قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}. سَمَّاهُنَّ مُؤمناتٍ قبلَ وُصُولِهِنَّ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ؛ لأَنَّهُنَّ على قَصْدِ الإيمانِ وتَقديرِه. ذَكَرَه الأَزْهَرِيُّ.
وقولُه: {فَامْتَحِنُوهُنَّ}. أي: اختَبِرُوهُنَّ.
قالَ أهْلُ التفسيرِ: نَزلَتِ الآيةُ في العَهْدِ الذي كانَ بينَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وبينَ المشْرِكِينَ، وهو عهْدُ الْحُدَيْبِيَةِ، وكانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عاهَدَ معَ الْمُشْرِكِينَ على أنَّ مَن جاءَه مِنهم يَرُدُّه عَليهمْ, ومَن لَحِقَ بهم مِن المُؤْمنِينَ لم يَرُدُّوا, وأنَّ اللَّهَ تعالى نَسَخَ هذا العهْدَ ورَفَعَه في النِّساءِ وأمَرَه بالامتحانِ.
وقالَ بعضُهم: كانَ العهْدُ مُطْلَقاً, ولم يَكُنْ نَصٌّ في النِّساءِ برَدِّهِنَّ عليهم.
وقالَ بعضُهم: كانَ قد نَصَّ في النِّساءِ أنْ يَرُدَّهُنَّ عليهم, وإنْ جِئْنَ مُؤمناتٍ، ثم نُسِخَ. وهو الأَشْهَرُ, فكانَتِ التي أَتَتْ مُؤمنةً مُهاجِرَةً بعدَ العهْدِ: أُمُّ كُلثومٍ بنتُ عُقبةَ بنِ أبي مُعَيْطٍ.
وأمَّا الامتحانُ قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: هو أنْ يُحَلِّفَها أَنَّها ما هَاجَرَتْ إلاَّ حُبًّا للهِ ورسولِه ورَغبةً في الإسلامِ، وأنَّها لم تُهاجِرْ بحَدَثٍ أَحْدَثَتْه، ولا لبُغْضِ زَوْجٍ، ولا لرَغْبةٍ في مالٍ، ولا حُبًّا لإنسانٍ.
وقولُه: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}. يعنِي: إخلاصِهِنَّ في إيمانِهِنَّ.
وقولُه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}. فإنْ قالَ قائلٌ: كيفَ التوفيقُ بينَ قولِه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} وبينَ قولِه: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ}؟
والجوابُ عنه: أنَّ معنَى قولِه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ}. أيْ: إيمانُ الإقرارِ والامتحانِ، كأنَّهُنَّ أقْرَرْنَ بالإيمانِ، وحَلَفْنَ عندَ الامتحانِ.
وقولُه: {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}. أيْ: لا تَرُدُّوهُنَّ.
وقولُه تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. أي: لا هُنَّ حِلٌّ للكُفَّارِ نِكاحاً, ولا هُمْ يَحِلُّونَ للمُؤْمناتِ نِكاحاً.
وقولُه: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا}. أوْجَبَ اللَّهُ على المُسلمِينَ أنْ يَرُدُّوا على أزواجِهِنَّ ما أَعْطُوهُنَّ مِنَ الْمُهورِ.
وقولُه: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. أي: مُهورَهُنَّ، وفيه دَليلٌ على أنَّ النِّكاحَ لا يَكونُ إلاَّ بِمَهْرٍ.
وقولُه: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. أيْ: لا تُمْسِكُوا بنِكَاحِ الكوافِرِ، والكوافِرُ جَمْعُ الكافِرِ.
والمعنَى: أنَّ الرجُلَ إذا أسْلَمَ وهاجَرَ إِلَيْنَا وخلَّفَ امرأتَه في دارِ الحرْبِ كافرةً لم يَعْتَدَّ بها, ولم يَبْقَ نِكاحٌ بينَه وبَينَها.
ورُوِيَ أنَّ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه لَمَّا هاجَرَ خَلَّفَ امرأتَيْنِ بِمَكَّةَ مُشرِكَتَيْنِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَيْهِما مُعاويةُ والأُخْرَى صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ.
وقولُه: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ}. أيْ: مَا أَعْطَيْتُمْ، وهذا في المرأةِ مِن المسلِماتِ إذا لَحِقَتْ بالْمُشرِكينَ, فطَالَبَ زوجُها المشرِكِينَ بالْمَهْرِ الذي أَعطاهَا.
وقولُه: {وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا}. أيْ: ما أَعْطَوْا مِن الْمَهْرِ, وهو ما قَدَّمْنا.
وليسَ هذا معنى الأمْرِ والواجبِ أنْ يَسْأَلُوا لا مَحالةَ، ولكنَّ معناه: إنْ سأَلُوا أُعْطُوا، وكلُّ هذا مَنسوخٌ، وقدْ كانَ ذلك عَهْداً بينَ الرسولِ وبينَهم, وقدِ ارْتَفَعَ ذلك.
وقولُه: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. ظاهِرُ المعنى.
قولُه تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ}. أي: التَحَقَتْ واحدةٌ مِن أزواجِكم إلى الكُفَّارِ، يَعنِي النساءَ, {فَعَاقَبْتُمْ}. أيْ: غَنِمْتُمْ.
قالَ القُتَيْبِيُّ: معناه: كانَتْ لكُمْ عُقْبَى خَيْرٍ في الغَنيمةِ والظُّفَرِ.
وقُرِئَ: (فَعَقَبْتُمْ) وهو بذلك المعنى أيضاً.
قولُه: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا}. أيْ: مِثْلَ الذي أَعْطَوْا مِن الْمَهْرِ.
ومعنَى الآيةِ: أنَّ امرأةَ المُسْلِمِ إذا الْتَحَقَتْ بالمشرِكِينَ ولم يَرُدُّوا الْمَهْرَ، وظَفِرَ المُسلمونَ بهم وغَنِمُوا يَرُدُّونَ مِن الغَنيمةِ التي أَخَذُوا مَهْرَ الزوجِ الذي أَعْطَاهُ.
وقولُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}. أيْ: مُصَدِّقُونَ، وهذا الحُكْمُ مَنسوخٌ أيضاً.