بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
تفسيرُ سورةِ التَّغَابُنِ
وهي مَدَنِيَّةٌ في قَوْلِ الأكْثرِينَ, وقالَ الضَّحَّاكُ: مَكِّيَّةٌ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مكِّيَّةٌ ومَدنيَّةٌ. ومعناهُ: أنَّ بعضَها مَكِّيَّةٌ وبعضَها مَدنيَّةٌ. واللَّهُ أعلَمُ.
قولُه تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قدْ ذَكَرْنَا معانِيَ هذا مِن قَبْلُ.
قولُه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}.
قالَ عَلِيُّ بنُ أبي طَلْحَةَ الوَالِبِيُّ: خَلَقَكم كُفَّاراً وخَلَقَكم مُؤْمنِينَ. قالَه ابنُ عبَّاسٍ.
وقدْ أيَّدَ هذا المعنَى قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً}. فأَخْبَرَ أنَّ اللَّهَ تعالى خَلَقَه كذلكَ.
وفي الخبَرِ أنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ قالَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ يَحْيَى سَعِيداً فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ كَافِراً فِي بَطْنِ أُمِّهِ)).
ورَوَى سُفْيانُ, عن عَمْرِو بنِ دِينارٍ, عن أبي الطُّفَيْلِ قالَ: سَمِعْتُ ابنَ مَسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه يقولُ: الشَّقِيُّ مَن شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ، والسعيدُ مَن وُعِظَ بِغَيْرِه. فقلتُ: ثُكِلَتْ أُمُّ الشَّقِيِّ مِن قَبْلِ أنْ يَعْمَلَ.
فلَقِيتُ حُذيفةَ بنَ أُسيدٍ - وكُنْيَتُه أبو شريحةَ الغِفَارِيُّ- فذَكَرْتُ له ذلكَ فقالَ: ألاَ أُخْبِرُكَ بأَعْجَبَ مِن هذا؟ سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً - أوْ قالَ: خَمْساً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً - دَخَلَ عَلَيْهَا الْمَلَكُ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ, فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ, مَا أَجَلُهُ؟ مَا عَمَلُهُ؟ مَا رِزْقُهُ؟ مَا مُصِيبَتُهُ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَطْوِي الصَّحِيفَةَ، فَلاَ يُزَادُ وَلاَ يُنْقَصُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
ورَوَى سُفْيانُ أيضاً عن طَلحةَ بنِ يَحْيَى, عن عَمَّتِه, عن عَائِشَةَ بنتِ طَلْحَةَ، عن عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمنِينَ, أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أَتَى بصَبِيٍّ مِن الأنصارِ ليُصَلَّى عليهِ، فقُلْتُ: طُوباهُ عُصفورٌ مِن عَصافيرِ الجنَّةِ. فقالَ:
((أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً, خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلاَبِ آبَائِهِمْ, وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ فِي أَصْلاَبِ آبَائِهِمْ)).
قالَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أخْبَرَنا بِهَذينِ الْحَديثينِ أبو عَلِيٍّ الشافعيُّ بمَكَّةَ، أخْبَرَنا أبو الحَسَنِ بنُ فِرَاسٍ، أخْبَرَنا الدَّيْبُلِيُّ، أخْبَرَنا سعيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الْمَخْزُومِيُّ، عن سُفْيانَ بنِ عُيَيْنَةَ.... الخبَرَ كما ذَكَرْنا.
والقولُ الثاني في الآيةِ أنَّ مَعناها: فمِنْكُم كافِرٌ بأنَّ اللَّهَ خَلَقَه، ومِنكم مُؤمِنٌ ومِنكُم فاسِقٌ. والمعروفُ هو القَوْلُ الأوَّلُ.
وقولُه: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. ظاهِرٌ.
قولُه تعالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}. أيْ: بالعَدْلِ.
ويُقالُ: بإحكامِ الصَّنْعَةِ وحُسْنِ التقديرِ. ويُقالُ: للحَقِّ.
وقولُه: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}.
قالَ مُقاتِلٌ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِه, فهو معنَى قولِه: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}.
وعن غيرِه: أنَّه في مَعْنَى قولِه تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
وعن بعضِهم قالَ: خَلَقَ الإنسانَ في أحسَنِ صُورةٍ, ولو عَرَضَ اللَّهُ عليهِ الصُّوَرَ ما اختارَ غيرَ صورتِه.
وقولُه: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. أي: الْمَرْجِعُ.
قولُه تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. أيْ: بما تُكِنُّه الصُّدورُ.
قولُه تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ}. هذا خِطابٌ لِمُشْرِكِي قُريشٍ
وقولُه: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ}. أيْ: في الدنيا.
وقولُه: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أيْ: في الآخِرَةِ.
قولُه تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}. أيْ: بالدَّلالاتِ الواضحاتِ.
وقولُه: {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} مِثلُ قولِه تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً}.
وقولُه: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا}. أيْ: جَحَدُوا وأَعْرَضُوا.
وقولُه: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ}. يَعنِي: أنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن طاعتِهم وعِبادتِهم وتوحيدِهم.
وقولُه: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. أيْ: مُسْتَغْنٍ عن أفعالِ العِبَادِ، مُستَحْمَدٌ إلى خَلقِه بالإنعامِ عليهم.
ويُقالُ: حَميدٌ؛ أي: مُسْتَحِقٌّ للحمْدِ، ويُقالُ: حَميدٌ؛ أيْ: يُحِبُّ أنْ يُحْمَدَ.
وقدْ ثَبَتَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْحَمْدُ مِنَ اللَّهِ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ)).