تأملات في قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم .. }
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ سورة البقرة : 214 ]
تضمنت هذه الآية بيان لعدة فوائد هي عدة المبتلى في هذه الحياة ومعينه الذي يتزود منه كلما أوشك صبره على النفاد ، ومن هذه الفوائد :
1: أن المؤمن مبتلى وعلى قدر ابتلائه تكونُ درجته في الجنة ، فالأنبياء أشد بلاء وهم في أعلى الدرجات ، كما في الحديث عن الحارث بن سويد ، عن عبد الله قال : " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقلت : يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا ، قال : أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم ، قلت :ذلك أن لك أجرين ، قال : أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها". رواه البخاري.
وقد جاءت الآية بصيغة الاستفهام - على أحد أقوال العلماء - لتقرير المؤمنين بهذه الحقيقة ، كما قال الطبري : " أم حسبتم أنّكم أيّها المؤمنون باللّه ورسله تدخلون الجنّة، ولم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرّسل من الشّدائد والمحن والاختبار "
2: الابتلاء سنة ، وكل من كان قبلنا ابتلوا فلنا فيهم أسوة حسنة ، قال تعالى :{ ولما يأتكم مثلُ الذين خلوا من قبلكم } ، قال ابن جرير الطبري : " عامة أهل العربية يتأولونه لم يأتكم " ، وقال : " مثل : شبه ".
3: في الاطلاع على سير من كان قبلنا تسلية لنا ، فإن من علِم عظيم بلائهم وصبرهم بل وإقدامهم على امتثال أمر الله رغم عظم مصابهم ، صبر وعلم أن ما أصابه هينٌ أمام ما أصابهم.
وقد جاء في الصحيح عن خبّاب بن الأرتّ قال:« قلنا: يا رسول اللّه، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو اللّه لنا؟ فقال: «إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه». ثمّ قال: «واللّه ليتمّنّ اللّه هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا اللّه والذّئب على غنمه، ولكنّكم قومٌ تستعجلون».
4: { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا }
{ البأسأء } : الفقر ، { الضراء } : المرض ، { زُلزِلوا } : الخوف من الأعداء ،كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره ، ويستفاد من ذلك أن البلاء يشتد من ناحيتين ؛ تنوعه واجتماعه على المؤمن وشدة كل منهم ، ومع ذلك صبروا فكان عاقبتهم الفوز ، فينبغي على المؤمن ألا يقنط من رحمة الله وينظر إلى عاقبة صبره فهذا مما يعينه على التحمل ؛ فإن من ترقب العاقبة المحمودة هان عليه ما يجد ، وقد أخبر الله عز وجل أن هذه الابتلاءات سنته في إيصال عباده للجنة.
5: { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه }
الصحبة الطيبة مما يعين المرء على الصبر على البلاء ويقوي العزيمة ، ولو كانت هذه المعية بالمشاركة في نفس الابتلاء ، ومن ذلك ما كان من أمر كعب بن مالك وما ابتُلي به حين صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ما تخلف عن غزوة تبوك لعذر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة المؤمنين بمقاطعته حتى يحكم الله في أمره :
قال كعب : " وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني ، فقالوا لي : والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ، قال : فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي ، قال : ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي من أحد ؟ ، قالوا : نعم ، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك ، قال : قلت من هما قالوا مرارة بن الربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي، قال : فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة قال فمضيت حين ذكروهما لي"
6: وفي قولهم { متى نصر الله }
استفهام يدل على تضرعهم إلى الله عز وجل باستعجال الفرج ، وفي نسبة النصر إلى الله ، إقرار أنه منه وحده ، فمن نسأل غيره ؟
7:{ ألا إن نصر الله قريب }
فكل ما هو آت قريب ، وقد وعد الله عز وجل بالنصر ومن أصدق من الله قيلا ، وعلى قدر الشدة يأتي الفرج ، ومهما طال زمان البلاء فالنصر متحقق بفضل الله ، وفي طيات هذا البلاء رحمات وانتصارات للمؤمنين ، فمنه توحدهم على عدوهم واجتهادهم في العبادة والقرب من الله عز وجل.
والله أعلى وأعلم.