263 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
مُفْرَدَاتُ الْحَدِيثِ:
جَنْبٍ: الجَنْبُ مَصْدَرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمِنْهَا: شِقُّ الإِنْسَانِ، الَّذِي هُوَ مَا تَحْتَ إِبْطِهِ إِلَى كَشْحِهِ، وَجَمْعُهُ: جُنُوبٌ وَأَجْنَابٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1 - يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى مَرَاتِبِ صَلاةِ الْمَرِيضِ المكتوبةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ القيامُ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ؛ لأَنَّهُ رُكْنٌ منْ أركانِ الصَّلاةِ المكتوبةِ، وَلَوْ مُعْتَمِداً، أَوْ مُسْتَنِداً إِلَى شَيْءٍ منْ عَصاً، أَوْ جِدَارٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ، أَوْ شَقَّ عَلَيْهِ، فَتَلْزَمُهُ قَاعِداً، وَلَوْ مُسْتَنِداً، أَوْ مُتَّكِئاً، وَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ مَعَ القدرةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقُعُودَ، أَوْ شَقَّ عَلَيْهِ فَيُصَلِّي عَلَى جَنْبِهِ، وَالجَنْبُ الأَيْمَنُ أَفْضَلُ، فَإِنْ صَلَّى مُسْتَلْقِياً إِلَى الْقبْلَةِ صَحَّ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ إِيمَاءً بِرَأْسِهِ، وَيَكُونُ إِيمَاؤُهُ للسُّجُودِ أَخْفَضَ منْ إِيمَائِهِ للرُّكُوعِ؛ للتَّمْيِيزِ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، ولأنَّ السُّجُودَ أَخْفَضُ من الركوعِ.
2 - لا يَنْتَقِلُ منْ حَالٍ إِلَى حَالٍ أَقَلَّ مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ العَجْزِ، أَوْ عِنْدَ المَشَقَّةِ عَن الحالةِ الأُولَى، أَوْ فِي القيامِ بِهَا؛ لأَنَّ الانتقالَ منْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الاستطاعةِ.
3 - حَدُّ المَشَقَّةِ الَّتِي تُبِيحُ الصَّلاةَ المفروضةَ جَالِساً، هِيَ المَشَقَّةُ الَّتِي يَذْهَبُ معها الخُشُوعُ، ذَلِكَ أَنَّ الخشوعَ هُوَ أَكْبَرُ مَقَاصِدِ الصَّلاةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ إمامُ الحَرَمَيْنِ الجُويْنِيُّ.
4 - الأَعْذَارُ الَّتِي تُبِيحُ الصَّلاةَ المكتوبةَ قَاعِداً كَثِيرَةٌ، فَلَيْسَ خاصًّا بالمرضِ فَقَطْ، فَقِصَرُ السَّقْفِ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ الخُرُوجَ مِنْهُ، وَالصَّلاةُ فِي السَّفِينَةِ، أَو الْبَاخِرَةِ، أَو السَّيَّارَةِ، أَو الطَّيَّارَةِ عِنْدَ الحاجةِ إِلَى ذَلِكَ، وعَدَمُ القدرةِ عَلَى القيامِ، كُلُّهَا أَعْذَارٌ تُبِيحُ ذَلِكَ.
5 - مَذْهَبُ جمهورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّلاةَ لا تَسْقُطُ مَا دَامَ الْعَقْلُ ثَابِتاً، فالمريضُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الإيماءِ بِرَأْسِهِ أَوْمَأَ بِعَيْنَيْهِ، فَيَخْفِضُ قَلِيلاً للركوعِ، وَيَخْفِضُ أَكْثَرَ مِنْهُ للسجودِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِلِسَانِهِ قَرَأَ، وَإِلاَّ قَرَأَ بِقَلْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الإِيمَاءَ بِعَيْنِهِ صَلَّى بِقَلْبِهِ.
وَأَمَّا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَقَالَ: مَتَى عَجَزَ الْمَرِيضُ عَن الإيماءِ بِرَأْسِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلاةُ، وَلا يَلْزَمُهُ الإِيمَاءُ بِطَرْفِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ السِّعْدِيُّ، أَمَّا صَلاةُ الْمَرِيضِ بِطَرْفِهِ، أَوْ بقلبِهِ فَلَمْ تَثْبُتْ، وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى جَنْبَيْهِ مَعَ الإيماءِ هِيَ آخِرُ المَرَاتِبِ الوَاجِبَةِ.
قَالَ مُحَرِّرُهُ: إِنَّ مَذْهَبَ الجمهورِ بِعَدَمِ سُقُوطِهَا مَعَ الوَعْيِ وَثَبَاتِ الْعَقْلِ أَحْوَطُ، وَالأَصْلُ فِي الصَّلاةِ الوجوبُ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ مُطَالَبٌ بِهَا بِأَصْلِ الشَّرْعِ، فَسُقُوطُهَا عَنْهُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى الدليلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
6 - مُقْتَضَى إطلاقِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِداً، عَلَى أَيَّةِ هَيْئَةٍ شَاءَ، وَهُوَ إجماعٌ، والخلافُ فِي الأفضلِ؛ فَعِنْدَ الجمهورِ أَنَّهُ يُصَلِّي مُتَرَبِّعاً فِي مَوْضِعِ القيامِ، وَبَعْدَ الرفعِ من الركوعِ، وَيُصَلِّي مُفْتَرِشاً فِي مَوْضِعِ الرفعِ من السُّجُودِ، لِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ (1661) والْحَاكِمُ (1/ 389) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مُتَرَبِّعاً).
7 - فِيهِ الدلالةُ عَلَى أَنَّ أوامرَ اللَّهِ تَعَالَى يُؤْتَى بِهَا حَسَبَ الاستطاعةِ والقدرةِ، فَلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نفساً إِلاَّ وُسْعَهَا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (7288).
8 - فِيهِ سَمَاحَةُ وَيُسْرُ هَذِهِ التشريعةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وَأَنَّهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. [الْحَجّ: 78]، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}. [النِّسَاء: 28]، فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ وَاسِعَةٌ.
9 - مَا تَقَدَّمَ هُوَ حُكْمُ الصَّلاةِ المكتوبةِ، أَمَّا النافلةُ فَتَصِحُّ قَاعِداً، وَلَوْ مِنْ دُونِ عُذْرٍ، لَكِنْ بِعُذْرٍ أَجْرُهَا تَامٌّ، وَبِدُونِ عُذْرٍ عَلَى النصفِ منْ أجرِ صَلاةِ الْقَائِمِ، لِمَا جَاءَ فِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلاةِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَقَالَ: ((مَنْ صَلَّى قَائِماً فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِداً فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِماً فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ)).
قَالَ فِي (فَتْحِ الْبَارِي): حَكَى ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى المُتَنَفِّلِ، وَكَذَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَن الثَّوْرِيِّ.
264 - وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَرِيضٍ صَلَّى عَلَى وِسَادَةٍ، فَرَمَى بِهَا، وَقَالَ: ((صَلِّ عَلَى الأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَإِلاَّ فَأَوْمِ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ)). رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بسندٍ قَوِيٍّ، وَلَكِنْ صَحَّحَ أَبُو حَاتِمٍ وَقْفَهُ.
دَرَجَةُ الْحَدِيثِ:
الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ.
أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، قَالَ البَزَّارُ: لا يُعْرَفُ أَحَدٌ رَوَاهُ عَن الثَّوْرِيِّ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ الحَنَفِيِّ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ فَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَرَفْعُهُ خَطَأٌ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي (الكبيرِ) مِنْ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَن ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ، وَفِي إسنادِهِ ضَعْفٌ.
وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْوَاحِدِ فِي (المختارةِ) وَقَالَ فِي (مجمعِ الزوائدِ): رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
قُلْتُ: والْحَدِيثُ لَهُ حُكْمُ الرفعِ؛ لأَنَّهُ تَشْرِيعٌ لا مَجَالَ للرَّأْيِ فِيهِ.
مُفْرَدَاتُ الْحَدِيثِ:
وِسَادَةٍ: بِكَسْرِ الْوَاوِ، ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ سِينَهَا مُثَلَّثَةٌ، وَهِيَ المِخَدَّةُ، وَكُلُّ مَا يُوضَعُ تَحْتَ الرأسِ، والجَمْعُ: وُسُدٌ.
فَرَمَى بِهَا: قَذَفَ بِهَا مُنْكِراً عَلَى صَاحِبِهَا.
فَأَوْمِ: فِعْلٌ أَمْرٌ، أَصْلُهُ (ومأ)، وَمَاضِيهِ (أَوْمَأَ)، وَالْمَصْدَرُ (إِيمَاءً)، وَالْمُرَادُ بالإيماءِ هُنَا: الخَفْضُ فِي حَالَي الركوعِ والسجودِ.
مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1 - يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ للمريضِ ـ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ القيامَ ـ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِداً، قَالَ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
2 - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُومِئُ إِيمَاءً، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ منْ رُكُوعِهِ؛ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ فِي أَفْعَالِهِ، ولأنَّ السُّجُودَ شَرْعاً أَخْفَضُ من الركوعِ.
3 - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُرْفَعَ لَهُ شَيْءٌ يَسْجُدُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ الَّذِي لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا يُصَلِّي الإِنْسَانُ حَسَبَ اسْتِطَاعَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الوصولَ إِلَى الأَرْضِ أَوْمَأَ فِي حالةِ الركوعِ، وَفِي حالةِ السُّجُودِ، وَقَد اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ.
4 - فِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِرْشَادِهِ إِلَى مَا يُصْلِحُ دِينَهُ.
5 - وَفِيهِ كمالُ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِيَادَتُهُ أَصْحَابَهُ، وَتَفَقُّدُهُ أَحْوَالَهُم، فَيَكُونُ فِي هَذَا قُدْوَةً للزعماءِ وَالرُّؤَسَاءِ، فَهَذَا مِمَّا يُحَبِّبُ النَّاسَ فِيهِمْ، وَيَجْعَلُهُمْ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ، وَالتَّوَاضُعُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَزِيدُ الإِنْسَانَ رِفْعَةً وَعِزًّا.
6 - فِيهِ أَنَّ الدَّاعِيَةَ الْمُوَفَّقَ لا يَدَعُ النُّصْحَ والإرشادَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَحُلُّ فِيهِ، عَلَى أَيَّةِ حَالٍ يَكُونُ فِيهَا، لَكِنْ بِحِكْمَةٍ، وَحُسْنِ تَصَرُّفٍ.