بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلاَ أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ * لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ * لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
تفسيرُ سورةِ الحَشْرِ
وهي مَدَنِيَّةٌ
وعن ابنِ عبَّاسٍ: أنَّه سَمَّاها سُورةَ النَّضِيرِ. واللَّهُ أعلَمُ.
قولُه تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}. أيْ: صَلَّى وتَعَبَّدَ للهِ.
والتَّسْبيحُ للهِ تعالى: هو تَنْزيهُهُ مِن كلِّ سُوءٍ.
وذَكَرَ بعضُهم, عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قالَ: كلُّ تَسْبيحٍ وَرَدَ في القرآنِ فهو بمعنَى الصلاةِ. ومنه قولُه: سُبْحَةُ الضُّحَى؛ أي: صَلاةُ الضُّحَى.
وقولُه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. أي: الغالبُ على الأشياءِ, الحكيمُ في الأمورِ.
قولُه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ}. قالَ جماعةُ الْمُفَسِّرِينَ: هم بَنُو النَّضيرِ مِن اليَهودِ، وكانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وَادَعَهم وشَرَطَ عليهِمْ أنْ لا يَنْصُروا مُشْرِكِي قُريشٍ, فنَقَضُوا العهْدَ.
ورُوِيَ أنَّ نَقْضَهمُ العهْدَ كانَ هو أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أتاهُم يَسْتَعِينُ بهم في دِيَةِ التِّلاَدِيَّيْنِ - وقيلَ: العامِرِيَّيْنِ - قَتْلَى عَمْرِو بنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، فجاءَ وقَعَدَ في أصْلِ حِصْنِهم فقالوا: ما جاءَ بكَ يا مُحَمَّدُ؟ فذَكَرَ لهم ما جاءَ فيهِ، واستعانَ بهم, فدَبَّرُوا لِيُلْقُوا عليهِ صَخْرَةً ويَقتُلُوه، فجاءَ جِبريلُ عليهِ السلامُ وأَخْبَرَه، فرَجَعَ إلى المدينةِ ثم حاصَرَهم وأَجْلاَهُم.
وقولُه: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}. قالَ الحَسَنُ: معنَى أوَّلِ الحَشْرِ: هو أنَّ الشَّامَ أرْضُ الْمَحْشَرِ والْمَنْشَرِ، وكانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَجلاَهُمْ إلى الشامِ، فإِجْلاؤُه إيَّاهم كانَ هو الْحَشْرَ الأوَّلَ، والحشْرُ الثاني يومَ القِيامةِ. وهو قولُ عِكْرِمَةَ أيضاً.
قالَ عِكرمةُ: مَن شَكَّ أنَّ الشامَ أرْضُ الْمَحْشَرِ فلْيَقْرَأْ قولَه تعالى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}.
وقِيلَ: إنَّ بَنِي النَّضِيرِ كانوا أَوَّلَ مَن أُجْلُوا عن بلادِهم مِن اليَهودِ فقالَ: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} بهذا المعنَى, ثم إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه أجْلَى باقِيَ اليَهودِ عن جَزيرةِ العرَبِ؛ استدلالاً بقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لاَ يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)).
قالَ أبو عُبَيْدَةَ: وجَزيرةُ العَرَبِ مِن حَفَرِ أبي موسى إلى أقْصَى حَجَرٍ باليَمَنِ طُولاً، ومِن رَمْلِ يَبْرِينَ إلى مُنْقَطَعِ السَّمَاوةِ عَرْضاً. والقولُ الثاني قولُ مُجاهِدٍ وغيرِه.
وقولُه: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا}. معناه: ما ظَنَنْتُمْ أيُّها المؤمنونَ أنْ يَخْرُجُوا؛ لأنَّهم كانوا أعَزَّ اليَهودِ بأرْضِ الحِجازِ وأَمْنَعَهم جانباً.
قولُه: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}. أيْ: مِن عذابِ اللَّهِ.
وقولُه: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}. قالَ السُّدِّيُّ: هو بقَتْلِ كعْبِ بنِ الأشْرَفِ؛ قَتَلَه محمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ الأنصاريُّ حينَ بَعَثَه رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - وكانَ صَدِيقاً لكَعْبٍ في الجاهليَّةِ - فجاءَهُ ليلاً ودَقَّ عليه بابَ الحِصْنِ، فنَزَلَ فاغْتَالَه وقَتَلَه.
ورُوِيَ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ مَسلمَةَ قالَ لكَعْبٍ: أَلَسْتَ كُنْتَ تَعِدُنا خُروجَ هذا النَّبِيِّ، وتقولُ: هو الضَّحُوكُ القَتَّالُ, يَرْكَبُ البَعِيرَ، ويَلْبَسُ الشَّمْلَةَ، يَجْتَزِئُ بالكِسْرةِ، سَيْفُه على عاتِقِه، له مَلاحِمُ ومَلاحِمُ؟ فقالَ: نعمْ، ولكنْ ليسَ هو بذاكَ. فقالَ: كَذَبْتَ يا عَدُوَّ اللَّهِ, بل حَسَدْتُمُوهُ.
وقولُه: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}. أي: الخَوْفَ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قالَ: ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)).
وقولُه: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}.
وقُرِئَ: (يُخَرِّبُونَ) مِن الإخرابِ، فمِنهم مَن قالَ: هما واحدٌ, والتشديدُ للتكثيرِ. وقالَ أبو عَمرٍو: "يُخَرِّبُونَ" مِن فِعْلِ التخريبِ، و"يُخْرِبُونَ" بالتخفيفِ؛ أي: يَتْرُكُوها خَرَاباً.
فإِنْ قِيلَ: كيفَ قالَ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}, ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يُخْرِبُوا بيوتَهم بأَيْدِي المُؤْمِنِينَ؟
والجوابُ: إنَّما أضافَ إليهم؛ لأنَّهم هم الذينَ أَلْجَؤُوا المُؤْمنِينَ إلى التخريبِ، وحَمَلُوهم على ذلكَ بامتناعِهم عن الإيمانِ.
فإنْ قالَ قائلٌ: لِمَ خَرَّبُوا بُيُوتَهم؟
قُلْنا: طَلَبوا مِن ذلكَ تَوسيعَ مَوْضِعِ القِتالِ.
وعن الزُّهْرِيِّ: أنَّ المُسلمِينَ كانوا يُخْرِبُونَ مِن خارِجِ الحِصْنِ, واليهودَ كانوا يُخْرِبونَ مِن داخِلِ الحِصْنِ، وكانَ تَخريبُهم ذلك؛ ليَحْمِلُوا ما اسْتَحْسَنُوهُ مِن سُقوفِ بُيوتِهم معَ أنْفُسِهم. وقيلَ: لئلا تَبقَى للمؤمنينَ.
وقولُه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}. والاعتبارُ هو النظَرُ في الشيءِ؛ ليُعْرَفَ به جِنْسُه ومِثلُه.
وقيلَ: معناه: فانْظُرُوا وتَدَبَّرُوا يا ذوي العقولِ والفُهومِ، كيفَ سَلَّطَ اللَّهُ المُؤمنِينَ عليهم وسَلَّطَهم على أنفُسِهم؟
وقدِ استُدِلَّ بهذه الآيةِ على جوازِ القياسِ في الأحكامِ؛ لأنَّ القياسَ نوعُ اعتبارٍ؛ إذ هو تَعبيرُ شيءٍ بِمِثْلِه بمعنًى جامِعٍ بينَهما؛ ليَتَّفِقَا في حُكْمِ الشرْعِ.
قولُه تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أيْ: بالسيْفِ.
واستَدَلَّ بعضُهم بهذه الآيةِ على أنَّ الإخراجَ مِن الدارِ بِمَنْزِلَةِ القتْلِ، وعليه يَدُلُّ قولُه تعالى: {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ}.
وقولُه: {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}. أيْ: عذابُ جَهَنَّمَ.
وقولُه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. أيْ: خالَفُوا اللَّهَ ورسولَه.
وقد ذَكَرْنَا أنَّ معناه: صارُوا في شِقٍّ غيرِ شِقِّ المؤمنِينَ.
وقولُه: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ}. أيْ: يُخالِفِ= اللَّهَ؛ {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
قولُه تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} قالَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: اللِّينَةُ كُلُّ تَمْرٍ سِوَى الْبَرْنِيِّ والعَجْوةِ، وأهْلُ المدينةِ يُسَمُّونَ التُّمُورَ الألوانَ.
وقيلَ: اللِّينَةُ: النَّخْلَةُ.
وعن بعضِهم أنَّ اللِّينَةَ: جَمْعُ الأشْجَارِ، سُمِّيَتْ لِينَةً لِلِينِها بالحياةِ.
وعن سُفْيانَ قالَ: اللِّينَةُ كَرائمُ النخيلِ.
وقيلَ: هو الفَسِيلُ، سُمِّيَ لِينةً؛ لأنَّه لا يكونُ في شِدَّةِ الْحَرِّ.
ومِن المَشهورِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ, وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ)).
وفي القِصَّةِ: أنَّ أصحابَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا حَاصَرُوا بني النَّضِيرِ كانَ بعضُهم يَقْطَعُ النَّخِيلَ وبعضُهم يَترُكُها.
وفي روايةٍ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أمَرَهم بقَطْعِ النخيلِ، فخَرَجَ اليَهودُ حينَ رَأَوْا ذلك وقالوا: يا محمَّدُ, ألَسْتَ تَنْهَى عن الفَسادِ، وهذا مِن الفسادِ؟! فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ.
وقدْ ثَبَتَ برِوايةِ نافِعٍ, عن ابنِ عمرَ, أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حَرَّقَ نخيلَ بَنِي النَّضِيرِ وقَطَعَها؛ فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}. أيْ: بأَمْرِ اللَّهِ.
قالَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أخْبَرَنا بهذا الخَبَرِ الْمَكِّيُّ بنُ عبدِ الرزَّاقِ, أخْبَرَنَا جَدِّي, أخْبَرَنا الفِرَبْرِيُّ, أخْبَرَنا البُخَارِيُّ، عن قُتَيْبَةَ, عن اللَّيْثِ بنِ سعْدٍ، عن نافعٍ الخَبَرَ.
وفي روايةٍ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حَرَّقَ الْبُوَيْرَةَ، وقالَ شاعرُهم شِعْراً:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
والبُوَيْرَةُ: مَوضِعُ بَنِي النَّضِيرِ.
وقولُه: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}. هم اليَهودُ، وإِخْزَاؤُهم هو رُؤْيَتُهم كيفَ يَتحكَّمُ المُؤمِنونَ في أموالِهم.