قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. أيْ: وما تَتَّقُونَ به.
قولُه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يومَ القِيامةِ، وإذا حَمَلْنا الآيةَ على المُنافقِينَ فقولُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}. أي: آمَنُوا بأَلْسِنَتِهم. والأصَحُّ أنَّ الْخِطابَ للمُؤْمنِينَ، أمَرَهُمُ اللَّهُ تعالى ألاَّ يَكونوا كالمُنافقِينَ وكاليهودِ.
قولُه تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}. يَعنِي: إنَّ النَّجْوَى بينَهم على ما بَيَّنَّا هي مِن الشيطانِ.
وقولُه: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. أيْ: لَيَحْزُنُوا بما يَسْمَعُونَ مِن الإرجافِ بالسَّرِيَّةِ.
وقولُه تعالى: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً}. يَعنِي: أنَّ الإرجافَ لا يَضُرُّ السَّرِيَّةَ.
وقولُه تعالى: {إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}. أيْ: بعِلْمِ اللَّهِ.
وقولُه: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. أيْ: فلْيَتَّقِ المُؤمِنونَ.
قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}. معناه: إذا قِيلَ لكُمْ: تَوَسَّعُوا في الْمَجْلِسِ - أيْ: في مَجْلِسِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- فوَسِّعُوا يُوَسِّعِ اللَّهُ لكم؛ أي: في الْجَنَّةِ.
وفي التفسيرِ: أنَّ الآيةَ نَزَلَتْ في ثابتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ, وكان بهِ صَمَمٌ, فجاءَ يوماً وقد جَلَسَ الناسُ عندَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ, فطَلَبَ أنْ يُوَسِّعُوا له ليَقْرُبَ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ويَسْمَعَ، فوَسَّعُوا له إلاَّ رَجُلاً واحداً - وكان قَريباً مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ - لَمْ يُوَسِّعْ له، وقالَ له: قدْ أَصَبْتَ مَوضِعاً فاقْعُدْ. فعَيَّرَه ثابتُ بنُ قَيْسٍ بأمٍّ كانَتْ له في الجاهليَّةِ, فسَمِعَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذلك فقالَ: ((يَا ثَابِتُ، انْظُرْ مَنِ الْقَوْمُ, فَلَيْسَ لَكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَضْلٌ إِلاَّ بِالتَّقْوَى)). وأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذهِ الآيةَ، وأمَرَ المُسلمِينَ أنْ يَتوَسَّعُوا في المَجْلِسِ.
قالَ الحسَنُ البَصْرِيُّ: نَزَلَتِ الآيةُ في صُفوفِ الْجِهادِ، والمرادُ مِن التَّفَسُّحِ ههنا هو القُعودُ في المكانِ مع اخْتباءٍ, لا للحرْبِ.
والقولُ الأوَّلُ أظهَرُ.
وقولُه: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا}. قالَ قَتَادَةُ: معناه: إذا دُعِيتُمْ إلى خيرٍ فأَجِيبُوا.
وقالَ الحَسَنُ: هو في الحَرْبِ.
وقيلَ: هو النُّهُوضُ في جميعِ الأشياءِ بعدَ أنْ يكونَ مِن الْخَيراتِ، وذلكَ مِثلُ الْجِهادِ، وصفوفِ الجماعاتِ, والأمْرِ بالمعروفِ والنهيِ عن الْمُنْكَرِ, وما أَشْبَهَ ذلك.
وفي الآيةِ قولٌ ثالثٌ: أنَّ قولَه: {فَانْشُزُوا}. هو إذا فَرَغَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَاخْرُجُوا مِن عندِه, ولا تَلْبَثُوا عندَه فتُثْقِلُوا عليه، وهو في معنَى قولِه تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ}.
وقولُه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. أيْ: بإيمانِهم وعِلْمِهم.
وقِيلَ: كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَسْتَحِبُّ أنْ يَكُونَ بالقُرْبِ منه أُولُو العلْمِ والنُّهَى مِن أصحابِه، فكانَ غيرُهم يَأْتِي ويَقْرُبُ مِن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، ثم إذا حَضَرَ الأكابِرُ وأُولُو العلْمِ مِن أصحابِه كانَ يقولُ: ((يَا فُلاَنُ، قُمْ، وَيَا فُلاَنُ، قُمْ وَتَأَخَّرْ))؛ لِيَقْعُدَ أُولُو العِلْمِ والنُّهَى بالقُرْبِ منه.
فعَلَى هذا معنَى قولِه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}: إشارةٌ إلى ما كانَ يَرْفَعُهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ويُقْعِدُهم بالقُرْبِ. يعني: أنَّهم أصَابُوا ما أصَابُوا مِن الرِّفْعَةِ والرُّتْبةِ بالإيمانِ والعِلْمِ.
وقولُه: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. أيْ: عَلِيمٌ.
قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}.
سببُ نُزولِ الآيةِ: أنَّ الناسَ كانوا يَسْتَكْثِرُونَ مِن السؤالِ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وكانَ الواحِدُ مِنهم يَتَنَاجَى معَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ طويلاً، فأرادَ اللَّهُ أنْ يُخَفِّفَ عن نَبِيِّهِ؛ فأَنْزَلَ هذه الآيةَ.
وعن مُجَاهِدٍ, عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنَّه قالَ: لَمْ يَعْمَلْ بهذه الآيةِ غَيرِي؛ كانَ عِندي دِينارٌ فتَصَدَّقْتُ به وانْتَجَيْتُ معَ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ.
وفي روايةٍ: أنَّه صارَفَ الدِّينارَ بعَشَرةِ دَراهِمَ، فكانَ كُلَّما أرادَ أنْ يَتناجَى معَ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ تَصَدَّقَ بدِرْهَمٍ.
وذَكَرَ النَّقَّاشُ في تَفسيرِه: أنَّ المُنافِقِينَ قالُوا: قدْ طَالَ نَجْوَى مُحَمَّدٍ معَ ابنِ عَمِّه، فقالَ النبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((مَا انْتَجَيْتُهُ أَنَا وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَجَاهُ)).
في بعضِ التفاسيرِ: أنَّ هذا الأمْرَ لَمْ يَبْقَ إلاَّ ساعةً مِن النَّهارِ حتى نُسِخَ.
وفي التفسيرِ أيْضاً: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ لعَلِيٍّ: ((كَمْ تُقَدِّرُ فِي الصَّدَقَةِ؟)) فقالَ: شَعِيَرةً. فقالَ: ((إِنَّكَ لَزَهِيدٌ)). وكانَ رسولُ اللَّهِ قَدْ قالَ: ((يَتَصَدَّقُونَ بِدِينَارٍ))، فقالَ عليٌّ: إِنَّهم لا يُطِيقُونَه.
وذَكَرَ بعضُهم: أنَّ المُنافقِينَ كانوا يَأتونَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ويَتَنَاجَوْنَ معَه طويلاً تَصَنُّعاً ورِياءً؛ فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ، فبَخِلُوا بأموالِهم وكَفُّوا عنِ النَّجْوَى.
وقولُه تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}. أي: أَزْكَى.
وقولُه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. أيْ: إِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تَتَصَدَّقُونَ به؛ فإنَّ اللَّهَ غَفَرَ لكم ورَحِمَكم بإسقاطِ الصدَقَةِ عنكم. وقولُه تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} معناه: أَأَشْفَقْتُم على أموالِكم وبَخِلْتُم بها؟ وقولُه: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. نُسِخَ ذلكَ الأمْرُ بهذه الآيةِ، كأنَّه قالَ: فإذا لَمْ تَفْعَلُوا ونَسَخْنَاه منكم {فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}؛ أيْ: حافِظُوا عليها، {وَآتُوا الزَّكَاةَ}؛ أيْ: أَدُّوها, {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما يَأمُرانِ مِن الأمْرِ, {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}؛ أيْ: عليمٌ بأعمالِكم.