المجموعة الأولى:
1: فسّرقول الله تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} البقرة.
النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان في المدينة يصلى ويستقبل بيت المقدس؛ وبقي على ذلك بضعة عشر شهرا ؛ و كانت الكعبة أحب إليه من البيت المقدس لأنها قبلة أبيه إبراهيم فكان يحب أن يأمر بالتوجه إليه ؛لكنه لا يحق له ذلك دون إذن من الله تعالى ؛ فكان صلوات الله عليه و سلم يقلب بصره في السماء و يديم النظر فيها ويدعو الله عزوجل أن يحوله إلى قبلة مكة فأنزل الله تعالى "{ قد نرى تقلب وجهك إلى السماء..} الآية
" فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا" أي لنحولنك و فلنصرفنك إلى { قبلة ترضاها } تحبها وهي الكعبة لأن الكعبة كانت أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس. فجاءه الأمر بالتحول و نسخ لقبلة الشام فقال تعالى "فول " أي فحول واصرف "وجهك شطر المسجد الحرام"وقيل أن الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاة فتحول في الصلاة..وقيل إنها نزلت في غير صلاة وكانت أول صلاة إلى الكعبة العصر
"شطر المسجد الحرام" أي نحو و تلقاء و جهة المسجد الحرام. والقبلة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستقبالها هي الكعبة كلها. لما رواه البخاري عن أسامة بن زيد قال : " رأيت النبي عليه السلام حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال : هَذِهِ القِبْلَةُ هَذِهِ القِبْلَةُ "
وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتين مستقبلاً باب الكعبة وقال : " هَذِهِ القِبْلَةُ " ، مرتين.
و قد استدل أهل العلم بذلك على أن الغرض والمراد في استقبال الكعبة هو المواجهة وليس استقبال عينها
{وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} هذا أمر من الله تعالى للأمة باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ِ، شَرْقًا وَغَرْبًا وَشَمَالًا وَجَنُوبًا، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا شَيء، سِوَى النَّافِلَةِ فِي حَالِ السفر على الدابة ، فإنه يصليها حيثما توجهت به؛ وكذا صلاة الخوف في حال المسايفة ؛ وكذا من جهل القبلة و اجتهد في تحريها وان كان مخطئا في نفس الأمر
بعدما نسخ استقبال بيت المقدس أخبر الله عزوجل نبيه أن أحبار اليهود وعلماء النصارى يعلمون أن استقبال الكعبة هو الحق. فقال {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتوطين لنفسه لما سيسمعه من إنكار اليهود والنصارى لاستقبال الكعبة .
فإنكار أهل الكتاب للكعبة كان عن جحد وعناد وحسد لأنهم يعلمون أحقية ذلك لما في كتبتهم عن أنبيائهم من النعت والصفة للرسول وأمته وما خصه الله به و شرفه من الشريعة و الكاملة العظيمة
{ مِنْ رَبِّهِمْ} أي هو الحقّ من عند ربهم فرضه عليهم.
فكان التوجه إلى الكعبة حق أحقه الله عزوجل من فوق سبع سموات ؛ فهو الحق جل وعلا وهو الذي يبين الحق ويظهره ويعليه .
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرئ بقراءتين..
-بتاء المخاطبة " تعلمون"رد على المؤمنين؛ وفيه تأميل لهم بالجزاء الجزيل والأجر العظيم
-بياء الغيبة " يعلمون" رد على أهل الكتاب وفيه تهديد ووعيد وتهويل لهم يكتمون الحق.ولا يتبعونه ويسعون في افتتان المسلمين عن دينهم
2: حرّر القول في كل من:
أ: معنى قوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}.
-أخبر الله تعالى انه لم يجعل توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي اختاره له إلا اختبارا و فتنة ليظهر المتبع و المطيع لأمر الله من غيره
واخُتلف في المراد بالقبلة وكذا اختلف أهل التفسير في معنى إلا لنعلم.
المراد بالقبلة
اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال
-قيل هي بيت المقدس.
وهو وقول قتادة والسدي وعطاء وغيرهم
ودليل هذا القول قوله تعالى :{ كُنْتَ عَلَيْها}
والمعنى أن الله عزوجل لم يجعل أمره باستقبال بيت المقدس إلا فتنة واختبارا حتى يتبن من يتبع من العرب الذين ألفوا بيت الحرام أو من اليهود الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل قبلتهم شريطة اتبعاهم له..كما روى ذلك الضحاك قال : " قالت اليهود للنبي [ عليه السلام] : إن كنت نبياً كما تزعم ، فإن الأنبياء والرسل كانت قبلتهم نحو بيت المقدس ، فإن صلّيت إلى بيت المقدس ، اتبعناك ، فابتلاهم الله بذلك . وأمره أن يصلي إلى بيت المقدس فصلى إليه بضعة أشهر شهراً ، فلم يتّبعوه.
-وقيل المراد بالقبلة الكعبة..وهو قول ابن عباس
ومعنى: " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " أي " وما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن."
"فكُنْتَ " بمعنى " أنت "، مثل قول الله تعالى ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ) أي : أنتم خير أمة.
ومعنى الآية : . وما جعلنا انصرافك عن البيت المقدس إلى الكعبة إلا لنعلم من يتّبع الرسول على قبلته ممن يرجع عن إيمانه فيخالف الرسول .
وقد كان لتحويل القبلة بلاء فتنة عظيمة للناس..فتحير الناس في ذلك حيرة شديدة .
وذكر ابن عطية "...ولما حولت القبلة كان من قول اليهود: يا محمد إن كانت الأولى حقا فأنت الآن على باطل، وإن كانت هذه حقا فكنت في الأولى على ضلال. فوجست نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من مات قبل التحويل على صلاتهم السالفة، فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ،.
قال ابن جريج: بلغني أن ناسا ممن كان أسلم رجعوا عن الإسلام.
و عن السدي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي قِبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبة. فلما وُجِّه قبل المسجد الحرام، اختلف الناس فيها، فكانوا أصنافًا، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها؟ وقال المسلمون: ليت شعرَنا عَن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلُّون قبَلَ بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم، أوْ لا؟ وقالت اليهود: إنّ محمدًا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال المشركون من أهل مكة: تَحيَّر على محمد دينُهُ، فتوجه بقبلته إليكم. رواه ابن جرير
فكان أمر التحول فتنة كبيرة وبلاء عظيم
الترجيح
لا تعارض و لا تناقض بين القولين و قد جمع بينهم ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى وكذا ابن كثير .وبينا أن المراد بالقبلة في الآية بيت المقدس .. لكن معنى الآية أننا لم نجعل انصرافك عن القبلة التي كنت عليها فصرفناك إلى الكعبة إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى :{ والقبلة التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها، التي عناها الله بقوله:"وما جعلنا القبلة التي كنت عليها"، هي القبلة التي كنت تتوجَّه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة}؛ أما عن معنى الآية فقال { : يعني جل ثناؤه بقوله:"وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها"، ولم نجعل صَرْفك عَن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفْناك عنها، إلا لنعلم من يَتَّبعك ممن لا يتَّبعك، ممن يَنقلبُ على عقبيه.}
ثم رحمه الله تعالى بين لماذا اكتفي في الآية ذكر بيت المقدس ولم يذكر الانصراف عنها في الآية فقال {..وإنما ترك ذكر"الصرف عنها"، اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نَظائره. }
ثم استدل رحمه الله تعالى لما ذهب إليه أن الفتنة والبلاء العظيم كان بتغيير القبلة و ليس بالتوجه إلى بيت الحرام...فقال رحمه الله تعالى :{.وإنما قُلنا: ذلك معناه، لأن محنةَ الله أصحابَ رسوله في القِبلة، إنما كانت -فيما تظاهرت به الأخبار- عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة، حتى ارتدَّ -فيما ذكر- رجالٌ ممن كان قد أسلمَ واتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهرَ كثيرٌ من المنافقين من أجل ذلك نفاقَهم، وقالوا: ما بَالُ محمد يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالُنا وأعمالُهم وضاعت! وقال المشركون: تحيَّر محمد صلى الله عليه وسلم في دينه! فكان ذلك فتنةً للناس، وتمحيصًا للمؤمنين. اهـ
معنى إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقيبه
-اختلف أهل التفسير في معنى قوله "إلا لنعلم" ..ذلك أن علم الله أزلي لم يزل الله عزوجل علما بما كان وبما يكون وبما لم يكن لو كان كيف يكون...فيكيف يقال "لنعلم" بلفظ الاستقبال الذي يوحي بالحدوث.. كأن علم الله كان بعد لم يكن .
و ذكر ابن عطية لذلك ما يقارب ست توجيهات للآية.
- 1معنى " لِنَعْلَمَ" أي ليعلم رسولي والمؤمنون به.
وجاء الإسناد بنون العظمة إذ هم حزبه وخالصته.
وهذا شائع في كلام العرب ؛ فمن شأن العرب إضافة ما فعله أتباع الرئيس وحزبه إليه ، كما يقولون : " جبى الأمير الخراج وهزم العدو" ؛ وإنما فعله حزبه وأنصاره.
ومما يؤيد هذا المعنى ما ورد في السنة من قول النبي صلى الله عليه وسلم .. عن الله عز وجل : " مَرِضْتُ فَلَمْ يَعُدْنِي عَبْدِي وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَمْ يُقْرِضْنِي" يعنى يريد به عباده .
- 2 المراد بالعلم هنا هو تعلق العلم بالموجود الواقع الحادث..فعلم الله أزلي علم سبحانه وتعالى في القدم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقيبه
وعلمه مستمر حتى وقع وحدث ذلك؛ فأراد بقوله لِنَعْلَمَ ذكر علمه وقت مواقعتهم الطاعة والمعصية، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب، فليس معنى لِنَعْلَمَ لنبتدئ العلم وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا.
3-قيل معنى "لنعلم" لنثيب ..فالمراد بالعلم الجزاء .. حكاه ابن عطية عن ابن فورك..ومعنى الآية لنعلمهم في حال استحقوا فيها الثواب، وعلق العلم بأفعالهم لتقوى الحجة ويقع التثبت فيما علمه لا مدافعة لهم فيه
4-المراد ب"لنعلم" التمييز و الفصل بين المتبع و المنقلب" ....وهو من باب إطلاق السبب و إرادة المسبب..حكاه ابن عطية عن ابن جرير عن ابن عباس
5- المراد "لنعلم" لنرى...فالمراد بالعلم الرؤية والمعاينة...
وَالْعَرَبُ تَضَعُ الْعِلْمَ مَكَانَ الرُّؤْيَةِ، وَالرُّؤْيَةَ مَكَانَ الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ" بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ.
6- الفعل "لنعلم" مبني للمفعول وهي قراءة الزهري ؛أي {ليعلم} وهذا لا يحتاج إلى تأويل إذ الفاعل قد يكون غير الله وعلم غير الله حادث.
وقد جمع بين القول الثاني و الثالث و الرابع الزجاج بقوله :
إِن قال قائل ما معنى: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) واللَّه عزَّ وجلَّ - قد علم ما يكون قبل كونه؟
فالجواب في ذلك أن اللَّه يعلم من يتبع الرسول مِمن لا يتبعه من قبل وقوعه وذلك العلم لا تجب به مجازاة في ثواب ولا عقاب ولكن المعنى ليعلم ذلك منهم شهادة فيقع عليهم بذلك العلم اسمُ مطيعين واسمُ عاصين، فيجب ثوابهم على قدر عملهم.
ويكون معلومُ مَا في حال وقوع الفعل منهم علم شهادة - كما قال عزَّ وجلَّ: (عَالمُ الغَيْبِ والشَهَادَةِ) فعلمه به قبل وقوعه علم غيب، وعلمه به في
حال وقوعه شهادة، وكل ما علمه الله شهادة فقد كان معلوماً عنده غيباً، لأنه يعلمه قبل كونه، وهذا يبين كل ما في القرآن مثله نحو قوله تعالى:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ.) اهـ
والذي يظهر من كلام ابن كثير أنه اختار المعنى الرابع ونص كلامه :{ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا شَرَعْنَا لَكَ -يَا مُحَمَّدُ -التَّوَجُّهَ أَوَّلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَرَفْنَاكَ عَنْهَا إِلَى الْكَعْبَةِ، لِيَظْهَرَ حالُ مَنْ يَتَّبعك ويُطيعك وَيَسْتَقْبِلُ مَعَكَ حَيْثُمَا توجهتَ مِمَّن يَنْقَلْبُ عَلَى عَقبَيْه، أَيْ: مُرْتَدّاً عَنْ . دِينِهِ. } اهـ
ب: هل كانت الصلاة إلى بيت المقدس بوحي متلوّ؟.
اختلف في ذلك على قولين.
-الأول :
أن ذلك كان بوحي متلو. . ..
عن ابن عباس أن أول ما نسخ من القران القبلة. ..ذكره ابن عطية عن ابن فورك وذكره ابن كثير عن على ابن أبي طلحة
فقوله أول ما نسخ من القران يوحى أن التوجه إلى بين المقدس كان بنص قراني متلو
وأصحاب هذا القول ذكروا تعليلا لذلك ." أن ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب، لأنهم كانوا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس وغيره.ذكره ابن عطية
-الثاني:
أن ذلك لم يكن بوحي متلو. . ثم اختلفوا
أولا: أن ذلك كان بأمر من الله عزوجل و لم يكن متلو وهو قول الجمهور. ذكره ابن عطية
ومما يستدل عليه ما جاء عن ابن عباس قال : " كان النبي عليه السلام لما هاجر إلى المدينة –وكان أكثر أهلها اليهود- أمره الله جلَّ وعزَّ أن يستقبل المقدس ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم وكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ) إلى ( صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ). .
الثاني..: أن ذلك كان اجتهادا من النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول عكرمة وأبي العالية والحسن البصري ذكره ابن كثير نقلا عن القرطبي.
الثالث ".. أن النبي صلى الله عليه وسلم خير في النواحي فاختار بيت المقدس، ليستألف بها أهل الكتاب وهو قال الربيع... ذكره ابن عطية
ومما يستدل لهذا القول ما جاء عن ابن زيد أنه قال : " قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) فقال النبي عليه السلام " هَؤُلاَءِ قَوْمٌ يَهُودٌ يَسْتَقْبلُونَ بَيْتاً مِنْ بُيُوتِ الله عز وجل ، فَلَوْ أَنَّا اسْتَقْبَلْنَاهَا " فَاسْتَقْبَلَ النبي عليه السلام معهم بيت المقدس ستة عشر شهراً ، فبلغه أن اليهود تقول : والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء . فأنزل الله عليه ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ) الآية" .
فهذا يدل على أنه استقبل بيت المقدس من غير أمر أتاه من عند الله، وأنه إنما أتاه من الله الإباحة باستقبال أي موضع شاء . ثم نسخ فعله .
3: بيّن ما يلي:
أ: متعلّق "كما" في قوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا} الآية.
ورد في ذلك أقوال ذكرها ابن عطية رحمه الله تعالى .
-أنه متعلق ب "لأتم" الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، الْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ إِتْمَامًا مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ. وهو اختيار الطبري
- متعلق ب "تهتدون " ؛ أي تهتدون كما أرسلنا فيكم....والْمَعْنَى وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ اهْتِدَاءً مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا..ذكره الزجاج احتمالا
- أنه في موضع نصب حال.وَالْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
قال القرطبي.."وَالتَّشْبِيهُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ فِي الْقِبْلَةِ كَالنِّعْمَةِ فِي الرِّسَالَةِ، وَأَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي عِظَمِهِ كَعِظَمِ النِّعْمَةِ."
-متعلق بمتأخر (فاذكروني) وفي الكلام تقديم و تأخير ؛ أي فاذكروني كَمَا أَرْسَلْنَا فيكم.. وهو اختيار الزجاج ولم يذكر ابن كثير غيره
- قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ} يَقُولُ: كَمَا فَعَلْتُ فَاذْكُرُونِي. ذكره ابن كثير
وقد رد جماعة من أهل العلم هذا القول منهم الطبري بحجة أن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه.
وبالمثال يتضح المقال فقولنا " كما أحسنتُ إليك فأكرمني " .الكاف في " كما " متعلقة ب " أكرمني " إذ لا جواب له ....لكن إن قلنا " كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك " ، لم تتعلق الكاف في " كما " ب " أكرمني "لأن له جوابا؛ وهو "أكرمك" ولكن يتعلق بشيء آخر أو بمضمر
ومثل ذلك ما ورد في الآية ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ )؛ " فَاذْكُرُونِي ".. أمر له جواب " أَذْكُرْكُمْ" ، فلا تتعلق " كما " به.
وقد رد ذلك الزجاج " بأن ذلك جائز على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين... مثل قولهم" إذا أتاك فلان فأته ترضه." فيصير قوله «فأته » و «ترضه » جوابين لقوله : إذا أتاك ، وكقوله : إن تأتني أحسن إليك أكرمك . .وعليه يكون " كما أرسنا " و " أذكركم " جوابين للأمر ."اذكروني "
ولم يرضه ابن جرير...ورده بقوله..." وهذا القول وإن كان مذهبا من المذاهب ، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب . والذي هو أولى بكتاب الله عزّ وجل أن يوجه إليه من اللغات الأفصح الأعرف من كلام العرب دون الأنكر الأجهل من منطقها هذا مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل . "
ب: كيف كان تحويل الصلاة إلى الكعبة دليلا على عناية الله بهذه الأمة.
ذلك أن الله وفق هذه الأمة وهداها إلى قبلة نبيه وخليله إبراهيم التي بناها على اسمه سبحانه وتعالى وحده لا شريك له وهى أشرف بيوت الله في الأرض..والحال أن الأمم الأخرى قد ضلت عنها..
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَعْنِي فِي أَهْلِ الْكِتَابِ -:"إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمْعَةِ، التِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ . رواه الإمام أحمد
ج: مناسبة قوله تعالى: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع} لما قبله.
بعدما بين الله سبحانه وتعالى أنه قد اختبر و ابتلى أتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وأن في ذلك محنة كبيرة و فتنة عظيمة يظهر بها المتبع للرسول من غيره ..وبين أيضا لإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أن بلاءهم أيضا سيكون من أعداء الدين المستهزئين بهم و المنافقين الذي يتربصون بهم و غيرهم ...ثم أرشدهم إلى الطريق التي يسلمون بها من هذا وكله وهو الاستعانة بالصبر و الصلاة و كثرة ذكر الله تعالى لهذا أثنى على الصابرين بقوله "..إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)"
ثم بعدها ذكر سبحانه أنه ..مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور التي تستوجب الصبر والثبات ..فذكر الجهاد في أول مرتبة قال سبحانه وتعالى "{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ....} الآية لأن الجهاد في سبيل الله تعالى من أعظم الأمور الذي يجب الصبر عليه لما فيه من بذل النفس وإزهاقها وحث على ذلك بذكر فضيلة الشهداء
ثم بعدها ذكر مما يوجب الصبر بل لا يمكن للعبد أن يثبت عليها إلا بالصبر ؛ ما يحصل للعبد من بلاء و محن في هذه الدنيا فقال" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ " ثم أعاد وختم الآية بالثناء على الصابرين بقوله "وبشر الصابرين"...و لم يذكر متعلق الصبر ليعم كل ما يصبر عليه
فالآية جاءت في سياق بيان أن الله مبتلٍ فأمر بالصبر فبين فضيلة الصبر و أهله وصفاتهم وبيان الأمور التي لا تتلقى إلا بالصبر .
و الله تعالى أعلم