(6) قولُهُ: (والدَّليلُ مِن السُّنَّةِ: حديثُ جِبريلَ المشهورُ) هذا دليلٌ علَى ما تَقَدَّمَ مِن الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، وهذا الحديثُ هوَ حديثٌ يَرويهِ عمرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وهوَ مشهورٌ علَى أَلْسِنَةِ بعضِ الْعُلَمَاءِ والوُعَّاظِ بحديثِ جَبرائيلَ عليهِ السلامُ؛ لأنَّهُ يَقومُ علَى أَسْئِلَةٍ وَجَّهَها جَبرائيلُ عليهِ السلامُ إلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عندَما جاءَهُ علَى صُورةِ رَجُلٍ، وهوَ حديثٌ عظيمٌ جَليلُ القَدْرِ، وَرَدَ برواياتٍ متَعَدِّدَةٍ وألفاظٍ مُختلِفةٍ، معَ أنَّ القِصَّةَ واحدةٌ.
- يقولُ ابنُ دقيقِ العيدِ رَحِمَهُ اللهُ في شرحِهِ علَى (الأربعينَ النوويَّةِ):
(هذا حديثٌ عظيمٌ قد اشْتَمَلَ علَى جميعِ وَظائفِ الأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ، وعلومُ الشريعةِ كلُّها راجعةٌ إليهِ، ومُتَشَعِّبَةٌ مِنه، لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ جَمْعِهِ علمَ السنَّةِ، فهوَ كالأُمِّ للسُّنَّةِ كما سُمِّيَتِ الفاتحةُ أمَّ القُرآنِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ جَمْعِها معانِيَ القرآنِ).
(7) قولُهُ: (وعنْ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: (بَيْنَما نحنُ جُلوسٌ عندَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) )
قولُهُ: (بينَما): (بينَ): ظرفُ زمانٍ مُتَضَمِّنٌ معنَى الشرْطِ، لهُ ثلاثُ استعمالاتٍ.
- فيُستعْمَلُ بدونِ أَلِفٍ فيُقالُ: (بينَ) بباءٍ وياءٍ ونونٍ، تقولُ: جَلَسْتُ بينَ زيدٍ وعمرٍو.
-ويُستعْمَلُ بالألِفِ بعدَ النونِ (بَيْنَا).
-والاستعمالُ الثالثُ بالأَلِفِ بعدَ النونِ بزيادةِ ما (بينَما)، و(ما) هذه زائدةٌ كافَّةٌ عن الْجَرِّ؛ لأنَّ (بينَ) تَجُرُّ ما بعدَها؛ لأنَّها تُضافُ إليهِ، فإذا دَخَلَتْ عليها (ما) كَفَّتْها عن العملِ، ولهذا وَقَعَ بعدَها الضميرُ (نحن) وهوَ لا يكونُ في مَحَلِّ جَرٍّ.
(8) قولُهُ: (إذْ طَلَعَ علينا رَجُلٌ شَديدُ بياضِ الثيابِ)
قالَ الْعُلَمَاءُ: (يُستفادُ مِنْ هذا استحبابُ تَحسينِ الهيئةِ والنظافةِ عندَ الدخولِ علَى الْعُلَمَاءِ والفُضلاءِ والملوكِ).
(9) قولُهُ: (شَديدُ سَوَادِ الشعْرِ) عندَ ابنِ حِبَّانَ: (شديدُ سَوادِ اللِّحْيَةِ).
(10) قولُهُ: (لا يُرَى عليهِ أَثَرُ السفَرِ، ولا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ) هذا مُتَضَمِّنٌ معنَى التَّعَجُّبِ، فهوَ غَريبٌ عليهم، لكن لا يُرَى عليهِ أَثَرُ السَّفَر.وقدْ نَفَى عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ أن يَعْرِفَهُ أحَدُ الحاضرينَ، وهذا قدْ يُشْكِلُ في ظاهرِهِ، لكن وَرَدَتْ روايَةُ: (فَنَظَرَ القومُ بعضُهم إلَى بعضٍ فقالُوا: ما نَعْرِفُ هذا...) فأَفادَتْ أنَّ عُمرَ حَكَمَ بذلكَ استنادًا لِمَا قالَهُ الحاضرونَ.
(11) قولُهُ: (حتَّى جَلَسَ إلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فأَسْنَدَ رُكبتَيْهِ إلَى رُكبتَيْهِ) الضميرُ المجرورُ في قولِهِ: (فأَسْنَدَ رُكبتَيْهِ) يَعودُ إلَى الرَّجُلِ، والضميرُ في قولِهِ: (إلَى رُكبتَيْهِ) يعودُ إلَى الرسولِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
والمعنَى: أنَّهُ جَلَسَ بينَ يَدَيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كما يَجْلِسُ الإنسانُ في الصلاةِ في التشَهُّدِ، أوْ في الجلوسِ بينَ السَّجدتينِ، فجَلَسَ قَريبًا مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(12) قولُهُ: (ووَضَعَ كَفَّيْهِ علَى فَخِذَيْهِ) في قولِهِ: (علَى فَخِذَيْهِ) احتمالٌ:
- فإمَّا أنَّ الْمُرَادَ: فَخِذَا نفسِهِ، والمعنَى: وَضَعَ كَفَّيْهِ علَى فَخِذَيْ نفسِهِ.
- وإمَّا أنَّ الْمُرَادُ: وَضَعَ كَفَّيْهِ علَى فَخِذَيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكأنَّهُ أرادَ بهذا أنْ يكونَ مُنْتَبِهًا ومُصْغِيًا إلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقالَ بعضُ الْعُلَمَاءِ: بلْ يُحْتَمَلُ أنَّهُ أرادَ زيادةَ التعميَةِ في أَمْرِهِ، وأنَّهُ أعرابيٌّ وَصَلَ إلَى هذا الحدِّ مِن الْجَفاءِ، فوَضَعَ يَدَيْهِ علَى رُكْبَتِيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وكثيرٌ مِن الشُّرَّاحِ يُرَجِّحُونَ أنَّ الضميرَ يَعودُ إلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لِمَا وَرَدَ في بعضِ الرواياتِ كما عندَ النَّسائيِّ قالَ: (ثمَّ وَضَعَ يَدَهُ علَى رُكْبَتَيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).
وهذه تُزِيلُ الإشكالَ، ولوْ كانتْ هيَ الروايَةَ الوحيدةَ لَمَا صارَ هناكَ إشكالٌ، فلا مانِعَ مِنْ أنْ يُرَدَّ اللفظُ الْمُشْكِلُ إلَى لفظٍ يُزيلُ الإشكالَ، هذا هوَ الظاهِرُ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى.
(13) قولُهُ: (وقالَ: يَا مُحَمَّدُ) ناداهُ باسمِهِ، معَ أنَّ نِداءَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ باسمِهِ مُخالِفٌ لقولِ اللهِ تعالَى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أيْ: لا تُنادُوهُ كما يُنَادِي بعضُكم بعضًا باسْمِهِ، إنَّمَا قولوا لهُ: يا رسولَ اللهِ، أوْ: يا نَبِيَّ اللهِ.
ولهذا كانَ الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهُم يَمْتَثِلونَ هذا الأمرَ وهذا التعليمَ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فما كانَ الواحدُ مِنهم يقولُ: يا مُحَمَّدُ، إلاَّ إنْ كانَ أعرابيًّا قَدِمَ مِن الباديَةِ، فلَعَلَّهُ قالَ ذلكَ مبالَغَةً في التعميَةِ، أوْ أنَّ الملائكةَ غيرُ داخلينَ في هذا النهيِ، كما قالَ ابنُ عَلاَّنَ في شَرْحِهِ علَى (رياضِ الصالحينَ)، (وقدْ وَرَدَ في حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: (يا رسولَ اللهِ)).
ثم إنَّ الروايَةَ التي معَنا لم يُذْكَرْ فيها أنَّهُ سَلَّمَ، وقدْ وَرَدَ في بعضِ الرواياتِ - كما عندَ النَّسائيِّ - (أنَّهُ سَلَّمَ):
- فإمَّا أنْ يكونَ بعضُ الرُّواةِ لم يَنْقُلْهُ، قالَ الحافِظُ: (وهذا هوَ الْمُعْتَمَدُ).
-أوْ أنَّهُ لم يُسَلِّمْ وقَصَدَ بذلكَ التَّعميَةَ، وصَنَعَ صَنيعَ الأعرابِ، لكن مَنْ ذَكَرَ السلامَ مُقَدَّمٌ علَى مَنْ سَكَتَ عنْ ذِكْرِ السلامِ؛ لأنَّ هذه زيادةٌ فتُقْبَلُ.
(14) قولُهُ: (قالَ: أَخْبِرْنِي عن الإسلامِ)، في لفظِ التِّرْمِذِيِّ: (قالَ: أَخْبِرْنِي عن الإيمانِ) ، ووَرَدَ أيضًا في الصحيحينِ مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ أنَّهُ بَدَأَ بالإيمانِ، وفي بعضِ الرواياتِ أنَّهُ سَأَلَهُ عن الإحسانِ بينَ الإسلامِ والإيمانِ، معَ أنَّ الحديثَ الذي معَنا، وهوَ لَفْظُ مسلِمٍ وَرَدَ فيهِ الإحسانُ آخِرَ شيءٍ. وقدْ أَجابَ الحافِظُ رَحِمَهُ اللهُ عنْ هذا فقالَ: (إنَّ القِصَّةَ واحدةٌ، والرُّواةَ اخْتَلَفُوا في تَأْدِيَتِها، فبعضُهم يُقَدِّمُ وبعضُهم يُؤَخِّرُ، وليسَ في السياقِ تَرتيبٌ).
(15) قولُهُ: (قالَ: أَخْبِرْنِي عن الإسلامِ، قالَ: ((أنْ تَشهدَ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ، وتُقيمَ الصلاةَ، وتُؤْتِيَ الزكاةَ، وتَصومَ رَمضانَ، وتَحُجَّ البيتَ إنِ اسْتَطَعْتَ إليهِ سَبيلاً))) تَقَدَّمَ الكلامُ علَى هذه الأركانِ.
(16) قولُهُ: (فقالَ: صَدَقْتَ، فعَجِبْنَا لهُ) معنَى (عَجِبْنَا لهُ) أيْ: عَجِبْنَا مِنه، أوْ عَجِبْنَا لأَجْلِهِ.
(17) قولُهُ: (يَسألُهُ ويُصَدِّقُهُ) أيْ: تَعَجَّبَ الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهُم مِنْ حالِهِ؛ لأنَّ السؤالَ يَدُلُّ علَى عَدَمِ عِلْمِ السائلِ، والتصديقَ يَدُلُّ علَى عِلْمِهِ.
(18) قولُهُ: (قالَ: فأَخْبِرْني عن الإيمانِ، قالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) قالَ: صَدَقْتَ) ولم يَقُلْ عمرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: (فعَجِبْنَا لهُ، يَسألُهُ ويُصَدِّقُهُ) اكتفاءً بما تَقَدَّمَ.
وقدْ أجابَهُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن الإيمانِ بأنَّهُ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ))، معَ أنَّهُ وَرَدَ في الصحيحينِ مِنْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ في قِصَّةِ وَفْدِ عبدِ القَيْسِ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللهِ وَحْدَهُ؟)) قالوا: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: ((شَهادةُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ)). ووجهُ الإشكالِ
أنَّهُ في حديثِ جِبريلَ فَسَّرَ الإيمانَ بالاعتقاداتِ الباطنةِ، وفَسَّرَ الإسلامَ بالأعمالِ الظاهرةِ، وفي هذا الحديثِ فَسَّرَ الإيمانَ بما فَسَّرَ بهِ الإسلامَ.
والجوابُ: أن نَقولَ: إنَّ حديثَ عُمرَ الذي معنا دَليلٌ واضحٌ علَى التفريقِ بينَ الإسلامِ والإيمانِ.
-فالإسلامُ يُفَسَّرُ بالأعمالِ الظاهرةِ مِنْ أقوالِ اللسانِ وأعمالِ الجوارحِ.
-وأمَّا الإيمانُ فإنَّهُ يُفَسَّرُ بالأعمالِ الباطنةِ، مِن اعتقاداتِ القلوبِ وأعمالِها، قالَ تعالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}.
وفي قِصَّةِ قومِ لوطٍ قالَ تعالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، فإنَّهُ فَرَّقَ بينَ المؤمِنينَ والمسلمينَ؛ لأنَّ البيتَ الذي كانَ في هذه القريَةِ بيتٌ إسلاميٌّ في ظاهِرِهِ؛ لأنَّهُ يَشْمَلُ امرأةَ لوطٍ التي خَانَتْهُ في دِينِها؛ لأنَّها كافرةٌ، والإخراجُ لم يكنْ لهذا البيتِ بأَكْمَلِهِ، وإنَّمَا قالَ تعالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}أيْ: ما نَجَا مِنْ هذا البيتِ المسلِمِ إلاَّ أهلُ الإيمانِ.
فهذا يَدُلُّ علَى أنَّ هناكَ فَرْقًا بينَ الإيمانِ وبينَ الإسلامِ، وإلاَّ فإنَّ البيتَ الْمُتَحَدَّثَ عنه بيتٌ واحدٌ، لكن وُصِفَ بأنَّهُ بيتٌ إسلاميٌّ باعتبارٍ، وبأنَّهُ بيتُ مؤمِنينَ باعتبارٍ آخَرَ. أمَّا في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ فإنَّهُ لم يَذْكُرْ إلاَّ قِسمًا واحدًا وهوَ الإسلامُ، ولا ريبَ أنَّ الإسلامَ عندَ الإطلاقِ يَشملُ الدِّينَ كلَّهُ، قالَ اللهُ تعالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ}، فيَدْخُلُ فيهِ الإيمانُ.وكذا إذا ذُكِرَ الإيمانُ مُجَرَّدًا دَخَلَ فيهِ الإسلامُ والأعمالُ الصالحةُ، كقولِهِ في حديثِ الشُّعَبِ: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاَهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)).
(19) قولُهُ: (قالَ: فأَخْبِرْنِي عن الساعةِ، قالَ: ((مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)) ) الساعةُ بمعنَى: الوقتِ أو الزمَنِ الحاضِرِ، والْمُرَادُ بالساعةِ هنا: القِيامةُ، والمعنَى: فأَخْبِرْنِي عنْ زمَنِ قِيامِ الساعةِ.
فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)) أيْ: ليسَ المسؤولُ عنْ وَقْتِها بأَعْلَمَ مِن السائلِ، والمعنَى: أنتَ لا تَعْلَمُها وأنا لا أَعْلَمُها، ويكونُ الْمُرَادُ بقولِهِ: ((مَا المسؤولُ عنها بأَعْلَمَ مِن السائلِ)) نَفْيَ التساوِي في نَفْيِ الْعِلْمِ بوَقْتِها، أيْ: أنَّ الْعِلْمَ بها مُنْتَفٍ عَنِّي وعنكَ علَى حَدٍّ سواءٍ، وليسَ الْمُرَادُ التساويَ في الْعِلْمِ بوَقْتِها.
والباءُ في قولِهِ: ((بِأَعْلَمَ)) زائدةٌ لإفادةِ التوكيدِ؛ لأنَّ عِلْمَ الساعةِ مِن الْخَمْسِ التي اسْتَأْثَرَ بعِلْمِها كما في قولِهِ تعالَى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
وقدْ وَرَدَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ - كما في الحديثِ الصحيحِ - أنَّهُ قالَ: ((خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللهُ)) فذَكَرَ مِنها قِيامَ الساعةِ، وفي بعضِ الرواياتِ أنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تَلاَ هذه الآيَةَ في أثناءِ جوابِهِ للسائلِ.
(20) قولُهُ: (قالَ: فأَخْبِرْنِي عنْ أَمارَاتِها) هذا تَدَرُّجٌ في السؤالِ، يعني: إذا كنتَ لا تَعْلَمُ مَتَى وقتُ قِيامِها، فأَخْبِرْنِي عنْ أَمارَاتِها.
والأماراتُ: جَمْعُ (أَمارةٍ) وهيَ: العَلاَمَةُ. وقدْ وَرَدَ في بعضِ الرواياتِ: ((وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا) فأماراتُها وأَشراطُها بمعنًى واحدٍ.والْمُرَادُ بالأماراتِ التي سيَذْكُرُ لهُ: الأَماراتُ التي تَتَقَدَّمُ الساعةَ بأزمانٍ مُتطاوِلَةٍ، وهيَ الأشراطُ الصغرَى، وليسَ العَلاماتِ التي تَظْهَرُ قُرْبَ قِيامِ الساعةِ، وهيَ الأشراطُ الكُبْرَى: كطُلوعِ الشمسِ مِنْ مَغْرِبِها، وظهورِ الدَّجَّالِ، ونُزولِ عيسَى عليهِ السلامُ، وغيرِ ذلكَ.
(21) قولُهُ: (أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا) هذه علامةٌ مِنْ عَلاماتِ الساعةِ، وقدْ وَرَدَ في بعضِ الرواياتِ: ((بَعْلَهَا))، ومعنَى: (رَبَّتَهَا أَوْ بَعْلَهَا) سَيِّدُها.
وقد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في تَفسيرِ هذه الْجُملةِ علَى أقوالٍ مِنها:
- أنَّ هذا إخبارٌ بأنَّ السَّرَارِيَّ تَكْثُرُ في آخِرِ الزمانِ ، فيكونُ وَلَدُها مِنْ سَيِّدِها بِمَنْزِلَةِ سَيِّدِها، لا سيَّما إذا كَثُرَت الأموالُ، وبَدَأَ الولَدُ يَتَصَرَّفُ في المالِ فيكونُ هوَ السَّيِّدَ الْمُطاعَ، وتَكونُ هذه الأَمَةُ قدْ وَلَدَتْ سَيِّدَها.
-وقيلَ: إنَّ الحديثَ دَليلٌ علَى أنَّ الإماءَ يَلِدْنَ الْمُلوكَ في آخِرِ الزمانِ، فتَكونُ أمُّ الْمَلِكِ أَمَةً، وإذا كانت أُمُّهُ أَمَةً وتَوَلَّى الْمُلْكَ فإنَّهُ سيكونُ سَيِّدًا لأُمِّهِ ولغيرِ أُمِّهِ مِنْ أفرادِ الرَّعِيَّةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
(22) قولُهُ: ((وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)):
هذه عَلامةٌ أُخرَى مِنْ عَلاماتِ الساعةِ. والْحُفَاةُ: جَمْعُ حافٍ، وهوَ الذي لا نِعالَ عليهِ.والعُراةُ: جَمْعُ عارٍ، وهوَ الذي لا ثِيابَ عليهِ.
والعَالَةُ: جَمْعُ: عائلٍ، والعائلُ هوَ: الفقيرُ، كما في قولِ الشاعرِ:
وما يَدْرِي الفقيرُ متَى غِناهُ = وما يَدْرِي الغنيُّ مَتَى يَعِيلُ
أيْ: يَفتقِرُ.
وقولُهُ: (رِعَاءَ الشَّاءِ) بكَسْرِ الراءِ، جَمْعُ: راعٍ، ويُجْمَعُ أيضًا علَى رُعاةٍ بضَمِّها.
والشاءُ : جَمْعُ: شاةٍ، وهوَ مِن الْجُموعِ التي يُفَرَّقُ بينَها وبينَ واحدِها بالهاءِ، كشَجَرٍ وشَجَرَةٍ.
وخَصَّهُم بالذكْرِ لأنَّهُم أَضعَفُ الرُّعاةِ، لكن قدْ وَرَدَ في حديثِ أبي هُريرةَ في (الصحيحينِ): ((رُعَاةَ الإِبِلِ)).
والْمُرَادُ:أنَّ أصحابَ هذه الأوصافِ الأربعةِ: الْحُفَاةَ والعُراةَ والعالَةَ ورِعاءَ الشاءِ: ((يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)).
والتطاوُلُ في البُنيانِ معناهُ:
تَكثيرُ طَبَقَاتِ البُنيانِ، ويَصْدُقُ أيضًا علَى تَوسيعِ الْمَنَازِلِ، وتكثيرِ مَجَالِسِها ومَرَافِقِها، وهذه ذَكَرَها الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِمَنْ كانتْ حالُهم أنَّهُم حُفاةٌ وعُراةٌ.. إلخ.
و المعنَى :أنَّ هؤلاءِ في آخِرِ الزمانِ يَقْوَى أَمْرُهم وتكونُ الأموالُ بأَيْدِيهم، ويَدُلُّ أنَّهُم حُفاةٌ عُراةٌ لا يَمْلِكون غيرَ الشاةِ يَصِلُون إلَى حالِ التطاوُّلِ والتفاخُرِ في البُنيانِ، فكلُّ مَنْ بَنَى مِنهم بِناءً بَدَأَ يَتَفَاخَرُ علَى مَنْ بَنَى قَبْلَهُ؛ لأنَّهُ أَطولُ مِنه بِناءً أوْ أَكبرُ أوْ أَوسَعُ فهذا يُعْتَبَرُ مِنْ أشراطِ الساعةِ، واللهُ الْمُستعانُ.
وقدْ وَرَدَ في حديثِ أبي هُريرةَ في (الصحيحينِ) قالَ: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ رُءُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا)).
ومعنَى ((رُءُوسَ الناسِ)) مُلوكُ الناسِ، وفي روايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الأَرْضِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا)). قالَ النوويُّ: (الْمُرَادُ بِهِمُ الْجَهَلَةُ السِّفْلَةُ الرَّعاعُ كما قالَ تعالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أيْ: لمَّا لم يَنْتَفِعوا بجَوارِحِهم هذه، فكأنَّهم عَدِمُوها، هذا هوَ الصحيحُ في معنَى الحديثِ، واللهُ أَعْلَمُ).
(23) قولُهُ: (قالَ: فمَضَى فلَبِثْنَا مَلِيًّا) بتشديدِ الياءِ التحتيَّةِ، والْمَلِيُّ: هوَ الزمانُ، وقدْ وَرَدَ عندَ التِّرمذيِّ والنَّسائيِّ وغيرِهما: (فَلَبِثْتُ ثَلاَثًا).
(24) قولُهُ: (فقالَ: ((يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟)) ) ظاهِرُهُ أنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يُخْبِرْ عمرَ إلاَّ بعدَ مُدَّةٍ، لكن وَرَدَ في حديثِ أبي هُريرةَ في الصحيحينِ قالَ: (ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ: ((رُدُّوهُ)) فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فقالَ: ((هَذَا جِبْرِيلُ أَتَى يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ))).
فهذه الروايَةُ تَدُلُّ علَى أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَخْبَرَهُم في الحالِ.
والظاهِرُ مِن الروايَةِ التي معَنا أنَّ الإخبارَ خاصٌّ بعُمَرَ حيث قالَ: فقالَ: ((يَا عُمَرُ)) والظاهرُ أنَّ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قامَ في الحالِ؛ أيْ: بعدَ أنْ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، ولم يَحْضُرْ كلامَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وإنَّمَا أَخْبَرَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بعدَ مُدَّةٍ.
وهذا هوَ الْجَمْعُ بينَ الروايَةِ التي معنا وهيَ التي تَدُلُّ علَى أنَّ إخبارَهم كانَ مُتَرَاخِيًا، وروايَةِ (الصحيحينِ) مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ التي تَدُلُّ علَى أنَّ إخبارَهم كانَ في الحالِ، قالَهُ النوويُّ، قالَ الحافِظُ: (وهوَ جَمْعٌ حَسَنٌ).
(25) قولُهُ: (قلتُ: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ) أيْ: مِنْ غيرِهما، ولم يَقُلْ: أَعْلَمَا؛ لأنَّ أَفْعَلَ التفضيلِ الْمُجَرَّدَ لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، بلْ يَلزَمُ الإفرادَ.
وهذا فيهِ أَدَبٌ مِنْ آدابِ العالِمِ، وهوَ أنَّ مَنْ سَأَلَ عنْ شيءٍ لا يَعْلَمُهُ أن يَكِلَ الْعِلْمَ إلَى عالِمِهِ ولا يَتَكَلَّفَ في الجوابِ، بلْ يقولُ: اللهُ أَعْلَمُ. أمَّا في حياتِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فإنَّ الْعِلْمَ يُمْكِنُ أن يُؤْخَذَ مِنه فيقولَ المسؤولُ: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ، لكنْ بعدَ وَفاتِهِ يقولُ: اللهُ أَعْلَمُ.
(26) قولُهُ: (قالَ:((هذا جِبريلُ أَتاكُم يُعَلِّمُكم أَمْرَ دِينِكم)) ) هذا فيهِ دَليلٌ علَى أنَّ ما ذُكِرَ في هذا الحديثِ هوَ الدِّينُ؛ لأنَّهُ اشْتَمَلَ علَى أُصولِ الدِّينِ وعقائدِهِ مِن الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، واللهُ أَعْلَمُ.