين الآيات والسور.
بعد القول بتفاضل الآيات والسور، وتبيين المسألة وتحريرها، بقي أن نفيء إلى مبحث مفيد ومتناول من قبل الأئمة في تعداد جوانب التفضيل، وبقي أن تعلم أن معرفة أوجه التفاضل بعضها واضح ومدلل عليه بالقرآن أو السنة، وبعضها اجتهادي، كما أن القائلين بالنفي يرون أن بعض تلك الجوانب هي المراد بالتفضيل والمقصود به، وعلقوا التفضيل بها لا بذوات الآيات، أما القائلون بالتفضيل -وهو القول الراجح كما حررنا-، فإنهم يرون التفاضل في الذوات والصفات، لكنهم يحررون أوجه التفاضل من باب التصنيف والتقسيم، ومعرفة ذلك مهم لاستيعاب الفرق بين أقوال الفريقين وإن اتفقت نتائجهما، فقد توصلوا إليه بطرق مختلفة.

-جوانب التفضيل:
قد اختلف عبارة القائلين بالتفضيل في المعنى الذي يرجع إليه هذا التفضيل، وهذا الاختلاف من باب اختلاف التنوع لا التضاد، ولعلي أحصر لكَ هذه المعاني في الأوجه التالية:

-الأول: أن يراد به عظم الأجر ومضاعفة الثواب، إمّا من حيث انفعالات النفس وخشيتها وتدبرها وتفكرها عند ورود أوصاف العلا، فيخشع عند ذلك، وإمَّا من حيث إنَّ الله عز وجل جعل قراءة سورةٍ ما كقراءة أضعافها مما سواها، وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب بغيرها.
-الثاني: ما يتعجل لقارئ بقراءتها من الفوائد سوى الثواب الآجل، كقراءة آية الكرسي والإخلاص والمُعَوِّذَتين، فإنَّ قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى، لما وضعه الله فيها من الخصائص، أما آيات الأحكام مثلًا، فلا يقع بنفس التلاوة إقامة حكم، بل يقع بها العلم بالأحكام.
-الثالث: أن يكون راجعًا إلى ذات اللفظ، وما يتضمنه من معانٍ كما مرَّ آنفًا من كلام العز بن عبدالسلام والغزالي، فآية الكرسي وآخر الحشر و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] فيها من الدلالات على وحدانية الله عز وجل وعلى صفاته ما ليس في غيرها، كـ ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ﴾ [المسد: 1] لذلك كانت هذه الآيات ملخصة لعموم الرسالة المحمدية، ومتضمنة للمطالب الربانية، فكانت بهذا المعنى أعظم وأفضل من قوله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا ﴾ [النساء: 56] أي أنَّ مخبرات تلك أسنى وأجل قدرًا.
-الرابع: أنْ يكون العمل بآية أولى من العمل بأخرى، وأعود على الناس بفائدة، كما يقال: إنَّ آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد، خير من آيات القصص، لأنها إنما أُريد بها تأكيد الأمر والنهي والإنذار والتبشير، وهذا لا غنى للناس عنه، ولكن ربما استغنوا عن القصص، فكان ما هو أعود عليهم بنفع، وأجدى لهم مما يجري مَجْرى الأصول، خيرًا لهم مما يجعل تبعًا لما لا بد منه، ويكون هذا التفضيل من باب أنَّ الأصل خير من الفرع والتابع(36).
وهكذا آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد تتفاضل فيما بينها.
قال العلامة الشنقيطي شارحًا ذلك: اعلم أولًا أنَّه لا شك في أنَّ الواجب أحسن من المندوب، وأنَّ المندوب أحسن من مطلق الحسن، فإذا سمعوا مثلًا قوله تعالى: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77] قدَّموا فعل الخير الواجب على فعل الخير المندوب، وقدموا هذا الأخير على مطلق الحَسن الذي هو الجائز، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب لا على مطلق الحسن، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97] وقال تعالى: ﴿ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الزمر: 35]..
ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126] فـالأمر في قوله: ﴿ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [النحل: 126] للجواز، والله لا يأمر إلا بحسن فدل ذلك على أنَّ الانتقام حسن، ولكن الله بين أنَّ العفو والصبر خير منه وأحسن في قوله: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].
ثم طفق الشيخ ذكرًا لأمثلة أخرى فانظرها إن شئت في أضواء البيان(37).
وبعد، فهذا فصل جامع نقله الحافظ البيهقي عن الحليمي في بيان هذه الأوجه أنقله على الوجه فإنه نافع.
قال الحافظ البيهقي: وقد ذكرنا أخبارًا تدل على جواز المفاضلة بين السور والآيات، قال الله عز وجل: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: 106]
قال الحليمي رضي الله عنه: ومعنى ذلك يرجع إلى أشياء:
-أحدها: أنْ يكون آيتَا عمل ثابتتان في التلاوة، إلا أنَّ إحداهما منسوخة والأخرى ناسخة، فنقول إنَّ الناسخة خير، أي: العمل بها أولى بالناس، وأعود عليهم، وعلى هذا يقال: آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من آيات القصص، لأنَّ القصص إنما أُريد بها تأكيد الأمر والنهي والإنذار والتبشير، ولا غنى بالناس عن هذه الأمور، وقد يستغنون عن القصص، وكان ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصول خيرًا لهم مما يجعل تبعا لما لا بد منه.
-والأخر: أن يُقال إنَّ الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله جل ثناؤه وبيان صفاته والدلالة على عظمته وقدسه أفضل وخير بمعنى أنَّ مُخْبَرًا بها أسنى وأجل قدرًا.
-والثالث: أنْ يقال سورة خير من سورة وآية خير من آية، بمعنى أنَّ القارئ يتعجل له بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل، ويتأدى منه بتلاوتها عبادة، كقراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص والمُعَوِّذتين، فإنَّ قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى، والاعتصام بالله جل ثناؤه، ويتأدى بتلاوتها منه لله تعالى عبادة، لما فيها من ذكر الله تعالى جَدّه بالصفات العلى، على سبيل الاعتقاد لها، وسكون النفس إلى فضل ذلك الذكر ويمنه وبركته، فأما آيات الحكم فلا تقع بنفس تلاوتها إقامه الحكم، وإنما يقع بها علم وإذكار فقط، وكان ما قدمناه قبلها أحق باسم الخير والأفضل، والله أعلم.
*
ثم لو قيل في الجملة: إنَّ القرآن خير من التوراة والإنجيل والزبور بمعنى أن التعبد بالتلاوة والعمل واقع به دونها والثواب يجب بقراءته لا بقراءتها، أو أنه من حيث الإعجاز حجة النبي صلى الله عليه وسلم المبعوث به، وتلك الكتب لم تكن معجزة، ولا كانت حجج أولئك الأنبياء، بل كانت دعوتهم والحجج غيرها، لكان ذلك أيضًا نظير ما مضى ذكره، والله أعلم.
*
وقد يقال إنَّ سورة أفضل من سورة لأنَّ الله تعالى اعتد قراءتها كقراءة أضعافها مما سواها، وأوجب لها من الثواب ما لم يوجب لغيرها، وإنْ كان المعنى الذي لأجله بلغ بها هذا المقدار لا يظهر لنا، كما يقال: إنَّ يومًا أفضل من يوم وشهرًا أفضل من شهر بمعنى أنَّ العبادة فيه تفضل على العبادة في غيره والذنب فيه يكون أعظم منه في غيره، وكما يقال: إنَّ الحرم أفضل من الحل لأنه يتادى فيه من المناسك ما لا يتأدى في غيره والله أعلم (38).

ومن أوجه التفاضل التي قال بها البعض هو التفاضل في البلاغة والإعجاز، كما نقل بعض الأصوليين بعض هذه الأقوال لتحريرها،
"وأما قولهم: إن القرآن في نفسه لا يتخاير ويتفاضل فعلم أنه لم يرد به الخير الذي هو فضيلته، فليس كذلك، فإن توحيد الله في سورة الإخلاص وما تضمنته من نفي التجزؤ والانقسام، أفضل من {تبت} المضمنة ذم أبي لهبٍ وذم زوجته، إن شئت في كون المدح أفضل من القدح، وإن شئت في الإعجاز، فإن تلاوة غيرها من الآيات التي تظهر منها الفصاحة والبيان أفضل، وليس من حيث كان المتكلم واحداً لا يكون التفاضل لمعنىً يعود إلى الكلام ثابتاً، كما أن المرسل واحدٌ لذي النون وإبراهيم، وإبراهيم أفضل من ذي النون"(39).
ومن العلماء من نفى القول بهذا التفاضل، واعتبر القول به قصور نظر، قال صاحب البرهان:"وينبغي أن يعلم أن معنى قول القائل هذا الكلام أبلغ من هذا الكلام، أن هذا في موضعه له حسنٌ ولطفٌ، وذاك في موضعه له حسنٌ ولطفٌ، وهذا الحسن في موضعه أكمل من ذاك في موضعه، فإن من قال إن {قل هو الله أحد} أبلغ من {تبت يدا أبي لهب وتب} يجعل المقابلة بين ذكر الله وذكر أبي لهبٍ وبين التوحيد والدعاء على الكافرين وذلك غير صحيح، بل ينبغي أن يقال: {تبت يدا أبي لهب وتب} دعاءٌ عليه بالخسران فهل توجد عبارةٌ للدعاء بالخسران أحسن من هذه؟ وكذلك في {قل هو الله أحدٌ} لا توجد عبارةٌ تدل على الوحدانية أبلغ منها فالعالم إذا نظر إلى: {تبت يدا أبي لهبٍ وتب} في باب الدعاء والخسران ونظر إلى {قل هو الله أحدٌ} في باب التوحيد لا يمكنه أن يقول أحدهما أبلغ من الاخر وهذا القيد يغفل عنه بعض من لا يكون عنده علم البيان" (40).
ونقول أن القائلين بهذا القول في كلامهم وجاهة، فلا يلزم من قولهم القول بأن القرآن فيه قصور وعدم إعجاز في بعض آياته، بل إن مرادهم أن كله معجز وبليغ، ولكنه متفاوت في إعجازه وبلاغته، بدلالة تأثير بعض الآيات على أقوام دون غيرها، والأمر في هذه المسألة واسع، والمقصود هو استعراض الآراء وسردها.
وقد تأتي آيات يكون جوانب التفضيل فيها كل ما ذكرنا أو ثلة منه، فعرضنا لها هنا على سبيل التعداد، ولا يعني أن الآيات قد تتفاضل بواحد منها دون الآخر.

*الفصل الرابع: هل التفضيل بين السور والآيات توقيفي أم اجتهادي؟
الظاهر -والله أعلم- أن التفضيل لا يخلو من حالتين:
-التفضيل المطلق: كأن يقال سورة كذا أفضل السور، وهذا الأمر توقيفي، لأن الشارع قد حكم فيه، فقد حكم بأن آية الكرسي أفضل الآيات، وسورة الفاتحة أفضل السور.
-التفضيل المقيد: كأن يقال سورة كذا أفضل من سورة كذا، فهذا قد جرى على ألسنة العلماء، وله ما يشهد بإباحته من أقوال السلف، على أضرب:
-الأول: تفضيل السور والآيات المتعلقة بصفات الله وتعظيمه على غيرها، كالتي تتحدث عن فرعون وأبي لهب، ونحوها.
-الثاني: تفضيل السور والآيات الدالة على الواجبات على السور والآيات الدالة على المستحبات، ونحو ذلك، لأن الأولى أعلى رتبة، وأولى في العمل بها، وفي استفادة العامل بها من غيرها.
-الثالث: ما جاء عن بعض السلف في وصفهم لآيات بأوصاف مخصوصة، كقولهم هذه أرجى آية، وأخوف آية، ونحوها.

والأمثلة على ما ذكرنا كثيرة:
-ما نقله الزركشي عن الحليمي: "وعلى هذا فيقال آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد خيرٌ من آيات القصص لأن القصص إنما أريد بها تأكيد الأمر والنهي والتبشير ولا غنى بالناس عن هذه الأمور "(41).
-وما نقله الزركشي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: "أخوف آية هي قوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين}(42).
-وما نقله الزركشي عن ابن عباس قال: أي آيةٍ في كتاب الله أرجى عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم}(43).
-وما نقله الزركشي عن النحاس في سورة الأحقاف: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} فقال إن هذه الآية من أرجى آيةٍ في القران إلا أن ابن عباسٍ قال أرجى آيةٍ في القران: {وإن ربك لذو مغفرةٍ للناس على ظلمهم}(44).
-وما نقله الزركشي عن ابن عبد الحكم قال: سألت الشافعي: أي آيةٍ أرجى؟ قال قوله تعالى: {يتيمًا ذا مقربةٍ أو مسكينا ذا متربة}(45).
والأمثلة على ذلك كثيرة، وليس المجال مجال حصر، وإنما تمثيل.
ونقول على سبيل ختام هذه المسألة، يبقى الأمر واسعا ما كان المرء متحرزا في تفضيله، بألا يعارض نصا صريحا في تفضيل آية على أخرى، وأن ينسب الرأي إلى نفسه ولا يطلقه كيلا يظن بإطلاق حديثه نسبته للشرع، وذلك كأن يقول: تلك الآية تهزني أكثر من غيرها، أو هذه تقض مضجعي أكثر من غيرها، ونحو ذلك من الألفاظ المحترزة التي تضمن للمرء السلامة والبعد عن الخطأ.

*الخاتمة:
وبعد كل ما حررنا في هذه المسألة، فإني أوصي نفسي وإياكم بالعمل بمقتضى ما علمنا، فليس المراد هنا الاستعراض اللفظي، بل التوصل إلى ما يرضي الله عبر معرفة ما يحبه ويفضله، فإن معرفتك بأن هذه الآية أرجى من تلك يجعلك ترجو الله بها، ومعرفتك بأن هذه أخوف يجعلك تكثر من تردادها لتعظ نفسك، ومعرفتك بأن هذه تقرأ في صلاة كذا يزيد من محاولتك التقرب لله بتطبيق مستحباته، وعلمك بفضل سورة كذا يدعوك لتأمل معانيها وإطالة النظر فيها.
واعلم أن معرفتك بكل ذلك لا يدعو لهجران بعض القرآن للتركيز على ما ورد فيه فضل، وإنما هو معرفة للفاضل، وتقديم لما من حقه التقديم، وإلا فالقرآن كله والعمل به وقراءته فاضلة، وقد تفضل آيات في أوقات لم تفضل في غيرها، فسورة تبت التي قال البعض بأفضلية الإخلاص عليها قد يكون فهمك لآياتها وتبيينها لمن حولك في حال الاحتياج لها أولى من الإخلاص، والموفق من وفقه الله لمعرفة العمل الصحيح في الوقت الصحيح، اعلم أن هذا مدار التوفيق بإذن الله، واحرص على العناية بكتاب الله ومعانيه عامة، فبعضه يكمل بعض، وبعضه مبين لبعض، والموفق من أحاط بحفظه ومحاولة فهمه وتطبيقه وتدبره.

-ما توصلنا إليه في البحث.
-أهم النتائج هي:
تحرير الخلاف في مسألة تفاضل الآيات والسور، وتبيين الرأي الراجح فيها، عبر تقديم هذه المسألة وتبيين مصطلحاتها لغة واصطلاحا، ومن ثم استعراض أقوال المثبتين والنافين، وعرض أدلة كل فريق، وتبيين الرأي الراجح، وهو القول بالإثبات، مع عرضنا للشبه والرد عليها، وتحرير منشأ الخلاف وتوضيحه، ثم بعد ذلك تعرضنا لأوجه التفاضل وذكرها مع التمثيل عليها، والإجابة على سؤال: هل التفاضل توقيفي أم اجتهادي؟ بتحرير القول فيه، وتبيين أهمية معرفة الفاضل من الآيات، وما يعود به ذلك علينا في العمل بالقرآن وفهمه، وأهم ثمرات ذلك ونتائجه.


-أهم التوصيات.
1- العودة للغة وتحرير مفردة البحث لغة واصطلاحا ضرورة، فقد يكون لذلك دور في الحكم على المسألة، وفهمها فهما جيدا، وهذا ما نوصي طالب العلم به أولا.
2- عند النظر في المسائل أوصيك بتفكيكها والوصول لجذورها، فقد يتبين لك عدم وجود خلاف أصلا، أو أن منشأ الخلاف في أمر آخر لم يتبين لك ظاهره، وهو ما تبين لنا في هذه المسألة.
3- إثبات التفاضل بين الآيات والسور يوصلنا لنتيجة مهمة، إذ ذلك متعلق بالعمل، لا مجرد اختلاف كلامي لا غرض منه ولا طائل، ومعرفتك بذلك يدعوك لمعرفة الفاضل من السور والآيات، ومن ثم العمل بها بما يتبين لك من فضلها.
4- معرفتك بالفاضل لا يقلل بالضرورة من المفضول، بل إن في وجود أحاديث عن رسول الله تنهى عن التفضيل بين الأنبياء رغم وجود أخرى تقول بالتفاضل بينهم، يدلك على أن في ذلك دعوة لعدم التنقيص من المفضول منهم، وعلى آيات الله القياس أولى.
5- النظر في أقوال العلماء ومباحثاتهم في كتاب الله يدعوك للخجل من حالك ونفسك، فانظر كيف دعاهم محبة الله وكلامه إلى معرفة دقائقه والبحث في مسائله.
6- قول بعض السلف عن بعض الآيات بأنها أخوف أو أرجى لا يدلك إلا على إطالة نظر لهم في الآيات أودت بهم لمعرفتها وتصنيفها ووصفها مع أحوال قلوبهم.
7- البحث في هذه المسألة لم يزدني إلا تأكيدا بأن الأول ترك للآخر شيئا كثيرا، لا كما يقول المثل، فأوصي بالاهتمام بمسائل القرآن وعلومه، فما زال كتاب الله معينا للأخبار والدرر والمعان، لكنه كتاب عزيز لا تصل لمكنونه إلا بإدامة النظر فيه، فأوصي بإعطاء مواضيعه وعلومه حقها من البحث والاستقصاء، فما زالت الساحة مفتوحة، ومجالات البحث متعددة.


-شكر وعرفان.
أخيرا: أشكر الله أولا وقبل كل شيء، على أن هداني للإسلام، وعلى أن أوجدني في مجتمع عربي يعي كلامه ويتذوق معانيه، وعلى أن هداني للتسجيل في هذا المعهد المبارك، ووفقني لاختيار هذا الموضوع الماتع المفيد، فله الحمد أولا وآخرا، ظاهرا وباطنا.
ثم الشكر بعد ذلك لأصحاب هذا المعهد المبارك، وعلى رأسهم الدكتور عبدالعزيز الداخل، وأخواتنا المشرفات اللاتي لم يألن جهدا علينا بالإفادة والرد على كل مشكل ومشتبه.
ولا أنسى شكر والدي اللذين أرى أن في كل حرف أكتبه شكرا تلقائيا لهما، فلهما بعد الله الفضل في وجودي في هذه الحياة، ومن ثم حسن تربيتي وتوفير البيئة الداعمة والجيدة للدراسة والبحث.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

-أتممته في أحد المستشفيات، وأنا برفقة جدتي الغالية، أطال الله عمرها على الصحة والعافية، وأتم لها الشفاء العاجل بإذنه سبحانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

__________________________________
*الهوامش:
(1)لسان العرب، ج11، ص524-525.
(2)الفروق اللغوية، ج1، ص395.
(3)فضائل القرآن الكريم، ص391.
(4) نفحات من علوم القرآن، ص119.
(5)عرفه الد. فاروق حمادة في مقدمة تحقيقه لفضائل القرآن.
(6)فضائل القرآن الكريم، ص43.
(7)البرهان، ج1، ص438.
(8)تفسير ابن جرير، ج2، ص403.
(9)تفسير البغوي، ج1، ص135.
(10)تفسير الثعلبي، ج1، ص256.
(11)الاستذكار، ج2، ص512.
(12)الفروع لابن مفلح، ج2، ص174.
(13)الواضح في أصول الفقه، ج1، ص254.
(14)مجموع الفتاوى، ج17، ص73.
(15)الهداية إلى بلوغ النهاية، ج1، ص391.
(16)مسألة تفاضل القرآن بعضه على بعض، شبكة الألوكة.
(17)مجموع الفتاوى، ج17، ص103.
(18)الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص1131-1132.
(19)المنهاج في شعب الإيمان، ج2، ص244.
(20)فضائل القرآن، ص401.
(21)جواهر القرآن، ص63.
(22)فضائل القرآن، ص404.
(23)الواضح في أصول الفقه، ج4، ص263.
(24)فوائد في مشكل القرآن، ص264.
(25)فضائل القرآن، ص402.
(26)أضواء البيان، ج7، ص47-48.
(27)حديث صحيح أخرجه النسائي في فضائل القرآن رقم [36] ص 72 ، وقال محققه فاروق حماده : إسناده صحيح.
(28)أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل فاتحة الكتاب رقم [5006] ص 995 .
(29)أخرجه مسلم، ج1، ص556.
(30)أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } رقم [5013] ص 996 .
(31)مجموع الفتاوى، ج17، ص53.
(32)بيان فضل القرآن، الداخل، معهد آفاق.
(33)مجموع الفتاوى، ج17، ص210.
(34)مجموع الفتاوى، ج17، ص212.
(35)هل في القرآن شيء أفضل من شيء، العبيدي، منتدى تفسير.
(36)انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج17، ص208، والإتقان للسيوطي، ج4، ص116-120.
(37)أضواء البيان، ج7، ص48-49.
(38)شعب الإيمان للبيهقي، ج2، ص515-516، وعنه الزركشي في البرهان، ج1، ص522-523، والسيوطي في الإتقان، ج2، ص175.
(39)الواضح في أصول الفقه، ج4، ص262.
(40)البرهان، ج1، ص440.
(41)البرهان، ج1، ص441.
(42)البرهان، ج1، ص448.
(43)البرهان، ج1، ص447.
(44)البرهان، ج1، ص448.
(45)البرهان، ج1، ص447.

_____________________________________________

*المراجع:

1-القرآن الكريم.

2-صحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256هـ)، عناية: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة.

3-صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري (ت: 261هـ)، المحقق: د. عبدالغفار سليمان البنداري، دار الكتب العلمية، بيروت.
4-فضائل القرآن، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت: 303هـ)، تحقيق: فاروق حمادة، دار الثقافة، الدار البيضاء.

5-جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري (ت: 310 هـ)، تحقيق: جماعة بإشراف: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، القاهرة.

6-صحيح ابن حبان (بترتيب ابن بلبان الفارسي)، محمد بن حبان بن أحمد ابن حبان
البستي (ت: 354هـ)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت.

7-معجم الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (ت: نحو 395هـ)، تحقيق:الشيخ بيت الله بيات، ومؤسسة النشر الإسلامي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم.

8-المنهاج في شعب الإيمان، الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الجرجاني، أبو عبد الله الحَلِيمي (ت: 403 هـ)،المحقق: حلمي محمد فودة، دار الفكر.
9-إعجاز القرآن، أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت: 403هـ)، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار المعارف، مصر.

10-الانتصار للقرآن، أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت: 403هـ)، تحقيق: د. محمد عصام القضاة، دار الفتح، َعَّمان، دار ابن حزم، بيروت.

11-المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن حمدويه الحاكم النيسابوري (ت: 405هـ)، تحقيق: سليمان الميمان وأيمن الحنيحن، دار الميمان، الرياض.

12-الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد الثعلبي (ت: 427هـ)، تحقيق: أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي.

13-الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ)، تحقيق: فريق من الباحثين بإشراف أ. د: الشاهد البوشيخي، جامعة الشارقة.

14-شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (ت:458هـ)، حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، أشرف على تحقيقه وتخريج أحاديثه: مختار أحمد الندوي، مكتبة الرشد بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي - الهند.

15-الاستذكار، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (ت:463هـ)، حققه: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية - بيروت.
16-جواهر القرآن، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت: 505هـ)، تحقيق: الدكتور الشيخ محمد رشيد رضا القباني، دار إحياء العلوم، بيروت.
17-معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت:510هـ)، حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش، دار طيبة للنشر والتوزيع.

18-الوَاضِح في أصُولِ الفِقه، أبو الوفاء، علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري، (ت:513هـ)، المحقق: الدكتور عَبد الله بن عَبد المُحسن التركي، مؤسسة الرسالة - بيروت.

19-إكمال المعلم بفوائد مسلم، أبو الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي.(ت:544هـ)، تحقيق: يحيى إسماعيل، دار الوفاء. 

20-زاد المسير، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي (ت: 597هـ)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت.
21-فوائد في مشكل القرآن، عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام (ت:660)، دار الشروق، جدة.

22-الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (ت:671هـ)، تحقيق: فريق من الباحثين، بعناية د.عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة.

23-التذكار في أفضل الأذكار، أبو عبدالله محمد بن أحمد القرطبي (671 هـ)، دار الكتب العلمية.

24-لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (ت: 711هـ)، دار صادر - بيروت.

25-مجموع الفتاوى، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه محمد، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية.

26-كتاب الفروع ومعه تصحيح الفروع لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، أبو عبد الله، شمس الدين المقدسي الرامينى ثم الصالحي الحنبلي (ت:763هـ)، المحقق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة.

27-البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الله بن بادر الزركشي (ت:794هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه، القاهرة.

28-فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي (ت:852)، دار المعرفة - بيروت.

29-الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت: 911هـ)، تحقيق: فريق من الباحثين بمركز الدراسات القرآنية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية.

30-أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الجكني الشنقيطي (ت: 1393)، تحقيق: جماعة من الباحثين بإشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة.

31-هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟ [تعقيب على رأي الحافظ ابن عبد البر في هذه المسألة ]، أبو مجاهد العبيدي، منتدى تفسير، 1424هـ:

‏
https://vb.tafsir.net/tafsir978/
32-نفحات من علوم القرآن، محمد أحمد محمد معبد (ت: 1430هـ)، دار السلام، القاهرة، 1426هـ.
33-فضائل القرآن الكريم، عبدالسلام صالح الجارالله، دار التدمرية، السعودية، 1429هـ.

34-مسألة تفاضل القرآن بعضه على بعض، أحمد بن فارس السلوم، شبكة الألوكة، 1437هـ:
‏
https://www.alukah.net/sharia/0/100364/
35-بيان فضل القرآن، عبدالعزيز بن داخل المطيري، معهد آفاق التيسير، ط1437هـ.


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 21 ربيع الثاني 1440هـ/29-12-2018م, 03:53 AM
علاء عبد الفتاح محمد علاء عبد الفتاح محمد غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 599
افتراضي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عنوان البحث: فتنة القول بخلق القرآن

التمهيد: ويشمل:

- المقدمة
- أهمية الموضوع
- أسباب اختيار الموضوع
- الدراسات السابقة إن وجدت
- خطة البحث
---------------------------------------------
** المقدمة
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنه محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التي أوتيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كان الحق دائما محاربا من قبل الباطل كما قال تعالى "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون "
فقد وقعت محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، كما حورب من قبله من المرسلين، ووقعت الطعونات في كتاب الله من أعداء الله ومن أهل الأهواء، ومن ذلك ما كان من فتنة القول بخلق القرآن.

** أهمية الموضوع
أهمية هذا الموضوع سببها ما يتناوله وهو القرآن فإن شرف العلم من شرف المعلوم،
ولما كان المعلوم هو أشرف كتاب كان العلم به من أشرف العلوم، وهذا الموضوع يتناول فتنة وقعت ويبين الحق الذي يوافق كتاب الله.

** أسباب اختيار الموضوع
من أهم الأسباب التي دعت إلى اختيار هذا الموضوع هو تعلقه بصميم العقيدة، وخطورة القول بخلق القرآن فإنها مسألة عظيمة تخرج من الملة،
ولما كانت بعض الطوائف مازالت إلى زماننا هذا يحرفون معنى القرآن وحقيقته لزم العلم بالحق في هذه المسألة
حتى تكون العقيدة في القرآن صحيحة وفق ما جاء عن الله وما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولهذا سأميل في هذا البحث إلى توثيق الكلام بالنقولات المستفيضة من الكتاب والسنة وكلام الأئمة الأعلام من الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا ليكون هذا مرجعاً لنا عند تعاملنا بالميزان الحق بيننا وبين من ترك الحق في هذه المسألة العظيمة، وقدوتي في هذا قول ربنا تبارك وتعالى في محكم التنزيل "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" [النساء: 59]
وهذا أمر من الله عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ،
كما قال تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) [ الشورى : 10 ]
فما حكم به كتاب الله، وسنة رسوله، وشَهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال.

** خطة البحث
سيكون البحث من ستة فصول وهي باختصار كالتالي:
-الفصل الأول: التعريف بالقرآن عن أهل السنة وبيان السبب الذي جعلهم يصرحون بأنه غير مخلوق.
-القصل الثاني: ذكر الأدلة على وجوب الإيمان بالقرآن وبيان حكم من كفر بحرف منه.
-الفصل الثالث: ذكر الأدلة على أن الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن
-الفصل الرابع: بيان أن القرآن كلام الله سواء كان في الصدور أو بين الدفتين أو في اللوح المحفوظ أو غيرهم.
-الفصل الخامس: الأدلة على أن القرآن غير مخلوق وفق أصول العقيدة والدين القويم ووفق ما جاء أدلة تصرح بذلك.
-الفصل السادس: فتنة القول بخلق القرآن، وفيه ذكر ما كان من المحنة وطرفا مما وقع فيها وكيف انتهت.
ثم الخاتمة: وفيها توصيات وتنبيهات.

****************************************************************************************************************************************
الفصل الأول: تعريف القرآن عند أهل السنة والجماعة، وفيه مبحثان
=المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة في القرآن
=المبحث الثاني: سبب تصريح أهل السنة والجماعة بأن القرآن غير مخلوق.

---------------------------------------
=المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة في القرآن
سيكون بيان هذا المبحث من خلال ذكر أمرين اثنين:
=فأما الأمر الأول: ذكر خلاصة ما ورد عن السلف في تعريف القرآن عند أهل السنة والجماعة وهو:
أن القرآن كلام الله تعالى حقيقة لا كلام غيره، وأن كلامه ليس بمخلوق ومن زعم أنه مخلوق فهو كافر، وأنه من الله بدأ وإليه يرفع في آخر الزمان، وأن الحروف والمعاني كلها من الله، وأن جبريل سمعه من الله ونزل به على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذه عنه الصحابة وتلقته الأمة عن الصحابة جيلاً بعد جيل.
ويشمل هذا كل وجوه القرآن التي يكون فيها
فما كان في اللوح المحفوظ فهو القرآن،
وما كان في الأرض أو السماء فهو كلام الله،
وما كان في صدور الرجال فهو كلام الله،
وما كان بين الدفتين أو غيرهما كالألواح أو الأخشاب ونحوها؛ فهو كلام الله.

=والأمر الثاني: ذكر بعض أقوال أئمة أهل السنة والجماعة الحاوي لما تقدم ذكره:
-قال إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني (ت: 264هـ) : (
- والقرآن كلام الله عز وجل ومن لدنه وليس بمخلوق فيبيد.). [شرح السنة)
-قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ (360هـ): ( في باب ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله تعالى، وأن كلامه ليس بمخلوق ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر
-قال محمد بن الحسين: اعلموا رحمنا الله وإياكم أن قول المسلمين الذين لم يزغ قلوبهم عن الحق، ووفقوا للرشاد قديما وحديثا: أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق.). [الشريعة للآجري)
-قال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458هـ) : (في باب القول في القرآن:
القرآن كلام الله عز وجل.). [كتاب الاعتقاد: )
-قال أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي (ت: 418هـ): ( - أخبرنا عبيد اللّه بن محمّد بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن كاملٍ قال: ثنا أبو جعفرٍ محمّد بن جريرٍ قال: فأوّل ما نبدأ بالقول فيه من ذلك كلام اللّه عزّ وجلّ وتنزيله؛ إذ كان من معاني توحيده، والصّواب من القول في ذلك عندنا أنّه كلام اللّه غير مخلوقٍ، وكيف كتب، وكيف تلي، وفي أيّ موضعٍ قرئ، في السّماء وجد، أو في الأرض حفظ، في اللّوح المحفوظ كان مكتوبًا، أو في ألواح صبيان الكتاتيب مرسومًا، في حجرٍ نقش، أو في رقٍّ خطّ، في القلب حفظ، أو باللّسان لفظ، فمن قال غير ذلك أو ادّعى أنّ قرآنًا في الأرض أو في السّماء غير الّذي نتلوه بألسنتنا ولكنّه في مصاحفنا، أو اعتقد ذلك بقلبه، أو أضمره في نفسه، أو قال بلسانه داينًا به، فهو باللّه كافرٌ، حلال الدّم، وبريءٌ من اللّه، واللّه بريءٌ منه، .. [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة]
-قال أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني (ت:728هـ) : (ومِن الإِيمانِ باللهِ وكُتُبِهِ الإِيمانُ بأَنَّ القرآنَ: كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ، منهُ بَدَأَ، وإِليهِ يَعودُ، وأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقيقةً، وأَنَّ هذا القرآنَ الَّذي أَنْزَلَهُ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُو كلامُ اللهِ حقيقةً، لا كَلامَ غيرِهِ.). [العقيدة الواسطية]

-------------------------------------------------
=المبحث الثاني: سبب تصريح أهل السنة والجماعة بأن القرآن غير مخلوق.
-إن السبب الأساسي الذي دفع أهل السنة إلى التصريح بأن القرآن غير مخلوق؛ هو ما حدث من فتنة القول بخلق القرآن فهنا توجب على أهل العلم أن يبينوا مخالفة هذه المقالة للعقيدة السليمة،
-ومن الأسباب التي جعلت التصريح شيء لابد منه هو ما حدث بعدها من فتن تتعلق بها، كالواقفة الذين توقفوا فيه وحقيقة الأمر أنه شك في حقيقة القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق، لذا صرح الأئمة كأحمد ابن حنبل بأنه لا يسع أحد السكوت وعدم التصريح وقد صرح أهل الباطل بأنه مخلوق فمن النصيحة للمسلمين بيان حقيقة المعتقد فيه وأن لا يكون عن شك أو جهل
قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ (360هـ): ( - حدثنا ابن مخلد قال: حدثنا أبو داود السجستاني قال: سمعت أحمد يسأل: هل لهم رخصة أن يقول الرجل: القرآن كلام الله، ثم يسكت؟
فقال: ولم يسكت؟ لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا، لأي شيء لا يتكلمون؟
قال محمد بن الحسين: معنى قول أحمد بن حنبل في هذا المعنى يقول: لم يختلف أهل الإيمان أن القرآن كلام الله تعالى؟ فلما جاء جهم بن صفوان فأحدث الكفر بقوله: القرآن مخلوق لم يسع العلماء إلا الرد عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق بلا شك، ولا توقف فيه، فمن لم يقل غير مخلوق سمي واقفيا، شاكا في دينه.). [الشريعة للآجري]
**************************************************************************************************************************************************************
الفصل الثاني: بيان وجوب الإيمان بالقرآن، وفيه مبحثان
=المبحث الأول: الأدلة على وجوب الإيمان بالقرآن .
=المبحث الثاني : حكم من كفر بحرف من القرآن .

--------------------------------------------------
=المبحث الأول: الأدلة على وجوب الإيمان بالقرآن .
أمر الله خلقه أن يؤمنوا بالقرآن، ويعملوا بمحكمه:
فيحلوا حلاله، ويحرّموا حرامه،
ويؤمنوا بمتشابهه، ويعتبروا بأمثاله، ويقولوا {آمنّا به كلٌّ مّن عند ربّنا}
وبين سبحانه وتعالى أنه كتاب منزل من عنده وأنهم يجب أن يؤمنوا به، كما بين سبحانه وتعالى في آيات عديدة أن الإيمان بالله معلق بالإيمان بكتابه، وجعله سبحانه وتعالى أحد أركان الإيمان الستة
وهذه بعض الأدلة من كتاب الله سبحانه وتعالى ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين هذه المعاني السابقة:
قال تعالى في سورة:
البقرة - الآية 177۞ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ.
وقال تعالى في سورة:
المائدة - الآية 15يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ
وقال تعالى في سورة:
الأنعام - الآية 92وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
وقال تعالى في سورة:
الأنعام - الآية 155وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
-قال البيهقي: باب الإيمان بما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملائكة الله وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والحساب والميزان والجنة والنار وأنهما مخلوقتان معدتان لأهلهما وبما أخبر عنه من حوضه ومن أشراط الساعة قبل قيامها:
قال الله عز وجل {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}.). [كتاب الاعتقاد]
-وقال بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( - حدّثنا أبو محمّدٍ، قال: حدّثنا يعقوب، قال: حدّثنا خلف بن الوليد، قال: حدّثنا الهزيل، عن أبي غنيّة، قال: قال أبو رزينٍ: يا رسول اللّه ما الإيمان؟ قال: «تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، والجنّة والنّار، والحساب والبعث، والقدر خيره وشرّه، فذلك الإيمان كما يحبّ الظّمآن الماء البارد في اليوم الصّائف يا أبا رزينٍ».). [الإبانة الكبرى: 2/808]
-وقال البيهقي (ت: 458هـ) : ( - وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعد الحافظ قالا: ثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي، ثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن زريع، ثنا روح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل»
قال الشيخ: ونعتقد فيما أنزله الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، ولم ينسخ رسمه في حياته وأنه بقي في أمته محفوظا لم تجر عليه زيادة ولا نقصان كما وعد الله بقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
وهو كما قال: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}، قال الحسن البصري حفظه الله من الشيطان: فلا يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقا.). [كتاب الاعتقاد) [والحديث مخرج عند مسلم بلفظ قريب من حديث ابن مسعود]
- حديث جبريل الطويل (المعروف شهرة: بأم السنة)
قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ (360هـ): ( باب ذكر سؤال جبريل للنبي عليهما السلام عن الإسلام ما هو؟ وعن الإيمان ما هو؟
- حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: حدثنا النضر بن شميل قال: حدثنا كهمس بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله بن عمر قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه أحد منا، حتى جلس إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفيه على فخذيه، ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، وما الإسلام؟
قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا «
قال: صدقت، فعجبنا أنه يسأله ويصدقه.

قال: فأخبرني عن الإيمان؟
قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره»
قال: صدقت.

قال فأخبرني عن الإحسان.
قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك»
قال: فأخبرني عن الساعة؟
قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»
قال عمر: فلبثت مليا ، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمر، هل تدري من السائل؟»
فقلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم»
[والحديث مخرج في الصحيحين].

--------------------------------------------------
=المبحث الثاني: حكم من كفر بحرف من القرآن .
لما تقدم في المبحث السابق بيان حكم الإيمان بالقرآن وأهمية ذلك ناسب أن يكون في الفصل الذي يليه بيان حكم من لم يؤمن به أو تأول الإيمان به بشيء يخالف حقيقته كما وقع من بعض الطوائف الضالة التي جعلت القرآن مخلوق أو من كلام المخلوقين أو نحو ذلك من المقالات الفاسدة التي حقيقتها عدم الإيمان بالقرآن.
- قال عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408): ( في تعليقه على العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام:
-قولُه: (ومِنَ الإيمانِ باللَّهِ وكُتُبهِ الإيمانُ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ).
فمَن لم يُؤمِنْ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ لم يؤمِنْ باللَّهِ وكُتُبه.
قال عبدُ اللَّهِ بنُ المبارَكِ: (مَن كَفَرَ بحرفٍ مِن القرآنِ فقد كفَرَ بالقرآنِ، ومَن قال لا أؤمِنُ بهَذَا الكلامِ فقد كَفَرَ).
-قولُه: (كلامُ اللَّهِ)
قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ). وقال: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ) الآيةَ. وعن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ -رضي اللَّهُ عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يَعرْضُ نَفْسَه في الموْسِمِ فيقولُ: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ لأُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي)). رواه أبو داودَ. فاتَّضحَ بهَذَا أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ لا كلامُ غيرِه، فمَن زعم أنَّه كلامُ غيرِه فهُوَ كافرٌ باللَّهِ العظيمِ.
وقال غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ: مَن أنْكَرَ أنْ يكونَ اللَّهُ متكلِّماً أو يكونَ القرآنُ كَلامَه فقد أَنكَرَ رسالةَ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-، بل ورسالةَ جميعِ الرُّسلِ التي حقيقَتُها: تبليغُ كلامِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فإذا لم يكُنْ ثَمَّ كلامٌ فماذا يُبلِّغُ الرَّسولُ، بل كَيْفَ يُعقلُ كونُه رسولا؟ ولهَذَا قال مُنكِروا رسالَتِه عن القرآنِ: (إنْ هَذَا إلاَّ قولُ البَشَرِ) فمَن قال: إنَّ اللَّهَ لم يتكلَّمْ به – أي: القرآنِ – فقد ضاهَى قولُه قولَهم – تعالى اللَّهُ عمَّا يقولون عُلُواًّ كبيرًا.). [التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية[

***************************************************************************************************************************************************************
الفصل الثالث: بيان أن القرآن كلام الله تعالى، وفيه أربعة مباحث
=المبحث الأول: دلالة الأحاديث المروية في أن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس على أن القرآن كلام الله.
=المبحث الثاني: دلالة الأحاديث المروية في تفلت القرآن على أنه غير مخلوق.
=المبحث الثالث: دلالة الأحاديث المروية في سماع الملائكة كلام الله بالوحي على أنّ كلام الله غير مخلوق.
=المبحث الرابع: دلالة أحاديث تكليم الله عباده يوم القيامة بلا ترجمان ولا واسطة على بطلان قول من أنكر أن القرآن غير مخلوق.



----------------------------------------
=المبحث الأول: دلالة الأحاديث المروية في أن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس على أن القرآن كلام الله
إن من الأدلة على أن القرآن هو كلام الله تعالى هو ما جاء في الأحاديث من النهي عن أي كلام في الصلاة من كلام المخلوقين، مما يدل على أن ما يكون في الصلاة فهو كلام الخالق سبحانه وتعالى غير مخلوق، ولو كان مخلوق لجاز الكلام بغيره من كلام المخلوقين كما جاز به ومن هذه الأحاديث:
-حديث معاوية بن الحكم السلمي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (قال بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) أخرجه مسلم عن عطاء بن يسار عنه.
وقد استدل أئمة السلف على بهذا الحديث كما قلنا كما فعل ذلك ابن منده حيث قال في كتاب التوحيد (3/170-171)
بيانٌ آخر يدلّ على ما تقدّم بخبرٍ جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ الصّلاة لا يصلح فيها شيءٌ عن كلام النّاس
- أخبرنا أحمد بن زكريّا بن يعقوب المقدسيّ، حدثنا محمّد بن سليمان، حدثنا ابن عليّة. ح وأخبرنا محمّد بن يعقوب الشّيبانيّ، حدثنا يحيى بن محمّد بن يحيى، حدثنا مسدّدٌ، حدثنا يحيى بن سعيدٍ، وقالا: حدثنا حجّاج بن أبي عثمان الصّوّاف، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسارٍ، عن معاوية بن الحكم السّلميّ، قال: كنّا نصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم إلى جنبي، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم،
فقلت: واثكل أمّيّاه ما لي أراكم تنظرون إليّ وأنا أصلّي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يصمتونني، فلمّا رأيت ذلك سكتّ، فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، فبأبي هو وأمّي، ما رأيت قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، والله ما كهرني، ولكنّه قال: ((إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام النّاس، إنّما الصّلاة بقراءة القرآن، والتّسبيح، والتّحميد، والتّمجيد)). ا.هـ.
ثم ساقه من طريقين آخرين عن الأوزاعي ويزيد بن حرب بن شداد كلاهما عن يحيي بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء عن معاوية بن الحكم

-واستدل به أيضاً اللالكائي في [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/ 381-382] فقال
(أخبرنا عبيد اللّه بن أحمد، أخبرنا الحسين بن إسماعيل قال: ثنا يعقوب الدّورقيّ قال: ثنا إسماعيل ابن عليّة قال: نا حجّاج بن أبي عثمان قال: ثنا يحيى بن أبي كثيرٍ، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسارٍ، عن معاوية بن الحكم قال: بينا أنا أصلّي مع رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم إذ عطس إلى جنبي رجلٌ فقلت: رحمك اللّه، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّاه، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمّا رأيتهم يصمّتونني سكتّ، فلمّا قضى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، فبأبي هو وأمّي ما رأيت معلّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، واللّه ما كهرني ولا ضربني.
قال: «إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلامنا هذا، إنّما هو التّسبيح والتّحميد والتّكبير وقراءة القرآن». أو كما قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم. أخرجه مسلمٌ.) ا.هـ.

-------------------------------------------------------
=المبحث الثاني: دلالة الأحاديث المروية في تفلت القرآن على أنه غير مخلوق.
إن من الأدلة الواضحة أيضا على أن القرآن كلام الله، وأنه ليس من كلام المخلوقين هو ما جاء في الحديث الذي يذكر فيه تعاهد القرآن بالمراجعة ففي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم " بئسما لأحدكم أو بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كذا وكذا، بل هو نسّي) فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقال للقرآن نَسيتُ بل يقال يُسيّتُ فكأن العبد لم يرد إن ينساه باختياره وهذا لأنه ليس ككلام المخلوقين.
-واستدل به أيضاً اللالكائي في [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/ 378-379] فقال
( - وأخبرنا أحمد بن عمر بن محمّدٍ الأصبهانيّ قال: أنا عمر بن أحمد بن عليٍّ قال: نا محمّد بن الوليد قال: ثنا محمّد بن جعفرٍ قال: ثنا شعبة، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ، عن عبد اللّه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: " بئسما لأحدكم أو بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كذا وكذا، بل هو نسّي، فاستذكروا القرآن؛ فإنّه أسرع تفصّيًا من صدور الرّجال من النّعم من عقلها، أو من عقله ". أخرجه البخاريّ من حديث شعبة.
- أخبرنا عبد اللّه بن مسلمٍ، وعبيد اللّه بن أحمد المقرئ قالا: أخبرنا الحسين بن إسماعيل قال: ثنا يوسف بن موسى قال: ثنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ، عن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: " بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا وكذا، بل هو نسّي، فاستذكروا القرآن؛ فلهو أشدّ تفصّيًا من صدور الرّجال من النّعم من عقلها ".
وكذلك رواه مسدّدٌ، عن يحيى، عن سفيان، عن منصورٍ. وأخرجه البخاريّ عن أبي نعيمٍ.
أخبرنا محمّد بن الحسين بن الفضل، وعبيد اللّه بن أحمد قالا: ثنا الحسين بن يحيى المتّوثيّ قال: ثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح قال: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن شقيقٍ قال: قال عبد اللّه: تعاهدوا هذه المصاحف وربّما قال: القرآن، فلهو أشدّ تفصّيًا من صدور الرّجال من النّعم من عقلها. قال: وقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: " لا يقولنّ أحدكم: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسّي".).

---------------------------------------------
=المبحث الثالث: دلالة الأحاديث المروية في سماع الملائكة كلام الله بالوحي على أنّ كلام الله غير مخلوق.
إن من الأدلة الواضحة على أن القرآن من الله وأنه ليس من مخلوق وليس من كلام المخلوقين هو الحال التي تعتري الملائكة عندما يتكلم الله سبحانه وتعالى، فإنهم كما وصفهم الله في القرآن فقال في سورة سبإ - الآية 23 (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۚ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الْحَقَّ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)
وفي الحديث الذي سيأتي ذكره وصف لحالهم (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم؟ ...)
وهذه الحال لا تكون إلا مع كلام الباري سبحانه وتعالى فإن الملائكة يسمعون كلام المخلوقين ولا تعتريهم تلك الحال
-والحديث قد أخرجه البخاري في صحيحه فقال:
حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحق ، وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ، ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه ، فيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا وكذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء ) .
- وقال صاحب عمدة القاري على شرح صحيح البخاري عند هذا الحديث:
قوله : " إذا قضى الله الأمر " ، وفي حديث النواس بن سمعان عند الطبراني مرفوعا : إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله ، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجدا ، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل - عليه الصلاة والسلام - فيكلمه الله بوحيه بما أراد ، فينتهي به على الملائكة ، كلما مر بسماء سأله أهلها : ماذا قال ربنا ؟ قال : الحق ، فينتهي به حيث أمر .

قوله : " خضعانا " بفتحتين ، ويروى بضم أوله وسكون ثانيه ، وهو مصدر بمعنى خاضعين ، قوله : " كأنه " أي القول المسموع ) ا.هـ.
-واستدل به اللالكائي رحمه الله بعد روايته لكن من طريق عبد الله ابن مسعود فقال:
- أخبرنا الحسن بن عثمان قال: أخبرنا عبد اللّه بن عبد الرّحمن بن حمّادٍ قال: نا محمّد بن عبيد اللّه بن يزيد قال: ثنا وهب بن جريرٍ قال: نا شعبة، عن الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ قال: سألنا عبد اللّه ولولا عبد اللّه لم نجد أحدًا يخبرنا، فقال:
إذا تكلّم اللّه بالوحي سمع أهل السّموات صلصلةً كصلصلة السّلسلة على الصّفوان.
قال: فيرون أنّه من أهل السّماء فيفزعون فإذا سكن {قالوا ماذا قال ربّكم قالوا الحقّ وهو العليّ الكبير} [سبأ: 23].). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/369]

-------------------------------------------------------
=المبحث الرابع: دلالة أحاديث تكليم الله عباده يوم القيامة بلا ترجمان ولا واسطة على بطلان قول من أنكر أن القرآن غير مخلوق.
في هذا المبحث سنذكر نوعاً آخر من أنواع الأدلة التي تدل على أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى وأنه ليس ككلام المخلوقين وهو ما جاء في الآيات والأحاديث من ذكر صفة الكلام لله سبحانه وتعالى، ففيها بيان إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى فالله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، فمن ذلك ما جاء في القرآن مثل:
- قوله: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً )،
-وقوله: ( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيْسى بنَ مَرْيَمَ )،
-وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)،
- وقولُهُ: ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ).
-وقوله: ( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ )،
-وقوله: ( وَلَمَّا جَاءَ مُوْسَى لِمِيْقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ).
-وقوله: ( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيّاً )،
- وقَوْلُهُ: ( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوْسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ)،
-وقوله: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ )،
-وقَوْلُهُ: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلينَ )
وساق اللالكائي رحمه الله حديث عدي ابن حاتم –المخرج في الصحيحين- فقال:
أخبرنا عبيد اللّه بن محمّد بن أحمد، وعليّ بن محمّد بن عبد اللّه قالا: ثنا محمّد بن عمرو بن البختريّ قال: نا عبد اللّه بن محمّد بن شاكرٍ قال: ثنا أبو أسامة قال: ثنا الأعمش، عن خيثمة، عن عديّ بن حاتمٍ قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحدٍ إلّا سيكلّمه اللّه يعني ليس بينه وبينه حاجبٌ ولا ترجمانٌ، فلينظرنّ أيمن منه فلا يرى إلّا شيئًا قدّمه، ولينظرنّ أشأم منه فلا يرى إلّا شيئًا قدّمه، ولينظرنّ أمامه فلا يرى إلّا النّار، فاتّقوا النّار ولو بشقّ تمرةٍ». أخرجه البخاريّ عن يوسف بن موسى، عن أبي أسامة.). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/ 372-373]


***************************************************************************************************************************************************************
الفصل الرابع: القرآن منزل غير مخلوق حروفه ومعانيه من الله تعالى
=المبحث الأول : بيان أن القرآن كلام الله تعالى تكلم به حقيقة وفيه ستة مطالب
المطلب الأول: الأدلة على تكلّم الله تعالى بالقرآن حقيقة
المطلب الثاني: ذكر ما يدلّ على أنّ المتلوّ والمكتوب والمسموع من القرآن كلام الله عز وجل
المطلب الثالث: القرآن حروفه ومعانيه من الله تعالى
المطلب الرابع: المحفوظ في الصدور هو القرآن
المطلب الخامس: المكتوب بين الدَّفتين هو القرآن
المطلب السادس: القرآن كلام البارئ، والصوت صوت القارئ

------------------------------------------------
المطلب الأول: الأدلة على تكلّم الله تعالى بالقرآن حقيقة
الله سبحانه وتعالى قد تكلم بالقرآن على الحقيقة، وسمعه جبريل عليه السلام، ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره الله أن يتلوه على الناس ويعلمهم إياه، وأمره أن يتحدى به من يعارضه بتحديات مختلفة تثبت أنه ليس من كلام المخلوقين بل هو من كلام رب العالمين، فهو ليس بحكاية عن كلام الله ولا عبارة عنه، بل هو كلام الله، وكلام الله صفة لله، وصفات الله ليس لها مثيل، فصفات الله كذات الله سبحانه وتعالى، ومن قال غير هذا فهو كافرٌ ضالٌّ مضلٌّ مبتدعٌ مخالفٌ لمذاهب السّنّة والجماعة.
ومن الأدلة على ذلك:
-قوله تبارك وتعالى: {وكلّم اللّه موسى تكليمًا} [النساء: 164]
قال اللالكائي في [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/-364-367] عند هذه الآية:
قيل في تفسيره عن ابن عبّاسٍ: شفاهًا، وقيل: مرارًا.
وقال تعالى: {إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144]
وقال تعالى: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه} [التوبة: 6] قال قتادة والسّدّيّ: القرآن.
وقال تعالى:{يريدون أن يبدّلوا كلام اللّه} [الفتح: 15].
وقال تعالى: {بل هو قرآنٌ مجيدٌ في لوحٍ محفوظٍ} [البروج: 22].
وقال تعالى: {والطّور وكتابٍ مسطورٍ} [الطور: 1].
وقال تعالى: {إنّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم}[الإسراء: 9].
وقال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ} [الحشر: 21].
وقال تبارك وتعالى: {وننزّل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ} [الإسراء: 82].
وقال تعالى: {قرآنًا عربيًّا غير ذي عوجٍ} [الزمر: 28].
وقال تعالى: {وإنّك لتلقّى القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ} [النمل: 6].
وقال تعالى: {بل هو آياتٌ بيّناتٌ في صدور الّذين أوتوا العلم} [العنكبوت: 49].
وقال تعالى: {وهذا ذكرٌ مباركٌ أنزلناه} [الأنبياء: 50].
وقال تعالى: {كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبّروا آياته وليتذكّر أولو الألباب}.
وقال تعالى: {وهذا كتابٌ مصدّقٌ لسانًا عربيًّا} [الأحقاف: 12].
وقال تعالى:{ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكلّ شيءٍ} [النحل: 89].
وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم} [النحل: 44].
وقال تعالى: {وإنّه لتنزيل ربّ العالمين، نزل به الرّوح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ} [الشعراء: 192].
-وقال ابن تيمية في العقيدة الواسطية:
(( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً )،
( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيْسى بنَ مَرْيَمَ )،
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)،
وقولُهُ: ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ).
( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ )،
( وَلَمَّا جَاءَ مُوْسَى لِمِيْقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ).
( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيّاً )،
وقَوْلُهُ: ( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوْسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ)،
(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ )،
وقَوْلُهُ: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلينَ ).).
- قال زيد بن عبد العزيز الفياض (ت: 1416هـ) : ( فِي الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية عند هذا الموضع:
(في هَذِهِ الآْيَاتِ إثباتُ صِفَةِ الكلامِ لله حَقِيقَةً عَلَى ما يَلِيقُ بِجَلالِهِ تَعَالَى وهُوَ سُبْحَانَهُ قد تَكَلَّمَ بالْقُرْآنِ والكُتُبِ المُنزَّلةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ . وغيرِ ذَلِكَ ويَتَكَلَّمُ إذا شَاءَ مَتَى شَاءَ والْقُرْآنُ كَلامُه تَعَالَى مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ وهُوَ كلامُ اللهِ حُروفُه ومَعَانِيهِ وهُوَ سورٌ وآياتٌ وحُروفٌ وكَلِماتٌ قد تَكَلَّمَ بها) ا.ه.

---------------------------------
المطلب الثاني: ذكر ما يدلّ على أنّ المتلوّ والمكتوب والمسموع من القرآن كلام الله عز وجل
القرآن هو كلام الله سواء كان هذا مسموع كما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل وسمعه منه الصحابة ثم تتابع بالتواتر إلى يومنا هذا، أو كان مكتوب كما هو في اللوح المحفوظ، أو في المصاحف التي بأيدينا كما في حديث ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ثم أنزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد فكان فيه ما قال المشركون وأدوا عليه.
ومن الأدلة على ذلك ما ذكره ابن منده في كتاب التوحيد [3/ 168-169] حيث استدل على ذلك بجملة من الآيات نوردها حيث قال:
( ذكر ما يدلّ على أنّ المتلوّ والمكتوب والمسموع من القرآن كلام الله عز وجل الّذي نزل به جبريل عليه السّلام من عند الله عز وجل على قلب محمّدٍ صلى الله عليه وسلم؛
قال اللّه عز وجل: {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب} الآية.
وقال عز وجل: {نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه} الآية.
وقال: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ} الآية.
وقال: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ} الآية.
وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {إنّ وليّي الله الّذي نزّل الكتاب} الآية.
وقال: {إنّا أنزلناه قرءانًا عربيًّا}.
وقال: {والّذي أنزل إليك من ربّك الحقّ}.
وقال: {كتابٌ أنزلناه إليك}.
وقال: {وقد نزّل عليكم في الكتاب}.
وقال: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} الآية.
وقال: {آمنوا بالله ورسوله والكتاب الّذي نزّل على رسوله} الآية.
وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، والظّالمون، والفاسقون.
وقال: { وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم} الآية.
وقال عز وجل: {وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل}.
وقال: {قل نزّله روح القدس من ربّك بالحقّ}.
وقال: {تبارك الّذي نزّل الفرقان على عبده} الآية.
وقال: {وإنّه لتنزيل ربّ العالمين نزل به الرّوح} الآية.
وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {بلّغ ما أنزل إليك من ربّك} الآية.
وقال: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام الله} الآية. ) ا.ه.

-------------------------------------------------
المطلب الثالث: القرآن حروفه ومعانيه من الله تعالى
وفي هذا المطلب بيان أمر مهم يتعلق بالقرآن الكريم وهو أنه كلام الله الذي تكلم به حقيقة؛ وعليه فإن الحروف والكلمات هي من الله كما أن المعاني التي تشتمل عليها الكلمات هي من الله، وإنما احتيج للتصريح بهذا لأنه قد أحدث فرق من أهل الضلال أقوال في القرآن لم يسبقهم بها أحد ولا أثرت عن محمد صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح فمما أحدث: أنهم قالوا إن المعاني هي من الله وأما الحروف والكلمات هي من جبريل حيث عبر عن هذه المعاني، وقال آخرون: المعاني من الله والحروف والكلمات هي عبارة عن هذه المعاني، وقال آخرون المعبر عنها والحاكي عنها هو محمد وقال غيرهم بل خلقها الله إلي غيرها من المقالات الباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وحقيقة منشأ هذه الأقوال الباطلة إنكار صفة من صفات الله سبحانه وتعالى وهي صفة الكلام وقد تقدم في الفصل السابق سرد جملة من الآيات والأحاديث التي فيها التصريح بأن الله يتكلم ومنها قوله تعالى:
(( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً )،
وقوله: ( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيْسى بنَ مَرْيَمَ )،
: ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ).وقوله:
وقوله: ( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ )،
( وَلَمَّا جَاءَ مُوْسَى لِمِيْقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ).وقوله:
( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيّاً )وقوله:
وغيرها من الآيات التي تقدم ذكرها.
-وقد عبر عن هذا المعنى شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية عند ذكر القول في القرآن الكريم فقال:
(ومِن الإِيمانِ باللهِ وكُتُبِهِ الإِيمانُ بأَنَّ القرآنَ: كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ، منهُ بَدَأَ، وإِليهِ يَعودُ، وأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقيقةً، وأَنَّ هذا القرآنَ الَّذي أَنْزَلَهُ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُو كلامُ اللهِ حقيقةً، لا كَلامَ غيرِهِ.
ولا يجوزُ إِطلاقُ القَوْلِ بأَنَّهُ حِكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ، أَو عِبارَةٌ، بلْ إِذا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ في المصاحِفِ؛ لمْ يخْرُجْ بذلك عنْ أَنْ يَكونَ كَلامَ اللهِ تعالى حَقيقةً، فإِنَّ الكلامَ إِنَّما يُضَافُ حقيقةً إِلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدِئاً، لا إِلى مَن قالَهُ مُبَلِّغاً مُؤدِّياً.
وهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُروفُهُ، ومَعانيهِ، ليسَ كَلامُ اللهِ الحُروفَ دُونَ المَعاني، ولا المَعانِيَ دُونَ الحُروفِ)
-وقال في غير هذا الكتاب بنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: والصَّوابُ الذي عليه السَّلَفُ والأئمَّةُ: أنَّ الكلامَ حقيقةٌ في اللَّفظِ والمعنى، كما أنَّ الإنسانَ حقيقةٌ في البَدنِ والرُّوحِ، فالنِّزاعُ في النَّاطِقِ كالنِّزاعِ في مَنطِقِه. انتهى.
-وقال الشيخ زيد بن عبد العزيز الفياض في شرحه على الواسطية عند هذا الموضع:
والدَّليلُ على أنَّه حروفٌ حديثُ ابنِ مسعودٍ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرَآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ)) وقال النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((اقْرَؤوا القرآنَ قَبلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَتَعَجَّلُونَ آخِرَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ)) رواهُ بنحوِه أحمدُ، وأبو داودَ، والبيهقيُّ في "سُننِه" والضياءُ المقدسيُّ في "المختارةِ عن جابرٍ" وقال أبو بكرٍ وعمرُ -رضي اللَّهُ عنهما-: إعرابُ القرآنِ أحبُّ إلينا مِن حِفظِ بعضِ حُروفِه.
وقال عليٌّ -رضي اللَّهُ عنه-: مَن كفَرَ بحرفٍ منه فقد كفَرَ بِهِ كُلِّهِ، واتَّفقَ المسلمونُ على عددِ سُورِ القُرآنِ وآياتِه وكلماتِه وحروفِه، ولا خلافَ بين المسلِمِينَ في أنَّ مَن جحَدَ مِن القرآنِ سورةً أو آيةً أو كلمةً أو حرفاً، مُتَّفَقٌ عليه أنَّه كافرٌ، وفي هَذَا حُجَّةٌ قاطعةٌ على أنَّه حروفٌ. انتهى.
قولُه:(ليس كلامُ اللَّهِ الحروفُ) إلخ.
ش: فالقرآنُ كلامُ اللَّهِ، حروفُه ومعانِيه، ليس كلامُ اللَّهِ الحُروفَ دُون المعاني كما يقولُه بعضُ المعتزِلَةِ، ولا المعاني فقط دُونَ الحروفِ، كما هُوَ قولُ الأشاعرةِ ومَن شابَهَهُم، وكِلا القولَيْنِ باطلٌ مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّةِ وما عليه سَلَفُ الأُمَّةِ، فإنَّ الأدلَّةَ دَلَّتْ على أنَّ القرآنَ العزيزَ الذي هُوَ سُوَرٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ عَينُ كلامِه -سُبْحَانَهُ- لا تَألِيفَ مَلَكٍ ولا بَشَرٍ، وأنَّ القرآنَ جميعَه حروفَه ومَعانِيَهُ نَفْسُ كلامِه، والذي تكلَّمَ به، وليس بمخلوقٍ ولا بعضِه قديمٌ وهُوَ المعنى وبعضُه مخلوقٌ وهُوَ الكلماتُ والحروفُ، بل القرآنُ جميعُه حروفُه ومعانِيه تكلَّمَ اللَّهُ بِهِ حقيقةً.
والقرآنُ اسمٌ لهَذَا النَّظْمِ العربيِّ الذي بلَّغَه الرَّسولُ عن جبريلَ عن رَبِّ العالَمِين، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) وإنَّما يَقرأُ القرآنَ العربيَّ لا يَقرأُ معانيَه المحدَّدَةَ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) الآيةَ، فأَبْطلَ -سُبْحَانَهُ- قولَ الكفَّارِ بأنَّ لسانَ الذي يُلْحِدونَ إليه أعجميٌّ والقرآنُ لسانٌ عربيٌّ مُبِينٌ، فلو كان الكفارُ قالوا يعلِّمُه معانِيه فقط لم يكُنْ هَذَا رداًّ لقولِهم، فإنَّ الإنسانَ قد يتعلمُ من الأعجميِّ شيئاً بِلُغةِ ذلك العجميِّ ويُعبِّرُ عنه بِعباراتِهِ، وإذا كان الكفَّارُ جعلوا الذي يُعلِّمُه بَشرٌ؛ فأبطلَ اللَّهُ ذَلِكَ بأنَّ لسانَ ذَلِكَ أعجميٌّ، وهَذَا لسانٌ عربيٌّ مُبِينٌ على أنَّ رُوحَ القُدُسِ نَزَلَ باللِّسانِ العربيِّ المُبِينِ وأنَّ محمَّداً لم يؤَلِّفْ نَظْمَ القرآنِ، بل سَمِعَه مِن رُوحِ القُدُسِ، وإذا كان رُوحُ القُدُسِ نَزَلَ مِن اللَّهِ عُلِمَ أنَّه سَمِعَه ولم يؤَلِّفْه هو. انتهى. ).
-وقال أيضا في موضع آخر من نفس المصدر:
( وقَولُهُ: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)
ش: ... وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ الَّذي هو سُوَرٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ هو عَيْنُ كلامهِ -سُبْحَانَهُ- حقًّا لا تَأْلِيفُ مَلَكٍ ولا بشرٍ، وأنَّ حروفَه ومعانيَه عَيْنُ كلامِه -سُبْحَانَهُ- الَّذي تَكلَّمَ به -سُبْحَانَهُ- حقًّا، وبَلَّغه جبريلُ إلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَبَلَّغَهُ محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فللرَّسولين منه مجرَّدُ التَّبليغِ والأداءِ لا الوضعِ والإنشاءِ، فإضافتُه إلى الرَّسولِ بقَولِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) إضافةُ تبليغٍ وأداءٍ لا إضافةُ وضعٍ وإنشاءٍ، لا كما يقَولُهُ أهلُ الزَّيغِ والافتراءِ.)

-وقال في موضع ثالث من نفس المصدر: عند قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ).
والتَّنـزيلُ والإنزالُ المذكورُ في القرآنِ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
إنزالٍ مُطلقٍ كقَولِهِ: (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ).
الثَّاني: إنزالٍ مِن السَّماءِ كقَولِهِ: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُورًا).
الثَّالثِ: إنزالٍ منه -سُبْحَانَهُ- كقَولِهِ: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ).
فأخبرَ أَنَّ القرآنَ منَزَّلٌ منه، والمطرَ مُنَزَّلٌ من السَّماءِ، والحديدَ منَزَّلٌ نزولاً مطلقًا، ففرَّقَ -سُبْحَانَهُ- بين النُّزولِ منه والنُّزولِ من السَّماءِ، وحُكمُ المجرورِ بِمِنْ في هذا البابِ حكمُ المضافِ، والمضافُ ينقسمُ إلى قِسمين:
إضافةِ أَعْيَانٍ
وإضافةِ معانٍ،
فإضافةُ الأعيانِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ ونحوِ ذلك،
أمَّا إضافةُ المعاني إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- فهي من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كسمعِ اللهِ وبصرِه وعلمِه وقُدرتِه، فهذا يمتنعُ أنْ يكونَ المضافُ مخلوقًا، بل هو صفةٌ قائمةٌ به وهكذا حُكمُ المجرورِ بمن، فإضافةُ القرآنِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، لا من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه خلافًا للمبتدعةِ من المعتزلةِ والجهميَّةِ وأشباههِم،//
وفي هذه الآيةِ الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، أو أنَّه كلامُ بشرٍ وغيرِه، فمَن زعمَ ذلك فهو كافرٌ باللهِ العظيمِ، كما رُوِيَ ذلك عن السَّلفِ،
وفيها دليلٌ على أنَّ جبريلَ نَزَل به من عندِ الله، فإنَّه (رُوحُ الْقُدُسِ) وهو أيضا الرُّوحُ الأمينُ، وفي قَولِهِ: (الأَمِينُ) دليلٌ على أنَّه مُؤْتمنٌ على ما أُرْسلَ به، فلا يَزيدُ عليه ولا يُنقِصُ،
وفيها دليلٌ على أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَهُ من جبريلَ وهو الَّذي نَزَل به عليه من عندِ اللهِ، وجبريلُ سمعَه من اللهِ، والصَّحابةُ سمعُوه من النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-،
وفيها الرَّدُّ على مَن قالَ إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعَ القرآنَ من اللهِ،
وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قالَ إنَّه مخلوقٌ خلقَهُ اللهُ في جسمٍ من الأجسامِ المخلوقةِ، كما هو قولُ الجهميَّةِ القائِلين بخلقِ القرآنِ،
وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قال إنَّه فَاضَ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- من العقلِ الفَعَّالِ أو غيرِه، كما يقَولُهُ طَوَائِفُ من الفلاسفةِ والصَّابئةِ، وهذا القولُ أشدُّ كفرًا من الَّذي قبلَه،
وفيها الدَّليلُ على بُطلانِ قولِ مَن يقولُ: إنَّ القرآنَ العربيَّ ليس مُنزَّلاً مِن اللهِ بل مَخلوق، إمَّا في جبريلَ أو محمَّدٍ أو جُرْمٍ آخرَ كالهواءِ، كما يقولُ ذلك الكُلاَّبيَّةُ والأَشعريَّةُ القائلونَ بأنَّ القرآنَ العربيَّ ليسَ هو كلامَ اللهِ، وإنَّما كلامُه المعنى القائمُ بذاتِه، والقرآنُ العربيُّ خُلقَ ليدلَّ على ذلك المَعنى، وهذا يُوافقُ قولَ المعتزلةِ ونحوِهم في إثباتِ خلقِ القرآنِ، وفيها أنَّ السَّفيرَ بينَ اللهِ ورسولِه محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو جبريلُ عليه السَّلامُ،
وفيها الرَّدُّ على مَن زعم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفْسيُّ، فإنَّ جبريلَ سَمِعه مِن اللهِ والمعنى المُجَرَّدُ لا يُسْمعُ، وفيها دليلٌ أنَّ القرآنَ نزلَ باللغةِ العربيَّةِ وتكلَّم اللهُ -سُبْحَانَهُ- بالقرآنِ بها، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّه يجوزُ ترجمةُ القرآنِ باللغاتِ الأعجميَّةِ؛ لأنَّ القرآنَ مُعجزٌ بلفظِه ومعناه.) ا.ه.
-------------------------------------------------
المطلب الرابع: المحفوظ في الصدور هو القرآن
ويدل على هذا ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى حيث قال:
-{وما كنت تتلو من قبله من كتابٍ}الآية،
وقال عز وجل: {بل هو آياتٌ بيّناتٌ في صدور الّذين أوتوا العلم} الآية،
-قال ابن جرير الطبري في تفسيره عند هذه الآية: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، قال: قال الحسن، في قوله: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) القرآن آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، يعني المؤمنين. ا.ه.
وقال: {نزل به الرّوح الأمين على قلبك}.
وقال: {من كان عدوًّا لجبريل فإنّه نزّله على قلبك}.
-قال ابن كثير في تفسيره:
( نزل به الروح الأمين ) : وهو جبريل ، عليه السلام ، قاله غير واحد من السلف : ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وقتادة ، وعطية العوفي ، والسدي ، والضحاك ، والزهري ، وابن جريج . وهذا ما لا نزاع فيه .
قال الزهري : وهذه كقوله ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) الآية [ البقرة : 97 ] .
وقال مجاهد : من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض . ا.ه
-قال ابن منده في كتاب التوحيد: روى فضيل بن سليمان، عن أبي مالكٍ الأشجعيّ، عن ربعيٍّ، عن حذيفة بن اليمان، وعن أبي مالكٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يسرى على كتاب الله في ليلةٍ فلا يبقى في الأرض منه آيةٌ، ويبقى طوائف من النّاس الشّيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلاّ الله، فنحن نقولها.
رواه جماعةٌ، عن فضيلٍ، منهم المقدّم). ). [التوحيد: 3/ 174]
-قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أحمدِ بنُ محمدِ بنِ حَنْبَلٍ الشَّيبانيُّ (ت: 290هـ): (أخبرت عن أبي النعمان عارم أنه قال: قال حماد بن زيد: (القرآن كلام الله عز وجل أنزله جبريل عليه السلام من عند رب العالمين عز وجل) ). [السنة: 1/ 156]
-------------------------------------------------
المطلب الخامس: المكتوب بين الدَّفتين هو القرآن
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذ كتاباً للوحي يكتبون ما ينزل عليه، فما كتب في الصحف من القرآن فهو قرآن كما تقدم تقريره وذكره الأدلة عليه، وفي الحديث المشهور بحديث الثقلين بيان لذلك فقد بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه تارك فينا كتاب الله وأن فيه النور والهدى والبيان لمن أراد أن يهتدي وقد ساقه ابن منده في كتاب التوحيد مستدلاً به على هذا المعنى فقال:
(بيانٌ آخر يدلّ على أنّ المكتوب بين الدّفّتين كتاب الله القرآن
- أخبرنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله بنيسابور، حدثنا محمّد بن عبد الوهّاب بن حبيبٍ الفرّاء، حدثنا يعلى بن عبيدٍ، حدثنا أبو حيّان يحيى بن سعيد بن حيّان التّيميّ، عن يزيد بن حيّان، قال: انطلقت أنا وحصينٌ، وعمر بن مسلمٍ إلى زيد بن أرقم في داره، فقال حصينٌ: يا زيد، لقد لقيت خيرًا كثيرًا، ورأيت خيرًا كثيرًا، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصلّيت خلفه، حدّثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت منه.
فقال: يا ابن أخي، كبرت سنّي، وقدم عهدي، ونسيت بعض الّذي كنت أعي، فما أحدّثكم فاقبلوه، وما لم أحدّثكم فلا تكلّفوا فيه.
ثمّ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: ((أيّها النّاس، إنّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، وإنّي تاركٌ فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنّور- فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه- وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي. ))
فقال حصينٌ: يا زيد، ومن أهل بيته، أليست نساؤه؟
فقال: إنّ نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصّدقة بعده.
قال: ومن هم؟
قال: آل عليٍّ، وآل عبّاسٍ، وآل عقيلٍ، وآل جعفرٍ.
قال: كلّ هؤلاء تحرّم عليهم الصّدقة.
قال: نعم.
رواه جماعةٌ، عن أبي حيّان. ا.ه.
-ومن الأدلة حديث أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنّ هذا القرآن سببٌ، طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسّكوا به، فإنّكم لن تضّلّوا ما إن تمسّكتم به)
- وعن عن عبد الله، قوله عزّ وجلّ: {واعتصموا بحبل الله جميعًا}، قال: حبل الله القرآن.
-عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلاّ في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء اللّيل وآناء النّهار)).
-وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة إلا بقرآن))
-وقال: ((المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة))،
-وسئل: أفي كل صلاة قرآن؟ فقال: ((نعم))،
ومثل هذه الأحاديث الكثيرة التي تبين أن القرآن الذي بأيدينا هو كلام الله الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعمل به وعمل به الصحابة رضي الله عنهم معه وبعده ثم تتابعت الأمة على ذلك قرنا بعد قرن.
-وقال اللالكائي (ت: 418هـ): (سياق ما دلّ من الآيات من كتاب اللّه تعالى وما روي عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم والصّحابة والتّابعين على أنّ القرآن تكلّم اللّه به على الحقيقة، وأنّه أنزله على محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وأمره أن يتحدّى به، وأن يدعو النّاس إليه، وأنّه القرآن على الحقيقة. متلوٌّ في المحاريب، مكتوبٌ في المصاحف، محفوظٌ في صدور الرّجال، ليس بحكايةٍ ولا عبارةٍ عن قرآنٍ، وهو قرآنٌ واحدٌ غير مخلوقٍ وغير مجعولٍ ومربوبٍ، بل هو صفةٌ من صفات ذاته، لم يزل به متكلّمًا، ومن قال غير هذا فهو كافرٌ ضالٌّ مضلٌّ مبتدعٌ مخالفٌ لمذاهب السّنّة والجماعة). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/364]
-وقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أحمدِ بنُ محمدِ بنِ حَنْبَلٍ الشَّيبانيُّ (ت: 290هـ): (حدثني أبو بكر بن زنجويه حدثني محمد بن داود الحراني سمعت وكيعا يقول: (القرآن كلام الله عز وجل أنزله جبريل على محمد عليهما السلام، كل صاحب هوى يعرف الله عز وجل ويعرف من يعبد إلا الجهمية لا يدرون من يعبدون، بشر المريسي وأصحابه) ). [السنة: 1/ 116]
----------------------------------------------------------
المطلب السادس: القرآن كلام البارئ، والصوت صوت القارئ
-وقبل الشروع في ذكر الأدلة وأقوال الأئمة الأعلام، يحسن بنا الإشارة إلى سبب ظهور هذا المطلب والتصريح به، حيث أنه مع ظهور فتنة القول بخلق القرآن، ظهرت فتن أخرى وكان مما ظهر اللفظية الذي قالوا لفظي بالقرآن مخلوق وإنما كان مراده أن ألفاظ القرآن مخلوقه ولكن لما لم يمكنهم التصريح بأن القرآن مخلوق لجئوا إلى مثل هذه الأقوال، ولهذا جاء التصريح القوي من الأئمة كأحمد وغيره بأن من قال بهذا فهو جهمي لأنها عين المقالة الأولى
ومما يحسن الإنباه إليه هو أنه يوجد فرق بين قول من يقول "لفظي بالقرآن مخلوق" ومن يقول "صوتي بالقرآن مخلوق" فإن الأول يراد به الكلام فإن الكلام هو: اسم اللفظ الدال على معنى وقيل المعنى المدلول عليه باللفظ فالمعبر به في تعريف الكلام هو اللفظ دون الصوت فإذا قال أحدهم "لفظي بالقرآن مخلوق" فإن المعنى أن كلام القرآن مخلوق وإما الثاني فإن المعنى الظاهر له أنه يريد صوت القارئ وهذا مخلوق وأما ما يقرأه فليس مخلوق بل هو كلام الله.
ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يقولون: مَن قَالَ اللَّفْظُ بِالقُرْآنِ أَوْ لفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ مَن قَالَ: لفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ - يَعْنِي بِهِ القُرْآنَ - فَهُوَ جَهْمِيٌّ؛ لأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لفِظَ يَلْفِظُ لفْظاً.
وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الصَّوْتَ المَسْمُوعَ صَوْتُ العَبْدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ قَطُّ: مَن قَالَ: إِنَّ صَوْتِيَ بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ وَإِنَّمَا قَالَ: مَن قَالَ: لفْظِي بِالقُرْآنِ.
-وهذا الفرق أيضا واضح في أنك عندما تنقل كلام أحدهم فإنك تستطيع نقله بألفاظه ولكن لا تستطيع نقله بصوته بل يكون بصوتك أنت.
وجاءت النقول عن أئمة أهل السنة في هذه المسألة ومن ذلك:
- قال البيهقي في كتاب الاعتقاد:
(أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، في التاريخ، ثنا أبو بكر محمد بن أبي الهيثم المطوعي ببخارى، ثنا محمد بن يوسف الفربري، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري يقول: سمعت عبيد الله بن سعيد يعني أبا قدامة، يقول: سمعت يحيى بن سعيد يعني القطان، يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة.
قال أبو عبد الله البخاري: حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بمخلوق، قال الله عز وجل (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم).
-قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أحمدِ بنُ محمدِ بنِ حَنْبَلٍ الشَّيبانيُّ (ت: 290هـ): (حدثني أبو بكر بن زنجويه حدثني محمد بن داود الحراني سمعت وكيعا يقول: (القرآن كلام الله عز وجل أنزله جبريل على محمد عليهما السلام، كل صاحب هوى يعرف الله عز وجل ويعرف من يعبد إلا الجهمية لا يدرون من يعبدون، بشر المريسي وأصحابه) ). [السنة: 1/ 116]
-وقال ابن تيمية في العقيدة الواسطية:
وأَنَّ هذا القرآنَ الَّذي أَنْزَلَهُ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُو كلامُ اللهِ حقيقةً، لا كَلامَ غيرِهِ.
ولا يجوزُ إِطلاقُ القَوْلِ بأَنَّهُ حِكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ، أَو عِبارَةٌ، بلْ إِذا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ في المصاحِفِ؛ لمْ يخْرُجْ بذلك عنْ أَنْ يَكونَ كَلامَ اللهِ تعالى حَقيقةً، فإِنَّ الكلامَ إِنَّما يُضَافُ حقيقةً إِلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدِئاً، لا إِلى مَن قالَهُ مُبَلِّغاً مُؤدِّياً. ا.ه
-وقال ابن تيمية أيضا في مجموع الرسائل والمسائل 1-2 ج1:
وَقَالَ أَحْمَدُ: نَقُولُ: القُرْآنُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ تَصَرَّفَ - أَيْ حَيْثُ تُلِيَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ مِمَّا هُوَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ كَلامُ اللَّهِ فَهُوَ كَلامُهُ، وَكَلامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ مِن صِفَاتِ العِبَادِ وَأَفْعَالهِمُ الَّتِي يَقْرَءُونَ وَيَكْتُبُونَ بِهَا كَلامَهُ كَأَصْوَاتِهِمْ ومِدادِهم فَهُوَ مَخْلُوقٌ. وَلهَذَا مَن لمْ يَهْتَدِ إِلَى هَذَا الفَرْقِ يَحَارُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ القُرْآنَ وَاحِدٌ وَيَقْرَؤُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَالقُرْآنُ لا يَكْثُرُ فِي نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ القُرَّاءِ وَإِنَّمَا يَكْثُرُ مَا يَقْرَءُونَ بِهِ القُرْآنَ، فَمَا يَكْثُرُ وَيَحْدُثُ فِي العِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَالقُرْآنُ نَفْسُهُ لفْظُهُ وَمَعْنَاهُ الذي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَسَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِن اللَّهِ وَسَمِعَهُ مُحَمَّـدٌ مِن جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ إِلَى النَّاسِ وَأَنْذَرَ بِهِ الأُمَمَ لقَوْلهِ تَعَالَى:{ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ـ قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ كَلامٌ اللَّهِ ليْسَ بِمَخْلُوقٍ.). ا.ه.
-قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ):
وَكَذَلِكَ القرآنُ عينُ كلامِه الْـ...مسموعِ مِنه حقيقةً بَبَيانِ
هُوَ قولُ ربِّي كُلُّه لا بَعْضُه...لفظاً ومعنًى ما هُما خَلْقانِ
تَنْزيلُ رَبِّ العالَمِينَ وقولُه اللَّـ...ـفظُ والمعنى بِلا رَوَغانِ
لكنَّ أصواتَ العِبادِ وفِعلَهم ... كمِدادِهِم والرَّقِّ مخلوقانِ
فالصَّوتُ للقَاري ولكنَّ الـــــ....ـكَلام كلامُ ربِّ العرشِ ذي الإحسانِ
- وقال الشيخ عبد العزيز بن فياض في شرحه على الواسطية:
فإِنَّ اللهَ قد كَفَّرَ مَن جَعَلَه قَوْلَ البَشَرِ؛ ومُحَمَّدٌ بَشرٌ، فمَن قَالَ: إِنَّه قَوْلُ مُحَمَّدٍ فقد كَفَرَ ومَعَ هَذَا فقد قَالَ :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } فجَعَلَهُ قَوْلَ الرَّسُول ِ البَشَرِيِّ مَعَ تكْفيرِه مَنْ يَقُولُ: إِنَّه قَوْلُ البَشَرِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَاد بذَلِكَ أَنَّ الرَّسُول َ بَلَّغَه عَن مُرسِلِهِ – لا أَنَّه قَوْلُه مِن تِلقاءِ نَفْسِه – وهُوَ كلامُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أرْسَلَهُ .
ولهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بالمَوْقِفِ ويَقُولُ: ((أَلا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلِى قَوْمِه لاِبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي ، فإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي)). رواه أَبُو دَاوُدَ وغيرُهُ.
والنَّاسُ يَعلمونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَكَلَّمَ بِحُروفِه وَمَعانِيهِ بِصَوْتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ المْبُلِّغُونَ عنه يُبلِّغونَ كَلاَمَه بِحَرَكَاتِهِمْ وأصْواتِهم كما قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَضَّرَ اللهُ امْرأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَبَلَّغَهُ كَما سَمِعَهُ)) فالمُسْتمِعُ منه مُبَلِّغٌ حَدِيثَه كما سَمِعَهُ لكن بصوتِ نَفْسِه لا بصوتِ الرَّسُولِ، فالْكَلاَمُ هُوَ كلامُ الرَّسُول ِ تَكلَّمَ به بِصَوتِه والْمُبَلِّغُ بَلَّغَ كلامَ رسولِ اللهِ بصوتِ نَفْسِه، وإذا كَانَ هَذَا مَعلوماً فِي تَبليغِ كلامِ المَخلوقِ فكلامُ الخالِقِ أوْلَى بذَلِكَ، ولهَذَا قَالَ تَعَالَى :{ وَإِنْ أَحَدٌ مِن الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ }وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ)) . فجَعَلَ الْكَلاَمَ كلامَ البَارِي وجَعَلَ الصَّوتَ الَّذِي يَقْرَؤُه العَبْدُ صوتَ القَارِئِ، وأصواتُ العِبادِ ليست هِيَ الصَّوتَ الَّذِي يُنادِي اللهُ به ويَتكَلَّمُ به، كما نَطَقَت النُّصُوصُ بذَلِكَ، بل ولا ومِثلَه.
فمَن قَالَ عَن الْقُرْآنِ الَّذِي يَقْرؤه المُسْلِمونَ لَيْسَ هُوَ كلامَ اللهِ أو هُوَ كَلاَمُ غيرِ اللهِ فهُوَ مُلحِدٌ مُبتدِعٌ ضَالٌّ . ومَنْ قَالَ : إِنَّ أصواتَ الْعِبَادِ أو المِدَادَ الَّذِي يُكتبُ به الْقُرْآنُ قَدِيمٌ أزَلِيٌّ فهُوَ مُلْحِدٌ مُبتدِعٌ . بل هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ كَلاَمُ اللهِ ، وهُوَ مُثبَتٌ فِي المصَاحفِ وكَلاَمُ اللهِ مُبلَّغٌ عنه مَسموعٌ مِن القُرَّاءِ . لَيْسَ مَسموعاً منه . فالإِنْسَانُ يَرَى الشَّمسَ والقَمرَ والكواكبَ بطريقِ المُباشِرِ ، ويَراها فِي ماءٍ أو مِرآةٍ فهَذِهِ رؤيةٌ مُقَيَّدةٌ بِالواسِطةِ ، وتلك مُطلقةٌ بطريقِ المُباشِرِ . ويُسمَعُ مِن المُبَلِّغِ عنه بِواسطةٍ . والمقصودُ بالسَّماعِ هُوَ كلامُهُ فِي المَوْضِعينِ كما أَنَّ المقصودَ بالرُّؤيةِ هُوَ المَرئِيُّ فِي المَوْضِعينِ .
وإذا قِيلَ لِلمسموعِ إِنَّه كَلاَمُ اللهِ فهُوَ كَلاَمُ اللهِ مَسْموعاً مِن المُبَلِّغِ عنه، لا مَسموعاً منه، فهُوَ مسموعٌ بِواسطةِ صوتِ العبدِ ، وصوتُ العبدِ مخلوقٌ، وأما كَلاَمُ اللهِ منه فهُوَ غيرُ مخلوقٍ حيثما تَصرَّفَ. ).[الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية[
-قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَسْمَعُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ: «إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: " حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَاكْتِسَابُهُمْ وَكِتَابَتُهُمْ مَخْلُوقَةٌ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ الْمُبَيَّنُ الْمُثَبَّتُ فِي الْمُصْحَفِ الْمَسْطُورُ الْمَكْتُوبُ الْمُوعَى فِي الْقُلُوبِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِخَلْقٍ، قَالَ اللَّهُ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] " وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: «فَأَمَّا الْأَوْعِيَةُ فَمَنْ يَشُكُّ فِي خَلْقِهَا؟» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] ، وَقَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21] «، فَذَكَرَ أَنَّهُ يُحْفَظُ وَيُسْطَرُ» . قَالَ: {وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] (خلق أفعال العباد 47/1)
وخلاصة القول: أن نقول إن القرآن كلام الله، وأمَّا أفعالُ العِبادِ كأصواتِهم ومِدادِهم الذي يَكتُبون به القرآنَ، والوَرَقِ الذي يَكتُبون عليه، فإنَّ ذَلِكَ مِن جُملةِ المخلوقِ، ولذَلِكَ يقولونَ: الكلامُ كلامُ البارِئِ والصَّوتُ صوتُ القَارِئِ، وفي الحديثِ:((زَيِّنُوا الْقُرَآنَ بَأَصْوَاتِكُمْ)).

********************************************************************************************************************************************************************
الفصل الخامس: الأدلة على أن القرآن غير مخلوق
=المبحث الأول: أصول العقيدة تنافي القول بأنه مخلوق وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: القرآن كلام الله؛ وكلامه تعالى صفة من صفاته، وصفات الله غير مخلوقة
--------------------------------------
المطلب الثاني: كلام الله صفة من صفاته لا ينفد ولا يبيد فلا يكون مخلوقاً.
المطلب الثالث: القرآن من علم الله، وعلم الله لا يكون مخلوقا.
المطلب الرابع: فرَّق الله تعالى بين الخلق والأمر، وكلام الله من أمره؛ فهو غير مخلوق
المطلب الخامس: أول ما خلق الله من شيء القلم، والكلام قبل القلم
=المبحث الثاني : ذكر الأدلة على أنه كلام الله تعالى وأنه غير مخلوق وفيه مطالب
المطلب الأول: الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق
المطلب الثاني: الأحاديث النبوية الدالة على أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق
المطلب الثالث: الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم في أنّ القرآن كلام الله تعالى وأنّه غير مخلوق

المطلب الرابع: أقوال التابعين في أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق
المطلب الخامس: إجماع فقهاء الأمصار وأهل الحديث على أن القرآن غير مخلوق

=المبحث الثالث: حكم من زعم أنّ القرآن مخلوق وفيه مطلبان
المطلب الأول: ما روي من الأحاديث في بيان ضلال من قال بخلق القرآن..
المطلب الثاني: أقوال جماعة من أهل العلم فيمن قال بخلق القرآن.


---------------------------------------------------------------------------------------
=المبحث الأول: أصول العقيدة تنافي القول بأنه مخلوق وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: القرآن كلام الله؛ وكلامه تعالى صفة من صفاته، وصفات الله غير مخلوقة

قال اللّه عزّ وجلّ في كتابه {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه} [التوبة: 6]،
فسمى الله القرآن "كلام الله" وهذا لأن الله سبحانه وتعالى قد تكلم به على الحقيقة فسمعه منه جبريل عليه السلام، ثم نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأه عليه وسمعه منه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وإنّه لتنزيل ربّ العالمين، نزل به الرّوح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ} [الشعراء: 192].
وسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عليهم رضوان الله، ثم نقله الصحابة إلى من بعدهم وهكذا حتى وصل إلينا
وقد جاءت آيات كثيرة تبين أنه كلام الله حقيقة ومنها:
- قوله: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً )،
-وقوله: ( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيْسى بنَ مَرْيَمَ )،
-وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)،
- وقولُهُ: ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ).
-وقوله: ( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ )،
-وقوله: ( وَلَمَّا جَاءَ مُوْسَى لِمِيْقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ).
-وقوله: ( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيّاً )،
-قال قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري في الإبانة الكبرى [6/ 32-35] نقلاً عن الإمام أحمد أنه قال:
" قال اللّه عزّ وجلّ في كتابه {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه} [التوبة: 6]، فجبريل سمعه من اللّه، وسمعه النّبيّ من جبريل، وسمعه أصحاب النّبيّ من النّبيّ فالقرآن كلام اللّه غير مخلوقٍ، ولا نشكّ ولا نرتاب فيه، وأسماء اللّه في القرآن وصفاته، والقرآن من علم اللّه، وصفاته منه، فمن زعم أنّ القرآن مخلوقٌ، فهو كافرٌ، والقرآن كلام اللّه غير مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعود، فقد كنّا نهاب الكلام في هذا، حتّى أحدث هؤلاء ما أحدثوا، وقالوا ما قالوا، ودعوا النّاس إلى ما دعوهم إليه، فبان لنا أمرهم، وهو الكفر باللّه العظيم "
- ثمّ قال أبو عبد اللّه: " لم يزل اللّه عالمًا متكلّمًا يعبد بصفاته غير محدودةٍ ولا معلومةٍ، إلّا بما وصف به نفسه سميعًا، عليمًا، غفورًا، رحيمًا، عالم الغيب والشّهادة، علّام الغيوب، فهذه صفات اللّه وصف بها نفسه، لا تدفع ولا تردّ، وهو على العرش بلا حدٍّ، كما استوى على العرش كيف شاء، المشيئة إليه والاستطاعة إليه {ليس كمثله شيءٌ وهو السّميع البصير} [الشورى: 11]، لا تبلغه صفة الواصفين، وهو كما وصف نفسه، نؤمن بالقرآن محكمه ومتشابهه، كلٌّ من عند ربّنا، قال اللّه عزّ وجلّ: {وإذا رأيت الّذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} [الأنعام: 68]، فاترك الجدل والمراء في القرآن، ولا تجادل ولا تمار، وتؤمن به كلّه وتردّه إلى عالمه، إلى اللّه، فهو أعلم به، منه بدأ وإليه يعود ".
- قال أبو عبد اللّه: وقال لي عبد الرّحمن: " كان اللّه ولا قرآن؟ فقلت له مجيبًا: كان اللّه ولا علم؟ فالعلم من اللّه وله، وعلم اللّه منه والعلم غير مخلوقٍ، فمن قال: إنّه مخلوقٌ، فقد كفر باللّه، وزعم أنّ اللّه مخلوقٌ، فهذا الكفر البيّن الصّراح ".ا.ه
-واستدل اللالكائي بآية أخرى وهي قوله تعالى {ولكن حق القول مني} مبينا أن ما كان من الله فهو غير مخلوق.
ثم قال بعدها:
- وذكر أحمد بن فرجٍ الضّرير قال: حدّثنا عليّ بن الحسن الهاشميّ قال: حدّثنا عمّي قال: سمعت وكيع بن الجرّاح يقول: " من زعم أنّ القرآن مخلوقٌ فقد زعم أنّ شيئًا من اللّه مخلوقٌ.
فقلت: يا أبا سفيان، من أين قلت هذا؟
قال: لأنّ اللّه تبارك وتعالى يقول: {ولكن حقّ القول منّي} [السجدة: 13] ولا يكون من اللّه شيءٌ مخلوقٌ "
وكذلك فسّره أحمد بن حنبلٍ، ونعيم بن حمّادٍ، والحسن بن الصّبّاح البزّار، وعبد العزيز بن يحيى المكّيّ الكنانيّ. ).[شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/ 244-245]

-- قال زيد بن عبد العزيز الفياض (ت: 1416هـ) : ( معلقا على الآيات التي فيها ذكر صفة الكلام لله:
فِي هَذِهِ الآْيَاتِ إثباتُ صِفَةِ الكلامِ لله حَقِيقَةً عَلَى ما يَلِيقُ بِجَلالِهِ تَعَالَى وهُوَ سُبْحَانَهُ قد تَكَلَّمَ بالْقُرْآنِ والكُتُبِ المُنزَّلةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ . وغيرِ ذَلِكَ ويَتَكَلَّمُ إذا شَاءَ مَتَى شَاءَ والْقُرْآنُ كَلامُه تَعَالَى مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ وهُوَ كلامُ اللهِ حُروفُه ومَعَانِيهِ وهُوَ سورٌ وآياتٌ وحُروفٌ وكَلِماتٌ قد تَكَلَّمَ بها .
وهَذَا مَذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ، وقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وصَرِيحُ السُّنَّةِ والمَعْقولُ وكلامُ السَّلفِ عَلَى أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَتكَلَّمُ بِمَشيئتِهِ ، كما دَلَّ عَلَى أَنَّ كَلامَهُ صِفَةٌ قَائِمةٌ بِذَاتِهِ وهِيَ صِفةُ ذَاتٍ وفِعلٍ .).[الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية[
فالقرآن هو كلام الله وكلام الله صفة لله سبحانه وتعالى وصفات الله لا يجوز أن يكون شيء منها مخلوق أو محدث بل صفات الله كذات الله، قال الله جل ثناؤه: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)؛
فلو كان القرآن مخلوقا لكان الله سبحانه قائلا له كن، والقرآن قوله، ويستحيل أن يكون قوله مقولا له؛ لأن هذا يوجب قولا ثانيا، والقول في القول الثاني وفي تعلقه بقول ثالث كالأول، وهذا يفضي إلى ما لا نهاية له، وهو فاسد، وإذا فسد ذلك فسد أن يكون القرآن مخلوقا.



---------------------------------------
المطلب الثاني: كلام الله صفة من صفاته لا ينفد ولا يبيد فلا يكون مخلوقاً.
قد ذكر لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه في غير موضع أن كلام الله سبحانه وتعالى لا يحصى وأنه لا يستطيع أحد أن يحيط به، كما قال تعالى:
{قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مددًا} [الكهف: 109]،
ففيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس أن البحر لو جعل كله حبراً لتكتب به كلمات الله سبحانه وتعالى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله، ثم بين سبحانه وتعالى عظمة كلماته فقال "ولو جئنا بمثله مدداً" يعني ببحر معه
قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد 1/ 396-399]] :
عزّ وجلّ: {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مددًا} [الكهف: 109]، وهذه الآية من الجنس الّذي نقول: مجملةٌ غير مفسّرةٍ، معناها: قل يا محمّد، لو كان البحر مدادًا لكلمات ربّي فكتبت به كلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي، ولو جئنا بمثله مددًا والآية المفسّرة لهذه الآية: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحرٍ ما نفدت كلمات اللّه إنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ}
فلمّا ذكر اللّه الأقلام في هذه الآية، دلّ - ذوي العقول - بذكر الأقلام أنّه أراد: لو كان ما في الأرض من شجرةٍ أقلامًا يكتب بها كلمات اللّه، وكان البحر مدادًا فنفد ماء البحر لو كان مدادًا لم تنفد كلمات ربّنا وفي قوله: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ} أيضًا ذكرٌ مجملٌ، فسّره بالآية الأخرى، لم يرد في هذه الآية أن لو كتبت بكثرة هذه الأقلام بماء البحر كلمات اللّه، وإنّما أراد لو كان البحر مدادًا كما فسّره في الآية الأخرى وفي قوله جلّ وعلا: {لو كان البحر مدادًا} [الكهف: 109] الآية، قد أوقع اسم البحر على البحار في هذه الآية، أي على البحار كلّها، واسم البحر قد يقع على البحار كلّها؛ لقوله: {هو الّذي يسيّركم في البرّ والبحر حتّى إذا كنتم في الفلك} [يونس: 22] الآية وكقوله: {والفلك تجري في البحر بأمره} [الحج: 65]، والعلم محيطٌ أنّه لم يرد في هاتين بحرٌ واحدٌ من البحار لأنّ اللّه يسيّر من أراد من عباده في البحار، وكذلك الفلك تجري في البحار بأمر اللّه، لا أنّها كذا في بحرٍ واحدٍ، وقوله: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ} يشبه أن يكون من الجنس الّذي يقال: إنّ السّكت ليس خلاف النّطق، لم يدلّ اللّه بهذه الآية أن لو زيد من المداد على ماء سبعة أبحرٍ لنفدت كلمات اللّه جلّ اللّه عن أن تنفد كلماته والدّليل على صحّة ما تأوّلت هذه الآية: أنّ اللّه جلّ وعلا: قد أعلم في هذه الآية الأخرى، أن لو جيء بمثل البحر مدادًا لم تنفد لكلمات اللّه، معناه: لو جيء بمثل البحر مدادًا، فكتب به أيضًا كلمات اللّه لم تنفد، واسم البحر كما علمت يقع على البحار كلّها، ولو كان معنى قوله في هذا الموضع {قل لو كان البحر مدادًا} [الكهف: 109] بحرًا واحدًا، لكان معناه في هذا الموضع أنّه لو كان به بحرًا واحدًا، لو كان مدادًا لكلمات اللّه وجيء بمثله أي ببحرٍ ثانٍ لم تنفد كلمات اللّه فلم يكن في هذه الآية دلالةٌ أنّ المداد لو كان أكثر من بحرين، فيكتب بذلك أجمع كلمات اللّه نفدت كلمات اللّه؛ لأنّ اللّه قد أعلم في الآية الأخرى: أنّ السّبعة الأبحر لو كتب بهنّ جميعًا كلمات اللّه لم تنفد كلمات اللّه ا.ه.
-وقال اللالكائي (استنباط آيةٍ أخرى من القرآن وهو قوله: {ولو أنّما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحرٍ ما نفدت كلمات اللّه} [لقمان: 27] والمخلوقات كلّها تنفد وتفنى، وكلمات اللّه لا تفنى،
وتصديق ذلك قوله تعالى حين يفنى خلقه: {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] فيجيب تعالى نفسه: {للّه الواحد القهّار}[إبراهيم: 48]
- وعن قتادة في قوله تعالى: {ولو أنّما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحرٍ ما نفدت كلمات اللّه} [لقمان: 27] قال: قال المشركون: إنّما هذا كلامٌ يوشك أن ينفد، فأنزل اللّه تعالى ما تسمعون، يقول: لو كان شجر الأرض أقلامًا، ومع البحر سبعة أبحرٍ مدادًا، لتكسّرت الأقلام ونفدت البحور قبل أن تنفد عجائب ربّي وحكمته وكلماته وعلمه.
- وعن الحسن في تفسير هذه الآية: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرةٍ} مذ خلق اللّه الدّنيا إلى أن تقوم السّاعة أقلامٌ، والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحرٍ لتكسّرت الأقلام، ونفدت البحور، ولم تنفد كلمات اللّه: فعلت كذا صنعت كذا.
- وسأل رجلٌ أبا الهذيل العلّاف المعتزليّ البصريّ عن القرآن، فقال: مخلوقٌ. فقال له: مخلوقٌ يموت أو يخلّد؟
قال: لا، بل يموت.
قال: فمتى يموت القرآن؟
قال: إذا مات من يتلوه فهو موته.
قال: فقد مات من يتلوه وقد ذهبت الدّنيا وتصرّمت وقال اللّه عزّ وجلّ: {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] فهذا القرآن وقد مات النّاس.
فقال: ما أدري. وبهت. ا.ه.
وقد جاء في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: " يطوي اللّه الأرض يوم القيامة ويطوي السّماوات بيمينه، ثمّ يقول: أنا الملك، فأين ملوك الأرض "؟
وعند ابن أبي حاتم عنه أيضا قال
: حدّثنا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: " يأمر اللّه إسرافيل بنفخة الصّعقة فإذا هم خامدون وجاء ملك الموت فقال: يا ربّ فقد مات أهل السّماء والأرض إلّا من شئت فيقول: من بقي؟ وهو أعلم، قال: يا ربّ بقيت أنت الحيّ الّذي لا تموت وبقي حملة عرشك وبقي جبريل وميكائيل وبقيت أنا. فيقول: ليمت جبريل وميكائيل وليمت حملة عرشي.
فيقول اللّه تعالى وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحيّ الّذي لا تموت وبقيت أنا. فيقول: يا ملك الموت أنت خلقٌ من خلقي خلقتك لما رأيت فمت. ثمّ لا يحيى. فإذا لم يبق إلّا اللّه الواحد الصّمد قال اللّه: لا موت على أهل الجنّة، ولا موت على أهل النّار. ثمّ طوى اللّه السّماء والأرض كطيّ السّجلّ للكتاب ثمّ قال: أنا الجبّار لمن الملك اليوم؟ ثمّ قال: لمن الملك اليوم؟ ثلاثًا، ثمّ قال لنفسه: للّه الواحد القهّار.
فهنا بعد أن يفنى كل شيء ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى فإنه سبحانه ينادي بصوته أين ملوك الأرض فكلام الله باقٍ لا يفنى ولا يبيد فهو صفة لله سبحانه وتعالى، غير مخلوق.

--------------------------------------
المطلب الثالث: القرآن من علم الله، وعلم الله لا يكون مخلوقا.
في هذا المطلب أيضاً دليل آخر على أن القرآن غير مخلوق، وهو أن القرآن من علم الله كما قال تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم}، وقال: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين}، فما جاء محمدا من القرآن فهو من علم الله، وعلم الله من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقه كذات الله، سبحانه وتعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"،
وقد وردت نقولات كثيرة عن السلف يقررون هذا المعنى وهذه بعضها:
قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة:
- سمعت أبي رحمه الله يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله عز وجل وفيه أسماء الله عز وجل.
- سمعت أبي رحمه الله يقول: إذا قال الرجل العلم مخلوق فهو كافر؛ لأنه يزعم أنه لم يكن له علم حتى خلقه.
- سمعت أبي رحمه الله يقول: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم}، وقال عز وجل: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير}، وقال عز وجل: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين}، وقال عز وجل: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}
قال أبي رحمه الله: والخلق غير الأمر.
وقال عز وجل: {ومن يكفر به من الأحزاب} قال أبي رحمه الله: قال سعيد بن جبير والأحزاب الملل كلها {فالنار موعده} وقال عز وجل: {ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو واليه مآب وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق}.). [السنة: 1/ 101-103]
-قال البيهقي في كتاب الاعتقاد:
وهذا كما أن علم الله عز وجل أزلي متعلق بالمعلومات عند حدوثها، وسمعه أزلي متعلق بإدراك المسموعات عند ظهورها، وبصره أزلي متعلق بإدراك المرئيات عند وجودها من غير حدوث معنى فيه تعالى عن أن يكون محلا للحوادث، وأن يكون شيء من صفات ذاته محدثا؛ ولأن الله عز وجل قال: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان}، فلما جمع في الذكر بين القرآن الذي هو كلامه وصفته وبين الإنسان الذي هو خلقه ومصنوعه، خص القرآن بالتعليم، والإنسان بالتخليق، فلو كان القرآن مخلوقا كالإنسان لقال: خلق القرآن والإنسان. ). [كتاب الاعتقاد:]
-وقال الآجري في الشريعة: ( باب ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله تعالى، وأن كلامه ليس بمخلوق ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر
اعلموا رحمنا الله وإياكم أن قول المسلمين الذين لم يزغ قلوبهم عن الحق، ووفقوا للرشاد قديما وحديثا: أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق؛ لأن القرآن من علم الله، وعلم الله لا يكون مخلوقا، تعالى الله عن ذلك؛ دل على ذلك القرآن والسنة، وقول الصحابة رضي الله عنهم وقول أئمة المسلمين.)
-وقال ابن بطة:
حدّثنا حمزة بن القاسم الخطيب، قال: حدّثنا ابن حنبلٍ إسحاق، قال: سمعت أبا عبد اللّه، وسأله يعقوب الدّورقيّ عمّن قال: القرآن مخلوقٌ.
فقال: " من زعم أنّ علم اللّه وأسماءه مخلوقةٌ، فقد كفر، يقول اللّه عزّ وجلّ {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم} [آل عمران: 61 ] أفليس هو القرآن، فمن زعم أنّ علم اللّه وأسماءه وصفاته مخلوقةٌ، فهو كافرٌ لا شكّ في ذلك، إذا اعتقد ذلك وكان رأيه ومذهبه وكان دينًا تديّن به، كان عندنا كافرًا ".). [الإبانة الكبرى: 6/71]
--------------------------------------------------
المطلب الرابع: فرَّق الله تعالى بين الخلق والأمر، وكلام الله من أمره؛ فهو غير مخلوق
من الأدلة على أن القرآن غير مخلوق هو أن الله سبحانه وتعالى في القرآن فرق بين الخلق والأمر، والقرآن من الأمر فهو غير مخلوق
-وجاء في الإبانة لأبي الحسن الأشعري عند الكلام على القرآن أنه قال:
الباب الثاني الكلام في أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق
إن سأل سائل عن الدليل على أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
قيل له الدليل على ذلك قوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) من الآية (25 /30) وأمر الله كلامه، فلما أمرهما بالقيام فقامتا لا يهويان؟ كان قيامهما بأمره.
وقال عز وجل: (ألا له الخلق والأمر) من الآية (54 /7) ، فالخلق جميع ما خلق داخل فيه؛ لأن الكلام إذا كان لفظه عاما فحقيقته أنه عام، ولا يجوز لنا أن نزيل الكلام عن حقيقته بغير حجة ولا برهان، فلما قال: (ألا له الخلق) كان هذا في جميع الخلق، ولما قال: (والأمر) ذكر أمرا غير جميع الخلق، فدل ما وصفنا على أن أمر الله غير مخلوق.
فإن قال قائل: أليس قد قال الله تعالى في كتابه: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل) من الآية (98 /2) .
قيل له: نحن نخص القرآن بالإجماع وبالدليل، فلما ذكر الله عز وجل نفسه وملائكته ولم يدخل في ذكر الملائكة جبريل وميكائيل وإن كانا من الملائكة، ثم ذكرهما بعد ذلك كأنه قال: الملائكة إلا جبريل وميكائيل، ثم ذكرهم بعد ذكر الملائكة فقال: وجبريل وميكائيل.
ولما قال: (ألا له الخلق والأمر) من الآية (54 /7) ، ولم يخص قوله الخلق دليل، كان قوله ألا له الخلق في جميع الخلق، ثم قال بعد ذكره الخلق " والأمر " فأبان الأمر من الخلق، وأمرُ الله كلامه، وهذا يوجب أن كلام الله غير مخلوق.
وقال سبحانه: (لله الأمر من قبل ومن بعد) من الآية (4 /30) يعني من قبل أن يخلق الخلق ومن بعد ذلك، وهذا يوجب أن الأمر غير مخلوق.
-قال بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( - حدّثنا حمزة بن القاسم الهاشميّ، قال: حدّثنا حنبلٌ، قال: سمعت أبا عبد اللّه، يقول: " كان فيما احتججت عليهم يومئذٍ، قلت: قال اللّه عزّ وجلّ: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، ففرّق بين الخلق والأمر، وذلك أنّهم قالوا لي: أليس كلّ ما دون اللّه مخلوقٌ؟ قلت لهم: ما دون اللّه مخلوقٌ، فأمّا القرآن فكلامه وليس بمخلوقٍ "، فقال لي شعيبٌ: قال اللّه: {إنّا جعلناه قرآنًا} [الزخرف: 3]، أفليس كلّ مجعولٍ مخلوقًا؟
قلت: " فقد قال اللّه {فجعلهم جذاذًا} [الأنبياء: 58] خلقهم {فجعلهم كعصفً مأكولٍ} [الفيل: 5] فخلقهم، أفكلّ مجعولٍ مخلوقٌ؟ كيف يكون مخلوقًا وقد كان قبل أن يخلقه؟ قال: فأمسك. وقال {إنّما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40]، فقلت لهم حينئذٍ: الخلق غير الأمر. قال اللّه تعالى {أتى أمر اللّه فلا تستعجلوه} [النحل: 1]، فأمره وكلامه واستطاعته ليس بمخلوقٍ، فلا تضربوا كتاب اللّه بعضه ببعضٍ، قد نهينا عن هذا ".). [الإبانة الكبرى: 6/30]
-قال اللالكائي (ت: 418هـ): ( استنباط آيةٍ أخرى من كتاب اللّه
وهي قوله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] ففرّق بينهما. والخلق هو المخلوقات، والأمر هو القرآن.
- أخبرنا محمّد بن عبد الرّحمن بن العبّاس قال: أخبرنا عبد اللّه بن محمّدٍ البغويّ قال: حدّثنا سعيد بن نصيرٍ أبو عثمان الواسطيّ الشّعيريّ في مجلس خلف بن هشامٍ البزّار قال: سمعت ابن عيينة يقول: "ما يقول هذا الدّويبة؟ -يعني بشرًا المريسيّ-، قالوا: يا أبا محمّدٍ: يزعم أنّ القرآن مخلوقٌ. قال: فقد كذب، قال اللّه عزّ وجلّ: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] فالخلق خلق اللّه، والأمر القرآن " وكذلك قال أحمد بن حنبلٍ، ونعيم بن حمّادٍ، ومحمّد بن يحيى الذّهليّ، وعبد السّلام بن عاصمٍ الرّازيّ، وأحمد بن سنانٍ الواسطيّ، وأبو حاتمٍ الرّازيّ.). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/244]
-وقال البيهقي (ت: 458هـ) : (وقال: {ألا له الخلق والأمر}، ففرق بين خلقه وأمره بالواو الذي هو حرف الفصل بين الشيئين المتغايرين، فدل على أن قوله غير خلقه، وقال: {لله الأمر من قبل ومن بعد}، يعني من قبل أن يخلق الخلق ومن بعد ذلك. وهذا يوجب أن الأمر غير مخلوق.). [كتاب الاعتقاد]
-قال ابن الوزير في العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم:
قال أبي: وإنما تركت الأسانيد لما تقدم من اليمين التي حَلَفْتُ بها مما قد علمه أمير المؤمنين، ولولا ذاك، ذكرتها بأسانيدها. وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}[التوبة: 6].
وقال: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54]. فأخبَرَ أن الأمر غيرُ الخلق.
وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَان} [الرحمن: 1 - 4]. فأخبر أن القرآن من عِلْمه.
وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
وقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145]. إلى قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. فالقرآن من علم الله.
وفي الآيات دليلٌ على أن الذي جاءه هو القرآن. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو الذي أذهب إليه، لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلاَّ ما كان في كتاب الله، أو في حديثٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابه، أو عن التابعين. فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود
-------------------------------------
المطلب الخامس: أول ما خلق الله من شيء القلم، والكلام قبل القلم
في هذا المطلب برهان آخر من البراهين الكثيرة الدالة على أن القرآن غير مخلوق، وهو أنه قد صح في الحديث عن ابن عباس أن أول ما خلق الله القلم، فهو أول المخلوقات، وقد قال الله تعالى: {إنّما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40]
فالقلم خلق ب {كن} ، وعليه فإن الكلام يكون قبل كل الخلق، فهو ليس مخلوق، والقرآن كلام الله فهو غير مخلوق.
وقد استدل بهذا المعنى الإمام أحمد وغيره، وهذه بعض النقول من كتب أهل العلم.
-قال الآجُرِّيُّ (360هـ): ( وقد احتج أحمد بن حنبل رحمه الله بحديث ابن عباس: إن أول ما خلق الله من شيء القلم وذكر أنه حجة قوية على من يقول: إن القرآن مخلوق، كأنه يقول: قد كان الكلام قبل خلق القلم، وإذا كان أول خلق الله من شيء القلم دل على أن كلامه ليس بمخلوق؛ ولأنه قبل خلق الأشياء.
- حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سألت أبا عبد الله عن عباس النرسي، فقلت: كان صاحب سنة؟
فقال: رحمه الله قلت: بلغني عنه أنه قال: ما قولي: القرآن غير مخلوق، إلا كقولي: لا إله إلا الله، فضحك أبو عبد الله، وسر بذلك، قلت: يا أبا عبد الله، أليس هو كما قال؟
قال: بلى، ولكن هذا الشيخ دلنا عليه لوين على شيء لم يفطن له، قوله: إن أول ما خلق الله تعالى من شيء خلق القلم، والكلام قبل القلم،
قلت: يا أبا عبد الله، أنا سمعته يقوله
قال: سبحان الله، ما أحسن ما قال كأنه كشف عن وجهي الغطاء، ورفع يده إلى وجهه،
قلت: إنه شيخ قد نشأ بالكوفة،
فقال أبو عبد الله: إن واحد الكوفة واحد،
ثم ذكر حديث ابن عباس: إن أول ما خلق الله من شيء القلم فقال: كم ترى، قد كتبناه؟ ثم قال: نظرت فيه، فإذا قد رواه خمسة عن ابن عباس.). [الشريعة للآجري]
-وقال بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( - وقال ابن عبّاسٍ: " أوّل ما خلق اللّه القلم، فقال له: اكتب، فقال: يا ربّ، وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى بما هو كائنٌ من ذلك اليوم إلى قيام السّاعة " رواه الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاسٍ، وأبو الضّحى، عن ابن عبّاسٍ، ورواه منصور بن زاذان، ورواه مجاهدٌ، عن ابن عبّاسٍ، ورواه عروة بن عامرٍ، عن ابن عبّاسٍ، وحدّث به الحكم، عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاسٍ فكان أوّل ما خلق اللّه عزّ وجلّ من شرعةٍ القلم وفي هاتين الآيتين ردٌّ على الجهميّة {هل ينظرون إلّا أن يأتيهم اللّه في ظللٍ من الغمام}[البقرة: 210]، {وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا} [الفجر: 22] وقال: {لا مبدّل لكلماته} [الأنعام: 115] ولا يقولون إنّه مخلوقٌ وفي هؤلاء الآيات أيضًا دليلٌ على أنّ الّذي جاءه هو القرآن لقوله تعالى {ولئن اتّبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم} [الرعد: 37]
حدّثنا أبو حفصٍ عمر بن محمّدٍ قال: حدّثنا عبد اللّه بن أحمد، قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: حدّثنا منصور بن زاذان، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي ظبيان، عن ابن عبّاسٍ، قال: «إنّ أوّل ما خلق اللّه القلم، فأمره فكتب ما هو كائنٌ، فكتب فيما هو كائنٌ تبّت يدا أبي لهبٍ».). [الإبانة الكبرى: 6/ 27-29]
-وقال اللالكائي (ت: 418هـ): (- حدّثنا جعفر بن عبد اللّه بن يعقوب قال: أخبرنا محمّد بن هارون الرّويانيّ قال: حدّثنا عمرو بن عليٍّ قال: حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا عبد الواحد بن سليمٍ، عن عطاءٍ قال: حدّثني الوليد بن عبادة وسألته: كيف كانت وصيّة أبيك حين حضره الموت؟ قال: دعاني فقال: يا بنيّ، اتّق اللّه، واعلم أنّك لا تتّقي اللّه حتّى تؤمن باللّه، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه، فإن متّ على غير هذا دخلت النّار،
سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول: " أوّل ما خلق اللّه القلم قال: اكتب، فكتب ما كان وما هو كائنٌ إلى الأبد " قلت: فأخبر أنّ أوّل الخلق القلم، والكلام قبل القلم، وإنّما جرى القلم بكلام اللّه الّذي قبل الخلق إذا كان القلم أوّل الخلق.). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/243-244]

-----------------------------------------------
=المبحث الثاني: ذكر الأدلة على أنه كلام الله تعالى وأنه غير مخلوق وفيه مطالب
المطلب الأول: الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق

في هذا المبحث سيتم إيراد الأدلة مجمعة وقد تقدم كثير منها فيما سبق من فصول، وهنا سيكون استيعاب للأدلة وتجميع لها حتى تتضح وتتجلى المسألة من تجمع الأدلة، وسيتم في هذا المطلب ذكر الآيات ومنها:
-قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} ،
-وقال تعالى: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه}،
- وقال تعالى لنبيه عليه السلام: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته} وهو القرآن،
- وقال لموسى عليه السلام: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي}
-وقال تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم}،
-وقال تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين}.
- وقال: {فآمنوا باللّه ورسوله النّبيّ الأمّيّ الّذي يؤمن باللّه وكلماته} [الأعراف: 158]
- وقال عزّ وجلّ: {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مددًا} [الكهف: 109]،
- وقال: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحرٍ ما نفدت كلمات اللّه}
- وقال تعالى {يريدون أن يبدّلوا كلام اللّه} [الفتح: 15]
-وقال تعالى: {وكلّم اللّه موسى تكليمًا} [النساء: 164
-] وقال تعالى {ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه} [الأعراف: 143]
-وقال تعالى: {ومن أصدق من اللّه حديثًا} [النساء: 87]،
- وقال: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} [البقرة: 30]
- وقال عزّ وجلّ: {قال اللّه إنّي منزّلها عليكم} [المائدة: 115]
- وقال: {وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنّاس} [المائدة: 116]،
- وقال تعالى: {قال اللّه هذا يوم ينفع الصّادقين صدقهم} [المائدة: 119]،
- وقال تعالى: {وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]
- وقال: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة} [البقرة: 35}
-و قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عليه} [البقرة: 37]
- وقال تعالى: {ما يأكلون في بطونهم إلّا النّار ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم} [البقرة: 174]
وقال: {بديع السّموات والأرض وإذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون}
- وقال عزّ وجلّ: {وقال الّذين لا يعلمون لولا يكلّمنا اللّه أو تأتينا آيةٌ} [البقرة: 118]
-وقال: {إنّ الّذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلّا النّار ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ} [البقرة: 174]
-وقال عزّ وجلّ: {إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ اللّه يبشّرك بكلمةٍ منه} [آل عمران: 45] .
-وقال: {يخلق ما يشاء إذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47]
-وقال: {إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين} [آل عمران: 59]
-وقال: {إنّ الّذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنًا قليلًا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ} [آل عمران: 77]
- وقال: {إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه} [النساء: 171]
-وقال: {حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات اللّه} [الأنعام: 34]
وقال: {وتمّت كلمة ربّك صدقًا وعدلًا لا مبدّل لكلماته وهو السّميع البصير}
- وقال: {وهو الّذي خلق السّموات والأرض بالحقّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ وله الملك}
- وقال عزّ وجلّ: {وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل}
- وقال عزّ وجلّ: {والشّمس والقمر والنّجوم مسخّراتٍ بأمره ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]
- وقال: {ويريد اللّه أن يحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين}[الأنفال: 7]
-وقال: {وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا} [التوبة: 40]
-وقال: {ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك لقضي بينهم} [يونس: 19]
- وقال: {وكذلك حقّت كلمة ربّك على الّذين فسقوا}
-وقال: {لا تبديل لكلمات اللّه} [يونس: 64]
-وقال: {ويحقّ اللّه الحقّ بكلماته ولو كره المجرمون} [يونس: 82]
- وقال: {إنّ الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك لا يؤمنون}
- وقال: {ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك لقضي بينهم وإنّهم لفي شكٍّ منه مريبٍ} [هود: 110]
- وقال: {وتمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين} [هود: 119]
-وقال: {اتل ما أوحي إليك من كتاب ربّك لا مبدّل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدًا} [الكهف: 27]
- وقال تعالى:{ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك لكان لزامًا وأجلٌ مسمًّى} [طه: 129]
- وقال: {وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]
-وقال: {ويحقّ الحقّ بكلماته إنّه عليمٌ بذات الصّدور} [الشورى: 24]
فهذا ونحوه في القرآن كثيرٌ، يدلّ على أنّ القرآن كلام اللّه، وأنّ اللّه تعالى تكلّم به، خلافًا لما تقوله الجهميّة الضّالّة، وكلام الله صفة لله وصفات الله غير مخلوقة كما أن ذات الله غيره مخلوقه فهو سبحانه "خالق كل شيء".


-------------------------------------------------------------------------------
المطلب الثاني: الأحاديث النبوية الدالة على أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق
في هذا المبحث سيكون ذكر بعض الأحاديث الدالة على أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق، و التي استدل بها أهل العلم ومنها:
-حديث أبي هريرة عند مسلم:
احتجَّ آدمُ وَ موسى عليهما السَّلام عندَ ربِّهما ، فحجَّ آدمُ موسَى قالَ موسَى أنتَ آدمُ الَّذي خلقَكَ اللَّهُ بيدِهِ ونفخَ فيكَ من روحِهِ ،وأسجدَ لَكَ ملائِكَتَهُ وأسكنَكَ في جنَّتِهِ ،ثمَّ أَهَبطتَ النَّاسَ بخطيئتِكَ إلى الأرض فقالَ آدمُ أنتَ موسَى الَّذي اصطفاكَ اللَّهُ برسالتِهِ ، وبِكَلامِهِ وأعطاكَ الألواحَ فيها تِبيانُ كلِّ شيءٍ ،وقرَّبَكَ نجيًّا فبِكَم وجدتِ اللَّهِ كتبَ التَّوراةَ قبلَ أن أُخلقَ قالَ موسَى بأربعينَ عامًا قالَ آدمُ فَهَل وجدتَ فيها ؟ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [ 20 / طه / 121 ] . قالَ نعم قالَ أفتلومُني على أن عَمِلْتُ عملًا كتبَهُ اللَّهُ عليَّ أن أعملَهُ قبلَ أن يخلقَني بأربعينَ سنةً قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فَحجَّ آدمُ موسى.
وفي رواية غيره:
قال له آدم: ومن أنت؟
قال: أنا موسى.
قال: أنت نبي بني إسرائيل، أنت الذي كلمك الله تعالى من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟
قال: نعم

ووجه الدلالة من الحديث في قول آدم لموسى : أنت الذي كلمك الله تعالى من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟
فدل على إثبات صفة الكلام لله تعالى، وعلى أن كلام الله غير مخلوق فليس بين الله وبين موسى حين كلمه الله أحد من خلقه
- حديث عثمان بن عفّان، رضي اللّه عنه وقد رواه ابن بطة عن أبي عبد الرحمن عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ فضل القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه، وذلك أنّ القرآن منه خرج، وإليه يعود».). [الإبانة الكبرى: 5/ 227-228]
ورواه ابن بطة في الإبانة أيضا واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة كلاهما من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة.
- حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: يقولُ الربُّ تباركَ وتعالى : من شغلَهُ القرآنُ عن ذكري ، ومسألتي أعطيتُهُ أفضلَ ما أُعْطِي السائلينَ ، وفضلُ كلامِ اللهِ على سائرِ الكلامِ كفضلِ اللهِ على خلقِهِ. رواه الترمذي وقال حسن غريب.
-حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعرضُ نفسَه على الناسِ بالموقفِ فيقولُ هل من رجلٍ يحمِلُني إلى قومِه فإنَّ قريشًا قد منعوني أن أُبلِّغَ كلامَ ربِّي عزَّ وجلَّ فأتاه رجلٌ من همذانَ فقال مِمَّن أنتَ فقال الرجلُ من همذانَ فقال هل عندَ قومِك من منعةٍ قال نعمْ ثم أن الرجلَ خشِيَ أن يخفرَه قومُه فأتَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال آتِيهم أُخبرُهم ثم آتيك من قابلٍ قال نعم فانطلق وجاء وفدُ الأنصارِ في رجبٍ. قال الوادعي في الصحيح المسند: صحيح
-والحديث الذي روي عن أبي إمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما تقرب العباد إلى الله عز وجل بمثل ما خرج منه -يعني القرآن-)) . ). [السنة: 1/ 136]
-والحديث الذي وروي عن جبير بن نفير رضي الله عنه قال: قال رسول إله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله عز وجل بشيء بمثل أفضل مما خرج منه -يعني القرآن-)) . ). [السنة: 1/ 136]
-حديث ابن مسعود الذي رواه ابن بطة :
- أخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد القصبانيّ قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن هارون قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم البالسيّ، قال: حدّثنا إسماعيل بن معمرٍ، قال: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الدّغشيّ، وكان، من أهل الكوفة، قال: حدّثنا مجالد بن سعيدٍ، عن عامرٍ قال: قال مسروقٌ: عن عبد اللّه بن مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «القرآن كلام اللّه»
قال: وسمعت الدّغشيّ يقول: قال مجالدٌ: قال عامرٌ: قال مسروقٌ: قال عبد اللّه: من قال غير ذا، فقد كفر.). [الإبانة الكبرى: 5/ 240-242]
-حديث أبي هريرة مرفوعا: إنَّ اللهَ تبارك وتعالَى قرأ طه ، ويس قبل أن يخلُقَ آدمَ بألفَيْ عامٍ ، فلمَّا سمِعتِ الملائكةُ القرآنَ قالت : طوبَى لأمَّةٍ ينزِلُ هذا عليهم ، وطوبَى لألسُنٍ تتكلَّمُ بهذا ، وطوبَى لأجوافٍ تحمِلُ هذا"
رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد وأشار في المقدمة أنه صح وثبت بالإسناد الثابت الصحيح،
-حديث أبي الدرداء مرفوعا: -قال ابن بطة:
حدّثنا أبو بكرٍ محمّد بن جعفر بن أيّوب الصّابونيّ الحرّانيّ قال: حدّثنا محمّد بن الحارث الخولانيّ الورديّ، ومحمّد بن موسى العكّيّ، بمصر، قالا: حدّثنا أبو جعفرٍ أحمد بن إبراهيم قال: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، قال: حدّثنا الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطيّة، عن أبي الدّرداء، قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن القرآن؟
فقال: «كلام اللّه غير مخلوقٍ».). [الإبانة الكبرى: 5/ 284-285]
ورواه ابن الجوزي في [فنون الأفنان:149]
-حديث الحسن مرفوعا: (من حلف بسورة من القرآن فبكلّ آيةٍ منها يمينٌ» .). [ رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى: 5/ 263-264])
-وأحاديث تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بالمعوذات وبكلمات الله التامات ولا يجوز التعوذ بمخلوق ومنها:
-حديث خولة بنت حكيمٍ، أنّها سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول: " لو نزل أحدكم منزلًا فليقل: أعوذ بكلمات اللّه التّامّات من شرّ ما خلق، فإنّه لا يضرّه شيءٌ حتّى يرحل منه ".
-وحديث ابن عبّاسٍ، قال: كان نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعوّذ حسنًا وحسينًا رضي اللّه عنهما: «أعيذكما بكلمة اللّه التّامّة، من كلّ شيطانٍ وهامّةٍ، وشرّ كلّ عينٍ لامّةٍ»، ثمّ يقول: «هكذا كان إبراهيم يعوّذ إسماعيل وإسحاق».
-وحديث عبد اللّه بن عمرٍو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " إذا أخذت مضجعك لنومك فقل: بسم اللّه، أعوذ بكلمات اللّه التّامّة، من غضبه، وعقابه، وشرّ عباده "، وذكر الحديث
-وحديث عائشة، زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم،: كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذات.
-وحديث علي، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند مضجعه: «اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامة من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك»
فساوى بين التعوذ بوجه الله الكريم وبين كلماته فدل على أن الكلام كالوجه صفة لله غير مخلوقه.
-قال ابن بطة بعد ذكر طرفا من الأحاديث المتقدمة: فتفهّموا رحمكم اللّه هذه الأحاديث، فهل يجوز أن يعوذ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمخلوقٍ، ويتعوّذ هو ويأمر أمّته أن يتعوّذوا بمخلوقٍ مثلهم؟ وهل يجوز أن يعوّذ إنسانٌ نفسه أو غيره بمخلوقٍ مثله؟ فيقول: أعيذ نفسي بالسّماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالعرش أو بالكرسيّ أو بالأرض؟ .
وإذا جاز أن يتعوّذ بمخلوقٍ مثله، فليعوّذ نفسه وغيره بنفسه، فيقول: أعيذك بنفسي أوليس قد أوجب عبد اللّه بن مسعودٍ رحمه اللّه على من حلف بالقرآن بكلّ آيةٍ كفّارةً؟ فهل يجب على من حلف بمخلوقٍ كفّارةٌ؟.). [الإبانة الكبرى: 5/ 261-262]
ويدخل في ذلك الأحاديث المروية في بيان شرف القرآن؛ فلا يمسه إلا طاهر، ولا يسافر به إلى أرض العدو مثل:
- حديث عمرو بن حزم مرفوعا: (أن لا يمسّ القرآن إلّا طاهرٌ)
- وحديث عبد الله بن عمر مرفوعا: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوّ)
-وأيضا الأحاديث المروية في تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام مثل:
- حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا: (كلّم اللّه موسى يوم كلّمه ...)
-وأيضا الأحاديث المروية في أن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس على أن القرآن كلام الله
- كحديث معاوية بن الحكم السلميّ مرفوعا: (إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام النّاس، إنّما الصّلاة بقراءة القرآن، ...)
-وأيضا الأحاديث المروية في تفلت القرآن على أنه غير مخلوق
-وأيضا الأحاديث المروية في سماع الملائكة كلام الله بالوحي على أنّ كلام الله غير مخلوق
- كحديث أبي هريرة مرفوعا: (إذا قضى اللّه الأمر في السّماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنّه سلسلةٌ على صفوان) وقد تقدم
- أحاديث تكليم الله عباده يوم القيامة بلا ترجمان ولا واسطة على بطلان قول من أنكر أن القرآن غير مخلوق وقدم تقدمت.


-------------------------------------------------------------------------------------------------------
المطلب الثالث: الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم في أنّ القرآن كلام الله تعالى وأنّه غير مخلوق
في هذا المطلب ذكر ما جاء عن الصحابة في هذا الباب وقد ذكر اللالكائي طرفاً حسنا من ذلك أنقله عنه هنا حيث قال:
روي عن عليٍّ رضي اللّه عنه قال يوم صفّين: ما حكّمت مخلوقًا وإنّما حكّمت القرآن، ومعه أصحاب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، ومع معاوية أكثر منه؛ فهو إجماعٌ بإظهارٍ وانتشارٍ وانقراض عصرٍ من غير اختلافٍ ولا إنكارٍ.
وعن ابن عبّاسٍ، وابن عمر، وابن مسعودٍ مثله.
وعن عمرو بن دينارٍ: أدركت تسعةً من أصحاب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقولون: من قال: القرآن مخلوقٌ؛ فهو كافرٌ.
ولقد لقي عمر بن دينارٍ ابن عبّاسٍ، وابن عمر، وابن الزّبير، وجابر بن عبد اللّه، والمسور بن مخرمة، وسعد بن عائذٍ القرظيّ مؤذّن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، والسّائب بن يزيد الكنديّ، وأبا الطّفيل عامر بن واثلة وروى له عن أنسٍ فهؤلاء تسعةٌ.). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/ 253-254]
-وقال ابنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ) : (وقرأت على أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ عن أبي القسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده عن أبيه، قال: إن الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار؛ قرنًا بعد قرن إلى عصرنا هذا؛ أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال غير ذلك كفر . )
-وقال أيضا: ( ذكر ما انتهى إلينا من قول الصحابة في ذلك :أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، عبد الله بن مسعود، خباب بن الأرت، عبد الله بن عباس، عبد الله بن عمرو، عبد الله بن عمر، عمران بن حصين، أبو سعيد الخدري، عبادة بن الصامت، أبو هريرة، عكرمة بن أبي جهل، عائشة وأسماء ابنتا أبي بكر، والنجاشي أصحمة، وأويس القرني، قالوا ذلك ، ثم لا أعرف لهم من الصحابة مخالفًا في أن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق ). [فنون الأفنان:160]
-قال ابنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ) : (وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خرج إلى قريش بقوله تعالى: {الم * غلبت الروم}، فقالوا هذا من كلام صاحبك قال: (لا والله! ولكنه كلام الله تعالى) .) [فنون الأفنان:151]
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن هذا القرآن كلام الله عز وجل فضعوه على مواضعه.). [السنة: 1/ 136] لعبد الله ابن الامام أحمد ورواه ابن الجوزي في فنون الافنان 152 والبيهقي في كتاب الاعتقاد
-وروى البيهقي عن إسرائيل بن موسى، قال: سمعت الحسن، يقول: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف. ). [كتاب الاعتقاد:]
-حديث الإفك - قالت: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلّم اللّه فيّ بأمرٍ يتلى. أخرجه مسلمٌ وأبو داود، وكذلك رواه ابن المبارك عن يونس بن يزيد.).
-روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جردوا القرآن ولا تكتبوا فيه شيئا إلا كلام الله عز وجل.). [السنة: 1/ 136]
-ما روي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {قرآنا عربيا غير ذي عوج}، قال: غير مخلوق.
- ما رواه ابن بطة عن نافعٍ، عن ابن عمر، أنّه كان لا يأخذ المصحف إلّا طاهرًا. ولأجل أنّه كلام اللّه نهينا عن السّفر به إلى أرض العدوّ لئلّا يمسّه العدوّ، وإنّما عنى بذلك المصحف خاصّةً.). [الإبانة الكبرى: 5/278]
-ما رُوي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه
عن فروة بن نوفلٍ، قال: قال خبّاب بن الأرتّ وأقبلت معه من المسجد إلى منزله فقال لي: (إن استطعت أن تقرّب إلى الله فإنّك لا تقرّب إليه بشيءٍ أحبّ إليه من كلامه).[مصنف ابن أبي شيبة: 10/510]
-ما روي عن ابن أبي مليكة قال: كان عكرمة ابن أبي جهل يأخذ المصحف فيضعه على وجهه وهو يقول: كلام ربي كلام ربي عز وجل.

--------------------------------------------------------------------------
المطلب الرابع: أقوال التابعين في أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق
وهذا مطلب آخر فيه ذكر من ورود القول في القرآن وأنه كلام الله، وأنه غير مخلوق من التابعين، فقدت وردت نقول عن جماعة منهم
-الحسين بن علي بن أبي طالب،
-وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين
- الحسن بن أبي الحسن البصريّ
- سليمان التّيميّ وأيّوب السّختيانيّ
- حمّاد بن أبي سليمان
- سليمان الأعمش
- طاووس بن كيسان
- الزهري، ومكحول
- أبي محمد عمرو بن دينار
- أبي عبد الرحمن السُّلمي رحمه الله
- عطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر
- إبراهيم النخعي
-أثر محمد بن كعب القرظي
وقد نقل أقوالهم اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وابن بطة في الإبانة الكبرى فمن أردها فليراجعهما.


-----------------------------------------------------------------------------
المطلب الخامس: إجماع فقهاء الأمصار وأهل الحديث على أن القرآن غير مخلوق
في هذا المطلب سنتطرق إلى ذكر مجمل قول فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم وإجماعهم على أن القرآن غير مخلوق
-قال الآجري في الشريعة:
حدثنا ابن مخلد قال: حدثنا أبو داود قال سمعت إسحاق بن راهويه، وهناد بن السري، وعبد الأعلى بن حماد، وعبيد الله بن عمر، وحكيم بن سيف الرقي، وأيوب بن محمد، وسوار بن عبد الله، والربيع بن سليمان، صاحب الشافعي وعبد الوهاب بن عبد الحكم، ومحمد بن الصباح، وعثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن بكار بن الريان، وأحمد بن جواس الحنفي، ووهب بن بقية، ومن لا أحصيهم من علمائنا، كل هؤلاء سمعتهم يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وبعضهم قال: غير مخلوق
-وقال اللالكائي (ت: 418هـ) : (ذكر إجماع التّابعين من الحرمين مكّة والمدينة، والمصرين الكوفة والبصرة.
فأمّا أهل مكّة والمدينة ممّن نقل عنهم أبو محمّدٍ عمرو بن دينارٍ:
- عبد الرّحمن بن أبي حاتمٍ، عن محمّد بن عمّار بن الحارث قال: حدّثنا أبو مروان الطّبريّ بمكّة، وكان فاضلًا، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ قال: سمعت مشيختنا منذ سبعين سنةً يقولون: «القرآن كلام اللّه غير مخلوقٍ»
وقال محمّد بن عمّارٍ: ومن مشيخته إلّا أصحاب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ابن عبّاسٍ، وجابرٌ، وذكر جماعةً.
- ورواه محمّد بن مقاتلٍ المروزيّ قال: سمعت أبا وهبٍ، وكان من ساكني مكّة وكان رجل صدقٍ، عن ابن عيينة بهذا اللّفظ.
- وكذلك رواه يزيد بن موهبٍ عن سفيان، ومحمّد بن عبد اللّه بن ميسرة، عن سفيان بهذا اللّفظ.
قلت: فقد لقي عمرو بن دينارٍ من تقدّم ذكره من الصّحابة، ومن جالس من التّابعين ولقيهم وأخذ عنهم من علماء مكّة من علية التّابعين: عبيد بن عميرٍ وعطاءٌ، وطاووسٌ، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، وعكرمة، وجابر بن زيدٍ، فهؤلاء أصحاب ابن عبّاسٍ.
ومن أهل المدينة سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزّبير، وأبو سلمة بن عبد الرّحمن، وسالم بن عبد اللّه بن عمر وعليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبٍ، وابنه محمّد بن عليٍّ، ونافع بن جبير بن مطعمٍ، في خلقٍ كثيرٍ يكثر تعدادهم.
وأمّا أهل البصرة فروي عن الحسن، وسليمان بن طرخان التّيميّ، وأيّوب بن أبي تميمة السّختيانيّ.
ومن أهل الكوفة سليمان الأعمش، وحمّاد بن أبي سليمان.
- أخبرنا محمّد بن الحسين الفارسيّ قال: أخبرنا جعفر بن محمّد بن الحسين بن عبد العزيز الجرويّ قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل البخاريّ قال: حدّثنا الحكم بن محمّدٍ قال: حدّثنا سفيان بن عيينة قال:أدركت مشايخنا منذ سبعين سنةً، منهم عمرو بن دينارٍ يقول: القرآن كلام اللّه ليس بمخلوقٍ.). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/ 260-263]
وهذا نقل مهم عن عمرو بن دينا وأيوب السختياني وسليمان بن طرخان، والأعمش وحماد بن أبي سليمان فهو ينقل إطباق الأمة على القول بأن القرآن غير مخلوق ولذلك بوب اللالكائي بقوله "ذكر إجماع التابعين من الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة"
وقد نقل اللالكائي قول أهل المدينة من الطبقة الثانية من التابعين ومن بعدهم من أصحاب مالك وابن أبي ذئب والماجشون وأضرابهم حيث نقل عن يحيى بن المغيرة المخزوميّ.
- قالوا كلّهم: القرآن كلام اللّه غير مخلوقٍ، فمن قال مخلوقٌ فهو كافرٌ
- وقال يحيى: ما أدركت أحدًا من علمائنا إلّا وهو يقول: القرآن كلام اللّه غير مخلوقٍ، فمن قال مخلوقٌ فهو كافرٌ.
وقال فهذا إجماع أهل المدينة
-ثم قال: ثمّ من بعد هؤلاء الّذين نقلوا إلينا محمّد بن إسماعيل البخاريّ، وأبو زرعة، وأبو حاتمٍ، وأبو داود، ومسلمٌ.
ثمّ من بعدهم محمّد بن إدريس الشّافعيّ وأبو عبد الرّحمن عبد اللّه بن يزيد المقرئ، وعبد اللّه بن الزّبير الحميديّ، وسعيد بن منصورٍ الخراسانيّ المجاور بمكّة، وأحمد بن محمّدٍ الأزرقيّ، ومحمّد بن أبي عمر العدنيّ، وعبد اللّه بن عمران العابديّ، وعبد الجبّار بن العلاء بن عبد الجبّار العطّار، وإسماعيل بن سالمٍ المكّيّ، ومحمّد بن زنبورٍ المكّيّ، ومحمّد بن منصورٍ الجوّاز الخزاعيّ، وأحمد بن محمّد بن عبد اللّه بن القاسم بن أبي بزّة المقرئ، وأبو عبيد اللّه سعيد بن عبد الرّحمن المخزوميّ، وأبو الوليد بن الجارود الفقيه صاحب الشّافعيّ، ومحمّد بن عبد اللّه بن يزيد المقرئ، وسلمة بن النّيسابوريّ، والحسن بن عليٍّ الحلوانيّ. ثمّ انتهى علم هؤلاء كلّهم إلى الأئمّة الّذين تقدّم ذكرهم في أهل المدينة
=قال أبو نعيمٍ: أدركت ثمانمائة شيخٍ ونيّفًا وسبعين شيخًا منهم الأعمش فمن دونه، فما رأيت خلقًا يقول بهذه المقالة - يعني بخلق القرآن - ولا تكلّم أحدٌ بهذه المقالة إلّا رمي بالزّندقة. فقام أحمد بن يونس فقبّل رأس أبي نعيمٍ وقال: جزاك اللّه عن الإسلام خيرًا.
ثم تابع رحمه الله نقل أقوال أهل العلم بعد ذلك فمن أردا الزيادة فليراجع ما كتبه.

------------------------------------------------------------------------------
=المبحث الثالث: حكم من زعم أنّ القرآن مخلوق وفيه مطلبان
المطلب الأول: ما روي من الأحاديث في بيان ضلال من قال بخلق القرآن..

جاء في الإبانة الكبرى لابن بطة عن عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه أنّه سمع رجلًا يتكلّم في اللّه بشيءٍ لا ينبغي، فأمر بضرب عنقه، فضربت عنقه، وقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من تكلّم في اللّه فاقتلوه، ومن تكلّم في القرآن فاقتلوه».). [الإبانة الكبرى: 6/ 42-43]
-وعن عبد اللّه يعني ابن مسعودٍ، وحذيفة، قالا: قال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «كيف أنتما إذا كفر بالقرآن وقالوا إنّه مخلوقٌ؟ أما إنّكما لن تدركا ذلك، ولكن إذا كان ذلك برئ اللّه منهم وجبريل وصالح المؤمنين، وكفروا بما أنزل عليّ». نفس المصدر السابق
-و عن مجاهدٍ، قال: سئل ابن عمر إنّ جارًا لنا يقول: القرآن مخلوقٌ، فغضب، ثمّ قال: أفٍّ أفٍّ، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: " من قال: القرآن مخلوقٌ، فقد كفر باللّه عزّ وجلّ " نفس المصدر السابق

---------------------------------------------------------------------------
المطلب الثاني: أقوال جماعة من أهل العلم فيمن قال بخلق القرآن.
• قول سفيان الثوري رحمه الله:
عن عبد الله بن المبارك أنه قال: سمعت سفيان الثوري يقول: من زعم أن قول الله عز وجل: {يا موسى أنه أنا الله العزيز الحكيم} مخلوق فهو كافر زنديق حلال الدم.
• قول الإمام مالك بن أنس
عن عبد الله بن نافع قال: كان مالك بن أنس يقول: القرآن كلام الله، ويستفظع قول من يقول: القرآن مخلوق، قال مالك: يوجع ضربا، ويحبس حتى يموت).
وقال يحيى بن خلف: كنت عند مالك بن أنس، فجاءه رجل فقال: ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟
فقال: زنديق كافر، اقتلوه . )

• قول الإمام عبد الله بن المبارك
عن أبي جعفر احمد بن سعيد الدارمي قال: سمعت محمد بن أعين سمعت النضر بن محمد يقول: من قال أنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني مخلوق فهو كافر،
قال: فأتيت ابن المبارك فقلت له: ألا تعجب من أبي محمد قال كذا وكذا،
قال: وهل الأمر إلا ذاك وهل يجد بدا من أن يقول هذا.
وعن أحمد بن يونس قال: سمعت عبد الله بن المبارك قرأ شيئا من القرآن ثم قال: من زعم أن هذا مخلوق، فقد كفر بالله العظيم.)
• قول الإمام عبد الله بن إدريس
عن يحيى بن يوسف الزمي قال: حضرت عبد الله بن إدريس، فقال له رجل: يا أبا محمد إن قبلنا ناسا يقولون إن القرآن مخلوق.
فقال: من اليهود.
قال: لا
قال: فمن النصارى؟
قال: لا
قال: فمن المجوس؟
قال: لا
قال: فممن؟
قال: من الموحدين
قال: كذبوا ليس هؤلاء بموحدين هؤلاء زنادقة من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله عز وجل مخلوق ومن زعم أن الله تعالى مخلوق فقد كفر هؤلاء زنادقة هؤلاء زنادقة.
• قول الإمام وكيع بن الجرّاح
عن أبو بكر بن أبي شيبة قال: بلغني عن وكيع أنه قال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أنه محدث ومن زعم أنه محدث فقد كفر.
عن أبي جعفر السويدي قال: سمعت وكيعا وقيل له أن فلانا يقول أن القرآن محدث فقال: سبحان الله هذا كفر،
قال السويدي: وسألت وكيعا عن الصلاة خلف الجهمية
فقال: لا يصلى خلفهم.
• قول الإمام عبد الرّحمن بن مهديٍّ
عن إبراهيم بن زياد سبلان قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لو كان لي من الأمر شيء لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد من الجهمية إلا سألته عن القرآن فإن قال إنه مخلوق ضربت رأسه ورميت به في الماء. )
• قول الإمام سفيان بن عيينة
عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: كنت عند سفيان بن عيينة جالسا أنا وعثمان أخي فسأله منصور بن عمار عن القرآن أمخلوق، فأنكر ابن عيينة ما سأله وغضب غضبا شديدا وقال: إني أحسبك شيطانا، وأنكر ابن عيينة ما جاء به منصور.
• قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي
قال الربيع بن سليمان: وسمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر.)
• قول الإمام أبي عبيدٍ القاسم بن سلّامٍ
عن محمد بن إسحاق الصاغاني قال: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول: «من قال: القرآن مخلوق فقد افترى على الله، وقال على الله ما لم يقله اليهود ولا النصارى»
• قول الإمام أحمد بن حنبل
قال الحسن بن ثواب: سألت أحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق.
قلت: فما تقول فيمن قال مخلوق؟
قال: كافر. )
قال أبو إسماعيل التّرمذيّ: سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول:
من قال: القرآن محدثٌ، فهو كافرٌ.
قال أبو الحارث، قال: سمعت أبا عبد اللّه، يقول: «القرآن كلام اللّه ليس بمخلوقٍ، ومن زعم أنّ القرآن مخلوقٌ فقد كفر لأنّه يزعم أنّ علم اللّه مخلوقٌ، وأنّه لم يكن له علمٌ حتّى خلقه».

********************************************************************************************************************************************************************
الفصل السادس: بدعة القول بخلق القرآن
=المبحث الأول: أول من قال بخلق القرآن وفيه مطالب
المطلب الأول: الجعد بن درهم وقوله في القرآن وحكم العلماء عليه ومقتله.
المطلب الثاني: الجهم بن صفوان وقوله في القرآن وأقوال العلماء فيه ومقتله.
المطلب الثالث: بشر المريسي وتحذير العلماء منه.
=المبحث الثاني: محنة القول بخلق القرآن
المطلب الأول: إظهار المأمون القول بخلق القرآن وحمل الأمة عليه وامتحان العلماء.
المطلب الثاني: نقول من خطاباته إلى أمراءه في الأمصار لامتحان الناس.
=المبحث الثاني: المناظرات في خلق القرآن
المطلب الأول: ذكر بعض المناظرات التي وقعت مع من يقول بخلق القرآن
المطلب الثاني: ذكر رجوع الوثق عن مذهبه.

-----------------------------------------------------------------------------
=المبحث الأول: أول من قال بخلق القرآن وفيه مطالب
المطلب الأول: الجعد بن درهم وقوله في القرآن وحكم العلماء عليه ومقتله.

=قول الجعد في القرآن
الجعد بن درهم هو أول من أتى بالقول بخلق القرآن في سنة نيف وعشرين ومائة، ثم بعده بشر بن غياث المريسي وكان صباغا يهوديا
( قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ولم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ أو قديمٌ، بل الآثارُ متواتِرةٌ عنهم بأنَّهم يقولون: القرآنُ كلامُ اللَّهِ، ولمَّا ظَهَرَ مَن قال: إنَّه مخلوقٌ، قالوا رداًّ لكلامِه: إنَّه غيرُ مخلوقٍ، وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه قال: القرآنُ مخلوقٌ الجعدُ بنُ دِرْهمٍ، وصاحِبُه الجهمُ بنُ صفوانَ، وأوَّلُ مَن عُرِفَ أنَّه قال: إنَّه قديمٌ هُوَ عبدُ اللَّهِ بنُ سعيدِ بنِ كِلابٍ. انتهى.)
-وقال اللالكائي (ت: 418هـ): ( ولا خلاف بين الأمّة أنّ أوّل من قال: القرآن مخلوقٌ جعد بن درهمٍ في سنيّ نيّفٍ وعشرين،...). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة:2/344]
-قال الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): ( - الجعد بن درهمٍ *
مؤدّب مروان الحمار.
هو أوّل من ابتدع بأنّ الله ما اتّخذ إبراهيم خليلاً، ولا كلّم موسى، وأنّ ذلك لا يجوز على الله.). [سير أعلام النبلاء: 5/433]
=قول أهل العلم فيه
قال اللالكائي (ت: 418هـ): ( أخبار الجعد بن درهمٍ لعنه اللّه
- ذكره عبد الرّحمن بن أبي حاتمٍ قال: سمعت أبي يقول: " أوّل من أتى بخلق القرآن جعد بن درهمٍ وقاله: في سنة نيّفٍ وعشرين ومائةٍ، ثمّ من بعدهما بشر بن غياثٍ المريسيّ، لعنه اللّه، وكان صبّاغًا يهوديًّا
".وكفّره سفيان بن عيينة، وعبد اللّه بن المبارك، وعبّاد بن العوّام، وعليّ بن عاصمٍ، ويحيى بن سعيدٍ، وعبد الرّحمن بن مهديٍّ، ووكيعٌ، وأبو النّضر هاشم بن القاسم، وشبابة بن سوّارٍ، والأسود بن عامرٍ، ويزيد بن هارون، وبشر بن الوليد، ويوسف بن الطّبّاع، وسليمان بن حسّان الشّاميّ، ومحمّدٌ ويعلى ابنا عبيدٍ الطّنافسيّان، وعبد الرّزّاق بن همّامٍ، وأبو قتادة الحرّانيّ، وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون، ومحمّد بن يوسف الفريابيّ، وأبو نعيمٍ الفضل بن دكينٍ، وعبد اللّه بن مسلمة القعنبيّ، وبشر بن الحارث، ومحمّد بن مصعبٍ الزّاهد، وأبو البختريّ وهب بن وهبٍ السّوائيّ المدنيّ قاضي بغداد، ويحيى بن يحيى النّيسابوريّ، وعبد اللّه بن الزّبير الحميديّ، وعليّ بن المدينيّ، وعبد السّلام بن صالحٍ الهرويّ، والحسن بن عليٍّ الحلوانيّ.). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 3/ 425-426]
=عاقبة أمر الجعد بن درهم
-قال الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (قال المدائنيّ: كان زنديقاً.
وقد قال له وهبٌ: إنّي لأظنّك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله أنّ له يداً، وأنّ له عيناً ما قلنا ذلك.
ثمّ لم يلبث الجعد أن صلب). [سير أعلام النبلاء: 5/433]
- وفي الإبانة الكبرى لابن بطة عن عبد الرّحمن بن حبيب بن أبي حبيبٍ، صاحب خالد بن يزيد، عن أبيه، عن جدّه، قال: شهدت خالد بن عبد اللّه القسريّ خطب النّاس يوم النّحر، فقال: «أيّها النّاس ضحّوا تقبّل اللّه منكم، فإنّي مضحٍّ بالجعد بن درهمٍ، فإنّه زعم أنّ اللّه لم يكلّم موسى تكليمًا، ولم يتّخذ إبراهيم خليلًا، سبحانه وتعالى عمّا يقول الجعد بن درهمٍ علوًّا كبيرًا، ثمّ نزل إليه فذبحه» .). [الإبانة الكبرى: 6/ 119-120] وذكره اللالكائي في [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/ 352- 353]

---------------------------------------------------------------------------
المطلب الثاني: الجهم بن صفوان وقوله في القرآن وأقوال العلماء فيه ومقتله.
= أقوال الجهم بن صفوان
-كان يعطل صفات الله حتى أنه لم يكن يثبت أن في السماء إلهاً.
-يقول بأن الله في كل مكان.
-يقول بأن القرآن مخلوق.
-أنكر أن الله كلم موسى.
-قال الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): ( - جهم بن صفوان أبو محرزٍ الرّاسبيّ مولاهم *
السّمرقنديّ، الكاتب، المتكلّم، أسّ الضّلالة، ورأس الجهميّة.
كان صاحب ذكاءٍ وجدالٍ.
كتب للأمير حارث بن سريجٍ التّميميّ، وكان ينكر الصّفات، وينزّه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن، ويقول: إنّ الله في الأمكنة كلّها.
قال ابن حزمٍ: كان يخالف مقاتلاً في التّجسيم.
وكان يقول: الإيمان عقدٌ بالقلب، وإن تلفّظ بالكفر.
قيل: إنّ سلم بن أحوز قتل الجهم؛ لإنكاره أنّ الله كلّم موسى). [سير أعلام النبلاء: 6/ 26- 27]
-وقال اللالكائي (ت: 418هـ): (- ذكره عبد الرّحمن بن أبي حاتمٍ قال: سمعت أحمد بن عبد اللّه الشّعرانيّ، يقول: سمعت سعيد بن رحمة، صاحب إسحاق الفزاريّ يقول: " إنّما خرج جهمٌ، عليه لعنة اللّه، سنة ثلاثين ومائةٍ، فقال: القرآن مخلوقٌ، فلمّا بلغ العلماء تعاظمهم فأجمعوا على أنّه تكلّم بالكفر، وحمل النّاس ذلك عنهم ".). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 3/ 422-423]
=أقوال العلماء في جهم
-قال عبدالله ابن الإمام أحمد (ت: 290هـ): (حدثني عبد الله بن شبويه حدثنا محمد بن عثمان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي وسأله سهل بن أبي خدويه عن القرآن فقال: (يا أبا يحيى مالك ولهذه المسائل؟!
هذه مسائل أصحاب جهم؛ إنه ليس في أصحاب الأهواء شرٌّ من أصحاب جهم؛ يدورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء، أرى - والله - ألا يناكحوا ولا يوارثوا). [السنة: 1/157]
-وقال أيضاً عن يزيد بن هارون يقول: (لعن الله الجهم ومن قال بقوله كان كافرا جاحدا ترك الصلاة أربعين يوما يزعم أنه يرتادُ ديناً، وذلك أنه شك في الإسلام) قال يزيد: (قتله سلم بن أحوز على هذا القول) ). [السنة: 1/167] ورواه ابن بطة في الابانة.
-وقال أيضاً عن أبا نعيم الفضل ابن دكين يقول وذكر عنده من يقول القرآن مخلوق: والله والله ما سمعت شيئا من هذا حتى خرج ذاك الخبيث جهم). [السنة: 1/172]
-وقال ابن بطة في الإبانة عن عبد العزيز الماجشون، قال: «جهمٌ وشيعته الجاحدون». ). [الإبانة الكبرى: 6/ 97]
-قال اللالكائي (ت: 418هـ): (- قال[عبد الرّحمن]: وحدّثنا أبو زرعة، قال: حدّثت عن المعلّا بن سويدٍ، قال:
" ذكر الجهم عند عبد اللّه بن المبارك فقال:
عجبت لشيطانٍ أتى إلى النّاس داعيًا ... إلى النّار واشتقّ اسمه عن جهنّم "
.). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 3/ 424-425]
-وقال عن مقاتل بن حيّان، قال: " دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من أهل بلخٍ، فقال: كم بينك وبين النّهر؟
قلت: كذا وكذا فرسخًا، فقال: هل ظهر من وراء النّهر رجلٌ يقال له جهمٌ؟
قلت: لا، قال: سيظهر من وراء النّهر رجلٌ يقال له جهمٌ يهلك خلقًا من هذه الأمّة يدخلهم اللّه وإيّاه النّار مع الدّاخلين ".). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 3/ 425]
=عاقبة أمر الجهم
-قال اللالكائي عن محمّد بن صالح بن أبي عبيد اللّه، عن أبيه، قال: " قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بخراسان، نصر بن سيّارٍ:
أمّا بعد، فقد نجم قبلك رجلٌ من الدّهريّة من الزّنادقة، يقال له جهم بن صفوان، فإن أنت ظفرت به فاقتله، وإلّا فادسس إليه من الرّجال غيلةً ليقتلوه ".
- قال: وحدّثنا أبي قال: ثنا عمر بن سهل بن سرخابٍ، قال: ثنا حمّاد بن قيراطٍ، عن بكير بن معروفٍ، قال: «رأيت سلم بن الأحوز حين ضرب عنق الجهم فاسودّ وجهه».). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 3/ 424]
-قال الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): ( قيل: إنّ سلم بن أحوز قتل الجهم؛ لإنكاره أنّ الله كلّم موسى). [سير أعلام النبلاء: 6/27]

---------------------------------------------------
المطلب الثالث: بشر بن غِياث المريسي وتحذير العلماء منه.
=بعض أخبار بشر المريسي
-قال ابن بطة في الإبانة الكبرى: الرّبيع بن سليمان، قال: سمعت الشّافعيّ، يقول: " دخلت بغداد فنزلت على بشرٍ المرّيسيّ، فأنزلني في غرفةٍ له، فقالت أمّه: لم جئت إلى هذا؟ قلت: لأسمع العلم. فقالت لي: هذا زنديقٌ ".
-وقال أيضاً عن محمّد بن أبي كبشة، قال: " كنّا في البحر في مركبٍ ليلًا، فإذا بهاتفٍ يهتف: لا إله إلّا اللّه، كذب المرّيسيّ على اللّه، ثمّ هتف ثانيةً، فقال: لا إله إلّا اللّه على بشرٍ المرّيسيّ، وثمامة، لعنه اللّه ".). [الإبانة الكبرى: 6/ 104]
-وعنه أيضا: قال عبد الوهّاب: ذكر لي " أنّ إبراهيم بن أبي نعيمٍ، قال لمّا مات بشرٌ المرّيسيّ: الحمد للّه الّذي عجّله إلى النّار ".). [الإبانة الكبرى: 6/ 104- 105]
-قال ابن بطة: حدّثنا أبو الحسن أحمد بن مطرّف بن سوارٍ القاضي، قال: حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن الصّلت بن المغلّسيّ الحمّانيّ الصّفّار، قال: حدّثنا محمّد بن منصور بن عمّارٍ أبو الحسن، ببغداد فوق قصر طاق عبدويه قال: كتب بشر بن غياثٍ المرّيسيّ لعنه اللّه إلى أبي يسأله عن القرآن، فكتب إليه أبي: «عصمنا اللّه وإيّاك من كلّ فتنةٍ، فإن يفعل فأعظم بها من نعمةٍ، وإن لا يفعل فهي واللّه الهلكة»، أخبرني بعض أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ أباه سئل عن ذلك فقال: " ليس على اللّه بعد المرسلين حجّةٌ، وإنّ الكلام في القرآن بدعةٌ اشترك فيه السّائل والمجيب، أمّا السّائل فتعاطى ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، وما أعرف خالقًا إلّا اللّه، والقرآن كلام اللّه، فانته بنفسك، والمتكلّمون معك في القرآن إلى أسمائه الّتي سمّاه اللّه بها تكن من المهتدين، إنّ {الّذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 180] ".). [الإبانة الكبرى: 6/ 289-290]
-وقال عبد الله ابن الإمام أحمد حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: سمعت وكيعا وسئل عن القرآن فقال: القرآن كلام الله، فقيل له إن بشرا المريسي؛ فذكره وكيع حتى شتمه. فقلت لأبي بكر ابن أبي شيبة: أنت سمعت وكيعا يقول هذا.
قال: نعم سمعت وكيعا يقول هذا. ). [السنة:1/ 168]
=ذكر من كفره من العلماء
-عن عباس العنبري قال حدثني شاذ بن يحيى قال سمعت يزيد بن هارون يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وجعل شاذ بن يحيى يلعن المريسي.
- قال أبو جعفر محمد بن الحسين بن إشكاب قال سمعت أبي يقول: سمعت أبا يوسف القاضي يقول: جيئوني بشاهدين يشهدان على المريسي والله لأملأن ظهره وبطنه بالسياط يقول في القرآن يعني مخلوق.
-قال إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني: سمعت شبابة بن سوار يقول: اجتمع رأيي ورأي أبي النضر هاشم بن قاسم وجماعة من الفقهاء على أن المريسي كافر جاحد نرى أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.). [السنة: 1/124]
-عن المسعودي القاضي سمعت هارون أمير المؤمنين يقول: بلغني أن بشرا المريسي يزعم إن القرآن مخلوق لله علي إن أظفرني به إلا قتلته قتلة ما قتلتها أحدا قط.). [السنة: 1/ 127]
-عن عبد الملك بن الماجشون قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وسمعته يعني عبد الملك يقول: لو وجدت المريسي لضربت عنقه. ). [السنة: 1/173]
-عن أحمد بن إبراهيم، قال: حدّثني الثّقة قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: بشرٌ المرّيسيّ، وأبو بكرٍ الأصمّ كافران حلالا الدّم "
-قال أبو داود: وسمعت قتيبة بن سعيدٍ، يقول: «بشرٌ المرّيسيّ كافرٌ».). [الإبانة الكبرى: 6/ 101-102]
-قال: عبد الرّحمن: وذكره محمّد بن عاصم بن مسلمٍ قال: سمعت هشام بن عبيد اللّه، يقول: " المريسيّ عندنا خليفة جهم بن صفوان الضّالّ، وهو وليّ عهده ومثله عندنا مثل بلعم بن باعورا الّذي قال اللّه فيه {واتل عليهم نبأ الّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} [الأعراف: 175].). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 3/ 427]
=عاقبة أمره
قال الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (كان بشرٌ من كبار الفقهاء.
أخذ عن: القاضي أبي يوسف.
وروى عن: حمّاد بن سلمة، وسفيان بن عيينة.
ونظر في الكلام، فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتّقوى، وجرّد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتّى كان عين الجهميّة في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفّره عدّةٌ، ولم يدرك جهم بن صفوان، بل تلقّف مقالاته من أتباعه.
قال البويطيّ: سمعت الشّافعيّ يقول: ناظرت المريسيّ، فقال: القرعة قمارٌ.
فذكرت له حديث عمران بن حصينٍ في القرعة، ثمّ ذكرت قوله لأبي البختريّ القاضي، فقال: شاهداً آخر وأصلبه .
وقال أبو النّضر هاشم بن القاسم: كان والد بشرٍ يهوديّاً، قصّاراً، صبّاغاً في سويقة نصرٍ.
وللمريسيّ تصانيف جمّةٌ.
ذكره النّديم، وأطنب في تعظيمه.
وقال: كان ديّناً، ورعاً، متكلّماً.
ثمّ حكى أنّ البلخيّ قال: بلغ من ورعه أنّه كان لا يطأ أهله ليلاً مخافة الشّبهة، ولا يتزوّج إلاّ من هي أصغر منه بعشر سنين، مخافة أن تكون رضيعته.
وكان جهميّاً، له قدرٌ عند الدّولة، وكان يشرب النّبيذ، وقال مرّةً لرجلٍ اسمه كاملٌ: في اسمه دليلٌ على أنّ الاسم غير المسمّى.
وصنّف كتاباً في التّوحيد، وكتاب (الإرجاء)، وكتاب (الرّدّ على الخوارج)، وكتاب (الاستطاعة)، و (الرّدّ على الرّافضة في الإمامة)، وكتاب (كفر المشبّهة)، وكتاب (المعرفة)، وكتاب (الوعيد)، وأشياء غير ذلك في نحلته.
ونقل غير واحدٍ: أنّ رجلاً قال ليزيد بن هارون: عندنا ببغداد رجلٌ يقال له: المريسيّ، يقول: القرآن مخلوقٌ.
فقال: ما في فتيانكم من يفتك به؟
قلت: قد أخذ المريسيّ في دولة الرّشيد، وأهين من أجل مقالته.). [سير أعلام النبلاء: 10/ 199- 201]
-وقال أيضاً:
روى: أبو داود، عن أحمد بن حنبلٍ:
أنّه سمع ابن مهديٍّ أيّام صنع ببشرٍ ما صنع يقول: من زعم أنّ الله لم يكلّم موسى، يستتاب، فإن تاب، وإلاّ ضربت عنقه.
وقال المرّوذيّ: سمعت أبا عبد الله - وذكر المريسيّ - فقال:
كان أبوه يهوديّاً، أيّ شيءٍ تراه يكون ؟!
وقال أبو عبد الله: كان بشرٌ يحضر مجلس أبي يوسف، فيصيح، ويستغيث، فقال له أبو يوسف مرّةً: لا تنتهي أو تفسد خشبةً. ثمّ قال أبوعبد الله: ما كان صاحب حججٍ، بل صاحب خطبٍ.
وقال أبو بكرٍ الأثرم: سئل أحمد عن الصّلاة خلف بشرٍ المريسيّ، فقال: لا تصلّ خلفه.
وقال قتيبة: بشرٌ المريسيّ كافرٌ.
وقلت: وقع كلامه إلى عثمان بن سعيدٍ الدّارميّ الحافظ، فصنّف مجلّداً في الرّدّ عليه .
ومات: في آخر سنة ثماني عشرة ومائتين، وقد قارب الثّمانين، فهو بشر الشّرّ، وبشرٌ الحافي بشر الخير، كما أنّ أحمد بن حنبلٍ هو أحمد السّنّة، وأحمد بن أبي دواد أحمد البدعة.
ومن كفّر ببدعةٍ - وإن جلّت - ليس هو مثل الكافر الأصليّ، ولا اليهوديّ، والمجوسيّ، أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله، واليوم الآخر، وصام، وصلّى، وحجّ، وزكّى - وإن ارتكب العظائم، وضلّ، وابتدع - كمن عاند الرّسول، وعبد الوثن، ونبذ الشّرائع، وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها). [سير أعلام النبلاء: 10/ 201- 202]
-----------------------------------------------------
=المبحث الثاني: محنة القول بخلق القرآن
المطلب الأول: إظهار المأمون القول بخلق القرآن وحمل الأمة عليه وامتحان العلماء.

كان المأمون ذكيا متكلما، له نظر في المعقول ولذلك عمد إلى كتب الفلاسفة والحكماء اليونان وعرب وترجم كتبهم وكانت هذه طامة جلبت على الأمة الويلات، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤسها، بل والشيعة أيضاً،
وانتهى به الحال أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء ثم امتحن غيرهم
-قال أبو الفرج بن الجوزيّ: خالطه قومٌ من المعتزلة، فحسّنوا له القول بخلق القرآن، وكان يتردّد ويراقب بقايا الشّيوخ، ثمّ قوي عزمه، وامتحن النّاس.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 235- 237]
-وقال الذهبي عن ابن أكثم، قال: قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون، لأظهرت أنّ القرآن مخلوقٌ.
فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتّى يتّقى؟
فقال: ويحك! إني أخاف إن أظهرته فيردّ عليّ، يختلف النّاس، وتكون فتنةٌ، وأنا أكره الفتنة.
فقال الرّجل: فأنا أخبر ذلك منه.
قال له: نعم.
فخرج إلى واسط، فجاء إلى يزيد، وقال: يا أبا خالدٍ، إنّ أمير المؤمنين يقرئك السّلام، ويقول لك: إنّي أريد أن أظهر خلق القرآن.
فقال: كذبت على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يحمل النّاس على ما لا يعرفونه، فإن كنت صادقاً، فاقعد، فإذا اجتمع النّاس في المجلس، فقل.
قال: فلمّا أن كان الغد، اجتمعوا، فقام، فقال كمقالته.
فقال يزيد: كذبت على أمير المؤمنين، إنّه لا يحمل النّاس على ما لا يعرفونه وما لم يقل به أحدٌ.
قال: فقدم، وقال: يا أمير المؤمنين، كنت أعلم، وقصّ عليه.
قال: ويحك يلعب بك!!). [سير أعلام النبلاء: 11/237]
-وفي مسند الإمام أحمد:
مسند الإمام أحمد
(أنه قد بقي الإِمام أحمد متصدِّراً للفُتيا والتحديث حتى سنة (218 هـ) حين أعلَنَ المأمون رأيه بخَلْقِ القرآن، وأمر بامتحانِ العلماءِ فيه، وقد أجابه كثيرٌ إلى ما ذَهَب إليه خوفاً من الضرب والموت، وظَلَّ الإِمامُ أحمدُ ثابتاً على موقفه بأن القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، فأمر المأمونُ بأشخاصه إليه، وكان وقتئذٍ
يغزو بلادَ الرومِ، فحُمِل إليه الإِمامُ مقيَّداً، وما إن وَصَل إلى الرَّقَّةِ حتى جاء نَعْيُ المأمون، فَرُدَّ إلى بغداد، وسُجِن فيها
وفي المطلب القادم سأورد بعض خطابات المأمون إلى الأمراء في امتحان العلماء وغيرهم بنصها ليتبين عظم هذه الفتنة، وشدة المأمون في هذه المسألة.)
-ثم إن المأمون لما حضرته الوفاة لم يكف شره عن الأمة بل أوصى أخوه المعتصم بأن يكمل ما بدأه هو، وبذلك استمرت الفتنة على الأمة زمن المعتصم حتى توفي سنة 227 هـ، ثم تولى الواثق ونشط في امتحان الأمة حتى أمر بتعليم الصبيان هذه المسألة في الكتاب وظلت الفتنة حتى هلك في 232هـ ، ثم تولى بعده المتوكل وبعد سنتين من خلافته أمر برفع المحنة وأن يعود الناس لما كانوا عليه
---------------------------------------------------------------------
المطلب الثاني: نقول من خطاباته إلى أمراءه لامتحان الناس.
في هذا المطلب ذكر بعض خطابات المأمون التي يأمر فيها بامتحان العلماء وغيرهم في خلق القرآن وآثرت نقل نصها من تاريخ الطبري لما فيها من ذكر حجته الواهية، وبيان عظم هذا البلاء على الأمة ومدى قوته وشدته على الناس في هذا الأمر الذي لم يسبق إليه ولم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة من بعده ولا من بعدهم، وإنما أظهره الجهمية والمعتزلة.
فأما أول كتاب له فكان إلى إسحاق بن إبراهيم وهذا نصه:
أما بعد، فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم والتشمير لطاعة الله فيهم، والله
يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق أهل جهالة بالله، وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به.
ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكر والتذكر، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه،.....
إلى أن قال
فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها
عنده واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله.
وكتب في شهر ربيع الاول سنه ثمان عشرة ومائتين.

وكتب المأمون إلى إسحاق بْن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم مستملي يزيد بْن هارون، ويحيى بْن معين، وزهير بْن حرب ابو خيثمة، وإسماعيل بْن داود، وإسماعيل بْن أبي مسعود، واحمد بن الدورقي، فأشخصوا إليه، فامتحنهم وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعا أن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام وأحضرهم إسحاق بْن إبراهيم داره، فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون، فخلى سبيلهم وكان ما فعل من ذلك إسحاق بْن إبراهيم بأمر المأمون.

- وكتب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بْن إبراهيم:
وفيه:
فاقرأ على جعفر بْن عيسى وعبد الرحمن بْن إسحاق القاضي كتاب أمير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصها عن علمهما في القرآن،
وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده،
وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك، فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن، فمن لم يقل منهم أنه مخلوق أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكما بقوله، وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره.
وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافا يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله.
قَالَ: فأحضر إسحاق بْن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين،
وأحضر أبا حسان الزيادي وبشر بْن الوليد الكندي وعلي بْن ابى مقاتل والفضل ابن غانم والذيال بْن الهيثم وسجادة والقواريري وأحمد بْن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بْن الجعد وإسحاق بْن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحيى بْن عبد الرحمن العمري وشيخا آخر من ولد عمر بْن الخطاب- كان قاضي الرقة- وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بْن حاتم بْن ميمون ومحمد بْن نوح المضروب وابن الفرخان، وجماعة منهم النضر بْن شميل وابن علي بْن عاصم وأبو العوام البزاز وابن شجاع وعبد الرحمن بْن إسحاق،
فأدخلوا جميعا على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون هذا مرتين حتى فهموه، ثم قَالَ لبشر بْن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة، قَالَ: فقد تجدد من كتاب أمير المؤمنين ما قد ترى، فقال: أقول: القرآن كلام الله، قَالَ: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
قَالَ: الله خالق كل شيء، قَالَ: ما القرآن شيء؟ قال: هو شيء، قَالَ:
فمخلوق؟ قَالَ: ليس بخالق، قَالَ: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
قَالَ: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت امير المؤمنين الا اتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك فأخذ إسحاق بْن إبراهيم رقعة كانت بين يديه، فقرأها عليه، ووقفه عليها، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أحدا فردا، لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، قَالَ: نعم، وقد كنت أضرب الناس على دون هذا، فقال للكاتب: اكتب ما قَالَ.
.....
وساق باقي سؤلاته لمن حضر عنده وجوابهم.

وقد رد عليه المأمون بكتاب آخر جاء فيه:
فأما ما قَالَ المغرور بشر بْن الوليد في نفي التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن مخلوق، وادعى من تركه الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين، فقد كذب بشر في ذلك وكفر، وقال الزور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك ولا في غيره عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص، والقول بأن القرآن مخلوق،
فادع به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وأنصصه عن قوله في القرآن، واستتبه منه، فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قَالَ بمقالته، إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح، والشرك المحض عند أمير المؤمنين، فإن تاب منها فأشهر أمره، وأمسك عنه، وإن أصر على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله.
وكذلك إبراهيم بْن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرا، فإنه كان يقول بقوله وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ، فإن قَالَ: إن القرآن مخلوق فأشهر أمره واكشفه، وإلا فاضرب عنقه وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله.

.... إلى آخر ما جاء في كتابه

وبعد هذا الخطاب أعاد إسحاق ابن إبراهيم الامتحان مرة ثانية
فأجاب القوم كلهم حين أعاد القول عليهم إلى أن القرآن مخلوق، إلا أربعة نفر، منهم أحمد بْن حنبل وسجادة والقواريري ومحمد بْن نوح المضروب.
فأمر بهم إسحاق بْن إبراهيم فشدوا في الحديد، فلما كان من الغد دعا بهم جميعا يساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم، فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضا، فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده، وخلى سبيله، وأصر أحمد بْن حنبل ومحمد بْن نوح على قولهما، ولم يرجعا، فشدا جميعا في الحديد، ووجها إلى طرسوس،

ثم أرسل كتاب آخر في جمع كل من أجاب لأنهم في نظره إنما أجابوا متأولين قوله تعالى "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" فجمعوا وارسلوا إلى الرقة لكن المأمون قد توفي فأعيدوا وخلي سبيلهم.
----------------------------------------------------------------------
=المبحث الثالث: المناظرات في خلق القرآن
المطلب الأول: ذكر بعض المناظرات التي وقعت مع من يقول بخلق القرآن

سأكتفي في هذا المطلب بإيراد أسماء مناظرات وقعت في خلافة الخلفاء الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق
ثم سأذكر مناظرة الإمام أحمد ورجل ناظر الواثق، وسأحاول جهدي أن اختصرها وإن كان هذا شيئا صعباً لأن كل سطر من هذه المناظرات هو بمثابة شبهة وبيان الحق الذي يدحضها
والله المستعان وعليه التكلان:
من المناظرات التي وقعت في هذه الفتنة:
=مناظرة عبد العزيز بن يحيى المكّيّ لبشر بن غياثٍ المرّيسيّ بحضرة المأمون
هذه المناظرة قد رواها ابن بطة في الإبانة بإسناده إلى عبد العزيز بن يحيي نفسه وهي مناظرة جليلة وفيها ردود قوية جداً على أهل الباطل.
= مناظرة الإمام أحمد بن حنبلٍ لابن أبي دؤادٍ وأصحابه بحضرة المعتصم، وستأتي
=مناطرة رجل بحضرة المعتصم.
=مناظرة ابن الشحام قاضي الري للواثق.
= مناظرة العبّاس بن موسى بن مشكويه الهمدانيّ بحضرة الواثق
= مناظرة شيخ آخر بحضرة الواثق
= مناظرة شيخٍ من أهل أذنة بحضرة الواثق وستأتي في المطلب القادم لأنه قيل أنه بعدها توقف الواثق عن امتحان الناس، ورجع عن مذهبه.
--------------------------------------------------------------------------
= مناظرة الإمام أحمد بن حنبلٍ لابن أبي دؤادٍ وأصحابه بحضرة المعتصم
قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ (ت: 265هـ) : (- ذكر محنة أبي إسحاق المعتصم لأبي رحمة الله
سمعت أبا الفضل يقول: قال أبي رحمة الله: لما كان في شهر رمضان ليلة تسع عشرة خلت منه حولت من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم وأنا مقيّد بقيد واحد يوجه إليّ كل يوم رجلين سماهما أبي.
قال أبو الفضل: وهما أحمد بن رباح وأبو شعيب الحجام يكلماني ويناظراني فإذا أرادا الانصراف دعي بقيد فقيدت فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيّام وصار في رجلي أربعة أقياد.
فقال لي أحدهما في بعض الأيّام في كلام دار وسألته عن علم الله، فقال: علم الله مخلوق.
قلت: يا كافر كفرت.
فقال لي الرّسول الّذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين.
قال: فقلت إن هذا قد كفر وكان صاحبه الّذي يجيء معه خارج فلمّا دخل قلت إن هذا زعم أن علم الله مخلوق فنظر إليه كالمنكر عليه قال ثمّ انصرف
قال أبي: وأسماء الله في القرآن والقرآن من علم الله فمن زعم أن القران مخلوق فهو كافر ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر.
قال أبي: فلمّا كان ليلة الرّابعة بعد عشاء الأخرة وجه يعني المعتصم ببغا إلى إسحاق يأمره بحملي فأدخلت على إسحاق فقال لي: يا أحمد أنّها والله نفسك إنه قد حلف أن لا يقتلك بالسّيف وأن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشّمس أليس قال الله تعالى {إنّا جعلناه قرآنًا عربيا} أفيكون مجعولا إلّا مخلوقا.
قال أبي: فقلت فقد قال الله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} أفخلقهم، قال فقال اذهبوا به.
قال أبي: فأنزلت إلى شاطئ دجلة فاحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق
فقال بغا لمحمد الحارس بالفارسيّة: ما تريدون من هذا، قال: يريدون منه أن يقول القرآن مخلوق.
فقال: ما أعرف شيئا من هذا إلّا قول لا إله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله وقرابة أمير المؤمنين من النّبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبي: فلمّا صرنا إلى الشط أخرجت من الزورق وحملت على دابّة والأقياد عليّ وما معي أحد يمسكني فجعلت أكاد أخر على وجهي حتّى انتهى بي إلى الدّار فأدخلت ثمّ خرج بي إلى حجرة فصيرت في بيت منها وأغلق عليّ الباب، واقعد عليه رجل وذلك في جوف اللّيل وليس في البيت سراج فاحتجت إلى الضّوء فمددت يدي أطلب شيئا فإذا بإناء فيه ماء وطشت فتهيأت للصّلاة وقمت أصلي، فلمّا أصبحت جاءني الرّسول فأخذ بيدي فأدخلني الدّار وإذا هو جالس وابن أبي دؤاد حاضر وقد جمع أصحابه والدّار غاصة بأهلها فلمّا دنوت منه سلمت: فقال أدنه أدنه فلم يزل يدنيني حتّى قربت منه ثمّ قال لي اجلس فجلست وقد أثقلتني الأقياد فلمّا مكثت هنيهة قلت: تأذن في الكلام.
قال: تكلم، قلت: إلى ما دعا إليه رسوله
قال: إلى شهادة أن لا اله إلّا الله
قال: ثمّ قلت إن جدك ابن عبّاس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على النّبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان باللّه تعالى فقال: أتدرون ما الإيمان، قالوا: الله ورسوله أعلم
قال: شهادة أن لا اله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله واقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم
حدثنا أبو الفضل قال: حدثني أبي قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال: حدثني أبو حمزة قال: سمعت بن عبّاس رضي الله عنه قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان فذكر مثل ذلك
قال أبو الفضل قال أبي: فقال لي عند ذلك لولا أنّي وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك، ثمّ التفت إلى عبد الرّحمن بن إسحاق فقال له: يا عبد الرّحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة.
قال أبي: فقلت في نفسي الله أكبر إن في هذا لفرجا للمسلمين، قال: ثمّ قال ناظروه وكلموه، ثمّ قال: يا عبد الرّحمن كلمه، فقال لي عبد الرّحمن: ما تقول في القرآن؟
قلت: ما تقول في علم الله. قال: فسكت.
قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا فأرد على هذا ثمّ أقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به ذلك
فيقول لي بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلّا كما في كتاب الله أو سنة رسوله
قال: فقلت له تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت ما يحبس عليه ويقيد عليه
قال فقال ابن أبي دؤاد: فهو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع يا أمير المؤمنين وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم
قال فيقول لهم: ما تقولون
فيقولون: يا أمير المؤمنون هو ضال مضل مبتدع
قال: فلا يزالون يكلموني
وقال: وجعل صوتي يعلو على أصواتهم، فقال لي إنسان منهم: قال الله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} فيكون محدثا إلّا مخلوقا.
قلت له: قال الله تعالى {ص والقرآن ذي الذّكر} فالذكر هو القرآن ويلك أو ليس فيها لا ألف ولا لام
قال فجعل بن سمّاعة لا يفهم ما أقول.
قال فجعل يقول لهم ما يقول، قال فقالوا إنه يقول كذا وكذا، قال فقال لي إنسان منهم: حديث خباب: (يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فانك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه)
قال: فقلت نعم هكذا هو
قال: فجعل بن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظا عليه
قال أبي: فقال بعضهم: أليس قال خالق كل شيء
قال: قلت قد قال تدمر كل شيء فدمرت ألا ما أراد الله.
وقال: فقال لي بعضهم فيما يقول وذكر حديث عمران بن حصين: أن الله تبارك وتعالى كتب الذّكر، فقال: إن الله خلق الذّكر
قال: فقلت هذا خطأ حدثنا غير واحد كتب الذّكر
قال أبي: فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد يتكلّم فلمّا قارب الزّوال قال لهم قوموا ثمّ حبس عبد الرّحمن بن إسحاق فخلا بي وبعبد الرّحمن فجعل يقول لي أما كنت تعرف صالح الرّشيديّ كان مؤدبي وكان في هذا الموضع جالس وأشار إلى ناحية من الدّار قال فتكلم وذكر القرآن فخالفني فأمرت به فسحب ووطئ، قال أبي ثمّ جعل يقول لي ما أعرفك ألم تكن تأتينا _
فقال له عبد الرّحمن: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك وهو ملازم لمنزله
قال: فجعل يقول والله إنه لفقيه وإنه لعالم وممّا يسرني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الملل ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي ولا وطأن عقبة ولا ركبن إليه بجندي
قال: ثمّ التفت إليّ فيقول ويحك يا أحمد ما ما تقول؟
قال: فأقول يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة ورسوله، فلمّا طال بنا المجلس ضجر فقام فرددت إلى الموضع الّذي كنت فيه ثمّ وجه إليّ برجلين سماهما وهما صاحب الشّافعي وغسان منأصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني فيقيمان معي حتّى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام فجعلا يأكلان وجعلت أتعلل حتّى رفع المائدة وأقاما إلى غد وفي خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _
فأقول له: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتّى أقول به، فقال لي بن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في الشّيعة فمحوته ولقد ساءني أخذهم إياك وإنه والله ليس هو السّيف إنه ضرب بعد ضرب ثمّ يقول لي ما تقول فأرد عليه نحوا ثمّ يأتي رسوله فيقول أين أحمد بن عمار _ أجب للرجل الّذي أنزلت في حجرته فيذهب ثمّ يعود فيقول يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _ فأرد عليه نحوا ممّا رددت على ابن أبي دؤاد فلا يزال رسله تأتي قال أحمد بن عمار وهو يختلف فيما بيني وبينه ويقول يقول أمير المؤمنين أجبني حتّى اجيء فأطلق عنك بيدي
قال فلمّا كان في اليوم الثّاني أدخلت عليه.
فقال: ناظروه كلموه
قال: فجعلوا يتكلّمون هذا من ها هنا وهذا من ها هنا فأرد على هذا وهذا فإذا جاؤوا بشيء من الكلام ممّا ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فيه خبر ولا أثر قلت ما أدري ما هذا _
فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجّهت عليه الحجّة علينا وثب وإذا كلمناه بشيء يقول لا أدري ما هذا _
قال: فيقول ناظروه
قال: ثمّ يقول يا أحمد إنّي عليك شفيق
فقال رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله
قال: فقلت له ما تقول في قول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين}
فقال: خص الله بها المؤمنين
قال: فقلت له ما تقول إن كان قاتل أو كان قاتلا عبدا يهوديّ أو نصرانيّ
قال: فسكت
قال أبي: وإنما احتججت عليه بهذا لأنهم كانوا يحتجون عليّ بظاهر القرآن وبقوله أراك تنتحل الحديث
وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي داود فيقول يا أمير أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إليّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعيد ما شاء الله من ذلك ثمّ أمرهم بعد ذلك بالقيام وخلى بي وبعبد الرّحمن فيدور بيننا كلام كثير وفي خلال ذلك يقول لي تدعو حمد بن أبي دؤاد فأقول ذلك إليك فيوجه إليه فيجيء فيتكلم فلمّا طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الّذي كنت فيه وجاءني الرّجلان اللّذان كانا عندي بالأمس فجعلا يتكلمان فدار بيننا كلام كثير فلمّا كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو ممّا أتى به في أول ليلة فافطر وتعللت وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه ويأتيني برسالته على نحو ممّا كان أول ليلة وجاءني ابن أبي دؤاد فقال إنه قد حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشّمس.
فقلت له: فما أصنع
حتّى إذا كدت أن اصبح قلت لخليق أن يحدث من أمري في هذا اليوم شيء وقد كنت أخرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد احملها بها إذا توجّهت إليه فقلت لبعض من كان مع الموكلين ارتدّ لي خيطا فجاءني بخيط فشددت الأقياد وأعدت التكة في السّراويل ولبسته كراهية أن يحدث شيئا من أمري فاتعرى فلمّا كان في اليوم الثّالث أدخلت عليه والقوم حضور فجعلت أدخل من دار إلى دار وقوم معهم السيوف وقوم معهم السّياط وغير ذلك من الزي والسّلاح وقد حشرت الدّار الجند ولم يكن في اليومين الماضيين كثير أحد من هؤلاء
حتّى إذا صرت إليه قال: ناظروه كلموه، فعادوا بمثل مناظرتهم ودار بيننا كلام كثير حتّى إذا كان في الوقت الّذي يخلو فيه فجاءني ثمّ اجتمعوا فشاورهم ومن ثمّ نحاهم ودعاني فخلا بي وبعبد الرّحمن فقال لي: ويحل يا أحمد أنا عليك والله شفيق وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني فأجبني،
فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلمّا ضجر وطال المجلس قال لي: عليك لعنة الله لقد كنت طمعت فيك خذوه فاسحبوه
قال: فأخذت وسحبت ثمّ خلعت ثمّ قال العقابين والسياط فجيء بالعقابين والسياط
قال أبي: وقد كان صار إلى شعرة أو شعرتان من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم فصررتهما كم قميصي فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي فوجه إليّ ما هذا مصر ورنى كمك
فقلت: شعر من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم وسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين العقابين
فقال لهم: يعني المعتصم - لا تحرقوه انزعوه عنه
قال: إنّي ظننت أنه درئ عن القميص الحرق بسبب الشّعر الّذي كان فيه ثمّ صيرت بين العقابين وشددت يدي وجيء بكرسي فجلس عليه وابن أبي دؤاد قام على رأسه والنّاس أجمعون قيام ممّن حضر، فقال له إنسان ممّن شدني: خذ بأيّ الخشبتين بيدك وشد عليهما فلم أفهم ما قال فتخالفت يداي لما شدت ولم أمسك الخشبتين.
قال أبو الفضل ولم يزل أبي رحمة الله عليه يتوجع منهما إلى أن توفّي.
ثمّ قال للجلادين: تقدموا فنظر إلى السّياط، فقال ائتوا بغيرها ثمّ قال لهم تقدموا
فقال لأحدهم: أدنه اوجع قطع الله يدك
فتقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى ثمّ قال لآخر أدنه أوجع شدّ قطع الله يدك ثمّ تقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى
فلم يزل يدعو واحدًا بعد واحد يضربني سوطين ويتنحى ثمّ قام حتّى جاءني وهم محدقون به
فقال: ويحك يا أحمد تقتل نفسك
ويحك أجبني حتّى أطلق عنك بيدي
فجعل بعضهم يقول لي ويلك أمامك على رأسك قائم
قال لي عجيف فنخسني بقائم سيفه ويقول: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وجعل إسحاق ابن إبراهيم يقول ويحك الخليفة على رأسك قائم
قال ثمّ يقول بعضهم يا أمير المؤمنين دمه في عنقي قال ثمّ رجع فجلس على الكرسيّ ثمّ قال للجلاد أدنه شدّ قطع الله يدك.
ثمّ لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني بسوطين ويتنحى وهو يقول شدّ قطع الله يدك
ثمّ قام إلى الثّانية فجعل يقول: يا أحمد أجبني ،فجعل عبد الرّحمن بن إسحاق يقول من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت هذا يحيى بن معين وهذا أبو خيثمة وابن أبي إسرائيل وجعل يعد على من أجاب
قال وجعل وهو يقول ويحك أجبني
قال: فجعلت أقول نحو ما كنت أقول لهم
قال فرجع فجلس ثمّ جعل يقول للجلاد شدّ قطع الله يدك
قال أبي فذهب عقلي فما عقلت إلّا وأنا في حجرة مطلق عني الأقياد وقال لي إنسان ممّن حضر أنا اكببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك
قال أبي: فقلت ما شعرت بذاك
قال: فجاؤني بسويق فقالوا اشرب فقلت لا أفطر فجيء به إلى دار إسحاق بن إبراهيم
قال أبي: فنودي بصلاة الظّهر فصلينا الظّهر
وقال ابن سمّاعة: صليت والدّم يسيل من ضربك
فقلت: به صلى عمر وجرحه يثغب دمًا فسكت.
ثمّ خلى عنة فصار إلى المنزل ووجه إليه الرجل من السجن ممّن يبصر الضّرب والجراحات يعالج منه فنظر إليه فقال: قال لنا والله لقد رأيت منه ضرب السيوط ما رأيت ضربا أشد من هذا لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ثمّ أدخل ميلًا في بعض تلك الجراحات
فقال: لم ينفل فجعل يأتيه فيعالجه وقد كان أصاب وجهه غير ضربة ثمّ مكث يعالجه ما شاء الله، ثمّ قال له: إن هذا شيء أريد أن أقطعه فجاء بحديدة فجعل يعلق اللّحم بها ويقطعه بسكين معه وهو صابر يحمد الله لذلك فبرأ منه ولم يزل يتوجع من مواضع منه وكان أثر الضّرب بين في ظهره إلى أن توفّي رحمة الله علية.
سمعت أبي يقول والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ولوددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا عليّ ولا لي
قال أبو الفضل أخبرني أحد الرجلين اللّذين كانا معه وقد كان هذا الرجل صاحب حديث قد سمع ونظر ثمّ جاءني بعد فقال: يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله والله ما رأيت أحدا - يعني - يشبهه
لقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا الطّعام: يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع تقية ولقد عطش فقال لصاحب الشّراب ناولني فناوله قدحا فيه ماء ثلج فأخذه فنظر إليه هنيهة ثمّ رده عليه
قال فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول.
قال أبو الفضل قد كنت التمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا أو رغيفين في هذه الأيّام فلم أقدر على ذلك
وأخبرني رجل حضره قال: فقدته في هذه الأيّام الثّلاثة وهم يناظرونه ويكلمونه فما لحن ولا ظننت أن يكون أحد في مثل شجاعته وشدّة قلبه. قال أبو الفضل دخلت على أبي - رحمة الله عليه - يومًا وقلت له بلغني أن رجلا جاء إلى فضل الأنماطي
فقال اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك فقال فضل لا جعلت أحدا في حل، فتبسّم أبي وسكت فلمّا كان بعد أيّام مررت بهذه الآية: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم قال: حدثنا المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي الله تبارك وتعالى يوم القيامة نودوا ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلّا من عفا في الدّنيا
قال أبي: فجعلت الميّت في حل من ضربه إيّاي ثمّ جعل يقول وما على رجل إلّا يعذب الله بسببه أحدا.). [سيرة الإمام أحمد: 52- 65]

= مناظرة شيخٍ بحضرة الواثق
قال الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (أخبرنا المسلّم بن علاّن، وغيره كتابةً: أنّ أبا اليمن الكنديّ أخبرهم، أخبرنا عبد الرّحمن بن محمّدٍ، أخبرنا أبو بكرٍ الخطيب، حدّثنا محمّد بن الفرج البزّاز، حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، حدّثنا جعفر بن شعيبٍ الشّاشيّ، حدّثني محمّد بن يوسف الشّاشيّ، حدّثني إبراهيم بن أميّة، سمعت طاهر بن خلفٍ، سمعت المهتدي بالله محمّد ابن الواثق يقول:
كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً أحضرنا، فأتي بشيخٍ مخضوبٍ مقيّدٍ، فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه -يعني: ابن أبي دواد-.
قال: فأدخل الشّيخ، فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين.
فقال: لا سلّم الله عليك.
فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدّبك مؤدّبك، قال الله -تعالى-: {وإذا حيّيتم بتحيّةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها} [النّساء: 86].
فقال ابن أبي دواد: الرّجل متكلّمٌ.
قال له: كلّمه.
فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟
قال: لم ينصفني، ولي السّؤال.
قال: سل.
قال: ما تقول في القرآن؟
قال: مخلوقٌ.
قال الشّيخ: هذا شيءٌ علمه النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- وأبو بكرٍ، وعمر، والخلفاء الرّاشدون، أم شيءٌ لم يعلموه؟
قال: شيءٌ لم يعلموه.
فقال: سبحان الله! شيءٌ لم يعلمه النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- علمته أنت؟
فخجل، فقال: أقلني.
قال: المسألة بحالها.
قال: نعم، علموه.
فقال: علموه، ولم يدعوا النّاس إليه؟
قال: نعم.
قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟
قال: فقام أبي، فدخل مجلساً، واستلقى وهو يقول:
شيءٌ لم يعلمه النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- ولا أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليٌّ ولا الخلفاء الرّاشدون، علمته أنت! سبحان الله! شيءٌ علموه، ولم يدعوا النّاس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟!
ثمّ أمر برفع قيوده، وأن يعطى أربع مائة دينارٍ، ويؤذن له في الرّجوع، وسقط من عينه ابن أبي دواد، ولم يمتحن بعدها أحداً.
هذه قصّةٌ مليحةٌ، وإن كان في طريقها من يجهل، ولها شاهدٌ.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 312-313]



---------------------------------------------
المطلب الثاني: ذكر رجوع الوثق عن مذهبه.
قال الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (وبإسنادنا إلى الخطيب: أخبرنا ابن رزقويه، أخبرنا أحمد بن سندي الحدّاد، أخبرنا أحمد بن الممتنع، أخبرنا صالح بن عليٍّ الهاشميّ، قال:
حضرت المهتدي بالله، وجلس لينظر في أمور المظلومين، فنظرت في القصص تقرأ عليه من أوّلها إلى آخرها، فيأمر بالتّوقيع فيها، وتحرّر، وتدفع إلى صاحبها، فيسرّني ذلك، فجعلت أنظر إليه ففطن، ونظر إليّ، فغضضت عنه، حتّى كان ذلك منّي ومنه مراراً، فقال: يا صالح.
قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين، ووثبت.
فقال: في نفسك شيءٌ تريد أن تقوله؟!
قلت: نعم.
فقال: عد إلى موضعك.
فلمّا قام، خلا بي، وقال: يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا؟
قلت: يا أمير المؤمنين، ما تأمر؟
قال: أقول: إنّه دار في نفسك أنّك استحسنت ما رأيت منّا.
فقلت: أيّ خليفةٍ خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوقٌ.
فورد عليّ أمرٌ عظيمٌ، ثمّ قلت: يا نفس، هل تموتين قبل أجلك؟
فقلت: ما دار في نفسي إلاّ ما قلت.
فأطرق مليّاً، ثمّ قال: ويحك! اسمع، فو الله لتسمعنّ الحقّ.
فسرّي عنّي، فقلت: يا سيّدي، ومن أولى بقول الحقّ منك، وأنت خليفة ربّ العالمين.
قال: ما زلت أقول: إنّ القرآن مخلوقٌ صدراً من أيّام الواثق - قلت: كان صغيراً أيّام الواثق، والحكاية فمنكرةٌ -.
ثمّ قال: حتّى أقدم أحمد بن أبي دواد علينا شيخاً من أذنة، فأدخل على الواثق مقيّداً، فرأيته استحيا منه، ورقّ له، وقرّبه، فسلّم، ودعا، فقال: يا شيخ، ناظر ابن أبي دواد.
فقال: يا أمير المؤمنين، نصّبوا ابن أبي دواد، ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق، وقال: أيضعف عن مناظرتك أنت؟
فقال: يا أمير المؤمنين، هوّن عليك، فائذن لي في مناظرته، فإن رأيت أن تحفظ عليّ وعليه.
قال: أفعل.
فقال الشّيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالةٌ واجبةٌ داخلةٌ في عقد الدّين، فلا يكون الدّين كاملاً حتّى تقال فيه؟
قال: نعم.
قال: فأخبرني عن رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- حين بعث، هل ستر شيئاً ممّا أمره الله به من أمر دينهم؟
قال: لا.
قال: فدعا الأمّة إلى مقالتك هذه؟
فسكت، فالتفت الشّيخ إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين واحدةٌ. قال: نعم.
فقال الشّيخ: فأخبرني عن الله حين قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3]، هل كان الصّادق في إكمال دينه، أو أنت الصّادق في نقصانه حتّى يقال بمقالتك هذه؟
فسكت، فقال: أجب، فلم يجب.
فقال: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
ثمّ قال: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك، أعلمها رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- أم لا؟
قال: علمها.
قال: فدعا النّاس إليها؟
فسكت.
فقال: يا أمير المؤمنين، ثلاثٌ.
ثمّ قال: يا أحمد، فاتّسع لرسول الله أن يعلمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالب أمّته بها؟
قال: نعم.
واتّسع ذلك لأبي بكرٍ وعمر؟
قال: نعم.
فأعرض الشّيخ، وقال: يا أمير المؤمنين، قد قدّمت أنّه يضعف عن المناظرة، إن لم يتّسع لنا الإمساك عنها، فلا وسّع الله على من لم يتّسع له ما اتّسع لهم.
فقال الواثق: نعم، اقطعوا قيد الشّيخ.
فلمّا قطع، ضرب بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحدّاد عليه.
فقال الواثق: لم أخذته؟
قال: لأنّي نويت أن أوصي أن يجعل في كفني حتّى أخاصم به هذا الظالم غداً.
وبكى، فبكى الواثق وبكينا، ثمّ سأله الواثق أن يجعله في حلٍّ، فقال: لقد جعلتك في حلٍّ وسعةٍ من أوّل يومٍ إكراماً لرسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم-؛ لكونك من أهله.
فقال له: أقم قبلنا فننتفع بك، وتنتفع بنا.
قال: إنّ ردّك إيّاي إلى موضعي أنفع لك، أصير إلى أهلي وولدي، فأكفّ دعاءهم عليك، فقد خلّفتهم على ذلك.
قال: فتقبل منّا صلةً؟
قال: لا تحلّ لي، أنا عنها غنيٌّ.
قال المهتدي: فرجعت عن هذه المقالة، وأظنّ أنّ أبي رجع عنها منذ ذلك الوقت.
قال أحمد بن عبد الرّحمن الشّيرازيّ الحافظ: هذا الأذنيّ هو أبو عبد الرّحمن عبد الله بن محمّد بن إسحاق الأذرميّ .
قال إبراهيم نفطويه: حدّثني حامد بن العبّاس، عن رجلٍ، عن المهتدي:
أنّ الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 313- 316]

******************************************************************************************************************************************************************
الخاتمة:
التوصيات :
-أهمية الاعتناء بما يتعلق بالعقيدة الصحيحة في القرآن الكريم، وأسأل الله أن أكون وفقت لجمع شيء منها يستفاد منه.
-أنه يجب العناية بالشبهات التي وردت عن أهل الباطل في هذه المسالة وتلخيصها مع تلخيص الرد عليها.
-أن المتكلم في هذا الباب يلزمه الأدلة من القرآن والسنة وأقوال السلف الصالحين، ولذلك أكثرت في هذا البحث من النقول عنهم دون كثرة الكلام، لأن هذا الباب إنما فتح بسبب دخول علم الكلام، ولا يرده إلى الإخبار والتي تتمثل في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.

******************************************************************************************************************************************************************
المراجع:

=أولاً: من دواوين السنة
-1- صحيح البخاري - لمؤلف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي - المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر - الناشر: دار طوق النجاة
-2-صحيح مسلم- مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ) - المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي - الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
-3-سنن أبي داود (ت: 275 ه) - المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد - الناشر: المكتبة العصرية، صيدا – بيروت
-4-سنن الترمذي (ت: 279 ه) -تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2) ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5) -الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر
-5-سنن النسائي (ت: 303 ه) -حققه وخرج أحاديثه: حسن عبد المنعم شلبي، طبعة الرسالة.
-6-صحيح ابن حبان (ت:354 ه) حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت
-7-المستدرك على الصحيحين للحاكم (ت: 405ه) – تحقيق مصطفى عبد القادر عطا – طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
-8-مسند الإمام أحمد (ت241 ه) تحقيق شعيب الأرنؤط وعادل مرشد وآخرون طبعة دار الرسالة.
-9-سنن سعيد بن منصور (ت: 227ه) - دراسة وتحقيق: د سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد - الناشر: دار الصميعي للنشر والتوزيع

=ثانياً: مراجع التفسير
من المرتبة الثانية: كتب التفسير في جوامع الأحاديث.
-10-زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (ت: 597 ه)- المحقق: عبد الرزاق المهدي - الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت
-11-الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي(ت:911هـ) - الناشر: دار الفكر - بيروت
[ولم أجد فيهما شيء يتعلق بموضوع البحث]
- من المرتبة الثالثة: التفاسير المسندة المطبوعة :
12-جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري (ت: 310هـ)، تحقيق أحمد شاكر، طبعة الرسالة.
-13- تفسير القرآن العظيم، عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي (ت: 327هـ) المحقق: أسعد محمد الطيب-الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية
-14- معالم التنزيل لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516هـ) المحقق : عبد الرزاق المهدي - الناشر : دار إحياء التراث العربي -بيروت
-15-تفسير أبي إسحاق الثعلبي(ت427) . تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور- الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت
- ومن المرتبة الرابعة : التفاسير المسندة التي طُبع شيء منها .
-16-تفسير سفيان الثوري (161 ه) الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان
-17-تفسير ابن المنذر النيسابوري(ت:318هـ) ، تحقيق سعد بن محمد السعد، طبعة دار المآثر بالمدينة النبوية.
[ولم أجد فيهما شيء يتعلق بموضوع البحث]
- من المرتبة السادسة: التفاسير التي تنقل أقوال السلف في التفسير :
-18-الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن أبي طالب (ت: 427 ه)
المحقق: مجموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا والبحث العلمي - جامعة الشارقة - ونشرتها الجامعة
-19-النكت والعيون للماوري(ت:450هـ). المحقق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم- الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان
-20-المحرر الوجيز لابن عطية(ت:542هـ). المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد - الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
-21-زاد المسير لابن الجوزي (ت:597هـ).
-22-تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير الدمشقي(ت:774هـ) المحقق: سامي بن محمد سلامة - الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
-23-أحكام القرآن للقرطبي (ت671) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش - الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة
[ولم أجد فيهما شيء يتعلق بموضوع البحث سوى الهداية إلى بلوغ الغاية]

=ثالثاً: كتب ومراجع في العقيدة
-24-خلق أفعال العباد: لمحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256هـ)المحقق:د. عبد الرحمن عميرة الناشر: دار المعارف السعودية - الرياض
-25- شرح السنة لاسماعيل بن يحي المزني (ت: 264هـ). المحقق: جمال عزون - الناشر: مكتبة الغرباء الأثرية - السعودية
-26- سيرة الإمام أحمد لصالح بن أحمد بن حنبل الشيباني (ت: 265 هـ )- المحقق: الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد - الناشر: دار الدعوة - الاسكندرية
-27- كتاب السنة عَبْدُ اللهِ بْنُ أحمدِ بنُ محمدِ بنِ حَنْبَلٍ الشَّيبانيُّ (ت: 290هـ)، المحقق: د. محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، الناشر: دار ابن القيم – الدمام
-28-الإبانة عن أصول الديانة، المؤلف: أبو الحسن أبي موسى الأشعري (المتوفى: 324هـ) - المحقق: د. فوقية حسين محمود، الناشر: دار الأنصار - القاهرة
-29- الشريعة لأبي بكر محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ (360هـ) - المحقق: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي- الناشر: دار الوطن - الرياض / السعودية
-30- اعتقاد أئمة الحديث - المؤلف: أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني (المتوفى: 371هـ)- المحقق: محمد بن عبد الرحمن الخميس، الناشر: دار العاصمة - الرياض
-31-الإبانة الكبرى لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ)- المحقق: رضا معطي، وعثمان الأثيوبي، ويوسف الوابل، والوليد بن سيف النصر، وحمد التويجري - الناشر: دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض
-32- كتاب التوحيد لأبي عبد الله محمد بن إسحاق ابن مَنْدَهْ العَبْدي (ت: 395هـ)- حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه: الدكتور علي بن محمد ناصر الفقيهي بالمدينة المنورة - الناشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة
-33-أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: لأبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي (ت: 418هـ): تحقيق: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي- الناشر: دار طيبة - السعودية
-34-كتاب الاعتقاد لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458هـ) - المحقق: أحمد عصام الكاتب- الناشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت
-35-العقيدة الواسطية لأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728 هـ) - المحقق: أبو محمد أشرف بن عبد المقصود- الناشر: أضواء السلف - الرياض
-36- مجموع الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام : تقي الدين أبي العباس أحمد الحراني/ابن تيمية (ت: 728 هـ) - الناشر: دار الكتب العلمية,
-37-سير أعلام النبلاء لمحمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ)، الناشر: دار الحديث- القاهرة
-38- شرح العقيدة الطحاوية ، صدر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد ابن أبي العز الحنفي (المتوفى: 792هـ) تحقيق: أحمد شاكر
-39- العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير (ت: 840ه) بتحقيق شعيب الارنؤوط، طبعة مؤسسة الرسالة بيروت.
-40-التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408)
-41-الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية لزيد بن عبد العزيز الفياض (ت: 1416هـ)
-42- الإتقان في علوم القرآن ، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم- الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
-43- عمدة القاري شرح صحيح البخاري - لمحمود بن أحمد بن موسى بدر الدين العينى (ت: 1451 هـ) = طبعة دار إحياء التراث العربي
-44- الإيمان بالقرآن ، عبد العزيز الداخل .
-45- موقع جمهرة العلوم.
= رابعاً: كتب التاريخ
-46-تاريخ الطبري (المتوفى: 310هـ) - الناشر: دار التراث - بيروت
-47-البداية والنهاية لابن كثير (المتوفى: 774هـ) - المحقق: علي شيري - الناشر: دار إحياء التراث العربي
-48-كتاب المحن محمد بن أحمد بن تميم التميمي المغربي الإفريقي، أبو العرب (المتوفى: 333هـ) - المحقق: د عمر سليمان العقيلي - الناشر: دار العلوم - الرياض - السعودية


وفي الختام نسأل الله تعالى أن يهدينا للحق، وأن يحينا على الإسلام والسنة وأن يتوفانا عليهما إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
موضوع, نشر

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:17 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir