ثُمَّ أَصْلُ هَذِهِ المَقَالَةِ - مَقَالَةِ التَّعْطِيلِ لِلصِّفَاتِ - إنما هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ تَلامِذَةِ اليَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ، وضُلاَّلِ الصَّابِئِينَ; فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ المَقَالَةَ فِي الإِسْلامِ ـ أعني أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة وأن معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك ـ هُوَ الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، وَأَخَذَهَا عَنْهُ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ; وَأَظْهَرَهَا فَنُسِبَتْ مَقَالَةُ الجهميَّةِ إِلَيْهِ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الجَعْدَ أَخَذَ مَقَالَتَهُ عَنْ أبَانِ بْنِ سَمْعَانَ، وَأَخَذَهَا أبَانُ عَنْ طَالُوتَ بْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ الأَعْصَمِ، وَأَخْذَهَا طَالُوتُ مِنْ لَبِيدِ بْنِ الأَعْصَمِ اليَهُودِيِّ السَّاحِرِ الَّذي سَحَرَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ الجَعْدُ هَذَا فِيمَا قِيلَ مِنْ أَهْلِ حرَّانَ، وَكَانَ فِيهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّابِئَةِ وَالْفَلاسِفَةِ، بَقَايَا أَهْلِ دِينِ نَمْرُودِ، وَالْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ صَنَّفَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ فِي سِحْرِهِمْ.
وَنَمْرُودُ هُوَ: مَلِكُ الصَّابِئَةِ الكَنْعَانِيِّينَ المُشْرِكِينَ، كَمَا أَنَّ كِسْرَى مَلِكُ الفُرْسِ وَالْمَجُوسِ، وَفِرْعَوْنَ مَلِكُ مصر القِبْطِ الكُفَّارِ، وَالنَّجَاشِيَ مَلِكُ الحَبَشَةِ النَّصَارَى، وقيصر ملك الروم، َهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، لاَ اسْمُ عَلَمٍ.
كَانَت الصَّابِئَةُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ إِذْ ذَاكَ عَلَى الشِّرْكِ وَعُلَمَاؤُهُمْ الفَلاسِفَةُ، وَإِنْ كَانَ الصَّابِئُ قَدْ لاَ يَكُونُ مُشْرِكًا; بَلْ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (20 ).
لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ، أَوْ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِينَ، كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَصَارُوا كُفَّارًا أَوْ مُشْرِكِينَ، فَأُولَئِكَ الصَّابِئُونَ الَّذِينَ كَانُوا إِذْ ذَاكَ، كَانُوا كُفَّارًا مُشْرِكِينَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الكَوَاكِبَ، وَيَبْنُونَ لَهَا الهَيَاكِلَ.
وَمَذْهَبُ النُّفاةِ مِنْ هَؤُلاءِ فِي الرَّبِّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلا صِفَاتٌ سَلْبِيَّةٌ، أَوْ إِضَافِيَّةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْهُما، وَهُم الَّذِينَ بُعِثَ إليهم إِبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ الجَعْدُ قد أَخَذَهَا عَنِ الصَّابِئَةِ الفَلاسِفَةِ.
وَكَذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ الفَارَابِيُّ دَخَلَ حَرَّانَ، وَأَخْذَ عَنْ فَلاسِفَةِ الصَّابِئِينَ تَمَامَ فَلْسَفَتِهِ، وَأَخْذَهَا الجَهْمُ أَيْضًا - فِيمَا ذَكَرَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ - لَمَّا نَاظَرَ "السُّمَنِيَّةَ" بَعْضَ فَلاسِفَةِ الهِنْدِ - وَهُم الَّذِينَ يَجْحَدُونَ مِنَ العُلُومِ مَا سِوَى الحِسِّيَّاتِ - فَهَذِهِ أَسَانِيدُ جَهْمٍ تَرْجِعُ إِلَى اليَهُودِ والنصارى وَالصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْفَلاسِفَةِ الضَّالِّينِ إمَّا مِنَ الصَّابِئِينَ، وَإِمَّا مِنَ المُشْرِكِينَ.