بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.
تفسيرُ سورةِ التَّحْرِيمِ
وهي مَدَنِيَّةٌ
قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. في الآيةِ قَولانِ مَعروفانِ:
أظْهَرُ القَولَيْنِ: أنَّها نَزَلَتْ في تحريمِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ على نفْسِه مَارِيَةَ القِبطِيَّةَ؛ وسببُ ذلك: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ خَلاَ بها في بيتِ حَفْصَةَ، وكانَتْ حَفْصَةُ قدْ خَرَجَتْ لزيارةِ أَبِيهَا، فلَمَّا رَجَعَتْ وعَرَفَتْ ذلك فوَقَفَتْ على البابِ، وخَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ورَأَى الكآبةَ في وَجْهِها.
وفي رِوايةٍ: أنَّها رَاجَعَتْهُ في ذلك بعضَ الْمُراجَعَةِ وقالَتْ: هذا مِن حَقارتِي عندَكَ وصِغَرِ شأنِي، ولو كانَتْ في بيتِ غَيْرِي لم تَفْعَلْ ذلك.
فحَرَّمَ مَارِيَةَ على نفْسِه لطَلَبِ رِضاها, وقالَ لها: ((لاَ تُخْبِرِي بِذَلِكَ عَائِشَةَ)).
والقولُ الثاني: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَشْرَبُ عَسَلاً في بيتِ زَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ - وفي رِوايةٍ: في بيتِ سَوْدَةَ، وفي روايةٍ: في بيتِ أُمِّ سَلَمَةَ - فتَواطَأَتْ عائشةُ وحَفْصَةُ على أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذا دَخَلَ على وَاحدةٍ مِنهما - أيَّتُهُما كانَتْ - قالَتْ: إنِّي أجِدُ مِنكَ رِيحَ مَغافِيرَ.
وقدْ رُوِيَ أنَّ صَفِيَّةَ كانَتْ معَها في هذه الْمُوَاطَأَةِ، فدَخَلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ على عَائِشَةَ فقالَتْ له ذلك، ودَخَلَ على حَفْصَةَ فقالَتْ له ذلك، ودَخَلَ على صَفِيَّةَ فقالَتْ له ذلك، فكانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَكْرَهُ أنْ يُوجَدَ منه رِيحٌ لأجْلِ الملائكةِ, فقالَ: ((شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ)). فقُلنَ له: جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ.
والعُرْفُطُ: شجرةٌ يُوجَدُ مِنها رِيحٌ مَكروهٌ.
فحَرَّمَ العَسَلَ على نفْسِه، وقالَ: ((لاَ أَعُودُ إِلَى شُرْبِهِ أَبَداً)).
حَكَى هذا القولَ عُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ عن عَائِشَةَ. والأوَّلُ قولُ عُمَرَ وابنِ مَسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ وعامَّةِ الْمُفَسِّرينَ.
وعن ابنِ عبَّاسٍ في روايةٍ: أنَّ الآيةَ وَرَدَتْ في الواهبةِ نفْسَها للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ, وهو قولٌ شاذٌّ، ومعنَى الآيةِ: هو المُعاتَبَةُ معَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ في تَحْريمِ ما أَحَلَّ اللَّهُ له لطلَبِ رِضَا أزْوَاجِه.
وقولُه: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَدْ بَيَّنَّا.
قولُه تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}. أيْ: كَفَّارَةَ أَيْمَانِكم، والفرْضُ ههنا بمعنى البَيانِ والتَّسْميةِ, ويُقالُ: بمعنَى التقديرِ؛ لأنَّ الكَفَّارَاتِ مُقَدَّرَةٌ مَعدودةٌ.
فإنْ قيلَ: أينَ اليَمِينُ في الآيةِ، واللَّهُ تعالى قالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}؟
والجوابُ مِن وَجْهَيْنِ:
أحَدُهما: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ حَرَّمَ وحَلَفَ؛ فعَاتَبَه على التحريمِ وأمَرَهُ بالتكفيرِ في اليَمِينِ. وهذا قولٌ مَنقولٌ عن جماعةٍ مِن التابعِينَ؛ مِنهم مَسْرُوقٌ والشَّعْبِيُّ وغيرُهما.
والوَجْهُ الثاني: أنَّه كانَ حَرَّمَ ولم يَحْلِفْ, إلاَّ أنَّ تحريمَ الحلالِ يُوجِبُ الكفَّارَةَ. وهذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه.
واختلَفَ العُلماءُ في تحريمِ الحلالِ؛ فذَهَبَ ابنُ مَسعود ٍأنَّه إذا حَرَّمَ حلالاً -أيَّ حلالٍ كانَ- فعليهِ الكَفَّارَةُ. وهذا قولُ جماعةٍ مِن التابعِينَ، وهو قولُ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ والكُوفِيِّينَ.
وأمَّا مَذهَبُ مالِكٍ والشافعيِّ أنَّ تحريمَ الحلالِ في النساءِ يُوجِبُ الكَفَّارَةَ، وفي غيرِ النِّساءِ لا يُوجِبُ شيئاً.
وذَهَبَ جماعةٌ إلى أنَّ تحريمَ الحلالِ ليسَ بشيءٍ, قالَ مَسْرُوقٌ: لا أُبَالِي أحَرَّمْتُ امرأتِي أو قَصْعَةً مِن ثَريدٍ. يَعنِي أنه ليسَ بشيءٍ.
وعنْ بعضِهم: أنَّه إيلاءٌ.
وعن بعضِهم: أنَّه ظِهارٌ.
وعن بعضِهم: أنَّه يَلْزَمُه الطلاقُ الثلاثُ بتحريمِ الحلالِ في النِّساءِ.
وعن بعضِهم: أنَّه على نِيَّتِه.
وتَحِلَّةُ اليَمينِ: كَفَّارَةُ اليَمينِ, وسَمَّاهَا تَحِلَّةً؛ لأنَّه يَتحلَّلُ بها عن اليَمِينِ؛ أي: يَخرُجُ.
وعن بعضِهم: أنَّ تَحِلَّةَ اليَمِينِ هو الاستثناءُ؛ لأنَّه يَخْرُجُ بهِ عن اليَمينِ. والأوَّلُ هو المعروفُ.
وبيانُ الكَفَّارَةِ في سورةِ "المائدةِ" في قولِه تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} الآيةَ. فرُوِيَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَعْتَقَ رَقبةً.
وقولُه: {وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ}. أيْ: وَلِيُّ أُمُورِكم يَهْدِيكُم إلى الأَرْشَدِ والأقوَمِ والأَوْلَى.
وقولُه: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. أي: العالِمُ بأمْرِ خَلْقِه، الحكيمُ بما يُدَبِّرُه لهم.
قولُه تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً}. هي حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عنها, والذي أسَرَّه إليها هو تَحريمُه مَارِيَةَ.
وقالَ مَيمونُ بنُ مِهْرَانَ: أَسَرَّ إليها هذا، وأسَرَّ إليها أنَّ الْخِلافةَ بعدَه لأبي بَكْرٍ ثم لأَبِيهَا بعدَه. وهذا مذكورٌ في كثيرٍ مِن التفاسيرِ عن مَيمونِ بنِ مِهْرَانَ وغيرِه.
وقولُه: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ}. رُوِيَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ لِحَفْصَةَ: ((لاَ تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَداً)). وكانَتْ لا تَكْتُمُ شيئاً عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها, فذَهَبَتْ وأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بذلكَ؛ فنَزَلَ جِبْرِيلُ وأَخْبَرَه بمَا كانَ بينَهما، وذلكَ قولُه: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ}.
وقولُه: {عَرَّفَ بَعْضَهُ}. أيْ: عَرَّفَها بعضَ ما كانَ بينَهما، وأَعْرَضَ عن البعضِ؛ تَكَرُّماً وصَفْحاً، والتغافُلُ عن كثيرٍ مِن الأُمورِ مِن شِيمَةِ العُقلاءِ وأهْلِ الكَرَمِ, ويُقالُ: العاقِلُ هو المُتغافِلُ.
والذي أَظْهَرَه لها هو إخبارُها بتَحريمِ مارِيَةَ، والذي أَعْرَضَ عنه هو حديثُ أبي بكرٍ وعُمَرَ؛ كَرامةَ أنْ يَفْشُوَ ذلك بينَ الناسِ.
وقَرَأَ الكِسَائِيُّ: (عَرَفَ بَعْضَهُ) بالتخفيفِ.
قالَ الْفَرَّاءُ: أيْ: جَازَى عليهِ، ومُجازاتُه إيَّاها أنَّه طَلَّقَها، ثم إِنَّه نَزَلَ جِبْرِيلُ وأَمَرَه بِمُرَاجَعَتِها وقالَ: إنَّها صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ.
وقالَ الفَرَّاءُ: وهو مِثْلُ قولِ القائلِ لغيرِه: لأَعْرِفَنَّ ما عَمِلْتَ. أيْ: لأُجَازِيَنَّكَ عليه، وهو أيضاً مِثلُ قولِه تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ}. أيْ: لتُجَازِيَنَّهُمْ.
وقولُه: {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}.أيْ: لم يُجازِ عليه.
وقولُه: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ}. أيْ: أَخْبَرَها.
وقولُه: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا}. أيْ: مَن أخْبَرَكَ بهذا؟
وقولُه: {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي: اللَّهُ؛ فإِنَّه العليمُ بالأُمورِ، الْخَبيرُ بمَا في الصُّدورِ.
وقولُه تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ}. هذا خِطابٌ لعَائِشَةَ وحَفْصَةَ, ومعناهُ: إنْ تَتُوبَا فقَدْ فَعَلْتُما ما عليكما، التوبةَ في ذلك.
والذي فَعَلَتَا: المظاهَرَةُ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بالْمُوَاطَأَةِ على ما بَيَّنَّا، وبالسُّرورِ بما يَكْرَهُه مِن تحريمِ ما أَحَلَّ اللَّهُ له، وبشِدَّةِ الغَيْرَةِ عليه وأَذاهُ بذلك.
وقولُه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}. أيْ: مالَتْ قُلوبُكما عن الصوابِ. وقَدْ رُوِيَ أنَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ يُصْغِي الإناءَ للهِرَّةِ؛ أيْ: يُمِيلُ.
وقولُه: {قُلُوبُكُمَا}. أيْ: قَلْبَاكُما، قالَ الفَرَّاءُ: هو مِثلُ قَولِ العرَبِ: ضَرَبْتُ ظُهورَكما، وهَشَّمْتُ رُؤُوسَكما؛ أيْ: رَأْسَيْكُما وظَهْرَيْكما, ويُقالُ: إنَّ أكثَرَ ما في الإنسانِ مِن الجوارِحِ اثنانِ اثنانِ، وإذا هي تُذْكَرُ باسمِ الجمْعِ، فما كانَ واحداً جَرَى ذلك الْمَجْرَى؛ مِثلُ: الرأسِ والقلْبِ وغيرِ ذلك. ذَكَرَه النَّقَّاشُ.
وقولُه: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}. ثَبَتَ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ سَأَلَ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما عن الْمَرْأتيْنِ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ؛ أيْ: تَوَافَقَتَا على فعْلِ ما يَشتَدُّ عليه ويُؤْذِيهِ غَيْرَةً عليه، فقالَ: هما حَفْصَةُ وعائشةُ.
وقولُه: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ}. أيْ: نَاصِرُه وحافِظُه {وَجِبْرِيلُ}. أيْ: يَنْصُرُه أيضاً ويَحْفَظُه.
وقولُه: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}. فيه أقوالٌ:
أحَدُها: قالَ العَلاءُ بنُ زِيادٍ: هم الأنبياءُ. وهو قولُ قَتادةَ في إِحْدَى الرِّوايتيْنِ، وهو قولُ سُفيانَ الثَّوْرِيِّ.
وعن قَتادَةَ في رِوايةٍ أُخْرَى قالَ: هو أبو بكرٍ وعُمَرُ، وهما أَبَوَا الْمَرأتيْنِ.
قالَ سعيدُ بنُ أبي عَرُوبَةَ وهو الحاكِي ذلكَ عن قَتادةَ: ذَكَرْتُ ذلكَ لسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ, فقالَ: صَدَقَ قَتادةُ.
ورَوَى اللَّيْثُ عن مُجاهِدٍ أنَّه قالَ: هو عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه. وعن بعضِهم: هو خِيارُ المُؤْمنِينَ.
وقولُه: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. أيْ: ظُهَرَاءُ وأَعوانٌ، واحِدٌ بمعنَى الجمْعِ، مِثلُ قولِه تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}. أيْ: رُفقاءَ، قالَ الشاعِرُ:
إنَّ العَوَاذِلَ لَيْسَ لِي بأَمِيرِ
أيْ: بأُمَرَاءَ.
ورُوِيَ أنَّ عمرَ عاتَبَ حَفْصَةَ وقالَ: "لو أَمَرَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أنْ أَضْرِبَ رَقَبَتَكِ لضَرَبْتُ".
قولُه تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ}. فإنْ قِيلَ: كيفَ خَيْرٌ مِنكُنَّ ولَمْ يَكُنْ في ذلكَ الوقتِ أحَدٌ مِن النِّساءِ خَيْراً منهنَّ؟
والجوابُ: أنَّ مَعناهُ: إنْ طلَّقَكُنَّ بإِلْجَائِكُنَّ إيَّاهُ إلى الطلاقِ، وشِدَّةِ أَذَاكُنَّ له، وتَرْكِ التوبةِ, فيُبْدِلُهُ خَيْراً مِنكنَّ؛ أيْ: أطْوَعَ له مِنكنَّ، ويُقالُ: أحَبَّ له مِنكنَّ.
وقولُه: {مُسْلِمَاتٍ}. أيْ: خَاضعاتٍ مُنقاداتٍ.
وقولُه: {مُؤْمِنَاتٍ}. أيْ: مُصَدِّقَاتٍ.
وقولُه: {قَانِتَاتٍ}. أيْ: مُطِيعَاتٍ.
وقولُه: {تَائِبَاتٍ}. أيْ: تَائباتٍ مِن كُلِّ الذنوبِ، ومِن كلِّ ما يُؤْذِي النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ.
وقولُه: {عَابِدَاتٍ}. أيْ: مُتَذَلِّلاتٍ أو فاعِلاتٍ للطاعةِ، كما أمَرَهُنَّ اللَّهُ تعالى.
وقولُه: {سَائِحَاتٍ}. أيْ: صائِماتٍ، قالَ ابنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَ الصائمُ سائحاً؛ لأنَّ السائِحَ يَسِيحُ بغَيْرِ زادٍ، فإنْ وَجَدَ شيئاً أَكَلَ على جُوعٍ شديدٍ، ويُقالُ: {سَائِحَاتٍ}؛ أيْ: مُهاجِراتٍ.
وقولُه: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}. ظاهِرُ المعنَى.
ويقالُ: الثَّيِّبُ مِثْلُ: آسِيَةَ، والأبكارُ مِثلُ: مَرْيَمَ, عليهما السلامُ.