بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
تفسيرُ سورةِ الْجُمُعَةِ
مَدنيَّةٌ في قولِ الجميعِ، وذَكَرَ بعضُهم أنَّها مَكِّيَّةٌ، وليسَ بصحيحٍ.
قولُه تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ}. قدْ بَيَّنَّا معنَى التسبيحِ، وهو تَنزيهُ الربِّ عن كلِّ ما لا يَلِيقُ به.
ويُقالُ: التسبيحُ لِلَّهِ هو ذِكْرُ اللَّهِ.
وذَكَرَ القَفَّالُ الشَّاشِيُّ: أنَّ معنى تَسبيحِ الْجَماداتِ هو ما جُعِلَ فيها مِن دَلائلِ حُدُوثِها, وأنَّ لها صانِعاً وخَالِقاً. وهذا ليسَ بصحيحٍ، وقدْ ذَكَرْنا مِن قَبْلُ ما قالَه أهْلُ السُّنَّةِ فيها.
وقولُه: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ}. أي: الطاهِرِ مِن كُلِّ عَيْبٍ وآفَةٍ.
وقولُه: {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. أي: الغالبِ في أمْرِه، العدْلِ في فِعْلِه.
قولُه تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً}. رَوَى منصورٌ، عن إبراهيمَ: أنَّ الأُمِّيَّ هو الذي لا يَكتُبُ ولا يَقْرَأُ.
ورَوَى ابنُ عُمَرَ, أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ, الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا)) وأشارَ بأصابِعِه العَشْرِ، وحَبَسَ إبْهَامَه في الْمَرَّةِ الثالثةِ.
ويُقالُ: سُمِّيَ الأُمِّيُّ أُمِّيًّا نِسبةً إلى ما وَلَدَتْهُ عليه أُمُّه، ويُقالُ: سُمِّيَ أمِّيًّا؛ لأنَّه الأصْلُ في جِبِلَّةِ الأُمَّةِ، والكتابةُ لا تكونُ إلاَّ بتَعَلُّمٍ.
وعن بعضِهم: سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ أُمِّيِّينَ نِسبةً إلى أُمِّ القُرَى, وهي مَكِّيَّةٌ.
فإنْ قالَ قائلٌ: لم يَكُنْ كُلُّ قُريشٍ أُمِّيًّا، وقدْ قالَ: {فِي الأُمِّيِّينَ}.
والجوابُ: أنَّ اللَّهَ تعالى سَمَّاهُم أُمِّيِّينَ باعتبارِ غالِبِ أمْرِهم، وقدْ كانَتِ الكتابةُ نَادِرَةً فيهم، وقدْ كانَتِ العَرَبُ تُسَمِّي مَن عَلِمَ الكتابةَ والسباحةَ والرمْيَ شاعراً الكاملَ.
قالَ ابنُ عبَّاسٍ: تَعَلَّمَتْ قُريشٌ الكتابةَ مِن أهْلِ الْحِيرَةِ, وتَعَلَّمَها أهلُ الْحِيرَةِ مِن أهلِ الأنبارِ.
والْحِكمةُ في كَوْنِ الرسولِ أُمِّيًّا انتفاءُ التُّهَمَةِ عنه في تَعَلُّمِ أخبارِ الأَوَّلِينَ، ودِراستِها مِن كُتُبِهم، ويُقالُ: ليَكُونَ مُوافِقاً لصِفَتِه في كُتُبِ الأَوَّلِينَ.
وقولُه: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}. أي: القرآنَ.
وقولُه: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}. أيْ: كتابَ اللَّهِ.
وعن ابنِ عبَّاسٍ: هو الْخَطُّ بالقَلَمِ، فإنَّ الكتابةَ كَثُرَتْ في قُرَيْشٍ وسائِرِ العرَبِ بعدَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ, وهذا مُوَافِقٌ لقولِه تعالى: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
وقولُه: {وَالْحِكْمَةَ}. أي: السُّنَّةَ، ويُقالُ: الفِقهَ في الدِّينِ.
وقولُه تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}. أيْ: في ضَلالٍ مِن الحقِّ بَيِّنٍ.
قولُه تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}. قالَ الأَزْهَرِيُّ: هو في مَوْضِعِ الخفْضِ, يَعنِي: بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ وفي آخَرِينَ.
وقولُه: {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}. أيْ: لم يَلْحَقُوا بهم وسيَلْحَقُونَ, ويُقالُ في قولِه: {وَآخَرِينَ}. أيْ: يُعَلِّمُهم الكتابَ والحِكمةَ، ويُعَلِّمُ آخَرِينَ. أَوْرَدَه النَّقَّاشُ.
واختَلَفَتِ الأقوالُ في المرادِ بالآخَرِينَ مَن هُمْ؟
قالَ عِكْرِمَةُ: هم التابعونَ.
وقالَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: هم العَجَمُ. وقائلُ هذا القولِ ما رَوَاه أبو هُرَيْرَةَ, أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قَرأَ هذه الآيةَ وأَشارَ إلى سَلْمَانَ وقالَ: ((لَوْ كَانَ الدِّينُ مُعَلَّقاً بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا)). أي: العَجَمُ.
وقالَ الضَّحَّاكُ: هو كُلُّ مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحاً إلى يَوْمِ القِيامةِ.
وقولُه تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. قد بَيَّنَّا.
قولُه تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}. أي: النُّبُوَّةُ، ويُقالُ: ما سَبَقَ ذِكْرُه مِن تَعليمِ الكتابِ والْحِكمةِ.
قولُه: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. ظاهِرٌ.
وقدْ وَرَدَ في الْخَبَرِ "أنَّ الفُقراءَ شَكَوْا إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وقالوا: ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ. فأَرْشَدَهم الرسولُ إلى التسبيحِ والتهليلِ وأنواعٍ مِن الذِّكْرِ، فسَمِعَ الأغنياءُ بذلك فجَعَلُوا يَقولونَ مِثلَ ما يَقولُ الفُقراءُ، فجَاءَ الفُقراءُ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وذَكَرُوا له ذلك، فقَرأَ هذه الآيةَ, وهو قولُه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}" وهو خَبَرٌ مَشهورٌ.