قولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا}. هم عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلولٍ، وعبدُ اللَّهِ بنُ نُفَيْلٍ، وزَيدُ بنُ رِفاعةَ وغيرُهم.
وقولُه: {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}. فيه قولانِ:
أحَدُهما: أنَّهم بَنُو النَّضيرِ, قالَ لهم المُنافِقونَ ذلك قَبْلَ أنْ أُجْلُوا.
والقولُ الآخَرُ: أَنَّهم بَنو قُرَيْظَةَ، قالَ لهم المنافقونَ ذلك بعدَ أنْ أُجْلِيَ بَنُو النَّضِيرِ.
وقولُه: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ}. أيْ: لَئِنْ أُخْرِجْتُم مِن المدينةِ لنَخْرُجَنَّ معَكم في القِتالِ.
وقولُه: {وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً}. أيْ: لا نُطِيعُ مُحَمَّداً فيكم.
وقولُه: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ}. مَعناه: ولَئِنْ قاتَلَكُم محمَّدٌ لنَكُونَنَّ معَكم في القِتالِ.
وقولُه: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. أيْ: في هذا القولِ.
قولُه تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ}. يعني: لَئِنْ أُخْرِجَ اليهودُ لا يَخرُجُ معَهم المنافقونَ.
وقولُه: {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ}. أيْ: لَئِنْ قُوتِلَ اليَهودُ لا يَنْصُرُهم المُنافِقونَ.
وقولُه: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ}. فإنْ قيلَ: كيفَ؟ قالَ: {لاَ يَنْصُرُونَهُمْ}, ثم قالَ: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ}, وإذا أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى أنَّهم لا يَنصُرُونَهم كيفَ يَجوزُ أنْ يَنْصُرُوهم؟
والجوابُ مِن وُجوهٍ:
أحَدُها: أنَّ قولَه: {لاَ يَنْصُرُونَهُمْ}. في قومٍ مِن المُنافِقِينَ.
وقولُه: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ}. أيْ: في قَوْمٍ آخَرِينَ مِنهم، وهم الذينَ لم يَقولوا ذلك القولَ.
والوجهُ الثاني: أنَّ قولَه: {لاَ يَنْصُرُونَهُمْ}. أيْ: طَائعِينَ.
وقولُه: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ}. أيْ: مُكْرَهِينَ.
والوجهُ الثالثُ: أنَّ قولَه: {لاَ يَنْصُرُونَهُمْ}. أيْ: لا يَدومونَ على نَصْرِهم.
وقولُه: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ}. أيْ: نَصَرُوهم في الابتداءِ.
والوجهُ الرابعُ كما قالَه الزَّجَّاجُ: هو أنَّهم لا يَنْصُرُونَهم على ما قالَ اللَّهُ تعالى.
وقولُه: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ}. أيْ: قَصَدُوا نُصْرَتَهم لَوَلَّوُا الأدْبَارَ؛ أي: انْهَزَمُوا، وذلكَ بما يُلْقِي اللَّهُ تعالى في قُلُوبِهم مِن الرُّعْبِ.
وقولُه: {ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ}. أيْ: لا يُنْصَرُ اليَهودُ.
قولُه تعالى: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ}. قالَ ابنُ عبَّاسٍ: يَعنِي: أنتم أشَدُّ رَهْبةً في صُدورِهم مِن اللَّهِ؛ إذْ يَخافونَ مِنكم ما لا يَخافونَ منه.
وقولُه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} أيْ: لا يَعْلَمُونَ عَظَمَةَ اللَّهِ وقُدْرَتَه فيَخافُونَ مِنه.
قولُه تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}. يَعني: أنَّهم لا يُمْكِنُهم أنْ يُصَافُّوكم في القِتالِ ويُوَاجِهُوكم بهِ، وإِنَّما يُقاتِلُونَكُم في الْحُصونِ ووَرَاءَ الْجُدُرِ؛ لقِلَّتِهم ودُخولِ الرُّعْبِ عليهم.
قولُه: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}. قالَ مُجاهِدٌ: يَعنِي أنَّهم يَقولونَ فيما بينَهم: لنَفْعَلَنَّ كذا ولنَفْعَلَنَّ كذا.
وقولُه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}. يَعنِي: أنَّ المُنافقِينَ قَطُّ لا يُخْلِصونَ لليَهودِ، ولا اليَهودُ للمُنافقِينَ.
وقولُه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ}. أيْ: لا يَتدَبَّرُونَ بعُقُولِهم, فهم بِمَنْزِلَةِ مَن لا عَقْلَ له.
قولُه تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ}. أيْ: مَثَلُ هؤلاءِ المُنافقِينَ معَ اليَهودِ كمَثَلِ الشيطانِ معَ الكافِرِ.
وأكثَرُ الْمُفَسِّرينَ على أنَّ هذا الكافرَ هو رَجُلٌ مِن بَنِي إِسْرائيلَ يَعْبُدُ اللَّهَ تعالى في صَوْمَعَةٍ دَهْراً طَويلاً، وكانَ اسْمُه بِرْصِيصَا العابدَ، وكانَ في بَنِي إِسْرائيلَ ثلاثةُ إخوةٍ, لهم أُخْتٌ حَسناءُ بها شَيءٌ مِن اللَّمَمِ، وقيلَ: كانَتْ مَريضةً.
فعَرَضَ لهم سَفَرٌ فقالوا: نُسَلِّمُ أُخْتَنا إلى فُلانٍ العابدِ فيَحْفَظُها إلى أنْ نَرْجِعَ.
وفي رِوايةٍ: يَدْعُو لها ويَقُومُ عليها.
فإنْ ماتَتْ دَفَنَها، وإنْ بَرِئَتْ فكانَتْ عندَه إلى أنْ نَرْجِعَ، فسَلَّمُوها إليهِ بجَهْدٍ، فقامَ عليها حتى بَرِئَتْ.
ثُمَّ إنَّ الشيطانَ جاءَه وزَيَّنَ له أنْ يُواقِعَها, فوَاقَعَها وحَبِلَتْ منه.
ثُمَّ جاءَ الشيطانُ وقالَ: إنَّكَ تُفْضَحُ إذا قَدِمَ إخوَتُها, فاقْتُلْها وادْفِنْها وقُلْ: إِنَّها ماتَتْ. ففَعَلَ ذلكَ ودَفَنَها في أصْلِ صَوْمَعَتِه.
فلَمَّا رَجَعَ الإخوةُ وجَاؤُوا إليهِ ذَكَرَ لهم أنها قدْ ماتَتْ فصَدَّقُوهُ.
ثُمَّ إنَّ الشيطانَ أَرَاهُمْ في الْمَنامِ أنَّ العابدَ قدْ قَتَلَ أُخْتَكُم ودَفَنَها في مَوْضِعِ كذا، فجَاؤُوا إلى ذلك الْمَوْضِعِ، وحَفَرُوا واسْتَخْرَجوا أُختَهم مَقتولةً.
فذَهَبُوا وذَكَروا ذلكَ للمَلِكِ، فجاءَ الملِكُ والناسُ واستَنْزَلُوا العابدَ مِن صَوْمَعَتِه لِيَقْتُلُوه, فجاءَه الشيطانُ وقالَ: أنَّا الذي فعَلْتُ بكَ ما فَعَلْتُ, فأَطِعْنِي حَتَّى أُنَجِّيَكَ. فقالَ: أَيْشْ أفْعَلُ؟ فقالَ: تَسْجُدُ لي سَجْدةً. ففَعَلَ وقُتِلَ على الكُفْرِ، ونَزَلَتْ هذهِ الآيةُ في هذهِ القِصَّةِ.
وقدْ رَوَى عَطِيَّةُ عن ابنِ عبَّاسٍ قَريباً مِن هذا.
وذَكَرَ بعضُهم هذه القِصَّةَ مُسنَدَةً إلى الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بروايةِ سُفْيانَ بنِ عُيَيْنَةَ, عن عَمْرِو بنِ دِينارٍ بألفاظٍ قَريبةٍ مِن هذا في المعنَى.
قالَ الشيخُ: أخْبَرَنا بذلكَ أبو عَلِيٍّ الشافعيُّ بمَكَّةَ, أخْبَرَنا ابنُ فِراسٍ, أخْبَرَنا أبو جعفرٍ الدَّيْبُلِيُّ, أخْبَرَنا سعيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الْمَخْزُومِيُّ, عن سُفيانَ....
وقولُه: {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} هذا مِثْلُ قولِه تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
وقِيلَ: إنَّ خَوْفَه مِن العُقوبةِ في الدنيا, لا مِن العُقوبةِ في الآخِرَةِ.
وقيلَ: هو الخوفُ مِن العُقوبةِ في الآخرةِ, إلاَّ أنَّ خَوْفَه لا يَنْفَعُه؛ لعَدَمِ الإيمانِ.
وقيلَ: إنَّ الآيةَ نَزَلَتْ في جميعِ الكُفَّارِ, لا في كافِرٍ مَخْصوصٍ.
والمشهورُ هو القولُ الأوَّلُ.
قولُه تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} يَعنِي: عاقبةَ الكافرِ وإبليسَ, {خَالِدَيْنِ فِيهَا}؛ أيْ: دَائِمَيْنِ فيها.
وقولُه: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}. أي: الكافرِينَ.