تفسيرُ سورةِ الْمُمْتَحَنَةِ
وهي مَدَنِيَّةٌ واللَّهُ أعْلَمُ
قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}. نَزلَتِ الآيةُ في حاطِبِ بنِ أبي بَلْتَعَةَ حينَ كَتَبَ كِتاباً إلى المُشركِينَ يُخْبِرُهم ببعضِ أمْرِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ.
والخبرُ في ذلكَ ما أَخْبَرَنا به أبو عَلِيٍّ الحسَنُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ الحسَنِ الشافعيُّ، أخْبَرَنا أبو الحسَنِ بنُ فِرَاسٍ، أخْبَرَنا أبو محمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أخْبَرَنا جَدِّي محمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ يَزِيدَ المُقْرِئُ, أخْبَرَنا سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ, عن عَمْرِو بنِ دِينارٍ, عن الحسَنِ بنِ محمَّدِ بنِ الْحَنَفِيَّةِ، عن عُبيدِ اللَّهِ بنِ أبي رافِعٍ قالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عنه يقولُ: بَعَثَنِي رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ والزُّبَيْرَ والْمِقدادَ بنَ الأسودِ فقالَ: ((انْطَلِقُوا إِلَى رَوْضَةِ خَاخٍ؛ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ)) فخَرَجْنَا تَتَعَادَى بنا خَيْلُنا حتى بَلَغْنا رَوْضَةَ خَاخٍ, فوَجَدْنَا بها ظَعِينَةً وقُلنَا لها: أَخْرِجِي الكِتَابَ. فقالَتْ: ما معِي كتابٌ. فقُلْنا: لتُخْرِجِنَّ الكتابَ أو لنَقْلِبَنَّ ثيابَكِ.
فأَخْرَجَتْ كتاباً مِن عِقَاصِ شَعَرِها، فأَخَذْنَاهُ وأَتَيْنَا به النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ, فإذا هو كتابٌ مِن حاطِبِ بنِ أبي بَلْتَعَةَ إلى المُشرِكِينَ بمكَّةَ يُخْبِرُهم ببعضِ أمْرِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ, فدَعَا حاطِباً وقالَ له: ((مَا هَذَا؟))
فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ, لا تَعْجَلْ عَلَيَّ, إِنِّي كُنتُ امْرَأً مُلْصَقاً في قريشٍ - يَعنِي: حَلِيفاً - ولَمْ أَكُنْ مِن أنْفُسِهم, وكانَ مَن معَكَ مِن المُهاجرِينَ لهم قَراباتٌ يَحْمُونَ بها قَراباتِهم, ولم يَكُنْ لي بِمَكَّةَ قَرَابةٌ, فأَحْبَبْتُ إذ فَاتَنِي ذلك أنْ أَتَّخِذَ عندَهم يَداً يَحْمُونَ بها قَرابَتِي، واللَّهِ ما فَعَلْتُه شَكًّا في الإسلامِ، ولا رِضاً بالكفْرِ.
فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((لَقَدْ صَدَقَكُمْ)).
فقالَ عمرُ: يا رسولَ اللَّهِ, دَعْنِي أضْرِبُ عُنُقَ هذا المُنافِقَ. فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: ((إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَلَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)).
قالَ أهْلُ التفسيرِ: وكانَ عليه الصلاةُ والسلامُ إذا أَرادَ غَزْواً وَرَّى بغيرِه, وكانَ يقولُ: ((الْحَرْبُ خُدْعَةٌ)).
فلَمَّا أرادَ أنْ يَغْزُوَ مكَّةَ كَتَمَ أمْرَه أشَدَّ الكِتمانِ, وكَتَبَ حَاطِبُ بنُ أبي بَلْتَعَةَ على يَدَيِ امرأةٍ تُسَمَّى سَارَّةَ كتاباً إلى أهْلِ مكَّةَ يُخْبِرُهم بِمَسِيرِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ, فأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ على ذلكَ، وكانَ الأمْرُ على ما بَيَّنَّا, وأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ.
قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}. في الآيةِ دَليلٌ على أنَّ حاطِبَ لَمْ يَخْرُجْ مِن الإيمانِ بفِعْلِه ذلكَ.
وقولُه: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}. أيْ: أَعدائِي وأعداءَكم, وهُمْ مُشْرِكُو قُريشٍ.
وقولُه: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}.أيْ: تُلْقُونَ إليهم أَخبارَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وسِرَّهُ بالْمَوَدَّةِ التي بينَكم وبينَهم.
ويُقالُ: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}.أيْ: بالنَّصيحةِ. قالَه مُقاتِلٌ.
وقِيلَ: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}. أيْ: بالكتابِ، وسَمَّى ذلكَ مَوَدَّةً وكذلكَ النَّصيحةُ؛ لأنَّ ذلكَ دليلُ الْمَوَدَّةِ.
وقولُه: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}. الواوُ واوُ الحالِ. قالَه الزَّجَّاجُ.
ومعناه: وحالُهم أنَّهم كَفَرُوا بما جاءَكم مِن الْحَقِّ.
وقولُه: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ}. أيْ: أَخْرَجُوا الرسولَ وأَخْرَجُوكُم، ومعنَى الإخراجِ ههنا: هو الإلجاءُ إلى الْخُروجِ.
وقولُه تعالى: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ}. أيْ: لأنَّكم آمَنْتُمْ باللَّهِ ربِّكُم.
وقولُه: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي}. قالوا: في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى: إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً في سَبيلِي وابتغاءَ مَرضاتِي فلا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أولياءَ.
وقيلَ: مَعناه: لا تُسِرُّوا إليهم بالْمَوَدَّةِ إنْ كُنْتمْ خَرَجْتُم جِهاداً في سَبيلِي وابتغاءَ مَرضاتِي, فهو معنَى قولِه: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}. خَبَرٌ بمعنَى النهْيِ.
وقولُه: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ}. أيْ: بما أَسْرَرْتُمْ وما أظْهَرْتُمْ.
وقولُه: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. أي: أَخْطَأَ طَرِيقَ الْحَقِّ.
قولُه تعالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}. مَعناه: إنْ يَظْفَرُوا بكم. والعرَبُ تَقولُ: "فُلانٌ ثَقِْفٌ لَقِْفٌ". إذا كانَ سَريعَ الأخْذِ.
وقولُه: {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً}. أيْ: يُعامِلُونَكم مُعامَلَةَ الأعداءِ.
وقولُه: {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ}. أيْ: أيْدِيَهُم بالسيْفِ وأَلْسِنَتَهم بالشَّتْمِ.
وقولُه: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}. أيْ: وأَحَبُّوا لو تَكْفُرُونَ كما كَفَرُوا.
قولُه تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ}. يَعنِي: إنَّكُم فَعَلْتُمْ ما فَعَلْتُمْ لأجْلِ قَرَابَاتِكُم وأَرْحَامِكم, ولَنْ يَنْفَعَكم ذلكَ يومَ القِيامةِ.
وقولُه: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ}. أيْ: يَفْصِلُ بينَكم يومَ القيامةِ، فيَبعَثُ أهْلَ الطاعةِ إلى الْجَنَّةِ, وأهلَ الْمَعصيةِ إلى النارِ.
وقولُه تعالَى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. ظاهِرُ المعنَى.