دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العام للمفسر > منتدى المسار الثاني

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #9  
قديم 12 شوال 1445هـ/20-04-2024م, 02:16 PM
إدارة برنامج الإعداد العلمي إدارة برنامج الإعداد العلمي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2019
المشاركات: 2,051
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صفية الشقيفي مشاهدة المشاركة
رسالة في تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)} بالأسلوب البياني.


جاءت هذه الآيات في سياق آيات تتحدث عن غزوة أحد، وقد ابتُلي فيها المؤمنون ابتلاء شديدًا بمخالفة الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ما حصل بعدها من اتخاذ المشركين الجولة على المؤمنين وتولي بعض الصحابة عن القتال وإصابة النبي صلى الله عليه وسلم وإشاعة قتله، ثم امتنان الله على المؤمنين بأن قذف في قلوب المشركين الرعب، وتغشى المؤمنين نعاسٌ، كان أمنة من الله عز وجل، وبقي المنافقون على خوفهم وفزعهم !
وكان من أثر هذا كله ظهور طوية المنافقين من ظنِّهم أن المشركين سيظهرون على المسلمين، وكراهتهم للقتال، كما أخبر الله عنهم في آيات سابقة، قال الله عز وجل: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
وقولهم: {هل لنا من الأمر من شيء}: يريدون أنه لو كان الأمر لهم لأمروا الأنصار بعدم الخروج للقتال؛ على أحد القولين في تفسير الآية.
قال أبو بكرٍ الحنفيّ ثنا عبّاد بن منصورٍ، قال: سألت الحسن عن قوله: يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قال: ذلك المنافق لمّا قتل من قتل من أصحاب محمّدٍ، أتوا عبد اللّه بن أبيٍّ فقالوا له: ما ترى فقال: أنّا واللّه ما نؤامر لو كان لنا من الأمر من شيءٍ ما قتلنا هاهنا". رواه ابن أبي حاتم.
قال سُنيد: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قيل لعبد اللّه بن أبيٍّ: قتل بنو الخزرج اليوم قال: وهل لنا من الأمر من شيءٍ؟". رواه ابن جرير.
ونهى الله عز وجل المؤمنين عن التشبه بالكفار في مقولتهم هذه وفي فعلهم أيضًا بالجبن عن القتال والسعي في الأرض طاعة لله ورسوله، فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتلوا}
وجاء الرد في هذه الآيات على شبهة المنافقين كالآتي:
أولا: عاقبة قولهم هذا حسرة في قلوبهم؛ وذلك حين يرون أنه لا ينفعهم جبنهم من الفرار من الموت، بل يدركهم الموت ولو كانوا في بروجٍ مشيدة، وحين يرون بأس المؤمنين وعدم استجابتهم لتثبيطهم، وحين يرون جزاء جبنهم وكفرهم بالله ورسوله في الآخرة، وجزاء المؤمنين.
ثانيًا: الله وحده من يحيي ويميت، ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها، ولن تموت نفس حتى تستوفي أجلها.
ثالثًا: جاء ختام الآية: {والله بما تعملون بصير}
ورغم أن الآية تتحدث عن قول المشركين والنهي عن التشبه بهم في قولهم، لكن لما كان ذلك متضمنًا للنهي عن العمل بموجب هذا القول بالتقاعس عن القتال، جاء ختام الآية بقوله تعالى:
{والله بما تعملون بصير} وفيها وعدٌ للمؤمنين الذين استجابوا لأمر الله عز وجل، ووعيد للمنافقين الذين كفروا ويثبطون الذين آمنوا.

ثم قال الله عز وجل:
{ولئن قُتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمةٌ خيرٌ مما يجمعون. ولئن متم أو قُتلتم لإلى الله تُحشرون}
وسنتوقف أمام هاتين الآيتين في محاولة لبيان اللطائف البيانية التي وردت فيهما مع بيان مقاصدها، لعل الله عز وجل يثبتنا بها، وأسأل الله التوفيق والسداد.

جاءت هذه الآيات بأسلوب القسم، والقسم يفيد تأكيد المقسم عليه، وهذا التأكيد مطلوب هنا؛ لأن المقام مقام رد على الشبهات ففي هذا القسم تثبيت للمؤمنين، ورد على الكفار المنافقين المثبطين.
وهذا القسم حُذف فيه المقسم به، للانشغال بالمقسم عليه وبيان أهميته.
ودل على القسم اللام الموطئة للقسم في قوله تعالى: {ولئن قُتلتم}، وهذه اللام تفيد التأكيد أيضا، كما دل على القسم اللام الداخلة على جوابه في قوله تعالى: {لمغفرة من الله ورحمة}.
فما هو المقسم عليه الذي جاءت الآيات لبيان أهميته وتأكيده؟
جاء القسم على أسلوب شرط حُذف جوابه؛ فقال تعالى: {ولئن قُتلتم في سبيل الله أو متم}
والفرق بين القتل والموت كما قال الراغب الأصفهاني: "أصل القَتْلِ: إزالة الروح عن الجسد كالموت، لكن إذا اعتبر بفعل المتولّي لذلك يقال: قَتْلٌ، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال: موت" اهـ.
فكلمة الموت أعم من القتل؛ فمن الناس من يموت مقتولا، ومنهم من يموت لأسباب أخرى أو بغير سبب.
وقُيِّد القتل بقوله: {في سبيل الله}؛ والقتال في سبيل الله هو ما كان لإعلاء كلمة الله عز وجل، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري أنه قال: (قالَ أَعْرَابِيٌّ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، والرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، ويُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَن في سَبيلِ اللَّهِ؟"، فَقالَ: "مَن قَاتَلَ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ")
وحُذف هذا القيد {في سبيل الله}، من قوله {متم}؛ وهذا الحذف له وجهان:
الوجه الأول: دلالة ما قبله عليه فيكون المعنى قُتلم في سبيل الله أو متم في سبيل الله، وهو قول محمد بن إسحاق، ومفهوم من كلام الأخفش الأوسط وقاله ابن جرير الطبري ومكي بن أبي طالب وابن عطية، والواحدي والبيضاوي وأبو حيان.
قال سلمة عن محمّد بن إسحاق: "ولئن قتلتم في سبيل اللّه أو متّم لمغفرةٌ من الله ورحمة خير مما يجمعون أي أنّ الموت كائنٌ لا بدّ منه فموتٌ في سبيل اللّه أو قتلٌ في خيرٍ لو علموا واتّقوا، خيرٌ ممّا يجمعون من الدّنيا الّتي لها يتأخّرون عن الجهاد، تخوّف الموت والقتل لما جمعوا من زهيدة الدّنيا زهادةً في الآخرة". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ومعنى الموت في سبيل الله هو الموت على طاعة الله ورسوله كما قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}، على أحد الأقوال في تفسير معنى الممات لله.
ومن الطاعات الجهاد في سبيل الله؛ وقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذروة سنام الإسلام، كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد ".
ومن عاش حياته مجاهدا في سبيل الله ثم مات بغير القتل في سبيل الله فهو ممن مات في سبيل الله.
والموت في سبيل الله يستلزم الحياة على طاعة الله ورسوله والثبات عليها حتى الممات كما جاء في وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لأبنائهما.
قال الله عز وجلّ:
{ووصَّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب إنَّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون}
الوجه الثاني: أن يكون الحذف للدلالة على عموم أحوال الموت، قاله أبو المظفر السمعاني وابن الجوزي وابن عاشور.
قال أبو المظفر السمعاني: " قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن قتلتم فِي سَبِيل الله أَو متم} أَي: لَئِن خَرجْتُمْ، فقتلتم، أَو لم تخْرجُوا، فمتم" اهـ.
قال ابن الجوزي: " تَقْدِيرُهُ: واللَّهِ لَئِنْ قُتِلْتُمْ في الجِهادِ {أوْ مُتُّمْ} في إقامَتِكم." اهـ.
وعطف الموت على القتل بـ (أو) الدالة على التسوية؛والتسوية هنا في دلالة جواب الشرط المحذوف، ويختلف تقديره بحسب الخلاف السابق:
فعلى القول بأن القتل والموت كلاهما في سبيل الله، يصلح تقديره بـ:
- ولئن قُتلتم في سبيل الله أو متم في سبيل الله فأجركم على الله، قاله ابن عطية.
- ولئن قُتلتم في سبيل الله أو متم في سبيل الله ليغفرن لكم، قاله أبو جعفر النحاس، وقال نحوه مكي بن أبي طالب والزمخشري والواحدي والبيضاوي.
- إنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أوْ مُتُّمْ، حَصَلَتْ لَكُمُ المَغْفِرَةُ والرَّحْمَةُ، قاله الراغب.
ودل على هذا المعنى جواب القسم: {لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون}

وفي هذه المعاني تحفيز على الجهاد في سبيل الله؛ والثبات عليه حتى الممات بالقتل في سبيل الله أو غيره، فيلقى الله عز وجل عليه.
قال محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان: "قَوْلُهُ تَعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ}، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ المَقْتُولَ في الجِهادِ والمَيِّتَ كِلاهُما يَنالُ مَغْفِرَةً مِنَ اللَّهِ، ورَحْمَةً خَيْرًا لَهُ مِمّا يَجْمَعُهُ مِن حُطامِ الدُّنْيا، وأوْضَحُ وجْهٍ ذَلِكَ في آيَةٍ أُخْرى بَيَّنَ فِيها أنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنهُ حَياةً قَصِيرَةً فانِيَةً مُنَغَّصَةً بِالمَصائِبِ، والآلامِ بِحَياةٍ أبَدِيَّةٍ لَذِيذَةٍ لا تَنْقَطِعُ ولا يَتَأذّى صاحِبُها بِشَيْءٍ واشْتَرى مِنهُ مالًا قَلِيلًا فانِيًا بِمُلْكٍ لا يَنْفَدُ ولا يَنْقَضِي أبَدًا، وهي قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ والقُرْآنِ ومَن أوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ}[التوبة: 111]، وقالَ تَعالى: {وَإذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان: 20]، وبَيَّنَ في آيَةٍ أُخْرى أنَّ فَضْلَ اللَّهِ، ورَحْمَتَهُ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُهُ أهْلُ الدُّنْيا مِن حُطامِها وزادَ فِيها الأمْرَ بِالفَرَحِ بِفَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ دُونَ حُطامِ الدُّنْيا، وهي قَوْلُهُ تَعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ}[يونس: 58]، وتَقْدِيمُ المَعْمُولِ يُؤْذِنُ بِالحَصْرِ أعْنِي قَوْلَهُ: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، أيْ: دُونَ غَيْرِهِ فَلا يَفْرَحُوا بِحُطامِ الدُّنْيا الَّذِي يَجْمَعُونَهُ.
وَقالَ تَعالى: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهم مَعِيشَتَهم في الحَياةِ الدُّنْيا ورَفَعْنا بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهم بَعْضًا سُخْرِيًّا ورَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف: 43] ."
وعلى القول بدلالة {أو متم} على عموم أنواع الموت؛ فيصلح تقديره بمعان أعم؛ مثل:
- ولئن قُتلتم في سبيل الله أو متم فقد استوفيتم آجالكم لا تستقدمون ساعة ولا تستأخرون.
- ولئن قُتلم في سبيل الله أو مُتم فالله من يحيي ويميت؛ ومن علم أن الله هو من يحيي ويميت وأنه لم يموت حتى يستوفي أجله لم يخش في الله لومة لائم ولأقبل على أمره بالجهاد لا يهاب الموت.
- ولئن قُتلتم في سبيل الله أو متم فالله مجازيكم على أعمالكم.
- ويحتمل أيضًا: ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم فمغفرة من الله أو متم خير مما يجمعون، فكل من يموت يتيقن هذه الحقيقة ويطمع في مغفرة الله ورحمته.
قال ابن عاشور: "ذَكَرَ تَرْغِيبًا وتَرْهِيبًا، فَجَعَلَ المَوْتَ في سَبِيلِ اللَّهِ والمَوْتَ في غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ، إذا أعْقَبَتْهُما المَغْفِرَةُ خَيْرًا مِنَ الحَياةِ وما يَجْمَعُونَ فِيها، وجَعَلَ المَوْتَ والقَتْلَ في سَبِيلِ اللَّهِ وسِيلَةً لِلْحَشْرِ والحِسابِ فَلْيَعْلَمْ أحَدٌ بِماذا يُلاقِي رَبَّهُ" اهـ.
وهذا المعنى فيه ترغيب لمن أطاع الله واستجاب لأمره وانتهى عما نهاه عنه من طاعة المنافقين المثبطين، وفيه ترهيب أيضًا لمن عصى الله عز وجل؛
فإذا كان القتل في سبيل الله والموت كلاهما يوافيان المرء حيث حل أجله لا يقدّم ساعة ولا يؤخر، وإذا كان الله سيجازيه على عمله لا يظلمه مثقال ذرة فالأحرى بالمرء أن يسارع إلى أسباب المغفرة والرحمة من الله ويؤثر الجهاد في سبيل الله على غيره.
وقُدم القتل في سبيل الله على الموت تقديمًا للأشرف منهما وحثًا للمؤمنين على الإقدام عليه ونبذ دعوة الكفار التي تثبطهم عنه، قال بنحوه ابن عطية وأبو حيان.
وقال ابن عاشور: "وقُدِّمَ القَتْلُ في الأُولى والمَوْتُ في الثّانِيَةِ اعْتِبارًا بِعَطْفِ ما يُظَنُّ أنَّهُ أبْعَدُ عَنِ الحُكْمِ فَإنَّ كَوْنَ القَتْلِ في سَبِيلِ اللَّهِ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ أمْرٌ قَرِيبٌ، ولَكِنَّ كَوْنَ المَوْتِ في غَيْرِ السَّبِيلِ مِثْلُ ذَلِكَ أمْرٌ خَفِيٌّ مُسْتَبْعَدٌ" اهـ.

ثم جاء جواب القسم: {لمغفرةٌ من الله ورحمة خير مما يجمعون}.
وفي إعراب مغفرة قولان:
الأول: مرفوعة على الابتداء، وخبرها (خيرٌ)؛ وفي مجيئها نكرة للدلالة على أن أقل قدر من المغفرة والرحمة خير مما يجمع أهل الدنيا كله، قاله ابن عطية وأبو حيان والسمين الحلبي والألوسي.
الثاني: خبر لمبتدأ مرفوع تقديره "تلك"، إشارة إلى القتل والموت في سبيل الله؛ قاله الأخفش الأوسط.
قال ابن عطية: " وتَحْتَمِلُ الآيَةُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ "لَمَغْفِرَةٌ" إشارَةً إلى القَتْلِ أوِ المَوْتِ في سَبِيلِ اللهِ، سَمّى ذَلِكَ مَغْفِرَةً ورَحْمَةً إذْ هُما مُقْتَرِنانِ بِهِ، ويَجِيءُ التَقْدِيرُ: لَذَلِكَ مَغْفِرَةٌ ورَحْمَةٌ، وتَرْتَفِعُ المَغْفِرَةُ عَلى خَبَرِ الِابْتِداءِ المُقَدَّرِ".
وعلى هذا فقوله : "خَيْرٌ" صِفَةٌ لـ"مغفرة".
وجاء وصف المغفرة بأنها من الله عز وجل، لتتعلق القلوب به، وتطلب هذه المغفرة والرحمة بالاستجابة لأمر الله عز وجل ورسوله.
وقُدم المغفرة على الرحمة من باب التخلية قبل التحلية، قاله الشيخ خالد السبت.
وحُذف هذا المتعلق {من الله} من المعطوف {ورحمة} لدلالة ما قبله عليه.

واقتصر على ذكر خيرية المغفرة والرحمة وأنهما من الله عز وجل، ولم يقل (لكم) أو لمن يقتل في سبيل الله، وأشار أبو السعود إلى فائدة هذا الإيجاز؛ بأنه إشارة إلى استحالة أن يخيبهم الله عز وجل.
قال أبو السعود: "والِاقْتِصارُ عَلى بَيانِ خَيْرِيَّتِهِما مِن ذَلِكَ بِلا تَعَرُّضٍ لِلْإخْبارِ بِحُصُولِهِما لَهم لِلْإيذانِ بِعَدَمِ الحاجَةِ إلَيْهِ بِناءً عَلى اسْتِحالَةِ التَّخْيِيبِ مِنهُ تَعالى بَعْدَ الإطْماعِ". اهـ
وقيل بل لابد من تقدير محذوف آخر وهو: "مغفرة من الله لكم ورحمة منه لكم"، قاله أبو حيان والسمين الحلبي.

والإيجاز بالحذف هنا بليغ للمعنى الذي أشار إليه أبو السعود، والله أعلم.



و "خير" تدل على التفضيل.
وهل التفضيل هنا على بابه؛ بمعنى اشتراك المُفَضَّل وهو المغفرة والرحمة من الله عز وجل والمُفَضَّل عليه وهو ما يُجمع من متاع الحياة الدنيا في معنى الخيرية؟
أو ليس على بابه لأنه لا خير في متاع الحياة الدنيا الزائل خاصة إن كان مما يجمعه الكفار والمنافقون؟

بداية ينبغي أن يُعلم أن العرب تستعمل اسم التفضيل في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابلة، ومن ذلك قول حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدته التي ردَّ بها على هجاء أبي سفيان بن الحارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو سفيان في ذلك الوقت مشركًا.
فقال حسان: " أتهجوه ولست له بكفءٍ ... فشركما لخيركما الفداء"

فاسم التفضيل هنا لا يقتضي التشريك في الشر بين أبي سفيان ورسول الله صلى الله عليه وسلم -حاشاه-، ويقال الأمر نفسه في الخيرية.
والمقصود خصوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير، وخصوصية أبي سفيان بن الحارث -قبل إسلامه- بالشر.

وينبغي أن يُعلم أيضًا أن التفضيل قد يقع على سبيل ما يعتقده المخاطب لا حقيقة وجوده.
قال محمد بن عبد الخالق عضيمة في المعجم الصرفي لأساليب القرآن الكريم: "{وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}
أمة: مبتدأ، (خير) الخبر، وقد استُدل بقوله (خير) على جواز نكاح المشركة؛ لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك، ويكون النهي أولاً على سبيل الكراهة، قالوا والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين ولا حجة في ذلك لأن التفضيل قد يقع على سبيل الاعتقاد، لا على سبيل الوجود، ومنه {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا}، والعسل أحلى من الخل، وقال عمر في رسالته لأبي موسى: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل". اهـ

وفي قوله تعالى:{ولئن قُتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون}، جاء التفضيل على بابه، كما قال بذلك عدد من المفسرين منهم أبو حيان والسمين الحلبي وابن عادل وأبو السعود والألوسي.
ووجه الألوسي معنى الخيرية فيما يُجمع من متاع الدنيا بقوله: " وثُبُوتُ أصْلِ الخَيْرِيَّةِ لِما يَجْمَعُهُ الكُفّارُ كَما يَقْتَضِيهِ أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، إمّا بِناءً عَلى أنَّ الَّذِي يَجْمَعُونَهُ في الدُّنْيا قَدْ يَكُونُ مِنَ الحَلالِ الَّذِي يُعَدُّ خَيْرًا في نَفْسِ الأمْرِ، وإمّا أنَّ ذَلِكَ وارِدٌ عَلى حَسَبِ قَوْلِهِمْ ومُعْتَقَدِهِمْ أنَّ تِلْكَ الأمْوالَ خَيْرٌ ".
وهذا أبلغ لأن فيه نفي لما يقع في النفس من خيرية متاع الحياة الدنيا والطمع فيها، وما تزينه النفس من متاع الدنيا في مقابلة شدة الجهادة وكره النفس له، والله عز وجل يقول: {كُتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}

فجاء التفضيل هنا زيادة في الحث على الحرص على ما هو خيرٌ للمرء وأنفع له من كل متاع الدنيا؛ إن قُدر له أن يتمكن من تحصيل جميع ما يجمعه أهل الكفر والنفاق وما تجمعه الجماعة المؤمنة، فمغفرة الله ورحمته خير له من كل هذا المتاع الزائل، والله أعلم.


و{ما} في قوله :{ ما يجمعون} نكرة موصوفة تدل على العموم، فأقل مغفرة من الله ورحمة منه خير من عموم ما يجمعه أهل الدنيا ما قل منه وما كثر، ما كان وضيعًا أو عزيزًا.
وقرأ عاصم في رواية حفص عنه: {يجمعون} بالياء، والمعنى مما يجمعه الكفار والمنافقون.
وقرأ جمهور القراء:{تجمعون} بالتاء، على معنى الخطاب للمؤمنين.
وبمجموع القراءتين ففيها تزهيد في حطام الدنيا الزائل، وتزهيد في اتباع سبيل الكفار والمنافقين الذين يدعون لترك الجهاد تشبثا بمتاع الحياة الدنيا.

ثم تكرر القسم في الآية التالية زيادة في التأكيد:
قال الله عز وجل: {ولئن متم أو قُتلتم لإلى الله تُحشرون}
ويحتمل تقديم الموت هنا على القتل عكس الآية التي قبلها لـ:
- أن في هذه الآية وعظ بالآخرة والحشر إلى الله عز وجل وهو عام في كل من مات بقتل أو غيره، وعلى الطاعة أو المعصية؛ فقُدم الموت لعمومه ولأنه الأغلب في الناس من القتل، قاله ابن عطية.
- لما قد يظن بأن القتل في سبيل الله بعيد عن أن يعقبه الحشر، قاله ابن عاشور.
- وذكرابن عاشور فائدة بلاغية أخرى من اختلاف التقديم بين القتل والموت في الآيتين وهو رد العجز على الصدر فبدأ في الأولى بالقتل ثم الموت وعكس في الثانية.

وجاء جواب الشرط محذوفا دل عليه جواب القسم في قوله تعالى: {لإلى الله تُحشرون}
فالمعني: (ولئن متم أو قتلتم فإلى الله تُحشرون)
وجاء جواب القسم: {لإلى الله تُحشرون}؛ مقرونا بلام القسم الدالة على التأكيد.
وقُدم حرف الجر ولفظ الجلالة {إلى الله} للدلالة على الحصر، أن حشر العباد إلى الله وحده.
وأفاد تأخير الفعل أيضًا مراعاة فواصل الآيات، قاله أبو حيان.
فإذا كان هذا واقع الأمر فالعاقل من عمل لهذا اليوم الذي يلقى فيه ربه؛ فبأي شيء يلقاه إن كان يجاهر بالعصيان ويدعو إليه، ويظن ظن السوء أن الإعراض عن أمر الله يحميه من الموت أو القتل!
قال أبو حيان: "وتَضَمَّنَتِ الآيَةُ تَحْقِيرَ أمْرِ الدُّنْيا والحِرْصَ عَلى الشَّهادَةِ، وأنَّ مَصِيرَ العالَمِ كُلِّهِمْ إلى اللَّهِ، فالمُوافاةُ عَلى الشَّهادَةِ أمْثَلُ بِالمَرْءِ لِيُحْرِزَ ثَوابَها ويَجِدْهُ وقْتَ الحَشْرِ". اهـ

هذا والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ربِّ أدخلنا مُدخل صدقٍ وأخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا.
أحسنت نفع الله بك
أ+

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مذاكرة, مجلس

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:40 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir