الرابع: (دليل الخطاب) وهو مفهوم المخالفة، كدلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفيه عما عداه، كخروج المعلوفة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ» وهو حجة عند الأكثرين خلافاً لأبي حنيفة، وبعض المتكلمين قوله: (قال الجزري وبعض الشافعية: هو قياس) الضمير يعود على مفهوم الموافقة، والمراد أن الأصوليين اختلفوا في دلالة النص على مفهوم الموافقة هل هي لفظية أو قياسية؟
فالقول الأول: أنها غير لفظية، بل هي من القياس الجلي. أي: إن هذا الحكم المسكوت عنه معلوم بالقياس لا بطريق النص، ففي آية الوالدين السابقة، يقاس الضرب على التأفيف بجامع الأذى في كل، فكما يحرم التأفيف يحرم الضرب؛ لأن كلاً منهما أذى.
ويقال في آية اليتامى السابقة: يقاس إحراق مال اليتيم أو إغراقه على أكله بجامع الإتلاف في كل، فكما يحرم الأكل يحرم الإحراق؛ لأن كلاًّ منهما إتلاف.
ونسب هذا القول إلى الشافعي وبعض الحنابلة.
قوله: (وقال القاضي وبعض الشافعية: بل من مفهوم اللفظ، سَبَقَ إلى الفهم مقارناً) هذا القول الثاني ، وهو: أن دلالة النص على مفهوم الموافقة دلالة لفظية؛ لأن المسكوت عنه يسبق إلى الفهم مقارناً للمنطوق، فلا يحتاج إلى بحث وتأمل، بخلاف القياس، فإنه يحتاج إلى ذلك في تحقيق أركانه، وهذا قول الجمهور، وهو الراجح لقوة مأخذه، فإن من سمع قول الله تعالى: {{فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}} فَهِمَ منه النهي عن الضرب، وإن لم ينظر في طرق القياس[(690)].
قوله: (وهو قاطع على القولين) أي: سواء قلنا: إن دلالته لفظية أو قياسية، فهو يفيد القطع بنفي الفرق بين المسكوت عنه والمنطوق، كما في المثالين السابقين، فالظاهر أن الخلاف راجع إلى التسمية؛ لحصول الاتفاق على أن دلالة مفهوم الموافقة قد تكون قاطعة إذا قطع بنفي الفارق، كما مثّلنا.
قوله: (الرابع «دليل الخطاب» وهو مفهوم المخالفة) أي: الضرب الرابع من أضرب المفهوم: مفهوم المخالفة، ويسمى: دليل الخطاب؛ لأن الخطاب دال عليه.
قوله: (كدلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفيه عما عداه) هذا فيه إشارة إلى تعريف مفهوم المخالفة، وهو أن يخص المتكلم بالذكر وصفاً من أوصاف المحكوم فيه أو حالاً من أحواله فَيُسْتدل به على انتفاء الحكم عما عداه، ولو قال في تعريفه: هو ما خالف المسكوتُ عنه المنطوقَ في الحكم، لكان أوضح.
قوله: (كخروج المعلوفة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سائمة الغنم الزكاة») هذا مثال لمفهوم المخالفة، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة» [(691)]. فدل الحديث بمنطوقه على تعليق زكاة الغنم بوصف (السائمة) التي ترعى بنفسها، ومفهومه أنه لا زكاة في المعلوفة.
قوله: (وهو حجة عند الأكثرين) اختلف العلماء في حجية مفهوم المخالفة، فالقول الأول أنه حجة، وهو قول الجمهور ومنهم الشافعي ومالك وأحمد ـ رحمهم الله ـ.
واستدلوا على حجيته بما يلي:
1 ـ أن كبار الصحابة رضي الله عنهم، وكبار التابعين، وأئمة اللغة ـ رحمهم الله ـ أخذوا بمفهوم المخالفة، فقد ورد عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: {{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}} [النساء: 101] فقد أَمِنَ الناس؟ فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك؟ فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» [(692)].
فهذا عمر رضي الله عنه أخذ بمفهوم المخالفة في الآية الكريمة، وعجب من بقاء الحكم عند انتفاء الشرط، وأقره النَّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم على هذا الفهم، وبيّن له أن بقاء الحكم صدقة من الله تعالى على عباده.
واحتج أبو عبيد في (غريب الحديث) بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لَيُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته» [(693)]، على أن غير الواجد لا سبيل للطالب عليه بحبس ولا غيره، حتى يجد ما يقضي[(694)].
2 ـ أن القيود الواردة في النصوص الشرعية ليست عبثاً، ولا بد أن تكون لفائدة، فمتى لم تظهر فائدة معينة فلا بد أن تكون فائدته تخصيص الحكم بالمذكور ونفيه عما عداه، ولو كان المذكور مساوياً للمسكوت عنه في الحكم، لزم أمران باطلان:
الأول: العدول عن الأخصر لا لفائدة، فإن قوله: «في الغنم إذا كانت أربعين» ، أخصر من قوله: «في سائمة الغنم...» .
الثاني: أن تخصيص أحدهما بالذكر مع استوائهما في الحكم ترجيح بلا مرجح؛ إذ ليس ذكر السائمة بأولى من ذكر المعلوفة.
وانظر إلى قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}} [المائدة: 95] فقد دل بمنطوقه على وجوب الجزاء على من قتل الصيد عمداً، ودل بمفهومه على نفي الجزاء عن قتل الصيد خطأ، وهو مُحْرِمٌ، على الأظهر من قولي أهل العلم، ولو لم تدل الآية على هذا الحكم لكان ذكر التعمد لغواً.
قوله: (خلافاً لأبي حنيفة وبعض المتكلمين) هذا القول الثاني في مفهوم المخالفة وهو أنه ليس بحجة، ولا يجوز العمل به في نصوص الكتاب والسنة، وما خرج عن المنصوص عليه يبقى مسكوتاً عنه، يؤخذ حكمه من البراءة الأصلية لا من اللفظ، فحديث (السائمة) يستفاد منه عندهم حكم السائمة، أمَّا المعلوفة فلا يؤخذ حكمها من هذا الحديث أصلاً.
واستدلوا على أن مفهوم المخالفة ليس بحجة بما يلي:
1 ـ أنه ورد في النصوص الشرعية مفاهيم مخالفة لا يمكن العمل بها، كقوله تعالى: {{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}} [التوبة: 36] ، فليس التخصيص بالأربعة الحرم ـ رجب، وذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم ـ دليلاً على إباحة الظلم في غيرها من الأشهر؛ لأن الظلم حرام في جميع الأوقات.
2 ـ أن فوائد القيود التي يقيد بها اللفظ كثيرة، ولا نستطيع الجزم بأن هذا القيد لتخصيص الحكم بالمنطوق ونفيه عما عداه.
وقول الجمهور أرجح، لقوة أدلته من اللغة والشرع، ولأن مقاصد الشريعة وإن لم يمكن الإحاطة بها، إلا أن المجتهد إذا غلب على ظنه أن هذا القيد ليس له فائدة إلا تخصيص الحكم بما وجد فيه القيد ونفيه عما عداه، كفى هذا الظن الغالب في العمل بدلالة مفهوم المخالفة.
ثم إن الجمهور شرطوا للعمل بمفهوم المخالفة شروطاً تُضْعِفُ احتمالات التشكيك التي وجهها الحنفية، وأرادوا بها إلزام الجمهور بتعميم العمل بمفهوم المخالفة، إذا كان حجة[(695)]، وسأذكر هذه الشروط ـ إن شاء الله ـ بعد نهاية الكلام على درجات مفهوم المخالفة.