بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}.
تفسيرُ سورةِ الصَّفِّ
وهي مَدَنِيَّةٌ
قولُه تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}. قدْ بَيَّنَّا معنى هذه الآيةِ.
وفي بعضِ الأخبارِ: أنَّ أحَبَّ الكلامِ إلى اللَّهِ تعالى سُبْحانَ اللَّهِ. ولِحُبِّه هذه الكَلِمَةَ ألْهَمَها أهْلَ السماواتِ والأرْضِ.
وقولُه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. قدْ بَيَّنَّا.
قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: اجْتَمَعَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وتَذَاكَرُوا البَعْثَ وأمْرَ الآخِرَةِ ثم قالوا: لو عَلِمْنَا ما يُحِبُّهُ اللَّهُ فَفَعَلْنَا ولو نَبْذُلُ نُفوسَنا.
وفي روايةٍ: أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ رَوَاحَةَ كانَ يقولُ لِمَن يَلْقَاهُ: تَعالَ نُؤْمِنْ سَاعةً ونَذْكُرِ اللَّهَ تعالى، ويَقولُ: وَدِدْتُ أنْ لو عَرَفْتُ ما يُحِبُّه اللَّهُ فأَفْعَلُه.
فلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ الجهادَ وأمَرَهُم ببَذْلِ النفْسِ والمالِ، وكَتَبَ عليهم القتالَ أحَبُّوا الحياةَ وكَرِهُوا القتالَ؛ فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى قولَه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}.
وعن قَتادةَ أنَّ أصحابَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا فَرُّوا يَومَ أُحُدٍ إلاَّ نَفَراً يَسيراً مِنهم؛ أنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ.
والآيةُ وإنْ كانَتْ عامَّةً فإنَّها في بعضِ الصحابةِ دونَ البعضِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى قالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}, وهذا دَليلٌ ظاهِرٌ على أنَّ الآيةَ في هذه السورةِ لم تَرِدْ في حَقِّ جَمِيعِهم على العُمومِ.
وفي التفسيرِ: أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ رَوَاحَةَ قالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيةُ الجِهَادِ حَبَسْتُ نَفْسِي في سبيلِ اللَّهِ، ثم إنَّه لَمَّا خَرَجَ إلى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ, وكانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أمَّرَ زَيدَ بنَ حَارِثةَ, فإنِ استُشْهِدَ فجَعْفَرُ بنُ أبي طالِبٍ، فإنِ اسْتُشْهِدَ فعبدُ اللَّهِ بنُ رَواحةَ, قالَ: فاستُشْهِدَ زيدُ بنُ حارِثَةَ, ثم أَخَذَ الرايةَ جَعفرٌ فاستُشْهِدَ، ثم أَخَذَ الرايةَ عبدُ اللَّهِ بنُ رَواحةَ فاستُشْهِدَ، ثم إنه أخَذَ الرايةَ خالِدُ بنُ الوَلِيدِ وقَاتَلَ حتى رَجَعَ بالمُسلِمِينَ.
وقولُه: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ}. أيْ: بُغْضاً, {أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ}. والمعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى يَبْغُضُ مَنْ يَقُولُ شَيْئاً وَلاَ يَفْعَلُ.
قولُه تعالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}. أي: مُلْزَقٌ بعضُه ببعضٍ.
وقِيلَ: يَثْبُتُونَ في الحَرْبِ معَ الكُفَّارِ ثَباتَ البُنيانِ الذي وُضِعَ بعْضُه على بعضٍ وسُدَّ بالرَّصاصِ؛ والعَرَبُ إذا بَنَتِ البِناءَ بالْحِجارةِ يَرُصُّونَ الْحِجارةَ, ثم يَجْعَلُونَه في خِلالِ البِناءِ ويُسَمُّونَه البِناءَ المَرْصوصَ.