793- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ ـ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ قالَ: ((مَنْ حَفَرَ بِئْراً فََلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعاً، عَطَناً لِمَاشِيَتِهِ)). رَواهُ ابنُ مَاجَهْ بإسنادٍ ضَعيفٍ.
دَرَجَةُ الحديثِ:
الحديثُ ضعيفٌ.
قالَ في (التلخيصِ): رواهُ ابنُ مَاجَهْ، وفي سَنَدِه إسماعيلُ بنُ مُسلمٍ، وهو ضَعيفٌ، وقدْ أَخْرَجَه الطَّبَرانِيُّ مِن طَريقِ أَشْعَثَ عن الحَسَنِ، وقَدْ ضَعَّفَهُ ابنُ الجَوْزِيِّ، وابنُ عبدِ الهادي وقَوَّاهُ الزَّيْلَعِيُّ، وقالَ البُوصِيرِيُّ في (الزوائِدِ): مَدارُ هذا الحديثِ علَى إِسماعيلَ بنِ مُسلمٍ الحَكَمِيِّ، وقد اختلفوا في تَوْثِيقِه. اهـ.
وفي البابِ عن أبي هُرَيْرَةَ عندَ أَحْمَدَ (2/ 494).
مُفْرداتُ الحَديثِ:
ذِرَاعاً: بكَسْرِ الذالِ، وذِرَاعُ الإنسانِ مِن طَرَفِ المِرْفَقِ إلى طَرَفِ الأُصْبَعِ الوُسْطَى، وأَشْهَرُ أنواعِه الذِّراعُ الهَاشِمِيَّةُ, وهي (32) إِصْبَعاً أو (64) سَنْتِيمِتْراً.
عَطَناً: يُقالُ: عَطَنَتِ النَّاقَةُ عُطُوناً: رَوَتْ ثُمَّ بَرَكَتْ، فهي عَاطِنَةٌ، فالعَطَنُ بفَتْحَتَيْنِ: جَمْعُ مَعَاطِنَ، وهو مَبارِكُ الإِبِلِ ومَرْبَضُ الغَنَمِ حَوْلَ الماءِ؛ لتَشْرَبَ عَلَلاً بعدَ نَهَلٍ.
مَاشِيَتُه: هي الإِبِلُ والبَقَرُ، والغَنَمُ، وأَكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ في الغَنَمِ, جَمْعُها مَواشٍ.
ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
يَتَعَلَّقُ بحَفْرِ الآبارِ ثَلاثَةُ أَحْكامٍ:
أحدُها: مَتَى تُحْيَا وتَكونُ مِلْكاً بالحَفْرِ؟
الثاني: تَقْسِيمُها حَسَبَ إِرَادَةِ مَن حَفَرَها.
الثالِثُ: حَرِيمُ الآبَارِ يَختَلِفُ باختلافِ المُرادِ منها.
الحُكْمُ الأولُ: إذا حَفَرَ إنسانٌ بِئْراً، فوَصَلَ في حَفْرِه إلى الماءِ؛ فقدْ أَحْياهَا، فإنْ حَفَرَها ولَمْ يَصِلْ إِلَى المَاءِ فَلَيْسَ حَفْرُه إِحْيَاءً، وإنما يُعْتَبَرُ تَحَجُّراً، فهو أحَقُّ بِهَا مِن غَيْرِه، فإنْ وُجِدَ مُتَشَوِّفٌ لإحيائِها والانتفاعِ بها، ضَرَبَ وَلِيُّ الأمرِ مُدَّةً للتحَجُّرِ، فإنْ أَتَمَّ إحياءَها في تلك المُدَّةِ المَضْروبَةِ، وإلاَّ نَزَعَها منه وأعطاها المُتَشَوِّفَ لإحيائِها.
الحُكْمُ الثانِي: إِذَا حَفَرَها ووَصَلَ إلى الماءِ لا يَخْلُو قَصْدُه مِن ثَلاثَةِ أُمورٍ:
إِمَّا أَنْ يُرِيدَ تَمَلُّكَها لزراعةٍ، أو سِقايةٍ خَاصَّةٍ به، فهذهِ مُحياةٌ مَمْلُوكَةٌ.
وإمَّا أَنْ يَكونَ حَفَرَها لنَفْعِ المُجْتازِينَ، فهذهِ يَشْتَرِكُ الناسُ في مَائِها، لا فَضْلَ لأحَدٍ علَى أَحَدٍ، والحافِرُ لها كأَحَدِهم في السَّقْيِ والشُّرْبِ؛ لأنَّ الحافِرَ لم يَخُصَّ بها نَفْسَه ولا غَيْرَه.
وإمَّا أَنْ يَحْفِرَها لا لِيَمْلِكَها, بل لِيَرْتَفِقَ بمَائِهَا، ما دَامَ مُقِيماً عليها، فإذا رَحَلَ عنها انْتَفَعَ بها غَيْرُه، فهذه لا يُمَلَّكُها، وإنما هو أحَقُّ بمَائِها ما دامَ باقياً عندَها، فإذا رَحَلَ صارتْ سَابِلَةً لعُمومِ الناسِ، فإذا عادَ عَادَ إليهِ حَقُّه بالاختصاصِ بالارتفاقِ بمائِها.
وهذه طريقةُ الباديةِ الرُّحَّلِ الذينَ يُقيمونَ إقامةً مُؤَقَّتَةً، ويَظْعَنُونَ تُجاهَ المَراعِي وحَسَبَ فُصولِ السَّنةِ.
الحُكْمُ الثالِثُ: ما قَدْرُ حَرِيمِها؟
إذا حَفَرَ الإنسانُ بِئْراً فوَصَلَ إلى مائِها، فلا يَخْلُو مِن ثَلاثَةِ أُمورٍ:
الأولُ: أَنْ تَكونَ البِئْرُ مُحاطَةً مِن جَميعِ جَوانِبِها بأملاكِ الغَيْرِ، فهذهِ لَيْسَ لها حَرِيمٌ ولا مَرافِقُ, وإنما كلُّ وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ بِمَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ.
الثاني: أنْ يُرِيدَها الحافِرُ لسَقْيِ المَاشِيَةِ ونحوِ ذلك، فهذهِ إنْ كَانَتِ البِئْرُ قَدِيمَةً ثُمَّ جُدِّدَ حَفْرُها، فحَرِيمُها خَمْسونَ ذِراعاً مِن كلِّ جَانِبٍ مِن جَوانِبِها، وإنْ كانتْ بَدِيَّةً مُحْدَثَةً، فحَرِيمُها خَمْسَةٌ وعِشْرُونَ ذِراعاً من كلِّ جانبٍ، وذلك بذِراعِ اليَدِ، وجُعِلَتِ القديمةُ أَكْثَرَ حَرَماً؛ لأنَّ ماءَها غالباً أَغْزَرُ، وحاجتَها إلى الساحةِ أَكْثَرُ، وذلك لِمَا رَوَى أبو عُبَيْدٍ في الأموالِ، عن سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ قالَ: السُّنَّةُ فِي حَرِيمِ القَلِيبِ العَادِيِّ خَمْسُونَ ذِرَاعاً.
وبعضُ العُلماءِ جَعَلَ حَرِيمَ البِئْرِ أَرْبعِينَ ذِراعاً، كما في حديثِ البابِ، وهذا الحريمُ هو مَعَاطِنُ للإبِلِ، ومَجَرٌّ للبِئْرِ، ومَرافِقُ لَهَا.
وقالَ القاضي وغَيْرُه: ليسَ هذا على طريقِ التحديدِ، بل حَرِيمُها في الحقيقةِ ما يُحتاجُ إليه في تَرْقِيَةِ مَائِها منها، وهذا قولٌ جَيِّدٌ.
الثالثُ: وإنْ كَانَتِ البِئْرُ تُرادُ للزِّراعةِ، فقدْ جاءَ في سُننِ الدَّارَقُطْنِيِّ من حديثِ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ قالَ: ((وَعَيْنُ الزَّرْعِ سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ)). وهذا قولُ أَكْثَرِ العُلماءِ.
وقيلَ: قَدْرُ الحَاجَةِ، اختارَه القاضي والمُوَفَّقُ وغيرُهما.
قالَ مُفْتِي الدِّيارِ السعوديةِ الشيخُ محمدُ بنُ إبراهيمَ آلُ الشيخِ: الحافِرُ لغَيْرِ الشُّرْبِ كمُريدِ إِحْيَاءِ الأَرْضَ للفِلاحَةِ، فله ما حَوَالَيْهِ مِقْدارَ الزَّرْعِ؛ لأنَّه جَاءَ ليَزْرَعَ، فما كانَ حَوَالَيْهِ فلا يَعْتَرِضُهُ أَحَدٌ؛ لأنه سَبَقَ إليها، فيُتْرَكُ لَهُ ما جَرَتِ العادةُ به أنْ يُزْرَعَ، وفَرْقٌ بينَ مَن حَفَرَ على الإرْتوازِيِّ، والذي على الحَيوانِ. اهـ.
قُلْتُ: وكَلامُ المُفْتِي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى ـ هو عَيْنُ الصوابِ، واللَّهُ أعْلَمُ.