الفصل الثاني: المياه المختلف فيها
تقدّم ذكر أنواع المياه التي يصحّ التطهر بها والتي لا يصحّ التطهر بها بلا خلاف بين أهل العلم، وبقي ذكر المسائل التي اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله تعالى، واختلافهم في هذا الباب على نوعين:
النوع الأول: الاختلاف في جواز التطهر وعدمه، والكراهة وعدمها.
والنوع الآخر: الاختلاف في الإجزاء وعدمه.
o الوضوء بالنبيذ
النبيذ هو الماء الذي ينبذ فيه التمر أو العنب أو غيرهما حتى يتغير طعمه ويتغير لونه تغيراً يسيراً؛ وهو على نوعين:
النوع الأول: ما يصل به التغير إلى درجة الإسكار لطول مكثه أو حفظه في مكان حارّ أو طبخه في الماء حتى يتغير طعمه ولونه؛ فهذا لا يصحّ التطهر به بلا خلاف.
قال البخاري في صحيحه: (بابٌ لا يجوز الوضوء بالنبيذ) ، واستدل لذلك بحديث: (كل مسكر حرام) والحرمة تتناول شربه والتطهر به.
النوع الثاني: ما لا يصل إلى درجة الإسكار ولم يطبخ في الماء، وإنما يتغير به طعم الماء فيصير حلواً.
وجمهور أهل العلم على تحريم الوضوء بالنبيذ وأنه لا يجزئ، وهو الصواب.
وذهب سفيان الثوري وأبو حنيفة في رواية عنه إلى صحة الوضوء بالنبيذ واستدلوا بحديث أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة لقي الجن فقال : ((أمعك ماء؟ ))
فقلت: لا.
قال: ما في هذه الإداوة؟
قلت: نبيذ.
قال: ((أرنيها ، تمرة طيبة وماء طهور )) فتوضأ منها ثم صلى بنا .
والحديث رواه أحمد وأبو داوود والترمذي كلهم من هذا الطريق، ولا يصح.
وروي عن أبي حنيفة أنه قال: (( يجوز أن يتوضأ بالنبيذ إذا عدم الماء)).
وجمهور أهل العلم على أنه لا يصح الوضوء بالنبيذ مطلقاً، والحديث المروي فيه ضعيف جداً؛ فمن لم يجد إلا النبيذ فإنه يتيمم ولا يتوضأ به.
أما إذا ألقي في الماء تمرات أو قطع من طعام لا يتحلل فيه ولم يطل وقته حتى يغير طعم الماء أو لونه فهو باق على الأصل ويصح التطهر به.
وكذلك لو وضع في الماء خبز ولم يغير له لوناً ولا طعماً صح الوضوء به؛ أما إذا غلب على اسم الماء حتى يكون مريساً فلا يصح التطهر به.
o الماء الذي ولغ فيه الكلب
إذا كان الماء قليلاً وولغ فيه كلب فهو نجس لما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار))
وفي رواية له: ((طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)).
فالأمر بإراقة الماء دليل على نجاسته ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم...) دليل على أن الإناء ينجس بولوغ الكلب وإن أريق الماء؛ فنجاسة الماء آكد.
وجمهور أهل العلم على أن الماء الذي ولغ فيه الكلب نجس لا يصح التطهر به،
وذهب الإمام الزهري ومالك والأوزاعي إلى صحة التطهر به إذا لم يجد غيره عملاً بقوله تعالى : {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ، والصحيح قول الجمهور لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الماء الذي ولغ فيه الكلب.
فهذا في الماء القليل الذي يلغ فيه الكلب كماء الإناء ونحوه؛ وأما إذا كان الماء كثيراً كمياه الغدران والسيول فإنّ الماء باقٍ فيها على طهارته، ويصح التطهر به؛ لأن النجاسة تكون مغمورة في الماء الكثير .
وقد روى ابن ماجه والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها السباع والكلاب والحُمُر، وعن الطهارة منها ؟
فقال:( لها ما حملت في بطونها ، ولنا ما غَبَر طَهور )
غَبَر: أي بقي.
وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد ضعيف لا يحتج بمثله، لكن العمدة على ما تقدم من أن الماء الكثير لا يَحمل الخبث.