ولعل للقولين نصيب من الصحة ..إذ المعنيين تحتمله الآية....و يمكن حمل الآية عليهما جميعا دون تعارض..وهو ما اختاره ابن جرير و نص عليه
قال ابن جرير: (والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله -تعالى ذِكره- أَمَرَ نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يستعيذ به من شر شيطان يوسوس مرة ويخنس أخرى، ولم يخصَّ وسوسته على نوع من أنواعها، ولا خنوسه على وجه دون وجه، وقد يوسوس بالدعاء إلى معصية الله؛ فإذا أطيع فيها خنس، وقد يوسوسللنهيعن طاعة الله ؛ فإذا ذكر العبد أمر ربه فأطاعه فيه وعصىالشيطانَ خنس؛ فهو في كلتا حالتيه وسواس خناس، وهذه الصفة صفته) ا.هـ
وكيف يوسوس؟
الوسواس لغة
-الوَسواس بالفتح هو اسم للموسوس.
-الوِسواس بالكسر مصدر؛ تقول: وسوس وِسواساً فهو وَسواس، وهو مشتق من الوسوسة ، وهي التحديث بصوت خفيّ.
قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت.....كما استعان بريح عشرقٌ زجِل
والوَسْوَسَة قد تكون بصوت بخفيّ . مثل ما ذكر في البيت الشعري وهو وسوسة الحلي
، وقد تكون همساً يحسّ المرءُ أثرَهُ ولا يُسمع صوتَه ، كما في وسوسة النفس ووسوسة الشيطان للإنسان.فهو إلقاء خفي للإنسان.
و الذي يوسوس في صدور الناس: نفوسهم وشياطين الجنّ وشياطين الإنس، و"الوسواس الخناس" يتناول وسوسة الجنة ووسوسة الإنس
وعليه فالوسواس الخناس إن كان المراد به الشيطان أو النفس يوسوس للعبد بما يلقيه في قلبه من الأمر بطاعته وبكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت .
ويكون ذلك عن طريق النفث أو الإلقاء في القلوب ؛فله علاقة مع القلب.
دليله حديث الني صلى الله عليه و سلم : ((إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، أو قال: شرًّا)).الحديث في الصحيحين
- وأيضا بما رواه ابن أبي شيبة و ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم؛ فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس). رواه ابن أبي شيبة وابن جرير...وروى ابن جرير نحو ذلك عن مجاهد بن جبر.
فهذا يدل على أن الوسواس الخناس له اتصال بالقلب وأنه يلقي ويقذف فيه ما يريده من الشر . وأن القلب محل للتلقي تلك الوسواس وعقلها وإدراكها .
وقد وردت بعض الأحاديث تبين صورة ذلك الإلقاء
فقد روى أبو يعلى والثعلبي والبيهقي في شعب الإيمان وغيرها نحوه من حديث
فعن أنس مرفوعاً: (إن الشيطان واضع خَطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس). رواه أبو يعلى و الثعلبي و البيهقي في شعب الإيمان .وضعف سند الحديث ابن حجر في الفتح
-و عن معمر عن قتادة قال: (يقال: الخناس له خرطوم، كخرطومالكلب يوسوس في صدور الناس، فإذا ذكرالعبد ربه خنس).رواه عبد الرزاق
و قال ابن حجر: (وقد ورد في خبر مقطوعأن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان ، فرأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه الأيسر حذاء قلبه له خرطوم كالبعوضة..
والحديث له شاهد مرفوع عن أنس عند أبي يعلىوابنعدي ولفظه: أن الشيطان واضع خطمه على قلب بن آدم،الحديث.
وأورد بن أبي داود في كتاب الشريعة من طريق عروة بن رويمأن عيسى عليه السلام سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم قال: فإذا برأسه مثل الحية واضع رأسه على ثمرة القلب فإذا ذكر العبد ربه خنس وإذا غفل وسوس) ا.هـ.
وقال ابن حجر أيضاً: (قال السهيلي: وضع خاتم النبوة عند نغض كتفه صلى الله عليه وسلم لأنه معصوم من وسوسة الشيطان وذلك الموضع يدخل منه الشيطان)ا.هـ.
وقال ابن قتيبة في "غريب الحديث": (في حديث عمر بن عبد العزيز أَنه قال: (إنرجلاً سأَل ربَّه سنَة أَنْ يُرِيَه موقع الشيَطان من قَلْب ابن آدم فرأَى فيما يرى النائم جَسَد رجُلٍ مُمَهّى يُرى داخله من خارجه ورأَى الشيطان في صُورة ضِفْدع له خرطوم كخرطوم البَعَوضة قد أَدخله من منكِبه الأَيسر الى قلبه يُوسْوَس اِليه فاِذا ذَكر الله خَنَّسَهُ) ) ا.هـ.
وعن عروة بن رويم اللخمي(أن عيسىعليه السلام دعا ربه تبارك وتعالى أن يريه موضع إبليس من بني آدم، فتجلى له إبليس، فإذا رأسه مثل رأس الحية، واضعاً رأسه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبد ربه عز وجل، خنس إبليس برأسه، وإذا ترك الذكر، مناه وحدثه.
أما إن كان المراد بالوسواس الخناس شياطين الإنس فوسوسته تكون بصوت خفي يلقيه ...يُري نفسه كالناصح المشفق فيخرج كلامه مخرج النصيحة فيصل كلامه إلى الصدر..
: بيّن متعلّق الجار والمجرور في قوله تعالى: {من الجنّة والنّاس}.
ذكر في معنىاه قولان:
أولا: أنها بيان وتفصيل لفظ الناسِ المذكور في قولهِ تعالى : { فِي صُدُورِ النَّاسِ } ؛ أي أن الجار و المجرور متعلق به .... والمعنى أن الشيطانُ يوسوس في صدور الجنِّ ، كما يوسوسُ في صدور الإنس ...و هذا يقوي أن اسم الناس ينطلق على الجنة؛ كما ينطلق على الناس ومما يستدل على ذلك قوله تعالى { {يعوذُون برجال من الجن} فسمى الجن رجالا؛ وأيضاسماهم نفراً بقوله تعالى: {استَمَعَ نفر من الجن}
ذكره ابن الجوزي و عزاه إلى الفراء
الثاني: أن الجار والمجرور { من الجنة} ؛فقط متعلق بالوسواس...أي الوسواس الخناس هو من الجنة أي الجن فقط... . ففيه حصر الوسوسة في الجن فقط .....والمعنى نستعيذ من الوسواس الخناس الذي . الذي يوسوس في صدور الناس....وتكون { والناس } عطف على الوسواس.. .والمعنى أعوذ من شر الوسواس الجن و أعوذ من شر الناس...
...فكأنه أمر أن يستعيذ من الجن والإنس ، ذكره ابن الجوزي وعزاه للزجاج.
ثالثا : أنها بيان و تفسيرٌ للذي يوسوس في صدور الناس؛ فالجار والمجرور متعلق ب { الوسواس} .... والمعنى أن الذي يوسوس ضربان : جني وإنسي؛ فالجني يوسوس في صدور الناس ...والإنسي أيضا يوسوس إلى الناس. ذكره ابن تيمية و صححه..
. و الدليل على أن للإنس شياطين وهم يوسوسون أيضاًقوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً}.[ الأنعام : 112 ]
أخبر الله تعالى أنه قد جعل لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا، وإيحاؤهم هو وسوستهم، وليس من شرط الموسوس أن يكون مستترًا عن البصر؛ بل قد يُشاهد، قال تعالى: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} وهذا كلام من يُعرف قائله ليس شيئًا يلقى في القلب لا يدري ممن هو.
وأيضا ما ورد من حديث
**أَبِي ذَرٍّ أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِالْلَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ والجن» قال: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ»
**ومما يدخل في وساوس الإنس التي تحصل وتعرض له ..نفس الإنسان.....فنفس الإنسان توسوس له كما ثبت ذلك في النصوص
قال الله تعالى :{لقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}.
وأيضا حديث ابن عباس قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لأحدث نَفْسِي بِالشَّيْءِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ»... .
- فالوسواس قد يكون من الجِنَّة، وقد يكون من الإنس،ونحن نستعيذ بالله من كل ما يوسوس من الجنة ومن الناس.
قال ابن تيمية: (فالذي يوسوس في صدور الناس: نفوسهم وشياطين الجنّ وشياطين الإنس، و"الوسواس الخناس" يتناول وسوسة الجنة ووسوسة الإنس ، وإلا أي معنى للاستعاذة من وسوسة الجنّ فقط مع أن وسوسةَ نفسه وشياطين الإنس هي مما تضره، وقد تكون أضر عليه من وسوسة الجن).ا.هـ.
3: اذكر الفوائد السلوكية التي استفدتها من سورة الناس.
-الدنيا دار بلاء و اختبار....فليجتهد العبد في معرفة طرق و سبل النجاح في هذا الاختبار.
-الشيطان عدو للإنسان فيجب أن نتخذه عدوا..بمخالفة كل ما يأمر به.
-الإكثار من ذكر الله و إتباع هداه..لدفع وساوس الشيطان.
-الشيطان لا يكل لا يمل من الوسوسة والمحاولة في إغراء العبد وإغوائه..فليكن العبد على حذر منه و ليعزم على نفسه في دفع وساوسه و ليجتهد في تحقيق عبودية مراغمة الشيطان.
- الحذر من خطوات الشيطان....فإنها أول وساوسه وهي موصلة إلى الهلاك
- للنفس وسوسة على صاحبها.. فحين الاستعاذة من شر الوسواس ..الخناس... فليستحضر العبد هذا المعنى أنه يستعيذ من شر وساوس نفسه.
- الإنس لهم وسواس و أثر على النفس...فليحرص العبد على مرافقة الأخيار و أهل الصلاح وليبتعد من مصاحبة و مرافقة أهل السوء..حتى يتجنب وسوستهم
-رحمة الله بعباده.ولطفهم به .حيث قدر كونا أن يكون هناك ابتلاء و اختبار بهذا الشيطان الذي خلقه..فجعل للعبد سلاحا يغلبه به .....فكذلك كلما حصل للعبد بلاء و هم فليعمل أن الله قد جعل له مخرجا و سبيلا للنجاة وطريقا للفوز..فليسعى العبد في البحث عنه وليعظم الثقة بربه
.محاسن الشريعة .وبهاءها...في إحكامها و شرائعها..فيجب العمل بها والسعي في تطبيقها في كل ما تأمر به فالخير كل الخير فيما شرعه الله لنا
.