قولُه تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِِنْ وُجْدِكُمْ}. اختَلَفَ العُلماءُ في وُجوبِ السُّكْنَى للمَبْتوتَةِ, معَ اتِّفاقِهم أنَّها واجبةٌ للرَّجْعِيَّةِ؛ فمَذْهَبُ الشافعِيِّ: أنَّ السُّكْنَى واجبةٌ لها دُونَ النفقَةِ, إلاَّ الحاملَ تَجِبُ لها النفَقَةُ والسُّكْنَي. وهو قولُ مالِكٍ.
ومَذهَبُ أحمدَ وجماعةٍ: أنَّ السُّكْنَى والنفَقَةَ غيرُ وَاجِبَيْنِ للمَبْتوتةِ؛ لحديثِ فاطمةَ بنتِ قَيسٍ.
وَمَذْهَبُ أبي حَنِيفةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّهما واجِبتانِ.
وقولُه: {مِنْ وُجْدِكُمْ}. أيْ: مِن سَعَتِكم، وقالَ الفَرَّاءُ: مِمَّا تَجِدُونَ.
وقرَأَ الأَعْرَجُ: (مِن وَجْدِكُمْ) وهو لَحْنٌ؛ لأنَّ الوُجْدَ مِن الْجِدَةِ، والوَجْدَ مِن الْحُزْنِ والْحَثِّ والعَطْفِ، وليسَ هذا مَوْضِعَه.
وقالَ: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}. قالَ مَنْصورٌ عن أبي الضُّحَى: الْمُضَارَّةُ هو أنْ يُرَاجِعَها حينَ تُشْرِفُ على انقضاءِ العِدَّةِ مِن غيرِ رَغْبةٍ؛ لِيُطَوِّلَ عليها العِدَّةَ.
ويُقالُ: إنَّ المرادَ مِن الْمُضَارَّةِ ههنا هو الْمُضَارَّةُ في الْمَنْزِلِ والسُّكْنَى. قالَه مُجاهِدٌ.
وقولُه: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. مَن لم يُوجِبِ النَّفَقَةَ للمَبْتوتةِ الحامِلِ استَدَلَّ بهذهِ الآيةِ وقالَ: إنَّ اللَّهَ تعالى شَرَطَ في وُجوبِ النفقَةِ للمَبتوتاتِ أنْ يَكُنَّ حَوامِلَ.
ومَن أوْجَبَ النَّفَقةَ لَهُنَّ قالَ: قولُه: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}. أيْ: في تَرْكِ الإنفاقِ على العُمومِ في الْمَبتوتاتِ.
وقولُه: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ}. تَخصيصُ بعضِ ما تَنَاوَلَه اللفْظُ الأوَّلُ بالذِّكْرِ, مثْلُ قولِه تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}. بعدَ ذِكْرِ الملائكةِ.
قالَ بعضُهم: الآيةُ لِبَيانِ مُدَّةِ النَّفَقَةِ, يَعنِي: أنَّ النفقَةَ تَجِبُ للحامِلِ وإنْ طالَتْ مُدَّةُ حَمْلِها إلى أنْ تَضَعَ الْحَمْلَ.
وقولُه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}؛ أي: الأُمُّ إذَا أرْضَعَتْ بعدَ الطلاقِ يُؤْتِيهَا الأبُ أجْرَها.
وقولُه: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ}. أيْ: ليُنْفِقِ الوالِدُ والوالدةُ على ما هو الأنفَعُ للصبِيِّ، فلا تَمْتَنِعُ الوالدةُ مِن الإرضاعِ ولا يَمْتَنِعُ الأبُ مِن إعطاءِ الأجْرِ.
قالَ السُّدِّيُّ: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ}. أيْ: تَشَاوَرُوا بينَكم بالمعروفِ. وهو قولٌ ضَعيفٌ.
وقالَ الْمُبَرِّدُ: ليَأْمُرْ بعضُكم بعضاً بالمَعْروفِ.
وقولُه: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ}. أيْ: تَضَايَقْتُمْ وتَنازَعْتُم في الأَجْرِ.
وقولُه: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}. أيْ: إذا لَمْ تَرْضَ الأمُّ بأجْرِ الْمِثْلِ وطَلَبَتْ أكثَرَ منه يُسَلَّمُ الولَدُ إلى غيرِها لتُرْضِعَ بأجْرِ الْمِثْلِ.
وقولُه: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}. خبرٌ بمعنَى الأمْرِ؛ أي: لِتُرْضِعْ، مثلُ قولِه تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ}, وقولِه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}. أيْ: بِمِقْدارِ سَعَتِه، وهو حَثٌّ على التوَسُّعِ في النفَقَةِ لِمَن وَسَّعَ اللَّهُ عليهِ.
وقولُه: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}. أيْ: ضُيِّقَ عليه رِزْقُه، ولم يَكُنْ له إلاَّ القُوتُ وما يُشبِهُه, وهو قولُه: {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}. أيْ: على قدْرِ ذلك.
وعن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّه سَمِعَ أنَّ أبا عُبَيْدَةَ بنَ الْجَرَّاحِ يَلْبَسُ الثَّوْبَ الْخَشِنَ ويَأْكُلُ الطعامَ الْجَشِبَ، فبَعَثَ إليهِ بألْفِ دِينارٍ مِن بيتِ المالِ، وأمَرَ الرسولَ أنْ يَتعرَّفَ حالَه بعدَ ذلكَ, فتَوَسَّعَ وأكَلَ الطَّيِّبَ مِن الطعامِ، ولَبِسَ اللَّيِّنَ مِن الثيابِ, فرَجَعَ الرسولُ فأَخْبَرَ عُمَرَ بذلك, فقالَ: إنه تَأَوَّلَ قولَه تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}. ذَكَرَه القَفَّالُ في تفسيرِه.
وقولُه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا}.
وقولُه: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}؛ أيْ: بعدَ ضِيقٍ سَعَةً، وبعدَ فقْرٍ غِنًى.
قالَ أهْلُ التفسيرِ: أرادَ به أصحابَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ, كانوا في ضِيقٍ، ثم وَسَّعَ اللَّهُ عليهم.