وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ الشِّرْكِ بِالْمَلاَئِكَةِ، وَالشِّرْكِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالشِّرْكِ بِالْكَوَاكِبِ، وَالشِّرْكِ بِالْأَصْنَامِ - وَأَصْلُ الشِّرْكِ، الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ - فَقَالَ عَنِ النَّصَارَى: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا واحدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعَلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولُ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْد إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، فَبَيَّنَ أَنَّ اتَّخَاذَ الْمَلاَئِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الخَلْقِ لَمْ يَزْعُمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ أَوِ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ شَارَكُوا اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بَلْ وَلاَ زَعَمَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، بَلْ وَلاَ أَثْبَتَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَهًا مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ، بَلْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَرِيكُه مِثْلَه، بَلْ عَامَّتُهمْ يُقِرُّونَ أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ كَوْكَبًا أَوْ صَنَمًا، كَمَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَك، إِلاَّ شَرِيكًا هُوَ لَك، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ، فَقَالَ: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ ).
وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَقَالاَتِ مَا جَمَعُوا مِنْ مَقَالاَتِ الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ، فَلَمْ يَنْقُلُوا عَنْ أَحدٍ إِثْبَاتَ شَرِيكٍ مُشَارِكٍ لَهُ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلاَ مُمَاثِلٍ لَهُ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، بَلْ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلُ الثَّنَوِيَّةِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْأَصْلَيْنِ: النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَأَنَّ النُّورَ خَلَقَ الْخَيْرَ،وَالظُّلْمَةَ خَلَقَتِ الشَّرَّ، ثُمَّ ذَكَرُوا لَهُمْ فِي الظُّلْمَةِ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مُحَدَثَةٌ، فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ، وَالثَّانِي أَنَّهَا قَدِيمَةٌ، لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ إِلاَّ الشَّرَّ، فَكَانَتْ نَاقِصَةً فِي ذَاتِهَا وَصَفَاتِهَا وَمَفْعُولاَتِهَا عَنِ النُّورِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَنِ المُشْرِكِينَ مِنْ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِيَ بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: ( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) إِلَى قَوْلِهِ: ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ).