دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > متون التفسير وعلوم القرآن الكريم > التفسير وأصوله > تفسير جزء قد سمع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 04:28 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي تفسير سورة الحشر (الآيات: 1-5)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 07:55 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي تيسير الكريم الرحمن للشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي

تفسيرُ سورةِ الحَشْرِ

وهي مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلاَ أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ * لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ * لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ *}.
هذه السورةُ تُسَمَّى سُورةَ بَنِي النَّضِيرِ، وهم طائفةٌ كبيرةٌ مِن اليَهودِ في جانبِ المدينةِ وَقْتَ بَعْثةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، فلَمَّا بُعِثَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ وهاجَرَ إلى المدينةِ كَفَرُوا به في جُملةِ مَن كفَرَ مِن اليهودِ.
فهَادَنَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ طَوائفَ اليهودِ الذينَ هم جِيرَانُه في المدينةِ، فلَمَّا كانَ بعدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بسِتَّةِ أشهُرٍ أو نحوِها؛ خرَجَ إليهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، وكَلَّمَهم أنْ يُعِينُوهُ في دِيَةِ الكِلاَبِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهم عمرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، فقالوا: نَفْعَلُ يا أبا القاسِمِ، اجْلِسْ ههنا حتى نَقْضِيَ حاجَتَكَ.
فخَلاَ بعضُهم ببعضٍ، وسَوَّلَ لهم الشيطانُ الشَّقَاءَ الذي كُتِبَ عليهم، فتَآمَرُوا بقَتْلِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، فقالوا: أيُّكم يَأْخُذُ هذهِ الرَّحَى فيَصْعَدُ فيُلْقِيها على رأسِه يَشْدَخُه بها؟
فقالَ أَشقَاهُم عمرُو بنُ جِحَاشٍ: أنا. فقالَ لهم سَلاَّمُ بنُ مِشْكَمٍ: لا تَفْعَلُوا؛ فواللَّهِ ليُخْبَرَنَّ بما هَمَمْتُم به، وإِنَّه لنَقْضٌ للعهْدِ الذي بينَنا وبينَه.
وجاءَ الوَحْيُ على الفَوْرِ إليهِ مِن رَبِّهِ بما هَمُّوا به، فنَهَضَ مُسْرِعاً، فتَوَجَّهَ إلى المدينةِ، ولَحِقَه أصحابُه، فقالوا: نَهَضْتَ ولم نَشعُرْ بِكَ! فأَخْبَرَهم بما هَمَّتْ يَهودُ به.
وبَعَثَ إليهم رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ أنِ اخْرُجُوا مِن المدينةِ ولا تُسَاكِنُونِي بها، وقدْ أَجَّلْتُكُمْ عَشْراً؛ فمَن وَجدْتُ بعدَ ذلك ضَرَبْتُ عُنُقَه.
فأقَامُوا أيَّاماً يَتَجَهَّزُونَ، وأَرْسَلَ إليهم المُنافِقُ عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلولٍ: أنْ لا تَخْرُجُوا مِن دِيارِكم؛ فإنَّ مَعِي ألْفَيْنِ يَدْخُلُونَ معَكم حِصْنَكُمْ فيَموتونَ دُونَكم، وتَنْصُرُكم قُرَيْظَةُ وحُلفاؤُكم مِن غَطَفَانَ.
وطَمِعَ رئيسُهم حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ فيما قالَ له، وبعَثَ إلى رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ يقولُ: إنَّا لا نَخرُجُ مِن دِيارِنا، فاصنَعْ ما بدا لكَ.
فكَبَّرَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وأصحابُه، ونَهَضُوا إليهم، وعليُّ بنُ أبي طالِبٍ يَحمِلُ اللِّواءَ، وأَقامُوا على حُصونِهم يَرْمُونَ بالنَّبْلِ والحِجَارةِ، واعتَزَلَتْهُم قُرَيْظَةُ، وخانَهم ابنُ أُبَيٍّ وحُلفاؤُهم مِن غَطَفَانَ.
فحَاصَرَهم رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، وقَطَّعَ نَخْلَهم وَحَرَّقَ، فأَرْسَلُوا إليهِ: نحنُ نَخْرُجُ مِن المدينةِ.
فأَنْزَلَهم على أنْ يَخْرُجوا مِنها بنُفُوسِهم وذَرَارِيِّهِم، وأنَّ لهم ما حَمَلَتْ إِبِلُهم إلاَّ السلاحَ. وقَبَضَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ الأموالَ والسلاحَ.
وكانَتْ بَنُو النَّضِيرِ خالِصَةً لرسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ لنَوَائِبِه ومَصالِحِ المُسلمِينَ، ولم يُخَمِّسْها؛ لأنَّ اللَّهَ أَفَاءَها عليهِ، ولَمْ يُوجِفِ المُسلمونَ عليها بخَيْلٍ ولا رِكابٍ.
وأَجلاهُم إلى خَيْبَرَ، وفيهم حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ كبيرُهم، واستَوْلَى على أرْضِهم ودِيارِهم، وقبَضَ السلاحَ، فوَجَدَ مِن السلاحِ خَمْسِينَ دِرْعاً وخَمْسِينَ بَيْضَةً وثلاثَمائةٍ وأربعينَ سَيْفاً.
هذا حاصِلُ قِصَّتِهم كما ذَكَرَها أهلُ السِّيَرِ.
(1) فافْتَتَحَ تعالى هذه السورةَ بالإخبارِ أنَّ جميعَ مَن في السماواتِ والأرْضِ تُسَبِّحُ بحَمْدِ ربِّها وتُنَزِّهُهُ عمَّا لا يَلِيقُ بجَلالِه، وتَعْبُدُه وتَخْضَعُ لعَظمتِه؛ لأنَّه العزيزُ الذي قَدْ قَهَرَ كلَّ شيءٍ؛ فلا يَمْتَنِعُ عليهِ شيءٌ، ولا يَسْتَعْصِي عليهِ عَسيرٌ، الحكيمُ في خَلْقِه وأمْرِه؛ فلا يَخْلُقُ شيئاً عَبَثاً، ولا يَشْرَعُ ما لا مَصْلَحَةَ فيه، ولا يَفْعَلُ إلاَّ ما هو مُقْتَضَى حِكمتِه.
(2) ومِن ذلكَ نَصْرُه لرسولِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ على الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكتابِ مِن بَنِي النَّضِيرِ حينَ غَدَرُوا برسولِه فأَخْرَجَهم مِن دِيارِهم وأَوطانِهم التي أَلِفُوها وأَحَبُّوها.
وكانَ إخراجُهم منها أوَّلَ حَشْرٍ وجَلاءٍ كَتَبَه اللَّهُ عليهم على يَدِ رسولِه محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، فجَلَوْا إلى خَيْبَرَ.
ودَلَّتِ الآيةُ الكريمةُ أنَّ لهم حَشْراً وجَلاءً غيرَ هذا؛ فقَدْ وَقَعَ حِينَ أَجْلاَهُم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ مِن خَيْبَرَ، ثم عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عنه أخْرَجَ بَقِيَّتَهم منها.
{مَا ظَنَنْتُمْ} أيُّها المُسلِمونَ {أَنْ يَخْرُجُوا} مِن دِيارِهم؛ لِحَصَانَتِها ومَنَعَتِها وعِزِّهم فيها.
{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمُ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}؛ فأُعْجِبُوا بها وغَرَّتْهُم، وحَسِبُوا أنَّهم لا يُنَالُونَ بها، ولا يَقْدِرُ عليها أحَدٌ، وَقَدَرُ اللَّهِ وَراءَ ذلكَ كُلِّه، لا تُغْنِي عنه الحصونُ والقِلاعُ، ولا تُجْدِي فيهِ القوَّةُ والدِّفاعُ.
ولهذا قالَ: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}؛ أيْ: مِن الأمْرِ والبابِ الذي لم يَخْطِرْ ببالِهم أنْ يُؤْتَوْا منه، وهو أنَّه تعالى: {قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}: وهو الخوفُ الشديدُ، الذي هو جُندُ اللَّهِ الأكبَرُ، الذي لا يَنْفَعُ معَه عَددٌ ولا عُدَّةٌ، ولا قُوَّةٌ ولا شِدَّةٌ.
فالأمْرُ الذي يَحْتَسِبُونَه، ويَظُنُّونَ أنَّ الْخَلَلَ يَدْخُلُ عليهم منه إنْ دَخَلَ، هو الحُصونُ التي تَحَصَّنُوا بها واطْمَأَنَّتْ نُفوسُهم إليها، ومَن وَثِقَ بغيرِ اللَّهِ فهو مَخذولٌ، ومَن رَكَنَ إلى غيرِ اللَّهِ كانَ وَبالاً عليه، فأَتاهُم أمْرٌ سَمَاوِيٌّ نَزَلَ على قلوبِهم، التي هي مَحَلُّ الثباتِ والصبْرِ، أو الْخَوَرِ والضَّعْفِ.
فأَزالَ قُوَّتَها وشِدَّتَها، وأَوْرَثَها ضَعْفاً وخَوَراً وجُبْناً لا حِيلَةَ لهم في دَفْعِه، فصارَ ذلك عَوْناً عليهم.
ولهذا قالَ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}؛ وذلكَ أنَّهم صالَحُوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ على أنَّ لهم ما حَمَلَتِ الإبِلُ، فنَقَضُوا لذلكَ كثيراً مِن سُقُوفِهم التي استَحْسَنُوها، وسَلَّطُوا المُؤْمنِينَ بسببِ بَغْيِهم على إخرابِ دِيارِهم وهَدْمِ حُصونِهم، فهم الذينَ جَنَوْا على أنْفُسِهم وصارُوا أكبَرَ عَوْنٍ عليها.
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}؛ أي: البصائرِ النافذةِ والعقولِ الكاملةِ؛ فإنَّ في هذا مُعْتَبَراً يُعْرَفُ بهِ صُنْعُ اللَّهِ تعالى في الْمُعانِدِينَ للحَقِّ الْمُتَّبِعِينَ لأهوائِهم، الذينَ لم تَنْفَعْهم عِزَّتُهم, ولا مَنَعَتْهُم قُوَّتُهم، ولا حَصَّنَتْهم حُصونُهم، حِينَ جاءَهم أمْرُ اللَّهِ وَصَلَ إليهم النَّكَالُ بذُنوبِهم.
والعِبرةُ بعمومِ المعنَى لا بخُصوصِ السببِ؛ فإنَّ هذه الآيةَ تَدُلُّ على الأمْرِ بالاعتبارِ، وهو اعتبارُ النَّظِيرِ بنَظيرِه، وقُياسُ الشيءِ على ما يُشَابِهُه، والتفَكُّرُ فيما تَضَمَّنَتْه الأحكامُ مِن الْمَعانِي والحِكَمِ التي هي مَحَلُّ العقْلِ والفِكْرَةِ، وبذلكَ يَكمُلُ العقْلُ، وتَتَنَوَّرُ البَصيرةُ، ويَزدادُ الإيمانُ ويَحْصُلُ الفَهْمُ الحقيقيُّ.
(3) ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى أنَّ هؤلاءِ اليهودَ لم يُصِبْهم جميعُ ما يَستَحِقُّون مِن العُقوبةِ، وأنَّ اللَّهَ خَفَّفَ عنهم، فلولا أنَّه كتَبَ عليهم الجَلاءَ الذي أصابَهم وقَضاهُ عليهم وقَدَّرَه بقَدَرِه الذي لا يُبَدَّلُ ولا يُغَيَّرُ؛ لَكانَ له شأنٌ آخَرُ مِن عَذابِ الدنيا ونَكَالِها.
ولكنَّهم وإنْ فاتَهم العذابُ الشديدُ الدُّنْيَوِيُّ، فإنَّ لهم في الآخِرةِ عَذابَ النارِ الذي لا يُمْكِنُ أنْ يَعْلَمَ شِدَّتَه إلاَّ اللَّهُ، فلا يَخْطِرُ ببَالِهم أنَّ عُقوبَتَهم قدِ انقَضَتْ وفَرَغَتْ، ولم يَبْقَ لهم منها بَقِيَّةٌ، فما أعَدَّ اللَّهُ لهم مِن العذابِ في الآخِرةِ أعْظَمُ وأطَمُّ.
(4) و{ذَلِكَ} لأنهم {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وعادَوْهما وحارَبُوهما، وسَعَوْا في مَعْصِيَتِهما، وهذهِ سُنَّتُه وعَادَتُه فيمَنْ شاقَّهَ, {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
(6) ولَمَّا لامَ بَنُو النَّضيرِ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ والمُسلمِينَ في قطْعِ النَّخيلِ والأشجارِ، وزَعَمُوا أنَّ ذلكَ مِن الفَسادِ، وتَوَصَّلُوا بذلك إلى الطَّعْنِ بالمُسلمِينَ، أخْبَرَ تعالى أنَّ قَطْعَ النخيلِ إنْ قَطَعُوهُ أو إبقاءَهم إيَّاه إنْ أَبْقَوْهُ؛ أنَّه بإذْنِه تعالى وأمْرِه.
{وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} حيثُ سَلَّطَكم على قَطْعِ نَخْلِهم وتَحْرِيقِها؛ ليَكُونَ ذلكَ نَكَالاً لهم وخِزْياً في الدنيا، وذُلاًّ يُعرَفُ به عَجْزُهم التامُّ الذي ما قَدَرُوا على استنقاذِ نَخْلِهم الذي هو مادَّةُ قُوتِهم.
واللِّينَةُ تَشمَلُ سائرَ النخيلِ، على أصَحِّ الاحتمالاتِ وأَوْلاَها.
فهذهِ حالُ بَنِي النَّضِيرِ وكيفَ عاقَبَهم اللَّهُ تعالى في الدُّنيا.


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 08:04 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي زبدة التفسير للدكتور: محمد بن سليمان الأشقر

سُورةُ الحشْرِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ * لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ * لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
2- {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} هم بنو النَّضِيرِ، وهم رَهْطٌ مِن اليهودِ مِن ذُرِّيَّةِ هارونَ، نَزلوا المدينةَ في فِتَنِ بني إسرائيلَ، فغَدَرُوا بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَ أنْ عاهَدُوه، وصارُوا عليه مع المشْرِكينَ، فحاصَرَهم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتى رَضُوا بالجَلاءِ.
قالَ الكلبيُّ: كانوا أوَّلَ مَن أُجْلِيَ مِن أهلِ الكتابِ مِن جَزيرةِ العرَبِ، ثم أُجْلِيَ آخِرُهم في زمَنِ عمرَ بنِ الْخَطَّابِ، فكانَ جَلاؤُهم أوَّلَ حشْرٍ مِن المدينةِ، وآخِرُ حشْرٍ إجلاءُ عمرَ لهم، وقيلَ: آخِرُ الحشْرِ هو حشْرُ جميعِ الناسِ إلى أرضِ الْمَحْشَرِ, {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا} أيْ: ما ظَننتُمْ أيُّها المسلمونَ أنَّ بَنِي النَّضيرِ يَخرجونَ مِن دِيارِهم؛ لعِزَّتِهم ومَنَعَتِهم, وكانوا أهْلَ حُصونٍ مانِعةٍ، وعَقارٍ ونَخيلٍ واسعةٍ، وأهلَ عَدَدٍ وعُدَّةٍ.
{وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ} أيْ: وظَنَّ بنو النَّضيرِ أنَّ حُصونَهم تَمْنَعُهم مِن بأسِ اللهِ.
{فَأَتَاهُمُ اللهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أيْ: أَتاهمْ أمْرُ اللهِ مِن جِهةٍ لم يَخْطِرْ ببَالِهم أنه يَأتيهِم أمْرُه منها، وهو أنه سُبحانَه أمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقِتالِهم وإجلائِهم، وكانوا لا يَظُنُّونَ أنَّ الأمْرَ يَصِلُ إلى ذلك، بل كانوا عندَ أنفُسِهم أعَزَّ وأَقْوَى.
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}: الرعْبُ أشدُّ الخوفِ, قالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)). {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم لَمَّا أَيْقَنُوا بالجَلاءِ حسَدُوا المسلمينَ أنْ يَسْكُنوا مَنازِلَهم؛ فجَعَلُوا يُخْرِبُونَها مِن داخِلَ والمسلمونَ مِن خارِجَ.
وقالَ الزُّهْرِيُّ وعُروةُ بنُ الزبيرِ: لَمَّا صالَحَهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أنَّ لهم ما أقَلَّتِ الإبِلُ كانوا يَستحسنونَ الْخَشَبَةَ أو العمودَ فيَهْدِمونَ بُيوتَهم ويَحمِلُون ذلك على إبِلِهم ويُخَرِّبُ المؤمنونَ باقِيَها.
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أيْ: اعْلَموا أنَّ اللهَ يَفعلُ مِثلَ ذلك بِمَن غَدَرَ وحَادَّ اللهَ.
{وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أيْ: لولا أنْ كَتَبَ اللهُ عليهم الخروجَ مِن أوطانِهم على الوَجْهِ، وقَضَى به عليهم، لعَذَّبَهم بالقتْلِ والسَّبْيِ في الدنيا كما فَعَلَ ببَنِي قُريظةَ.
4- {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ} أيْ: بسببِ عَداوتِهم للهِ ورسولِه ونَقْضِهم للعَهْدِ.
5- {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}: أَخَذَ بعضُ المسلمينَ في مَعْرَكَةِ النضيرِ يَقطَعُ نَخيلَ الكُفَّارِ لإغاظَتِهم، فقالَ بَنو النَّضيرِ وهم أهْلُ كتابٍ: يا مُحَمَّدُ, ألستَ تَزعُمُ أنك نَبِيٌّ تُريدُ الصلاحَ؟ أفمِنَ الصلاحِ قطْعُ النخْلِ وحَرْقُ الشجَرِ؟ وهلْ وَجَدْتَ فيما أُنْزِلَ عليكَ إباحةَ الفَسادِ في الأرْضِ؟ فشَقَّ ذلك على رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ووَجَدَ المسلمونَ في أنْفُسِهم، فنزَلَتْ الآيةُ {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} أيْ: لِيُذِلَّ الخارجينَ عن الطاعةِ، وهم اليهودُ، ويَغِيظَهم في قَطْعِها وتَرْكِها،فإنهم إذا رَأَوُا المؤمنينَ يَتحَكَّمُونَ في أموالِهم كيف شَاؤُوا ازدَادوا غَيْظاً وخِزْياً.


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 08:13 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي تفسير القرآن للإمام أبي المظفر السمعاني


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلاَ أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ * لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ * لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
تفسيرُ سورةِ الحَشْرِ
وهي مَدَنِيَّةٌ
وعن ابنِ عبَّاسٍ: أنَّه سَمَّاها سُورةَ النَّضِيرِ. واللَّهُ أعلَمُ.
قولُه تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}. أيْ: صَلَّى وتَعَبَّدَ للهِ.
والتَّسْبيحُ للهِ تعالى: هو تَنْزيهُهُ مِن كلِّ سُوءٍ.
وذَكَرَ بعضُهم, عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قالَ: كلُّ تَسْبيحٍ وَرَدَ في القرآنِ فهو بمعنَى الصلاةِ. ومنه قولُه: سُبْحَةُ الضُّحَى؛ أي: صَلاةُ الضُّحَى.
وقولُه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. أي: الغالبُ على الأشياءِ, الحكيمُ في الأمورِ.
قولُه تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ}. قالَ جماعةُ الْمُفَسِّرِينَ: هم بَنُو النَّضيرِ مِن اليَهودِ، وكانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وَادَعَهم وشَرَطَ عليهِمْ أنْ لا يَنْصُروا مُشْرِكِي قُريشٍ, فنَقَضُوا العهْدَ.
ورُوِيَ أنَّ نَقْضَهمُ العهْدَ كانَ هو أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أتاهُم يَسْتَعِينُ بهم في دِيَةِ التِّلاَدِيَّيْنِ - وقيلَ: العامِرِيَّيْنِ - قَتْلَى عَمْرِو بنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، فجاءَ وقَعَدَ في أصْلِ حِصْنِهم فقالوا: ما جاءَ بكَ يا مُحَمَّدُ؟ فذَكَرَ لهم ما جاءَ فيهِ، واستعانَ بهم, فدَبَّرُوا لِيُلْقُوا عليهِ صَخْرَةً ويَقتُلُوه، فجاءَ جِبريلُ عليهِ السلامُ وأَخْبَرَه، فرَجَعَ إلى المدينةِ ثم حاصَرَهم وأَجْلاَهُم.
وقولُه: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}. قالَ الحَسَنُ: معنَى أوَّلِ الحَشْرِ: هو أنَّ الشَّامَ أرْضُ الْمَحْشَرِ والْمَنْشَرِ، وكانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أَجلاَهُمْ إلى الشامِ، فإِجْلاؤُه إيَّاهم كانَ هو الْحَشْرَ الأوَّلَ، والحشْرُ الثاني يومَ القِيامةِ. وهو قولُ عِكْرِمَةَ أيضاً.
قالَ عِكرمةُ: مَن شَكَّ أنَّ الشامَ أرْضُ الْمَحْشَرِ فلْيَقْرَأْ قولَه تعالى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}.
وقِيلَ: إنَّ بَنِي النَّضِيرِ كانوا أَوَّلَ مَن أُجْلُوا عن بلادِهم مِن اليَهودِ فقالَ: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} بهذا المعنَى, ثم إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه أجْلَى باقِيَ اليَهودِ عن جَزيرةِ العرَبِ؛ استدلالاً بقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((لاَ يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)).
قالَ أبو عُبَيْدَةَ: وجَزيرةُ العَرَبِ مِن حَفَرِ أبي موسى إلى أقْصَى حَجَرٍ باليَمَنِ طُولاً، ومِن رَمْلِ يَبْرِينَ إلى مُنْقَطَعِ السَّمَاوةِ عَرْضاً. والقولُ الثاني قولُ مُجاهِدٍ وغيرِه.
وقولُه: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا}. معناه: ما ظَنَنْتُمْ أيُّها المؤمنونَ أنْ يَخْرُجُوا؛ لأنَّهم كانوا أعَزَّ اليَهودِ بأرْضِ الحِجازِ وأَمْنَعَهم جانباً.
قولُه: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}. أيْ: مِن عذابِ اللَّهِ.
وقولُه: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}. قالَ السُّدِّيُّ: هو بقَتْلِ كعْبِ بنِ الأشْرَفِ؛ قَتَلَه محمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ الأنصاريُّ حينَ بَعَثَه رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - وكانَ صَدِيقاً لكَعْبٍ في الجاهليَّةِ - فجاءَهُ ليلاً ودَقَّ عليه بابَ الحِصْنِ، فنَزَلَ فاغْتَالَه وقَتَلَه.
ورُوِيَ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ مَسلمَةَ قالَ لكَعْبٍ: أَلَسْتَ كُنْتَ تَعِدُنا خُروجَ هذا النَّبِيِّ، وتقولُ: هو الضَّحُوكُ القَتَّالُ, يَرْكَبُ البَعِيرَ، ويَلْبَسُ الشَّمْلَةَ، يَجْتَزِئُ بالكِسْرةِ، سَيْفُه على عاتِقِه، له مَلاحِمُ ومَلاحِمُ؟ فقالَ: نعمْ، ولكنْ ليسَ هو بذاكَ. فقالَ: كَذَبْتَ يا عَدُوَّ اللَّهِ, بل حَسَدْتُمُوهُ.
وقولُه: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}. أي: الخَوْفَ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قالَ: ((نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)).
وقولُه: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}.
وقُرِئَ: (يُخَرِّبُونَ) مِن الإخرابِ، فمِنهم مَن قالَ: هما واحدٌ, والتشديدُ للتكثيرِ. وقالَ أبو عَمرٍو: "يُخَرِّبُونَ" مِن فِعْلِ التخريبِ، و"يُخْرِبُونَ" بالتخفيفِ؛ أي: يَتْرُكُوها خَرَاباً.
فإِنْ قِيلَ: كيفَ قالَ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}, ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يُخْرِبُوا بيوتَهم بأَيْدِي المُؤْمِنِينَ؟
والجوابُ: إنَّما أضافَ إليهم؛ لأنَّهم هم الذينَ أَلْجَؤُوا المُؤْمنِينَ إلى التخريبِ، وحَمَلُوهم على ذلكَ بامتناعِهم عن الإيمانِ.
فإنْ قالَ قائلٌ: لِمَ خَرَّبُوا بُيُوتَهم؟
قُلْنا: طَلَبوا مِن ذلكَ تَوسيعَ مَوْضِعِ القِتالِ.
وعن الزُّهْرِيِّ: أنَّ المُسلمِينَ كانوا يُخْرِبُونَ مِن خارِجِ الحِصْنِ, واليهودَ كانوا يُخْرِبونَ مِن داخِلِ الحِصْنِ، وكانَ تَخريبُهم ذلك؛ ليَحْمِلُوا ما اسْتَحْسَنُوهُ مِن سُقوفِ بُيوتِهم معَ أنْفُسِهم. وقيلَ: لئلا تَبقَى للمؤمنينَ.
وقولُه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}. والاعتبارُ هو النظَرُ في الشيءِ؛ ليُعْرَفَ به جِنْسُه ومِثلُه.
وقيلَ: معناه: فانْظُرُوا وتَدَبَّرُوا يا ذوي العقولِ والفُهومِ، كيفَ سَلَّطَ اللَّهُ المُؤمنِينَ عليهم وسَلَّطَهم على أنفُسِهم؟
وقدِ استُدِلَّ بهذه الآيةِ على جوازِ القياسِ في الأحكامِ؛ لأنَّ القياسَ نوعُ اعتبارٍ؛ إذ هو تَعبيرُ شيءٍ بِمِثْلِه بمعنًى جامِعٍ بينَهما؛ ليَتَّفِقَا في حُكْمِ الشرْعِ.
قولُه تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أيْ: بالسيْفِ.
واستَدَلَّ بعضُهم بهذه الآيةِ على أنَّ الإخراجَ مِن الدارِ بِمَنْزِلَةِ القتْلِ، وعليه يَدُلُّ قولُه تعالى: {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ}.
وقولُه: {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}. أيْ: عذابُ جَهَنَّمَ.
وقولُه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. أيْ: خالَفُوا اللَّهَ ورسولَه.
وقد ذَكَرْنَا أنَّ معناه: صارُوا في شِقٍّ غيرِ شِقِّ المؤمنِينَ.
وقولُه: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ}. أيْ: يُخالِفِ= اللَّهَ؛ {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
قولُه تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} قالَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: اللِّينَةُ كُلُّ تَمْرٍ سِوَى الْبَرْنِيِّ والعَجْوةِ، وأهْلُ المدينةِ يُسَمُّونَ التُّمُورَ الألوانَ.
وقيلَ: اللِّينَةُ: النَّخْلَةُ.
وعن بعضِهم أنَّ اللِّينَةَ: جَمْعُ الأشْجَارِ، سُمِّيَتْ لِينَةً لِلِينِها بالحياةِ.
وعن سُفْيانَ قالَ: اللِّينَةُ كَرائمُ النخيلِ.
وقيلَ: هو الفَسِيلُ، سُمِّيَ لِينةً؛ لأنَّه لا يكونُ في شِدَّةِ الْحَرِّ.
ومِن المَشهورِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ, وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ)).
وفي القِصَّةِ: أنَّ أصحابَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا حَاصَرُوا بني النَّضِيرِ كانَ بعضُهم يَقْطَعُ النَّخِيلَ وبعضُهم يَترُكُها.
وفي روايةٍ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أمَرَهم بقَطْعِ النخيلِ، فخَرَجَ اليَهودُ حينَ رَأَوْا ذلك وقالوا: يا محمَّدُ, ألَسْتَ تَنْهَى عن الفَسادِ، وهذا مِن الفسادِ؟! فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ.
وقدْ ثَبَتَ برِوايةِ نافِعٍ, عن ابنِ عمرَ, أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حَرَّقَ نخيلَ بَنِي النَّضِيرِ وقَطَعَها؛ فأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}. أيْ: بأَمْرِ اللَّهِ.
قالَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أخْبَرَنا بهذا الخَبَرِ الْمَكِّيُّ بنُ عبدِ الرزَّاقِ, أخْبَرَنَا جَدِّي, أخْبَرَنا الفِرَبْرِيُّ, أخْبَرَنا البُخَارِيُّ، عن قُتَيْبَةَ, عن اللَّيْثِ بنِ سعْدٍ، عن نافعٍ الخَبَرَ.
وفي روايةٍ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ حَرَّقَ الْبُوَيْرَةَ، وقالَ شاعرُهم شِعْراً:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
والبُوَيْرَةُ: مَوضِعُ بَنِي النَّضِيرِ.
وقولُه: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}. هم اليَهودُ، وإِخْزَاؤُهم هو رُؤْيَتُهم كيفَ يَتحكَّمُ المُؤمِنونَ في أموالِهم.


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 3 صفر 1434هـ/16-12-2012م, 02:59 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي إجابات على أسئلة طلاب الدورات العلمية بالمعهد / الشيخ عبد العزيز الداخل

السؤال الأول : في قوله تعالى في سورة الحشر: (ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله)
ما إعراب ما تحته خط شيخنا الفاضل ، وما أثر مجيء الضمير (هم ) في المعنى، وهل يتغير المعنى عند حذفه، أليس المعنى المقصود: وظنوا أن مانعتهم حصونهم من الله؟
الجواب للشيخ عبد العزيز الداخل :
لا يستقيم الكلام بحذف الضمير (هم) فهو اسم (أن) .
ومانعتُهم: خبر أن مرفوع، وهو مضاف والضمير في محل جر بالإضافة.
حصونهم: فاعل لاسم الفاعل مرفوع بالضمة وهو مضاف والضمير في محل جر بالإضافة.

وقد قال الزركشي في البرهان: (لو قال:" وظنوا أن حصونهم مانعتهم " لما أشعر بزيادة وثوقهم بمنعها إياهم) .
وهذا ظاهر لمن تأمّله.
فقوله تعالى: {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم} أبلغ من قول القائل وظنوا أن حصونهم مانعتهم، لأن تقديم المنع باسم الفاعل المضاف دليل على امتلاء قلوبهم بالثقة بمنعة حصونهم .

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10 جمادى الآخرة 1435هـ/10-04-2014م, 02:47 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تفسير ابن كثير

تفسير ابن كثير


قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({تفسير سورة الحشر [وكان ابن عبّاسٍ يقول: سورة بني النّضير] وهي مدنيّةٌ.
{قال سعيد بن منصورٍ: حدّثنا هشيم، عن أبي بشرٍ، عن سعيدٍ بن جبيرٍ قال: قلت لابن عبّاسٍ: سورة الحشر؟ قال: أنزلت في بني النّضير. ورواه البخاريّ ومسلمٌ من وجهٍ آخر، عن هشيم، به. ورواه البخاريّ من حديث أبي عوانة، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قال: قلت لابن عبّاسٍ: سورة الحشر؟ قال: قل: سورة النّضير.
{سبّح للّه ما في السّماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم (1) هو الّذي أخرج الّذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من اللّه فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرّعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار (2) ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذّبهم في الدّنيا ولهم في الآخرة عذاب النّار (3) ذلك بأنّهم شاقّوا اللّه ورسوله ومن يشاقّ اللّه فإنّ اللّه شديد العقاب (4) ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن اللّه وليخزي الفاسقين (5) }
يخبر تعالى أنّ جميع ما في السّموات وما في الأرض من شيءٍ يسبّح له ويمجّده ويقدّسه، ويصلّي له ويوحّده كقوله: {تسبّح له السّماوات السّبع والأرض ومن فيهنّ وإن من شيءٍ إلا يسبّح بحمده] ولكن لا تفقهون تسبيحهم]} [الإسراء: 44]. وقوله: {وهو العزيز} أي: منيع الجناب {الحكيم} في قدره وشرعه.
وقوله: {هو الّذي أخرج الّذين كفروا من أهل الكتاب} يعني: يهود بني النّضير. قاله ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، والزّهريّ، وغير واحدٍ: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدًا وذمّةً، على ألّا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الّذي كان بينهم وبينه، فأحلّ اللّه بهم بأسه الّذي لا مردّ له، وأنزل عليهم قضاءه الّذي لا يصدّ، فأجلاهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وأخرجهم من حصونهم الحصينة الّتي ما طمع فيها المسلمون، وظنّوا هم أنّها مانعتهم من بأس اللّه، فما أغنى عنهم من اللّه شيئًا، وجاءهم ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول اللّه وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفةٌ ذهبوا إلى أذرعاتٍ من أعالي الشّام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفةٌ ذهبوا إلى خيبر. وكان قد أنزلهم منها على أنّ لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخرّبون ما في بيوتهم من المنقولات الّتي يمكن أن تحمل معهم؛ ولهذا قال: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار} أي: تفكّروا في عاقبة من خالف أمر اللّه وخالف رسوله، وكذّب كتابه، كيف يحلّ به من بأسه المخزي له في الدّنيا، مع ما يدّخره له في الآخرة من العذاب الأليم.
قال أبو داود: حدّثنا محمّد بن داود وسفيان، حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن الزّهريّ، عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالكٍ، عن رجلٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، أنّ كفّار قريشٍ كتبوا إلى ابن أبيٍّ، ومن كان معه يعبد [معه] الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذٍ بالمدينة قبل وقعة بدرٍ: إنّكم آويتم صاحبنا، وإنّا نقسم باللّه لنقاتلنّه، أو لتخرجنّه، أو لنسيرنّ إليكم بأجمعنا، حتّى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم، فلمّا بلغ ذلك عبد اللّه بن أبيٍّ ومن كان معه من عبدة الأوثان، اجتمعوا لقتال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا بلغ ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لقيهم، فقال: "لقد بلغ وعيد قريشٍ منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر ممّا تريد أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟ "، فلمّا سمعوا ذلك من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم تفرّقوا، فبلغ ذلك كفّار قريشٍ، فكتبت كفّار قريشٍ بعد وقعة بدرٍ إلى اليهود: إنّكم أهل الحلقة والحصون، وإنّكم لتقاتلّن مع صاحبنا أو لنفعلنّ كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيءٌ -وهي الخلاخيل -فلمّا بلغ كتابهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم اجتمعت بنو النّضير بالغدر، فأرسلوا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلًا من أصحابك ليخرج منّا ثلاثون حبرًا، حتّى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنّا بك، فلمّا كان الغد غدا عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [بالكتائب] فحصرهم، قال لهم: "إنّكم واللّه لا تأمنوا عندي إلّا بعهدٍ تعاهدوني عليه". فأبوا أن يعطوه عهدًا، فقاتلهم يومهم ذلك، ثمّ غدا الغد على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النّضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم. وغدا إلى بني النّضير بالكتائب فقاتلهم، حتّى نزلوا على الجلاء. فجلت بنو النّضير، واحتملوا ما أقلّت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكان نخل بني النّضير لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خاصّةً، أعطاه اللّه أيّاها وخصّه بها، فقال: {وما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركابٍ} يقول: بغير قتالٍ، فأعطى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أكثرها للمهاجرين، قسّمها بينهم، وقسّم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجةٍ، ولم يقسّم من الأنصار غيرهما، وبقي منها صدقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الّتي في أيدي بني فاطمة.
ولنذكر ملخّص غزوة بني النّضير على وجه الاختصار، وباللّه المستعان.
وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير: أنّه لمّا قتل أصحاب بئر معونة، من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أميّة الضّمريّ، فلمّا كان في أثناء الطّريق راجعًا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامرٍ، وكان معهما عهدٌ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأمانٌ لم يعلم به عمرٌو، فلمّا رجع أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لقد قتلت رجلين، لأدينّهما" وكان بين بني النّضير وبني عامرٍ حلفٌ وعهدٌ، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى بني النّضير يستعينهم في دية ذينك الرّجلين، وكان منازل بني النّضير ظاهر المدينة على أميالٍ منها شرقيّها.
قال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ في كتابه السّيرة: ثمّ خرج رسول اللّه إلى بني النّضير، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامرٍ، اللّذين قتل عمرو بن أميّة الضّمريّ؛ للجوار الّذي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عقد لهما، فيما حدّثني يزيد بن رومان، وكان بين بني النّضير وبني عامرٍ عقد وحلفٌ. فلمّا أتاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، ممّا استعنت بنا عليه. ثمّ خلا بعضهم ببعضٍ فقالوا: إنّكم لن تجدوا الرّجل على مثل حاله هذه -ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى جنب جدارٍ من بيوتهم-فمن رجلٌ يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرةً، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعبٍ أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرةً كما قال، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في نفرٍ من أصحابه، فيهم أبو بكرٍ وعمر وعليٌّ، رضي اللّه عنهم. فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الخبر من السّماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلمّا استلبث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلًا مقبلًا من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلًا المدينة. فأقبل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالتّهيّؤ لحربهم والمسير إليهم. ثمّ سار حتّى نزل بهم فتحصّنوا منه في الحصون، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بقطع النّخل والتّحريق فيها. فنادوه: أن يا محمّد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النّخل وتحريقها؟
وقد كان رهطٌ من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله ابن أبيّ [بن] سلولٍ، ووديعة، ومالك بن أبي قوقلٍ وسويد وداعسٌ، قد بعثوا إلى بني النّضير: أن اثبتوا وتمنّعوا فإنّا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم فتربّصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف اللّه في قلوبهم الرّعب، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يجليهم ويكفّ عن دمائهم، على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلّا الحلقة، ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلّت به الإبل، فكان الرّجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشّام، وخلّوا الأموال إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فكانت لرسول اللّه خاصّةً يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار. إلّا أنّ سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرًا، فأعطاهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
قال: ولم يسلم من بني النّضير إلّا رجلان: يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاشٍ، وأبو سعد بن وهبٍ أسلما على أموالهما فأحرزاها.
قال: ابن إسحاق: قد حدّثني بعض آل يامين: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال ليامين: "ألم تر ما لقيت من ابن عمّك، وما هم به من شأني". فجعل يامين بن عمير لرجل جعل على أن يقتل عمرو بن جحاشٍ، فقتله فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: ونزل في بني النّضير سورة الحشر بأسرها.
وهكذا روى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، بنحو ما تقدّم.
فقوله: {هو الّذي أخرج الّذين كفروا من أهل الكتاب} يعني: بني النّضير {من ديارهم لأوّل الحشر}.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان، عن أبي سعدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: من شكّ في أن أرض المحشر هاهنا -يعني الشّام فليتل هذه الآية: {هو الّذي أخرج الّذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر} قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اخرجوا". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر".
وحدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو أسامة، عن عوفٍ، عن الحسن قال: لمّا أجلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بني النّضير، قال: "هذا أوّل الحشر، وأنا على الأثر".
ورواه ابن جريرٍ، عن بندار، عن ابن أبي عديٍّ، عن عوفٍ، عن الحسن، به.
وقوله: {ما ظننتم أن يخرجوا} أي: في مدّة حصاركم لهم وقصرها، وكانت ستّة أيّامٍ، مع شدّة حصونهم ومنعتها؛ ولهذا قال: {وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم من اللّه فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا} أي: جاءهم من أمر اللّه ما لم يكن لهم في بالٍ، كما قال في الآية الأخرى: {قد مكر الّذين من قبلهم فأتى اللّه بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السّقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} [النّحل: 26].
وقوله: {وقذف في قلوبهم الرّعب} أي: الخوف والهلع والجزع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الّذي نصر بالرّعب مسيرة شهرٍ، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} قد تقدّم تفسير ابن إسحاق لذلك، وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم، وتحملها على الإبل، وكذا قال عروة بن الزّبير، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحدٍ.
وقال مقاتل ابن حيّان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقاتلهم، فإذا ظهر على درب أو دارٍ، هدم حيطانها ليتّسع المكان للقتال. وكان اليهود إذا علّوا مكانًا أو غلبوا على دربٍ أو دارٍ، نقبوا من أدبارها ثمّ حصّنوها ودرّبوها، يقول اللّه تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}.
وقوله: {ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذّبهم في الدّنيا} أي: لولا أن كتب اللّه عليهم هذا الجلاء، وهو النّفي من ديارهم وأموالهم، لكان لهم عند اللّه عذابٌ آخر من القتل والسّبي، ونحو ذلك، قاله الزّهريّ، عن عروة، والسّدّي وابن زيدٍ؛ لأنّ اللّه قد كتب عليهم أنّه سيعذّبهم في الدّار الدّنيا مع ما أعدّ لهم في الآخرة من العذاب في نار جهنّم.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ -كاتب اللّيث-حدّثني اللّيث، عن عقيلٌ، عن ابن شهابٍ قال: أخبرني عروة بن الزّبير قال: ثمّ كانت وقعة بني النّضير، وهم طائفةٌ من اليهود، على رأس ستّة أشهرٍ من وقعة بدرٍ. وكان منزلهم بناحيةٍ من المدينة، فحاصرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى نزلوا من الجلاء، وأنّ لهم ما أقلّت الإبل من الأموال والأمتعة إلّا الحلقة، وهي السّلاح، فأجلاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل الشّام. قال: والجلاء أنّه كتب عليهم في آيٍ من التّوراة، وكانوا من سبطٍ لم يصبهم الجلاء قبل ما سلّط عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأنزل اللّه فيهم: {سبّح للّه ما في السّماوات وما في الأرض} إلى قوله {وليخزي الفاسقين}.
وقال عكرمة: الجلاء: القتل. وفي روايةٍ عنه: الفناء.
وقال قتادة: الجلاء: خروج النّاس من البلد إلى البلد.
وقال الضّحّاك: أجلاهم إلى الشّام، وأعطى كلّ ثلاثةٍ بعيرًا وسقاءً، فهذا الجلاء.
وقد قال الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ: أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، أخبرنا أحمد بن كاملٍ القاضي، حدّثنا محمّد بن سعيدٍ العوفيّ، حدّثني أبي، عن عمّي، حدّثني أبي عن جدّي، عن ابن عبّاسٍ قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قد حاصرهم حتّى بلغ منهم كلّ مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دمائهم، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يسيّرهم إلى أذرعات الشّام، وجعل لكلّ ثلاثةٍ منهم بعيرًا وسقاءً، والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرضٍ أخرى
وروي أيضًا من حديث يعقوب بن محمّدٍ الزّهريّ، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جدّه، عن محمّد بن مسلمة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعثه إلى بني النّضير، وأمره أن يؤجّلهم في الجلاء ثلاث ليالٍ .
وقوله: {ولهم في الآخرة عذاب النّار} أي: حتمٌ لازمٌ لا بدّ لهم منه.
وقوله: {ذلك بأنّهم شاقّوا اللّه ورسوله} أي:إنّما فعل اللّه بهم ذلك وسلّط عليهم رسوله وعباده المؤمنين؛ لأنّهم خالفوا اللّه ورسوله، وكذّبوا بما أنزل اللّه على رسله المتقدّمين في البشارة بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، ثمّ قال: {ومن يشاقّ اللّه فإنّ اللّه شديد العقاب}.
وقوله تعالى: {ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن اللّه وليخزي الفاسقين} اللّين: نوعٌ من التّمر، وهو جيّدٌ.
قال: أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة والبرنيّ من التّمر.
وقال كثيرون من المفسّرين: اللّينة: ألوان التّمر سوى العجوة.
قال: ابن جريرٍ: هو جميع النّخل. ونقله عن مجاهدٍ: وهو البويرة أيضًا؛ وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانةً لهم، وإرهابًا وإرعابًا لقلوبهم. فروى محمّد ابن إسحاق عن يزيد بن رومان، وقتادة، ومقاتل بن حيّان أنّهم قالوا: [فبعث بنو النّضير] يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل اللّه هذه الآية الكريمة، أي: ما قطعتم وما تركتم من الأشجار، فالجميع بإذن اللّه ومشيئته وقدرته ورضاه، وفيه نكايةٌ بالعدوّ وخزيٌ لهم، وإرغامٌ لأنوفهم.
وقال مجاهدٌ: نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النّخل، وقالوا: إنّما هي مغانم المسلمين. فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وإنّما قطعه وتركه بإذنه. وقد روي نحو هذا مرفوعًا، فقال النّسائيّ: أخبرنا الحسن بن محمّدٍ، عن عفّان، حدّثنا حفص بن غياثٍ، حدّثنا حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن اللّه وليخزي الفاسقين} قال: يستنزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النّخل، فحاك في صدورهم، فقال المسلمون: قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا، فلنسألنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: هل لنا فيما قطعنا من أجرٍ؟ وهل علينا فيما تركنا من وزرٍ؟ فأنزل الله: {ما قطعتم من لينةٍ} وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا حفصٌ، عن ابن جريجٍ، عن سليمان بن موسى، عن جابرٍ -وعن أبي الزّبير، عن جابرٍ-قال: رخّص لهم في قطع النّخل، ثمّ شدّد عليهم فأتوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللّه، علينا إثمٌ فيما قطعنا؟ أو علينا وزرٌ فيما تركنا؟ فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن اللّه}.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافعٍ، عن ابن عمر؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قطع نخل بني النّضير وحرّق.
وأخرجه صاحبا الصّحيح من رواية موسى بن عقبة، بنحوه ولفظ البخاريّ من طريق عبد الرّزّاق، عن ابن جريجٍ، عن موسى بن عقبة، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلى بني النّضير وأقرّ قريظة ومنّ عليهم حتّى حاربت قريظة فقتل من رجالهم وقسّم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلّا بعضهم لحقوا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأمّنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلّهم بني قينقاع، وهم رهط عبد اللّه بن سلام، ويهود بني حارثة، وكلّ يهود بالمدينة.
ولهما أيضًا عن قتيبة، عن اللّيث بن سعدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم حرّق نخل بني النّضير وقطع -وهي البويرة-فأنزل اللّه، عزّ وجلّ فيه: {ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن اللّه وليخزي الفاسقين}.
وللبخاريّ، رحمه اللّه، من رواية جويرية بن أسماء عن نافعٍ، عن عبد اللّه بن عمر؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حرّق نخل بني النّضير. ولها يقول حسّان بن ثابتٍ، رضي اللّه عنه:
وهان على سراة بني لؤيّ = حريق بالبويرة مستطيرّ
فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:
أدام الله ذلك من صنيع = وحرّق في نواحيها السّعير
ستعلم أيّنا منها بنزهٍ = وتعلم أيّ أرضينا نضير
كذا رواه البخاريّ ولم يذكره ابن إسحاق.
وقال محمد ابن إسحاق: وقال كعب بن مالكٍ يذكر إجلاء بني النّضير وقتل ابن الأشرف:
لقد خزيت بغدرتها الحبور = كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنّهم كفروا بربّ = عظيم أمره أمرٌ كبير
وقد أوتوا معًا فهمًا وعلمًا = وجاءهم من اللّه النّذير
نذير صادق أدّى كتابًا = وآياتٍ مبيّنةً تنير
فقال ما أتيت بأمر صدقٍ = وأنت بمنكرٍ منّا جدير
فقال: بلى لقد أديت حقًّا = يصدّقني به الفهم الخبير
فمن يتبعه يهد لكل رشد = ومن يكفر به يجز الكفور
فلمّا أشربوا غدرًا وكفرًا = وجدّ بهم عن الحقّ النفور
أرى اللّه النّبيّ برأي صدق = وكان اللّه يحكم لا يجور
فأيّده وسلّطه عليهم = وكان نصيره نعم النّصير
فغودر منهمو كعب صريعًا = فذلّت بعد مصرعة النّضير
على الكفّين ثمّ وقد علته = بأيدينا مشهّرة ذكور
بأمر محمّد إذ دس ليلا = إلى كعب أخا كعب يسير
فما كره فأنزله بمكر = ومحمود أخو ثقة جسور
فتلك بنو النّضير بدار سوء = أبارهم بما اجترموا المبير
غداة أتاهم في الزّحف رهوًا = رسول اللّه وهّو بهم بصير
وغسّان الحماة موازروه = على الأعداء وهو لهم وزير
فقال: السلم ويحكم فصدّوا = وحالف أمرهم كذبٌ وزور
فذاقوا غبّ أمرهم دبالا = لكلّ ثلاثة منهم بعير
وأجلوا عامدين لقينقاع = وغودر منهم نخل ودور
قال: وكان ممّا قيل من الأشعار في بني النّضير قول ابن لقيم العبسيّ -ويقال: قالها قيس بن بحر بن طريفٍ، قال ابن هشامٍ الأشجعيّ:
أهلي فداءٌ لامرئٍ غير هالك = أحلّ اليهود بالحسى المزنّم
يقيلون في جمر الغضاة وبدّلوا = أهيضب عودًا بالودي المكمّم
فإن يك ظني صادقًا بمحمد = يروا خيله بين الصّلا ويرمرم
يؤمّ بها عمرو بن بهثة إنّهم = عدو ما حيّ صديق كمجرم
عليهنّ أبطال مساعير في الوغى = يهزّون أطراف الوشيج المقوّم
وكلّ رقيق الشّفرتين مهنّدٍ = تورثن من أزمان عادٍ وجرهم
فمن مبلغٌ عني قريشًا رسالة = فهل بعدهم في المجد من متكرّم
بأنّ أخاكم فاعلمنّ محمّدًا = تليد النّدى بين الحجون وزمزم
فدينوا له بالحقّ تجسم أموركم = وتسموا من الدنيا إلى كل معظم
نبيٌّ تلافته من اللّه رحمةٌ = ولا تسألوه أمر غيب مرجّم
فقد كان في بدر لعمري عبرةٌ = لكم يا قريش والقليب الملمّم
غداة أتى في الخزرجيّة عامدًا = إليكم مطيعًا للعظيم المكرّم
معانًا بروح القدس ينكي عدوه = رسولا من الرّحمن حقّا بمعلم
رسولا من الرّحمن يتلو كتابه = فلمّا أنار الحقّ لم يتلعثم
أرى أمره يزداد في كلّ موطن = علوّا لأمر حمّه الله محكم
وقد أورد ابن إسحاق، رحمه اللّه، هاهنا أشعارًا كثيرةً، فيها آدابٌ ومواعظ وحكمٌ، وتفاصيل للقصّة، تركنا باقيها اختصارًا واكتفاءً بما ذكرناه، وللّه الحمد والمنّة.
قال ابن إسحاق: كانت وقعة بني النّضير بعد وقعة أحدٍ وبعد بئر معونة. وحكى البخاريّ، عن الزّهريّ، عن عروة أنّه قال: كانت وقعة بني النّضير بعد بدرٍ بستّة أشهرٍ). [تفسير القرآن العظيم: 8/56-64]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, سورة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:15 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir