دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > مجموعة المتابعة الذاتية > منتدى المستوى الثامن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 جمادى الآخرة 1440هـ/3-03-2019م, 04:36 AM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي نشر بحث اجتياز المستوى السادس

نشر بحث اجتياز المستوى السادس


يُنشر البحث بصورته النهائية في هذا الموضوع ويصحح في صفحات الاختبارات.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 1 شعبان 1440هـ/6-04-2019م, 08:48 PM
فداء حسين فداء حسين غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - مستوى الإمتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
المشاركات: 955
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.
أما بعد:
فهذا تفسير للآية الثلاثون من سورة البقرة , حاولت فيه بيان ما اشكل من تفسيرها , فبينت ما استطعت, فأوردت ما استطعت وتركت ما تركت خشية الإطالة والتكرار والخطأ.
فما أصبت فيه فمحض منة وفضل من الله , وما جانبت فيه الصواب فمني ومن الشيطان.
نقول مستعينين بالله:

قال الله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}البقرة\30:

جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فبعد أن ذكر -سبحانه- خلق السموات والأرض, وامتن علينا بما سخره لنا فيها , وامتن بعظيم فضله أن كان ما فيها حلالا طيبا إلا ما استثناه الشرع وهو قليل , فلما امتن سبحانه علينا بما تقدم: أتبع ذلك بذكره لنعمة وكرامة خص بها أبونا آدم -عليه السلام- فتكريم الأصل يوجب الشكر من الفرع , ويوجب العمل لاستحقاق مثل هذا الشرف , ولا يكون هذا إلا بالسير على خطى آدم عليه السلام , وخطى من جاء بعده من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فقوله تعالى:{وإذ}
: ورد فيها عند المفسرين قولان:
القول الأول: إنها صلة زائدة , لكن العرب اعتادت الاتيان بها في الكلام , وقد نزل القرآن بلغة العرب, فيكون تقدير الكلام على هذا القول: (وقال ربك للملائكة)، وهذا قول أبو عبيدة ذكره في مجاز القرآن عند قوله تعالى:{وإذ قلنا للائكة اسجدوا لآدم...}, وتابعه عليه ابن قتيبة, وأنكره عليه جمهور المفسرين حتى قال الزجاج: (هذا اجتراء من أبي عبيدة) .

القول الثاني: إن (إذ) ظرف زمان وليست زائدة , وهي متعلقة بفعل مقدر تقديره: واذكر , ويكون المعنى : اذكر لهم .
قال ابن عطية: فقوله:{ خلق لكم ما في الأرض جميعا } يقتضي أن يكون التقدير: (وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة)،
وقيل (الواو) عاطفة على ما سبق من الآيات التي جاءت في سياق امتنان الله على العباد بما حباهم به من نعم, فيكون المعنى على ذلك: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلت ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة , فلما امتن عليهم بابتداء خلق السموات والأرض; ناسب أن يمن عليهم ويذكرهم بابتداء خلق جنسهم على الأرض بذكر خلق آدم عليه السلام.

وهذا القول ذكره الطبري وغيره كابن عاشور.
أما القرطبي فقال: هو مردود إلى قوله تعالى : {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} فالمعنى: الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة .
ورد هذا التعلق البعض كالشوكاني , فقال : (وقيل: هو متعلق بـ " خلق لكم " ، وليس بظاهر).

والراجح -والله أعلم- إن (إذ) مفعول لفعل محذوف, والتقدير: (اذكر إذ قال ربك) , وحذف الفعل لأمرين :
الأول: عدم الجهل بالمعنى.
الثاني : أن المعنى قد ذكر في مواطن كثيرة في القرآن كقوله تعالى:{ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف } وقال : {واذكر عبدنا داود }.
ويحسن بنا أن نذكر أن (إذ) و(إذا) حرفا توقيت , لكن (إذ) تستعمل للماضي و(إذا) للمستقبل, وقد تحل إحداهما محل الأخرى كما في قوله تعالى:{وإذ يمكر بك الذين كفروا ...}.
وقد تستعمل (إذا) مع المضارع كقوله تعالى:{فإذا جاءت الطامة} .


قوله تعالى:{قال}:
فيه إثبات صفة الكلام لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته وكماله سبحانه.
فالكلام صفة من صفات الله الذاتية, فهي صفة قديمة النوع حادثة الآحاد , لا كما زعمت المعطلة بأنواعها : كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة ومن تبعهم , على اختلاف في تفاصيل أقوالهم لكنها جميعا تنتهي إلى نفي صفة الكلام عن الله -تعالى وتقدس- والتي اثبتها السلف ولم يتنازعوا فيها أبدا , بل لا يردها إلا من اختل عقله وبعد عن نصوص الوحي.
وأقبح الأقوال قول الجهمية أصحاب جهم بن صفوان, الذي تلقف مقالة الجعد بن درهم صاحب السبق في نفي الصفات حيث زعم: (إن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا) فكذب القرآن ورد ما تواتر من الأحاديث , فما كان إلا أن ضحى به خالد القسري فذبحه على المنبر وأراح الناس من شره.

فكانت أشهر الأقوال في هذه المسألة ثلاثة:

الأول: قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره. ولذلك قالوا بخلق القرآن, وهذا يرده النص وإجماع السلف والعقل والفطرة.

الثاني: قول الكلابية والأشاعرة الذين يقولون بأن كلام الله قديم ، لا بصوت ولا حرف , وأنه معنى واحد قائم بذات الله , وأنه لا يتعلق بمشيئة الله وإرادته , وهو كسابقه يرده النص وإجماع السلف والعقل والفطرة.

الثالث: قول أهل السنة الذين يثبتون صفة الكلام وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه كلم موسى ، وأن نوع الكلام قديم وجنسه حادث.

لذلك قال القرطبي -وهو يسير على قول الشاعرة في الأسماء والصفات- عند تفسير قوله تعالى:{قال ربك} في هذه الآية:(وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم .
وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته . وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي... ) .

وتفصيل الرد عليهم مبثوث-ولله الحمد- في كتب العقيدة مفصلا , خاصة في ردود شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم , جزاه الله عن هذه الأمة خير الجزاء وأعظمه , فمن شاء فليرجع إليها.

وقوله:{ربك}:
الرب في اللغة هو: المالك والسيد والمصلح والجابر والمدبر والمربي والقيم والمنعم.
وهو الذي يربي غيره وينشئه شيئا فشيئا.

قال ابن جرير: (فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر) .

وكلمة (الرب) لا تستعمل في حق المخلوق إلا مضافة فيقال: رب الدار ورب المال.
أما (الرب) معرفاً بالألف واللام ; فهذه لا تقال إلا لله -سبحانه- لأنه مالك كل شيء.
أما كاف المخاطبة في كلمة (ربك) فهي إضافة "رب" إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومخاطبته بالكاف تشريف منه له، وإظهار لاختصاصه به.

فالإضافة إلى الله نوعان:
الأول: إضافة أعيان قائمة بنفسها، كالمذكور في الآية , وأيضا كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وعبده، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة اختصاص وتشريف, وقد تكون مجرد إضافة مخلوق لخالقه كقوله تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} .

الثاني: إضافة صفة إلى الموصوف ، كعلمه , وقدرته , وسمعه , وبصره وحياته وكلامه ووجهه ويديه ومشيئته ورضاه وغضبه ، فالمضاف هنا صفة قائمة بالله سبحانه وليست عين قائمة بنفسها.

ومن فقه هذا التسليم نجا من ضلال أكيد وأثبت لله ما اثبته لنفسه من صفات كاملة منزهة عن كل نقص وعيب , وجانب تمثيل الله بخلقه واعتقاد بأن شيء منه حال في خلقه كما ادعت النصارى-تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-وادعت غلاة الصوفية حتى قالوا بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود.

قوله: { لِلْمَلَائِكَةِ} :
معنى (ملك) في اللغة: قال ابن فارس: (الميم واللام والكاف أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة. قَالُ: أَمْلَكَ عَجِينَهُ: قَوَّى عَجْنَهُ وَشَدَّهُ).
والملك أصله (ملاك) نقلت حركة الهمزة فيه إلى الساكن قبله ، ثم حذفت الألف تخفيفا فصارت ملكا ، وهو مشتق من الألوكة والملأكة وهي: الرسالة، والملأك: الملك؛ لأنه يبلغ عن الله تعالى.

قال الطبري: (فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة؛ لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده) .

أما تعريف الملائكة اصطلاحا: فهم أجسام نورانية ، أعطيت قدرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله ، خلقهم من نور، مربوبون مسخرون ، {عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} ، لا يوصوفون بالذكورة ولا بالأنوثة ، لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يملون ولا يتعبون ولا يتناكحون ولا يعلم عددهم إلا الله (1) .
فنؤمن بهم بحسب ما جاء عن أخبارهم في الكتاب والسنة الصحيحة, إذا هم من عالم الغيب فلا سبيل إلى معرفة شيء عنهم إلا عن طريق الوحي , وما كان من طريق الوحي فلا سبيل إلى إنكاره أو تحريفه بل لا بد من التسليم والتصديق.

وهل خطاب الله في هذا الموضع لجميع الملائكة أم لطائفة معينة منهم؟
ونجيب على هذا بذكر الأقوال التي جاءت في تعيين المخاطب من (الملائكة ) في هذا الموضع:
القول الأول: أنهم جميع الملائكة ، قاله السدي , وهو قول الأكثرين من الصحابة والتابعين : إنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ؛ لأن لفظ (الملائكة) يفيد العموم فيكون التخصيص خلاف الأصل .

الثاني: أنهم الملائكة الذين كانوا مع إبليس حين أهبط إلى الأرض ، وقد جاء هذا عن ابن عباس حيث قال في الأثر الطويل:
(كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم “ الحن “ خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال : وكان اسمه الحارث ، قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي . قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت . قال : وخلق الإنسان من طين . فأول من سكن الأرض الجن . فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة – وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحن – فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه . وقال : “ قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد “ قال : فاطلع الله على ذلك من قلبه ، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه . فقال الله للملائكة الذين معه : “ إني جاعل في الأرض خليفة “ فقالت الملائكة مجيبين له : “ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء “...)الأثر.
تخريج الأثر:
رواه ابن جرير عن أبي كريب عن عثمان عن بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس.
وقد أوضع المحدثون بأن الضحاك لم يسمع من ابن عباس لعدم ثبوت اللقيا:
قال عبد الملك بن ميسرة: الضحاك لم يلق ابن عباس إنما لقي سعيد بن جبير بالري فأخذ عنه التفسير . رواه ابن جرير وغيره.
وقال: قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس شيئا؟
قال: لا.
قلت: فهذا الذي ترويه عمن أخذته؟
قال: عنك، وعن ذا، وعن ذا). رواه أبو زرعة ويعقوب الفسوي.

وهذه الرواية هي من نوع ما يرويه بعض من لا يتثبت في التلقي؛ فيكتب عن الثقة والضعيف، ويخلط الغث والسمين.
و الضحاك من طبقة الرواة غير المتثبتين، فهو وإن كان لا يتعمد الكذب , وهو في نفسه صدوق وذو صلاح وعناية بالعلم , وقد وثقه أحمد بن حنبل , ويحيى بن معين , وأبو زرعة الرازي وغيرهم , إلا إنه وقع في آفة عدم التثبت: فخلط الصحيح بالضعيف والغث بالسمين.
وروى هذه الرواية عن الضحاك أبو ورق وهو ثقة، لكن أكثر من يروي عنه بشر بن عمارة الخثعمي؛ ضعفه جماعة، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي في الحديث، وقال البخاري: (تعرف وتنكر).
فالإسناد معلول بسبب الانقطاع بين الضحاك وبين ابن عباس, وبسبب ضعف بشر بن عمارة الخثعمي.

والعلة ليست فقط في السند بل يضاف عليها ما في الرواية من نكارة حيث جاء فيها أن بعض الملائكة خلقت من نار السموم, وهذا مصادم لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارجٍ من نار وخلق آدم مما وصف لكم )) رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها
. وهذا القول فيه استدراك على عموم النص النبوي.

كما إن الرواية جاء فيها أن إبليس كان من الملائكة, وهذا مصادم لقوله تعالى:{إلا إبليس كان من الجن ففسق عن امر ربه} وفي الآية تصريح واضح أن إبليس لم يكن أبدا من الملائكة.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره: من أنه كان من أشراف الملائكة، ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأنه كان اسمه عزازيل ـ كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها.
وأظهر الحجج في المسألة، حجة من قال: إنه غير ملك؛ لأن قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ...} الآية، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي. والعلم عند الله تعالى)ا.هـ.
وقال الألباني رحمه الله: (وما يروى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:{ من الجن} أي من خزان الجنان ، وأن إبليس كان من الملائكة ، فمما لا يصح إسناده عنه ، ومما يبطله أنه خلق من نار كما ثبت في القرآن الكريم ، والملائكة خلقت من نور كما في " صحيح مسلم " عن عائشة مرفوعا ، فكيف يصح أن يكون منهم خلقة ، وإنما دخل معهم في الأمر بالسجود لآدم عليه السلام لأنه كان قد تشبه بهم وتعبد وتنسك ، كما قال الحافظ ابن كثير ، وقد صح عن الحسن البصري أنه قال : " ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر ")ا.هـ.

والأصل أن قوله تعالى:{للملائكة} عام يشمل جميع الملائكة, وقد يستدل على هذا بقوله تعالى فيما بعدها من الآيات:{فسجد الملائكة كلهم أجمعون}. و(كلهم) من أقوى صيغ العموم ولا استثناء فيها , وأكدت ب {أجمعون} ولا يصرف النص عن ظاهره المراد بلا قرينة.

الثالث: إنهم مجموعة من الملائكة خاطبهم الله -سبحانه- ثم أحرقهم بعد أن قالوا ما قالوا. قاله عبدالله بن يحيى ابن أبي كثير نقلا عن أبيه: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ كَانُوا عَشَرَةَ آلافٍ، فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الله فأحرقتهم) .
رواه ابن ابي حاتم عن أبى هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عن أبيه.
ومثل هذا لا يقال بالرأي , ويحيى ابن أبي كثير لم يرو عن الصحابة , وجاء في مشاهير علماء الأمصار: (لا يصح له عن أنس بن مالك ولا غيره من الصحابة سماع وتلك كلها أخبار مدلسة ).
فهذا الخبر مما لا يعتد به.
قال ابن كثير عنه: (وهذا أيضا إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم).

ويرده أيضا نكارة متنه لما تقرر في أصول الشريعة من اعتقاد أهل السنة والجماعة في الملائكة بأنهم كما قال الله عنهم: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وقال عنهم أيضا:{ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فكيف يصح هذا منهم؟!
وإذا عارضت الإسرائيليات ما هو معلوم بالضرورة من أصول الشريعة فإنها ترد ولا يلتفت إليها.

فيكون القول الأول هو الراجح والصحيح من بين هذه الأقوال.

قوله تعالى:{إني جاعل في الأرض خليفة}:
{جاعل}: اختلف المفسرون هنا أيضا في معنى (جاعل) على عدة اقوال:
القول الأول: فاعل , وهو قول الحسن وقتادة , قالا في تفسير قوله تعالى:{ إني جاعل في الأرض خليفة : قال لهم : إني فاعل. ذكره ابن جرير , وذكره ابن عطية ولم يرجحه.
تخريج الأثر:
رواه ابن جرير يسنده إلى الحسن ، وقتادة.
ورواه ابن أبي حاتم عنا الحسن بن محمد بن الصباح، عن سعيد بن سليمان، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن.

الثاني: خالق . وهو قول أبي روق. ذكره ابن جرير , وابن عطية ورجحه , وقاله القرطبي , وذكره ابن كثير , وذكره الشوكاني وقال: (وذكر المطرزي أنه بمعنى خالق ، وذلك يقتضي أنه متعد إلى مفعول واحد ).

تخريج أثر أبي روق:
رواه ابن جرير عن المنجاب بن الحارث عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق حيث قال : كل شيء في القرآن " جعل " فهو خلق .
وهذا الإسناد فيه بشر بن عمارة وهو ضعيف.

وجعل أتت في القرآن الكريم بمعنى (صيّر) وبمعنى (خلق) , فإذا كان معنى (جعل) اعتقد أَو صيّر فإِنه ينصب مفعولين ، أَما إذا كان بمعنى خلق فإنه ينصب مفعولا واحدا .

قال القرطبي: (جاعل من جعل الذي له مفعولان دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله :{ في الأرض خليفة} فكانا مفعولين ، ومعناه مصير في الأرض خليفة) .

وقال الطبري: (والصواب في تأويل قوله :{إني جاعل في الأرض خليفة } أي: مستخلف في الأرض خليفة ، ومصير فيها خلفا, وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة).
وهو الصحيح المناسب لسياق الآية , وليست (جاعل) هنا بمعنى (خالق) , فقد جاءت آيات أخرى تكلمت عن خلق آدم بلفظ (خالق) وخصت آدم به , كقوله تعالى:{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} وقوله:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} , فالكلام في هذه الآية وإن كان عن آدم أصالة : لكنه يشمل غيره , كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله.

أما قوله:{في الأرض}:
فقد اختلف في تعيين الأرض المقصودة في الآية , فجاء عن بعض المفسرين مثل: ابن جرير , وابن الجوزي والقرطبي وابن عطية والرازي , بان المراد ب(الأرض) هنا مكة على وجه الخصوص , واستدلوا على قولهم بأثر ورد فيه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (دحيت الأرض من مكة ، وكانت الملائكة تطوف بالبيت ، فهي أول من طاف به ، وهي " الأرض " التي قال الله :{إني جاعل في الأرض خليفة ...} إلى آخر الأثر.

وهذا الأثر رواه ابن جرير وابن ابي حاتم وابن عساكر بإسناده عن جرير عن عطاء ، عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وابن سابط من طبقة التابعين , فهذا من جنس المرسل والمرسل من الضعيف الذي لا يصح :
جاء في تهذيب الكمال للمزي:(عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن سابط ، ... تابعي أرسل عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ..., وقال مُحَمَّد بْن سعد : اجمعوا على أنه توفي بمكة سنة ثماني عشرة ومائة ، وكان ثقة كثير الحديث).

وقال ابن حجر عنه : (...واما هو فتابعي كثير الإرسال...أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا...).
ق
ال ابن معين: (عطاء بن السائب اختلط، فمن سمع منه قديمًا فهو صحيح، وما سمع منه جرير وذووه ليس من صحيح حديثه).

وهل لهذا الكلام-أعني عن مكة- أصل في الشريعة؟
ذهب بعض العلماء إلى أن مكة سميت " أم القرى " لأنها أصل قرى الأرض كلها ، ومنها دحيت الأرض ، فهي لذلك وسط الأرض .
قال الراغب الأصفهاني عن مكة:(سميت بذلك لأنها وسط الأرض، كالمخ الذي هو أصل ما في العظم).
أما القرطبي فقد قال : (وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطا).
وقال البغوي عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَهَـَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مّصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾: (إنما سميت مكة "أم القرى" لأنها أصل قرى الأرض كلها، ومنها دحيت الأرض، فهي لذلك وسط الأرض) .
أما في الأحاديث فلا يثبت في الأمر شيء إلا حديثا واحدا مرفوعا وهو عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ، ثم مدت منها الأرض ، وإن أول جبل وضعه الله على وجه الأرض " أبو قبيس " ، ثم مدت منه الجبال ) .
والحديث رواه العقيلي في "الضعفاء الكبير" ، والبيهقي في "شعب الإيمان"، والديلمي في "مسند الفردوس" وابن عساكر في "تاريخ دمشق" وعزاه السيوطي في "الجامع" إلى الحاكم في تاريخه .
كلهم من طريق : سليمان بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن علي بن عجلان القرشي عن عبد الملك بن جريج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً .
وهذا الحديث معل بجهالة عبد الرحمن بن علي ، وعبدالرحمن هذا لم يرد توثيقه إلا عن سليمان بن عبد الرحمن الراوي عنه ، وسليمان نفسه متكلم فيه ، أُخذ عليه كثرة روايته عن المجهولين .
قال فيه ابن معين : ثقة إذا روى عن المعروفين .
وقال ابن حبان : يعتبر حديثه إذا روى عن الثقات المشاهير ، فأما إذا روى عن المجاهيل ففيها مناكير .
وأيضا هذا المعنى جاء عن بعض الصحابة, مثل قول عبد الله بن عمرو بن العاص :
" خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، وكان إذ كان عرشه على الماء زبدةً بيضاء ، وكانت الأرض تحته كأنها حشفة ، فدحيت الأرض من تحته "
رواه الطبري في "تفسيره بسند رواته ثقات . وعزاه في الدر المنثور" لابن المنذر والطبراني والبيهقي في "الشعب" .
وكذلك عن بعض التابعين: وبوقف الرواية على عطاء أو مجاهد من قولهم .
لكن قد ورد عن قتادة في "فضائل الصحابة" للإمام أحمد أن صخرة بيت المقدس هي وسط الأرض .
فتضارب الأقوال قد يوحي بأنها مأخوذة من أهل الكتاب, لكنها لا تعارض شيئا من النصوص , والقرائن قد توحي بأن لهذا القول أصلا , وبكل الأحوال فهي بهذا الحال من الأخبار التي لا تصدق ولا تكذب فيتوقف فيها , وهي مع هذا من الأخبار التي لا طائل تحتها كأكثر ما يروى عن أهل الكتاب.

وقد علق ابن كثير على رواية سابط بعد أن أوردها بقوله: (وهذا مرسل ، وفي سنده ضعف ، وفيه مدرج ، وهو أن المراد بالأرض مكة ، والله أعلم ، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك .).

ويبقى أن ظاهر الآية موافق لما قاله جمهور المفسرين , قال الشوكاني: (والأرض هنا : هي هذه الغبراء ، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان - وقيل : إنها مكة).

قوله:{خليفة}:
قرأ الجميع {خليفة} وقرأ زيد بن علي "خليقة" بالقاف.

وهنا نبحث في مسألتين:
الأولى: المعنى اللغوي.
االثانية: المراد بها.

أما المعنى اللغوي: ف(خليفة) يأتي بمعنى الخالف، ويأتي بمعنى المخلوف، فعيلة بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول.
فتكون بمعنى فاعل ، أي يخلف من كان قبله , وإن كان " خليفة " بمعنى مفعول أي: مخلوف, فالخليفة بمعنى المخلوف أي: أن الناس يخلف بعضهم بعضاً في الأرض.

أما المراد ب(الخليفة):
فقد اختلف المفسرون في ذلك على قولين:
الأول : أن المراد به آدم عليه السلام .
وكون الخليفة هو آدم هو الظاهر المتبادر من سياق الآية , ذكره ابن جرير , والبغوي , وابن الجوزي , وابن عطية , والقرطبي. والشنقيطي , ورجحه السعدي.
وأصحاب هذا القول اختلفوا في سبب تسميته (خليفة) على ثلاثة أقوال:

القول الأول : قالوا بأن آدم -عليه السلام- كان خليفة للجن الذين تقدموه وعاشوا في الأرض، ورويت في هذا بعض الآثار عن ابن عباس كما في الأثر الذي رواه ابن جرير بسنده عن أبي ورق عن الضحاك عن ابن عباس قال: ( أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا ...) الأثر.
وهذا السند قد سبق الكلام عليه فهو مما لا يعتد به.

كذلك ما جاء عن الربيع بن أنس في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " ، قال : (إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ، فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء ، وكان الفساد في الأرض ).

وهذا الأثر رواه ابن جرير بسنده عن أبي جعفر عن الربيع , ورواه ابن ابي حاتم بسنده عن الربيع عن أبي العالية.
ورواية أبي جعفر الرازي عن الربيع تكلم فيها العلماء:
قال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار: (الربيع بن أنس بن زياد البكري سكن مرو، سمع أنس بن مالك، وكان راوية لأبى العالية، وكل ما في أخباره من المناكير إنما هي من جهة أبى جعفر الرازي).
قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الربيع: (ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه، لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً).
أما أبوجعفر وهو عيسى بن ماهان الرازي، فقد قال الحافظ ابن حجر عنه: (صدوق سيء الحفظ).
وقال ابن حبان عنه: (كان ممن يتفرد بالمناكير عن المشاهير).

القول الثاني: إنما سماه الله خليفة ؛ لأنه يحكم بشرع الله في الأرض , وهو قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن والسدي. ذكره ابن جرير , وابن الجوزي , والشنقيطي وابن عثيمين.
الثالث: لأنه إذا مات يخلفه من بعده. ذكره الشنقيطي وابن عثيمين.

أما القول الثاني في المراد ب(الخليفة): فإن المراد بهم ولد آدم وذريته , فيكون قوله : ( خليفة ) مفرد أريد به الجمع ؛ أي : خلائف.
وسماهم (خليفة) لأنهم يخلف بعضهم بعضا. قاله الحسن وابن سابط , ومثله قوله تعالى:{ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} الأنعام 165. ذكره ابن جرير , وذكره الرازي ورجحه ابن كثير.
قال الحسن في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " أي: خلفا يخلف بعضهم بعضا ، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم ، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله .
رواه بن جرير في تفسيره ونسبه للحسن ولم يسق إسناده.

قال ابن سابط في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال : يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم .
رواه ابن جرير عن محمد بن بشار ، عن أبي أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط.

قال ابن كثير: (وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم - عليه السلام - فقط ، .... والظاهر أنه لم يرد آدم عينا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة :{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك...).

والصواب -والله أعلم- أن الخليفة اسم لكل من انتقل إليه تدبير أهل الأرض والنظر في مصالحهم , وسياق الآيات في ما أخبر به الله -جل شأنه- عن خلق آدم , ولا يمنع إرادة القولين معا : القول الأول باحتمالاته الثلاثة فجميعها محتملة , والقول الثاني.
فآدم هو القائم على إقامة شرع الله في الأرض التي استخلفه فيها , وبني آدم كانوا خلائف لأبيهم ومن بعدهم خلائف لهم , فعلى هذا يكون معنى الاية : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي, وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه .
قال صاحب أضواء البيان : (وإذا كانت هذه الآية الكريمة تحتمل الوجهين المذكورين . فاعلم أنه قد دلت آيات أخر على الوجه الثاني ، وهو أن المراد بالخليفة : الخلائف من آدم وبنيه لا آدم نفسه وحده . كقوله تعالى :{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }.

ومعلوم أن آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس ممن يفسد فيها ولا ممن يسفك الدماء ، :{هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } ، وقوله :{ ويجعلكم خلفاء }. ونحو ذلك من الآيات .

ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد بالخليفة آدم ، وأن الله أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد ، وسفك الدماء . فقالوا ما قالوا ، وأن المراد بخلافة آدم الخلافة الشرعية ، وبخلافة ذريته أعم من ذلك ، وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر) .
فيكون كلام الملائكة المراد به ذرية آدم وليس آدم نفسه كما روى ابن جرير بنده عن عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط ، قوله : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال : يعنون الناس .


وهنا تأتي مسألة يكثر الكلام فيها , وقد تكلم بعض المفسرين عنها , وهي سبب إخبار الله -تعالى وتقدس- الملائكة عن خلق آدم -عليه السلام- بقوله: {إني جاعل في الأرض خليفة}؟!
وقد فتنوعت أقوالهم في هذا المقام كما تنوعت في غيره على عدة أقوال:

القول الأول: أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبرا ، فأحب أن يطلع الملائكة عليه ، وأن يظهر ما سبق عليه في علمه ، نسب لابن عباس وغيره من الصحابة , وقاله السدي , ذكره ابن جرير وهو ظاهر قول البغوي .
فقد جاء عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لمّا فرغ اللّه من خلق ما أحبّ، استوى على العرش فجعل إبليس على ملك سماء الدّنيا، وكان من قبيلةٍ من الملائكة يقال لهم الجنّ؛ وإنّما سمّوا الجنّ لأنّهم خزّان الجنّة. وكان إبليس مع ملكه خازنًا، فوقع في صدره كبرٌ وقال: ما أعطاني اللّه هذا إلاّ لمزيّد لي...).

وجاء في أثر آخر قوله: (...فلمّا وقع ذلك الكبر في نفسه، اطّلع اللّه على ذلك منه، فقال اللّه للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قالوا: ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّيّةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا {قالوا} ربّنا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني من شأن إبليس.
رواه ابن جرير عن موسى بن هارون عن عمرو بن حماد ، عن أسباط ، عن السدي عنهم.

وهذا الإسناد قال عنه ابن جرير عند تفسير قوله تعالى:{هدى للمتقين} قال: (فإنْ كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا؛ إذْ كنت بإسناده مُرتاب )
وقال عنه ابن كثير في تفسيره: (فَهَذَا الْإِسْنَادُ إِلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ مَشْهُورٌ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّي وَيَقَعُ فِيهِ إِسْرَائِيلِيَّاتُ كَثِيرَةٌ، فَلَعَلَّ بَعْضَهَا مُدْرَج لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ، أَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَاكِمُ يَرْوِي فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ أَشْيَاءَ، وَيَقُولُ: هو عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ).
وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة "العجاب" في سياق بيان الضعفاء عن ابن عباس رضي الله عنهما (... ومنهم: إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي وهو كوفي صدوق، لكنه جمع التفسير من طرقٍ، منها: عن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة بن شراحيل، عن ابن مسعود. وعن ناس من الصحابة. وغيرهم. وخلط روايات الجميع، فلم تتميّز رواية الثقة من الضعيف).

القول الثاني: إن الإخبار كان على جهة الاستشارة , قال سعيد عن قتادة قوله : {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } فاستشار الملائكة في خلق آدم . ذكره ابن جرير, وذكره ابن كثير , وذكره صاحب التفسير الكبير.
تخريج الأثر:
رواه ابن جرير عن بشر بن معاذ ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة.
و هذا إسناد حسن ، لحال بشر بن معاذ ، فإنه صدوق . وأما اختلاط سعيد بن أبي عروبة ، فإنه لايضر ؛ لأن الراوي عنه هنا هو : يزيد بن زريع ، وقد سمع منه قبل اختلاطه كما قاله ابن حبان.
وقال أحمد: ( كل شيء رواه عن ابن أبي عروبة ، فلا تبال أن لا تسمعه من أحد ، سماعه من قديم , وكان يأخذ الحديث بنيه).

فالأثر صحيح السند إلى قتادة , فيكون من تحديث التابعي الثقة عمن قرأ كتب أهل الكتاب.

وهذا النوع مما حدث به بعض ثقات التابعين عمَّن قرأ كتب أهل الكتاب, , وهو مع عدم تصريحه عمن حدث من أهل الكتاب لا يخلو متن الأثر من النكارة , فالله سبحانه له العلم الكامل الأزلي الذي لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان , وله الغنى الكامل سبحانه , فكيف يقال بأن الله أراد استشارة الملائكة وهم إنما ينفذون أوامره بلا استدراك ولا مجادلة , وهو سبحانه { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}!

قال ابن كثير بعد ذكره لهذا القول: (وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل ، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن ، والله أعلم ).

القول الثالث: أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة ، وأن الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصة - الذين قاتلوا معه جن الأرض قبل خلق آدم - وأن الله إنما خصهم بقيل ذلك امتحانا منه لهم وابتلاء ، ليعرفهم قصور علمهم وفضل كثير ممن هو أضعف خلقا منهم من خلقه عليهم . قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد , ذكره الطبري.

قال محمد بن إسحاق: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به ، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه - وكان أول بلاء ابتليت به الملائكة مما لها فيه ما تحب وما تكره ، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا ...).
رواه ابن جرير عن ابن حميد عن سلمة بن الفضل عنه.

ومثل هذا النوع من المرويات, هو ما يرويه بعض من لا يتثبت في التلقي؛ فيكتب عن الثقة والضعيف، ويخلط الغث والسمين، ومحمد بن إسحاق منهم , فهو مع عدم تعمده الكذب كونه صادق في نفسه، لكنه وقع في آفة عدم التثبت، وخلط الصحيح بالضعيف فهو يروي كثيرا من الإسرائيليات , وأمثاله من أكثر من أشاع الإسرائيليات في كتب التفسير.

والملائكة لا يمتحنون لإخبار الله عنهم بأنهم:{لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما سؤمرون} فالتكلف في التفسير والحياد به عما هو منصوص عليه : أمر لا يجب أن يُصار إليه.

أما اثر قتادة فقد رواه ابن جرير بسنده عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة }....قال : وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ؟ فابتلوا بخلق آدم - وكل خلق مبتلى ، كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة ، فقال الله :{ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين }.
وهذا الإسناد سبق الكلام عنه.

القول الرابع : أنه لما خلق النار خافت الملائكة ، فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه؟ قال: لمن عصاني ، فخافوا وجود المعصية منهم ، وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم ، فقال لهم{: إني جاعل في الأرض خليفة }, قاله ابن زيد.
ذكره الطبري , وابن الجوزي وابن كثير .

وهذا الأثر رواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن ابن زيد .

ومثل هذا من الغيبيات التي لا تقال بالرأي المجرد , ويرده ما ورد عند الترمذي وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ : انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا . قَالَ : " فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا . قَالَ : فَرَجَعَ إِلَيْهِ قَالَ فَوَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا . فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ ؛ فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ . قَالَ : اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ : وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا . فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ؛ فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَيْهَا . فَرَجَعَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ : وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا " قَالَ الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .وقال الحافظ في الفتح : " إسناده قوي ".
كذلك يرده ما جاء في النصوص التي تثبت أن خزنة النار من الملائكة, ففي هذا ما يدل أنه لم يقع الخوف في قلوبهم منها بل ما في قلوبهم هو الفزع من الله كما جاء عند الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على صفوان , فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير ).


القول الخامس: أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه ، فأخبرهم حتى قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فأجابهم: إني أعلم ما لا تعلمون . ذكره ابن الجوزي.

القول السادس: أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده ، ليكونوا معظمين له إن أوجده . ذكره ابن الجوزي.

القول السابع: أنه أراد إعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض ، وإن كانت ابتداء خلقه في السماء
كما روى ابن أبي حاتم بسند إلى خالد الحذاء قال: سألت الْحسن فقلت: يا أبا سعيد، آدم للسماء خلق أَمِ الأرض؟ قَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً؟ لا بَلْ لِلأَرْضِ خُلِقَ
.وذكر هذا القول ابن الجوزي.

ولعل أقرب ما يقال هنا ما رجحه ابن كثير: أن الله جل وعلا وتقدس- أخبر الملائكة بأمر هذا الخليفة لمجرد الإعلام , ويستدل على هذا بتفسير قتادة والحسن لكلمة (جاعل) ب (فاعل) , وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك
.فالملائكة لها تعلق بهذا الأمر , فإخباره -سبحانه- لهم إعلاما لهم بما سيترتب على خلقه من تعلق لهم به وبذريته وبالأرض:
فهناك ملائكة موكلة بالجنين في رحم أمه.
وهناك حفظة الأعمال.
وهناك حفظة الأبدان.
وهناك الموكل بالوحي.
وهناك من هو موكل بالقطر.
وغيرهم الكثير , وحمل الآية على ظاهرها بما يوافق ما هو معلوم من النصوص بالضرورة هو الأسلم وهو الأصح , لأن باب الغيبيات لا يولج إلا بنص من كتاب أو سنة.
ولا يمنع أن يكون الله-تعالى وتقدس- قد اخبرهم ليعظموا هذا الخليفة , فلفظ (خليفة) قد يوجب هذا بشكل أو بآخر , وقد يكون أيضا لإعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض ويترتب على هذا ما يترتب من مهام عليهم مثل ما ذكرنا سابقا.

قوله تعالى:{قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}:
قوله :{قالوا} أي : الملائكة.
{يفسد}: الفساد في اللغة ضد الصلاح،

قال ابن الجوزي: (الفساد: تغيُّر عمَّا كان عليه من الصَّلاح، وقد يقال في الشيء مع قيام ذاته، ويقال فيه مع انتقاضها، ويقال فيه إذا بطل وزال، ويُذكر الفساد في الدِّين كما يذكر في الذَّات، فتارةً يكون بالعِصيان، وتارة بالكفر، ويُقال في الأقوال إذا كانت غير منتظمة، وفي الأفعال إذا لم يعتدَّ بها).

قال الزجاج : ومعنى {يسفك}: يصب، يقال: سفك الشيء إذا صبّه.

وفد جاء هذا القول من الملائكة بعد أن أخبرهم الله تعالى بأنه جاعل في الأرض خليفة,

وهنا قد يسأل سائل: كيف عرفت الملائكة بأن هذا الخليفة سيحصل منه الإفساد وسفك الدماء؟!

والحقيقة أن المفسرين اختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا, وسنورد -إن شاء الله- ما جاء عنهم من الأقوال مع بيان بعض ما احتجوا به من الأدلة:
أما القول الأول: فقد قال أصحابه أن الأرض سكنها حي من أحياء الملائكة التي خلقت من مارج من نار وكانوا يسمون (الجن), فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء حتى بعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحن - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال...) الأثر. وهو قول ابن عباس وعبدالله بن عمرو والكلبي , والأخفش والزجاج, ذكره الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.

قال ابن عباس : (لقد أخرج اللّه آدم من الجنّة قبل أن يدخلها أحدٌ، قال اللّه تعالى:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عامٍ الجنّ بنو الجانّ، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدّماء، فلمّا قال اللّه تعالى: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء، يعنون الجنّ بني الجانّ...) الأثر.
تخريج الأثر:
رواه الحاكم النيسابوري عن عبد اللّه بن موسى الصيدلاني، عن إسماعيل بن قتيبة، عن أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس, وعلق عليه بقوله: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه).ووافقه الذهبي.

قال الشيخ مقبل الوادعي محقق المستدرك: ( هذا من حكايات الكتب القديمة التي لا تصدق ولا تكذب).

وجاء عن عبدالله بن عمروا قوله: (كان الجنّ بنو الجانّ في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنةٍ، فأفسدوا في الأرض، سفكوا الدّماء، فبعث اللّه جندًا من الملائكة فضربوهم حتّى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال اللّه للملائكة: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء، قال: إنّي أعلم ما لا تعلمون».
رواه ابن ابي حاتم عن أبيه عن علي بن محمد الطنافسي، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن بكير ابن الأخنس عن مجاهد، عن عبد اللّه بن عمرو .
وعبدالله بن عمرو رضي الله عنه , اشتهرعنه أنه قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، وتعلم السريانية؛ فكان يقرأ في تلك الكتب ويحدث منها، لما عرفه من الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في التحديث عن بني إسرائيل، وهو مع هذا لم يكن مكثرا من ذلك.

فمثل هذا يكون في أفضل أحواله : لا يصدق ولا يكذب.

القول الثاني: أن الملائكة لما سمعت لفظ (خليفة) فهموا أن في بني آدم من يفسد ; إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد ، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية . ذكره القرطبي وابن كثير.

القول الثالث: أن القائل هم : هاروت وماروت, فقد علما ما لم تعلم باقي الملائكة من نظرة نظروها في اللوح المحفوظ فقالا ما قالا. قاله أبو جعفر محمد بن علي, حيث قال: (السِّجِلُّ مَلَكٌ، وَكَانَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ مِنْ أَعْوَانِهِ، وَكَانَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثُ لَمْحَاتٍ يَنْظُرُهُنَّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَنَظَرَ نَظْرَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ فَأَبْصَرَ فِيهَا خَلْقَ آدَمَ وَمَا فِيهِ مِنَ الأُمُورِ، فَأَسَرَّ ذَلِكَ إِلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَكَانَا مِنْ أَعْوَانِهِ، فَلَمَّا قَال{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} قَالا ذَلِكَ اسْتِطَالَةً عَلَى الْمَلائِكَة)ِ.

وهذا الأثر رواه ابن ابي حاتم عن أَبِي ثنا هِشَامٌ الرَّازِيُّ عن ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْرُوفٍ عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ.
وهذا إسناد منقطع لجهالة من حدث عن ابي جعفر, فله حكم المردود.

هذا غير نكارة المتن , فالملائكة -عليهم السلام- لا يتجاوزون الأمر , بل يقيمون على ما أمرهم به الله :{لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.

وقد ذكره ابن كثير في تفسيره وعلق عليه بقوله: ( هذا أثرٌ غريبٌ. وبتقدير صحّته إلى أبي جعفرٍ محمّد بن عليّ بن الحسن الباقر، فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارةٌ توجب ردّه، واللّه أعلم. ومقتضاه أنّ الّذين قالوا ذلك إنّما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السّياق).

القول الرابع: إن الملائكة قالت هذا على سبيل الرأي منها والظن. ذكره ابن جرير وأورد ما جاء عن قتادة من تفسير قوله تعالى :{وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفةً}، فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، وقد علمت الملائكة من علم اللّه أنّه لا شيء أكره إلى اللّه من سفك الدماء والفساد في الأرض...) الأثر.
وقد رواه ابن جرير عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة. (سبق الكلام عنه).
قال ابن جرير بعد إيراده هذا الأثر: (وهذا الخبر عن قتادة، يدل على أنّ قتادة كان يرى أنّ الملائكة قالت ما قالت من قولها: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}على غير يقين علمٍ تقدم منها بأن ذلك كائن؛ ولكن على الرأي منها والظن).

القول الخامس: أن الله سبحانه قد أعلم الملائكة بشأن ما سيحصل في الأرض من الإفساد وسفك الدماء , قال ابن قتيبة الدينوري: يرى أهل النظر من أصحاب اللغة: أن اللّه جل وعزّ قال: (إني جاعل في الأرض خليفة يفعل ولده كذا ويفعلون كذا)، فقالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفعل هذه الأفاعيل؟) ولولا ذلك ما علمت الملائكة في وقت الخطاب أن خليفة اللّه يفعل ذلك، فاختصر اللّه الكلام على ما بينت في كتاب «المشكل). وذكره ابن جريج والزجاج وابن جرير والقرطبي وابن كثير وغيرهم.

وجاء هذا في أثر مروي عن ابن عباس وغيره من الصحابة, وقد تقدم الكلام عنه , وهو ما رواه ابن جرير بسنده إلى أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وجاء عن قتادة في قوله :{أتجعل فيها من يفسد فيها } قال : كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك قوله :{ أتجعل فيها من يفسد فيها }.
رواه ابن جرير وعبد الرزاق الصنعاني عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة .

وهذا من نوع المرويات التي يحدث به بعض ثقات التابعين عمن قرأ كتب أهل الكتاب, ولم يصرح قتادة عمن أخذه, ولعله نقله عمن قرأ في كتب أهل الكتاب , ولم يصرح عمن حدث عنه , فهو من نوع الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.

أما أثر الكلبي فقد رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن أبي نجيح عن الكلبي.

وقال ابن جرير: (وأمّا وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربّها عنه بالفساد في الأرض وسفك الدّماء، فغير مستحيلٍ فيه ما روي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الّذي رواه السدي ووافقهما عليه قتادة من التّأويل. وهو أنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبرهم أنّه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرّيّةً يفعلون كذا وكذا، فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} على ما وصفت من الاستخبار).
فإن قال قائل : فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرت ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء ، فمن أجل ذلك قالت الملائكة : " أتجعل فيها من يفسد فيها " فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك ؟
قيل له : اكتفى بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه... فكذلك ذلك في قوله : " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها " ، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض ، اكتفى بدلالته وحذف ، فترك ذكره).

ولعل أقرب الأقوال هو ما ورد بأن الجن قد عمرت الأرض وسكنتها قبل خلق آدم , كذلك ما رجحه الطبري بأن الله قد أعلمهم بهذا , وكذلك قول من قال بأن الملائكة قد فهمت هذا من لفظ (خليفة).
ولا شك أن سياق الآية يدل على أن الملائكة كان لها سابق علم بمسألة حصول الإفساد في الأرض وسفك الدماء , لكن لم يأت في الآية ما يخبر بطريقة وصول هذا العلم إليها , قال ابن عثيمين : (قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} يرجح أنهم خليفة لمن سبقهم، وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء، وتفسد فيها، فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} كما فعل من قبلهم).
فإن قال قائل بالتوقف وعدم الجزم في طريقة معرفة الملائكة لذلك : لكان لهذا القول حظ من النظر.


أما عن نوع الاستفهام في سؤال الملائكة , وهل كان هذا منها اعتراضا منها أو إقرار أو استدراكا أو استفهاما!؟
فقد جاء عن المفسرين بعض التوجيهات التي بينت نوعه , فمن أققوالهم:

القول الأول: إن قول الملائكة جاء على جهة التقرير، والملائكة لم تستفهم ربها، وقد قال تبارك وتعالى:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، ولكن معناها معنى الإيجاب، أي: أنك ستفعل.
وتقول : وأنت تضرب الغلام على الذنب: ألست الفاعل كذا؟ ليس باستفهام ولكن تقرير. وقال بعض المفسرين : إن في الكلام حذفا ، والتقدير : إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا.
قاله ابن جريج, وقاله أبو عبيدة, وذكره ابن كثير.

قال ابن جريج : إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ؟
رواه ابن جرير عن القاسم ، عن حدثنا الحسين عن حجاج ، عنه.

القول الثاني: إن قول الملائكة لم يكن إنكارا منهم على ربهم، إنما سألوا ليعلموا، فكان هذا منهم استفهاما محضا, فكان على جهة الاستعلام وجهة الحكمة، لا على الإنكار، فكأنهم قالوا: يا اللّه، إن كان هذا ظننا، فعرفنا وجه الحق فيه. قاله الأخفش.وقاله الزجاج, والقرطبي, وهو اختيار ابن جرير وابن كثير.

قال ابن جرير: (وأولى هذه التّأويلات بقول اللّه جلّ ثناؤه مخبرًا عن ملائكته قيلها له: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} تأويل من قال: إنّ ذلك منها استخبارٌ لربّها؛ بمعنى: أعلمنا يا ربّنا، أجاعلٌ أنت في الأرض من هذه صفته وتاركٌ أن تجعل خليفتك فيها، ونحن نسبّح بحمدك، ونقدّس لك؟ لا إنكار منها لما أعلمها ربّها أنّه فاعلٌ، وإن كانت قد استعظمت لمّا أخبرت بذلك أن يكون للّه خلقٌ يعصيه.

وهناك من قال بأنهم سألوا لأن الله اذن لهم , ذكره ابن جرير ورده, فقال:( وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التعجب ، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ، ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر . وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة).

القول الثالث: إن الملائكة قالوا ذلك لكراهيتهم أن يعصى الله؛ لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت, كما تقدم من الآثار التي ذكرت, فإما إن الله أعلمها أو أن الجن حصل منها الإفساد. وهو قول ثان للأخفش.
قال فخر الدين الرازي: (أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه) .

القول الرابع: قالوا إن الهمزة وإن كان أصلها للاستفهام ، إلا إن معناها التعجب, كأنهم تعجبوا من استخلاف الله من يعصيه أو من يعصي من يستخلفه في أرضه .قاله ابن زيد , ذكره مكي , ذكره ابن جرير, ذكره ابن عطية وصاحب البحر المحيط.

قال ابن زيد: (قالت الملائكة: يا ربّ أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه. لا يرون له خلقًا غيرهم. قال: لا، إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفةً يسفكون الدّماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} وقد اخترتنا؟ فاجعلنا نحن فيها فنحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل اللّه في الأرض من يعصيه. فقال: إنّي أعلم ما لا تعلمون، يا آدم أنبئهم بأسمائهم. فقال: فلانٌ، وفلانٌ».

وهذا الأثر رواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهبٍ، عن ابن زيد.
سبق الكلام عن هذا السند.

وعلق عليه ابن جرير بقوله: (وغير خطأٍ أيضًا ما قاله ابن زيدٍ من أن يكون قيل الملائكة ما قالت كان على وجه التّعجّب منها من أن يكون للّه خلقٌ يعصي خالقه).

القول الخامس: إن قول الملائكة كان استفهاما إنكاريا, فاستنكروا استخلاف بني آدم في الأرض لكونهم مظنة للإفساد في الأرض . ذكره الشوكاني.
وأصحاب هذا القول استدلوا بما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول من لبى الملائكة ، قال الله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال : فرادوه فأعرض عنهم ، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون : لبيك لبيك اعتذارا إليك ، لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك).
أخرجه السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى ابن أبي الدنيا عن أنس في كتاب التوبة.
ومثل هذا لا يحتج به.

السادس: إن السؤال جاء على طريق الاستعظام والإكبار للاستخلاف والعصيان معا. ذكره ابن عطية.

وكما بينا سابقا من حال الملائكة فلا يليق بها إلا أن يكون سؤالها على سبيل الاستطلاع والاستفهام لا غير .

قوله تعالى:{ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}:
{ونحن} أي الملائكة.

{نسبح بحمدك}:
قال بعضهم في معنى التسبيح : {نسبح}: نصلي. قاله السدي وأبو عبيدة, وعبدالله اليزيدي, ومكي, وذكره ابن جرير,
جاء عن ناس من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم-في قوله:{ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}قال:(يقولون: نصلّي لك).
رواه ابن أبي حاتم عن أَبُي زرعة ثنا عمرو بْن حماد عن أسباط عن السدي
ورواه ابن جرير عن موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي، عن جماعة من الصحابة.
سبق تخريج إسناده.

وقال الزجاج: نبرئك من السوء، وكل من عمل عملا ً قصد به اللّه : فقد سبح. ذكره مكي والقرطبي
قال ابن جرير: (وأصل التسبيح لله عند العرب : التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه ، والتبرئة له من ذلك ).
قال سيبويه وغيره من النحويين: إن معنى "سبحان الله": براءة اللّه من السوء وتنزيهه من السوء.
قال قتادة: في قوله:{ونحن نسبح بحمدك}قال: (التّسبيح: التّسبيح).
رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة.

ولا منافاة بين القولين: فالصلاة على معناها اللغوي يراد بها الدعاء, ومن الدعاء تنزيه الله عن كل نقص وعيب وسوء, وتنزيهه عن وصفه بما لم يصف به نفسه المقدسة, وإن كان أريد ب(الصلاة) المعنى الشرعي: فلا تعارض أيضا, لأن الصلاة فيها الدعاء وفيها التنزيه والحمد.
وقد ثبتت صلاة الملائكة فيما قاله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني: (هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسمع أطيطَ السَّماءِ وما تلام أَنْ تَئِطّ، ما فيها موضع شبرٍ إلاَّ وعليه ملكٌ راكعٌ أو ساجد).
فلا تعارض بين القولين.


أما الحمد فهو: وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله.
ويخرج المدح من التغريف بقولنا : (مع المحبة) فلا تشترط في المدح.
والتسبيح والتحميد من أفضل الذكر, لأن التسبيح فيه تنزيه للرب عن كل ما يسوء, والحمد فيه إثبات نعوت الكمال له سبحانه, فكان التسبيح كالتخلية والحمد كالتحلية.

كما جاء في الحديث المتفق عليه من قوله عليه الصلاة والسلام: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ).
وكما أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي ذر أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الكلام إلى الله ما اصطفاه الله لملائكته، سبحان ربي وبحمده)، وفي لفظ: (سبحان الله وبحمده).


قوله:{ونقدس لك}: جاء فيها ثلاثة أقوال:
الأول: {نقدّس لك}: نطهّر، التقديس: التطهير. قاله ابن عباس أبو عبيدة, واليزيدي, و ابن جرير
وأثر ابن عباس رواه ابن أبي حاتم هن أَبُي زُرْعَةَ عن مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ عن بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عنه.

الثاني: {نقدس لك}نكبرك ونعظمك ونمجدك. قاله أبو صالح ومجاهد واليزيدي, وذكره ابن جرير.
قال أبوصالحٍ: في قوله:{ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: (نعظّمك ونمجّدك).
رواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم، عن هاشم بن القاسم، عن أبي سعيدٍ المؤدب عن إسماعيل، عن أبي صالح.
أما اثر مجاهد فقد رواه ابن جرير بسنده عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد

الثالث: التقديس: الصلاة, قاله قتادة .
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق بسنده عن مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ.

والحقيقة لا تعارض بين القولين الأول والثاني , قال ابن جرير: (التّقديس هو التّطهير والتّعظيم؛ ومنه قولهم: سبّوحٌ قدّوسٌ، يعني بقولهم سبّوحٌ: تنزيهٌ للّه؛ وبقولهم قدّوسٌ: طهارةٌ له وتعظيمٌ؛ ولذلك قيل للأرض: أرضٌ مقدّسةٌ، يعني بذلك المطهّرة.
فمعنى قول الملائكة إذًا {ونحن نسبّح بحمدك} ننزّهك ونبرّئك ممّا يضيفه إليك أهل الشّرك بك، ونصلّي لك. ونقدّس لك: ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطّهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك).
أما القول الثالث فقد رده ابن عطية وتعقبه القرطبي بقوله: (بل معناه صحيح ، فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح.... وبناء " قدس " كيفما تصرف فإن معناه التطهير ، فالقدس : فالقدس : الطهر من غير خلاف . فالصلاة طهرة للعبد من الذنوب ، والمصلي يدخلها على أكمل الأحوال لكونها أفضل الأعمال ، والله أعلم). وهذا إن كان له وجه فيكون من تفسير الشيء بلازمه.


قوله تعالى:{قال إني أعلم ما لا تعلمون}:
هذا إخبار من رب العزة للملائكة بعلمه المحيط الأزلي للغيب والشهادة, كما قال تعالى:{ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.
وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى:{ ما لا تعلمون} على عدة أقوال:
القول الأول: إن الله -تعالى وتقدس- قد علم ما في قلب إبليس من الكبر والطغيان والحسد, وعلم ما سيكون منه من المعصية, ولهذا قال للملائكة :{إني إلم ما لا تعلمون}, ولقد جاء هذا القول عن ابن عباس ومجاهد.وإسحاق, ذكره ابن جرير وابن عطية والقرطبي والشوكاني.

قال ابن عباس: كَانَ إِبْلِيسُ عَلَى مَلائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَاسْتَكْبَرَ وَهَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَطَغَى، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ الْبَغْيُ.

وقال مجاهد: (علم من إبليس المعصية).

أما أثر ابن عباس فقد رواه ابن ابي حاتم عن أبي سعيد الشج عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنِ السُّدِّيِّ، عمن رواه عن ابْنِ عَبَّاس.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن السدي نحو ذلك.

وقال ابن عباس:في قوله تعالى:{إنّي أعلم ما لا تعلمون}, يقول: إنّي قد اطّلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه من كبره واغتراره).
رواه ابن جرير عن محمّد بن العلاء، عن عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاس.
سبق الكلام عليه.

أما أثر مجاهد فقد أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير من عدة طرق عن مجاهد, ورواه عبدالرزاق الصنعاني بسنده عن علي بن بذيمة عن مجاهد.


القول الثاني:
إن الآية عامة: فهي إخبار من الله سبحانه- بكمال علمه, فأخبر بأنه يعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن ، فهو عام .ذكره القرطبي, وذكره صاحب البحر المحيط.

القول الثالث: علمه سبحانه- بما مدحت به الملائكة نفسها, وما حصل من استعظامهم أنفسهم بالتسبيح والتقديس. قاله قتادة
ذكره ابن جرير وصاحب المحيط والشوكاني.
قال قتادة: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: (إنّ اللّه لمّا أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما اللّه خالقٌ خلقًا أكرم عليه منّا، ولا أعلم منّا. فابتلوا بخلق آدم، وكلّ خلقٍ مبتلًى...)
رواه ابن جرير عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة.
سبق الكلام عليه.

القول الرابع: المراد علم الله بمن يملأ جهنم من الجنة والناس ، قاله ابن زيد ذكره صاحب البحر المحيط.

القول الخامس: إن الملائكة لما استعلمت عن خلق آدم وقالت:{أتجعل فيها من فسد فيها...} وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم:{إني أعلم ما لا تعلمون}. قاله قتادة. ذكره ابن جرير وابن عطية والقرطبي والشوكاني.

قال قتادة من تفسير قوله تعالى :{وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، ... فكان في علم اللّه جلّ ثناؤه أنّه سيكون من تلك الخليفة أنبياء ورسلٌ، وقومٌ صالحون، وساكنو الجنّة.

وها الأثر رواه ابن جرير عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة.
سبق الكلام عليه.

ولعل القول الأخير هو أصح الأقوال , فعلم الله -سبحانه- محيط بكل شيء, علم ما سيكون من أمر آدم وذريته , وعلم أن سيكون منهم أنبياء ورسل وصديقين وشهداء وصالحين , وأنهم سيعمرون الأرض بذكره وإعلاء كلمته , وتعريف الناس بخالقهم المعبود سبحانه , كي تتحق لهم السعادة في الدارين.

وبعد أن ذكرنا بعض ما ورد في هذه الاية الكريمة مما ذكره المفسرون , نقول : إن معنى الآية الإجمالي هو :

حين أراد خلق آدم أبي البشر-عليه السلام- أخبر الملائكة بذلك, و ذكر فضله لهم , واخبرهم بأنه مستخلفه في الأرض. فقالت الملائكة عليهم السلام:{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فذكروا الإفساد وخصوا مفسدة القتل لشناعتها، وكلامهم هذا كان بحسب ما ظنوه في أن هذا الخليفة المجعول في الأرض سيقع منه ذلك, فنزهوا الباري عن ذلك, وعظموه, وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة , وبأنهم ينزهونه التنزيه اللائق به سبحانه , وهم في هذا مخلصون لله مطهرون بأصل خلقتهم ليكونوا أهلا لتسبيح الله وتعظيمه , فقالوا:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ, فقال لهم تعالى وتقدس :{ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } , فأنا اعلم من هذا الخليفة ما لا تعلمون أنتم , لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وبحسب ما لديكم من العلم الناقص , فأنا اعلم أن الخير الحاصل بخلقه أضعاف ما في ذلك من الشر الذي خشيتموه.
وقد تحدث العلماء واسهبوا عن هذا الخير فقد قال ابن القيم : (... فأجابهم تعالى عن هذا السؤال بأن له من الحكمة في جعل هذا الخليفة في الأرض ما لا تعلمه الملائكة وإن وراء ما زعمتم من الفساد مصالح وحكما لا تعلمونها أوصلها بعض العلماء إلى قريب من أربعين حكمة:
• فاستخرج تعالى من هذا الخليفة وذريته الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين وعمر بهم الجنة وميز الخبيث من ذريته من الطيب فعمر بهم النار
• وكان في ضمن ذلك من الحكم والمصالح ما لم يكن للملائكة تعلمه، ثم إنه سبحانه أظهر فضل الخليفة عليهم بما خص به من العلم الذي لم تعلمه الملائكة وأمرهم بالسجود له تكريما له وتعظيما له وإظهار لفضله...).

وفي هذي الخلاصة من الفوائد ما لا يحصى , وكلام الله -سبحانه وتعالى- واضح بين متين , فيه هدى للناس , ولعل الأنسب أن لا يفسر كلام الله الذي قال عنه :{لا ريب فيه} بكلام يكون في أفضل حالاته : لا يصدق ولا يكذب !
فكيف يفسر اليقيني بشيء محتمل للكذب!!
وقد اختبرنا الله بالإيمان بالغيب , وكان أول ما مدح به المؤمنين في بداية سورة البقرة قوله:{الذين يؤمنون بالغيب} فما أخبرنا الله تعالى به آمنا به وصدقناه , وما أخفاه عنا ابتعدنا فيه عن تكلف ما ليس لنا به علم , فنقول كما قالت الملائكة :{سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} فسبحانه بين لنا في كتابه ما نحتاج إليه من أمور الدين والدنيا , أما ما ينقل من الإسرائيليات : فهذا لا طائل تحته غالبا , ولا فائدة ترجى من معرفته ولا ثمرة , بل كثرة ما ورد فيه من التفاصيل تبعد الذهن عن تدبر المعنى , وفهم المغزى , وإحسان العمل.
هذا مع تقرير أسباب السادة المفسرين في جمعهم لتلك المرويات , جزاهم الله عنا خير الجزاء.

هذا والله أعلم , وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

المراجع:

مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي (ت:210 هـ ).
تفسير القرآن العزيز، عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت: 211 هـ).
معاني القرآن، إبراهيم بن السَرِيّ الزجاج (ت:213 هـ).
تفسير القرآن العظيم، عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي (ت:327 هـ).
جامع البيان عن تأويل القرآن - لابن جرير الطبري المتوفي عام 310 هـ.
بحر العلوم لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي المتوفي عام 373 هـ.
معالم التنزيل، لأبي محمد الحسن بن مسعود البغوي المتوفي عام 510 هـ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المتوفي بعد عام 541 هـ.
تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير المتوفي عام 774 هـ.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للحافظ جلال الدين بن أبي بكر عبد الرحمن السيوطي المتوفي عام 911 هـ.
فتح القدير، الجامع بين فَنَّى الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني المتوفي عام 1250 هـ.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي المتوفي عام 1405 هـ.
مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي المتوفي عام 606 هـ.
الجامع لأحكام القرآن - القرطبي.
مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي المتوفي عام 606 هـ.
البحر المحيط - محمد بن يوسف، الشهير بأبي حيان.
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - الآلوسي. (ت:1270).
التحرير والتنوير، - محمد الطاهر بن عاشور.
محاسن التأويل - القاسمي. (ت:1323).
تفسير المنار - رشيد رضا. (ت: 1350)
تيسير الكريم الرحمن، عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ت:1376).
تفسير الفاتحة والبقرة للشيخ مُحَمّد بن صَالِح العُثَيْمِين (ت: 1347 هـ).


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 ذو الحجة 1441هـ/15-08-2020م, 07:18 PM
هيئة التصحيح 11 هيئة التصحيح 11 غير متواجد حالياً
هيئة التصحيح
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
المشاركات: 2,525
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فداء حسين مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.
أما بعد:
فهذا تفسير للآية الثلاثون من سورة البقرة , حاولت فيه بيان ما اشكل من تفسيرها , فبينت ما استطعت, فأوردت ما استطعت وتركت ما تركت خشية الإطالة والتكرار والخطأ.
فما أصبت فيه فمحض منة وفضل من الله , وما جانبت فيه الصواب فمني ومن الشيطان.
نقول مستعينين بالله:

قال الله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}البقرة\30:

جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فبعد أن ذكر -سبحانه- خلق السموات والأرض, وامتن علينا بما سخره لنا فيها , وامتن بعظيم فضله أن كان ما فيها حلالا طيبا إلا ما استثناه الشرع وهو قليل , فلما امتن سبحانه علينا بما تقدم: أتبع ذلك بذكره لنعمة وكرامة خص بها أبونا آدم -عليه السلام- فتكريم الأصل يوجب الشكر من الفرع , ويوجب العمل لاستحقاق مثل هذا الشرف , ولا يكون هذا إلا بالسير على خطى آدم عليه السلام , وخطى من جاء بعده من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فقوله تعالى:{وإذ}
: ورد فيها عند المفسرين قولان:
القول الأول: إنها صلة زائدة , لكن العرب اعتادت الاتيان بها في الكلام , وقد نزل القرآن بلغة العرب, فيكون تقدير الكلام على هذا القول: (وقال ربك للملائكة)، وهذا قول أبو عبيدة ذكره في مجاز القرآن عند قوله تعالى:{وإذ قلنا للائكة اسجدوا لآدم...}, وتابعه عليه ابن قتيبة, وأنكره عليه جمهور المفسرين حتى قال الزجاج: (هذا اجتراء من أبي عبيدة) .

القول الثاني: إن (إذ) ظرف زمان وليست زائدة , وهي متعلقة بفعل مقدر تقديره: واذكر , ويكون المعنى : اذكر لهم .
قال ابن عطية: فقوله:{ خلق لكم ما في الأرض جميعا } يقتضي أن يكون التقدير: (وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة)،
وقيل (الواو) عاطفة على ما سبق من الآيات التي جاءت في سياق امتنان الله على العباد بما حباهم به من نعم, فيكون المعنى على ذلك: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلت ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة , فلما امتن عليهم بابتداء خلق السموات والأرض; ناسب أن يمن عليهم ويذكرهم بابتداء خلق جنسهم على الأرض بذكر خلق آدم عليه السلام.

وهذا القول ذكره الطبري وغيره كابن عاشور.
أما القرطبي فقال: هو مردود إلى قوله تعالى : {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} فالمعنى: الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة .
ورد هذا التعلق البعض كالشوكاني , فقال : (وقيل: هو متعلق بـ " خلق لكم " ، وليس بظاهر).

والراجح -والله أعلم- إن (إذ) مفعول لفعل محذوف, والتقدير: (اذكر إذ قال ربك) , وحذف الفعل لأمرين :
الأول: عدم الجهل بالمعنى.
الثاني : أن المعنى قد ذكر في مواطن كثيرة في القرآن كقوله تعالى:{ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف } وقال : {واذكر عبدنا داود }.
ويحسن بنا أن نذكر أن (إذ) و(إذا) حرفا توقيت , لكن (إذ) تستعمل للماضي و(إذا) للمستقبل, وقد تحل إحداهما محل الأخرى كما في قوله تعالى:{وإذ يمكر بك الذين كفروا ...}.
وقد تستعمل (إذا) مع المضارع كقوله تعالى:{فإذا جاءت الطامة} .


قوله تعالى:{قال}:
فيه إثبات صفة الكلام لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته وكماله سبحانه.
فالكلام صفة من صفات الله الذاتية, فهي صفة قديمة النوع حادثة الآحاد , لا كما زعمت المعطلة بأنواعها : كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة ومن تبعهم , على اختلاف في تفاصيل أقوالهم لكنها جميعا تنتهي إلى نفي صفة الكلام عن الله -تعالى وتقدس- والتي اثبتها السلف ولم يتنازعوا فيها أبدا , بل لا يردها إلا من اختل عقله وبعد عن نصوص الوحي.
وأقبح الأقوال قول الجهمية أصحاب جهم بن صفوان, الذي تلقف مقالة الجعد بن درهم صاحب السبق في نفي الصفات حيث زعم: (إن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا) فكذب القرآن ورد ما تواتر من الأحاديث , فما كان إلا أن ضحى به خالد القسري فذبحه على المنبر وأراح الناس من شره.

فكانت أشهر الأقوال في هذه المسألة ثلاثة:

الأول: قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره. ولذلك قالوا بخلق القرآن, وهذا يرده النص وإجماع السلف والعقل والفطرة.

الثاني: قول الكلابية والأشاعرة الذين يقولون بأن كلام الله قديم ، لا بصوت ولا حرف , وأنه معنى واحد قائم بذات الله , وأنه لا يتعلق بمشيئة الله وإرادته , وهو كسابقه يرده النص وإجماع السلف والعقل والفطرة.

الثالث: قول أهل السنة الذين يثبتون صفة الكلام وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه كلم موسى ، وأن نوع الكلام قديم وجنسه حادث.

لذلك قال القرطبي -وهو يسير على قول الشاعرة في الأسماء والصفات- عند تفسير قوله تعالى:{قال ربك} في هذه الآية:(وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم .
وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته . وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي... ) .

وتفصيل الرد عليهم مبثوث-ولله الحمد- في كتب العقيدة مفصلا , خاصة في ردود شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم , جزاه الله عن هذه الأمة خير الجزاء وأعظمه , فمن شاء فليرجع إليها.

وقوله:{ربك}:
الرب في اللغة هو: المالك والسيد والمصلح والجابر والمدبر والمربي والقيم والمنعم.
وهو الذي يربي غيره وينشئه شيئا فشيئا.

قال ابن جرير: (فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر) .

وكلمة (الرب) لا تستعمل في حق المخلوق إلا مضافة فيقال: رب الدار ورب المال.
أما (الرب) معرفاً بالألف واللام ; فهذه لا تقال إلا لله -سبحانه- لأنه مالك كل شيء.
أما كاف المخاطبة في كلمة (ربك) فهي إضافة "رب" إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومخاطبته بالكاف تشريف منه له، وإظهار لاختصاصه به.

فالإضافة إلى الله نوعان:
الأول: إضافة أعيان قائمة بنفسها، كالمذكور في الآية , وأيضا كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وعبده، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة اختصاص وتشريف, وقد تكون مجرد إضافة مخلوق لخالقه كقوله تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} .

الثاني: إضافة صفة إلى الموصوف ، كعلمه , وقدرته , وسمعه , وبصره وحياته وكلامه ووجهه ويديه ومشيئته ورضاه وغضبه ، فالمضاف هنا صفة قائمة بالله سبحانه وليست عين قائمة بنفسها.

ومن فقه هذا التسليم نجا من ضلال أكيد وأثبت لله ما اثبته لنفسه من صفات كاملة منزهة عن كل نقص وعيب , وجانب تمثيل الله بخلقه واعتقاد بأن شيء منه حال في خلقه كما ادعت النصارى-تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-وادعت غلاة الصوفية حتى قالوا بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود.

قوله: { لِلْمَلَائِكَةِ} :
معنى (ملك) في اللغة: قال ابن فارس: (الميم واللام والكاف أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة. قَالُ: أَمْلَكَ عَجِينَهُ: قَوَّى عَجْنَهُ وَشَدَّهُ).
والملك أصله (ملاك) نقلت حركة الهمزة فيه إلى الساكن قبله ، ثم حذفت الألف تخفيفا فصارت ملكا ، وهو مشتق من الألوكة والملأكة وهي: الرسالة، والملأك: الملك؛ لأنه يبلغ عن الله تعالى.

قال الطبري: (فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة؛ لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده) .

أما تعريف الملائكة اصطلاحا: فهم أجسام نورانية ، أعطيت قدرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله ، خلقهم من نور، مربوبون مسخرون ، {عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} ، لا يوصوفون بالذكورة ولا بالأنوثة ، لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يملون ولا يتعبون ولا يتناكحون ولا يعلم عددهم إلا الله (1) .
فنؤمن بهم بحسب ما جاء عن أخبارهم في الكتاب والسنة الصحيحة, إذا هم من عالم الغيب فلا سبيل إلى معرفة شيء عنهم إلا عن طريق الوحي , وما كان من طريق الوحي فلا سبيل إلى إنكاره أو تحريفه بل لا بد من التسليم والتصديق.

وهل خطاب الله في هذا الموضع لجميع الملائكة أم لطائفة معينة منهم؟
ونجيب على هذا بذكر الأقوال التي جاءت في تعيين المخاطب من (الملائكة ) في هذا الموضع:
القول الأول: أنهم جميع الملائكة ، قاله السدي , وهو قول الأكثرين من الصحابة والتابعين : إنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ؛ لأن لفظ (الملائكة) يفيد العموم فيكون التخصيص خلاف الأصل .

الثاني: أنهم الملائكة الذين كانوا مع إبليس حين أهبط إلى الأرض ، وقد جاء هذا عن ابن عباس حيث قال في الأثر الطويل:
(كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم “ الحن “ خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال : وكان اسمه الحارث ، قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي . قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت . قال : وخلق الإنسان من طين . فأول من سكن الأرض الجن . فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة – وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحن – فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه . وقال : “ قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد “ قال : فاطلع الله على ذلك من قلبه ، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه . فقال الله للملائكة الذين معه : “ إني جاعل في الأرض خليفة “ فقالت الملائكة مجيبين له : “ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء “...)الأثر.
تخريج الأثر:
رواه ابن جرير عن أبي كريب عن عثمان عن بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس.
وقد أوضع المحدثون بأن الضحاك لم يسمع من ابن عباس لعدم ثبوت اللقيا:
قال عبد الملك بن ميسرة: الضحاك لم يلق ابن عباس إنما لقي سعيد بن جبير بالري فأخذ عنه التفسير . رواه ابن جرير وغيره.
وقال: قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس شيئا؟
قال: لا.
قلت: فهذا الذي ترويه عمن أخذته؟
قال: عنك، وعن ذا، وعن ذا). رواه أبو زرعة ويعقوب الفسوي.

وهذه الرواية هي من نوع ما يرويه بعض من لا يتثبت في التلقي؛ فيكتب عن الثقة والضعيف، ويخلط الغث والسمين.
و الضحاك من طبقة الرواة غير المتثبتين، فهو وإن كان لا يتعمد الكذب , وهو في نفسه صدوق وذو صلاح وعناية بالعلم , وقد وثقه أحمد بن حنبل , ويحيى بن معين , وأبو زرعة الرازي وغيرهم , إلا إنه وقع في آفة عدم التثبت: فخلط الصحيح بالضعيف والغث بالسمين.
وروى هذه الرواية عن الضحاك أبو ورق وهو ثقة، لكن أكثر من يروي عنه بشر بن عمارة الخثعمي؛ ضعفه جماعة، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي في الحديث، وقال البخاري: (تعرف وتنكر).
فالإسناد معلول بسبب الانقطاع بين الضحاك وبين ابن عباس, وبسبب ضعف بشر بن عمارة الخثعمي.

والعلة ليست فقط في السند بل يضاف عليها ما في الرواية من نكارة حيث جاء فيها أن بعض الملائكة خلقت من نار السموم, وهذا مصادم لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارجٍ من نار وخلق آدم مما وصف لكم )) رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها
. وهذا القول فيه استدراك على عموم النص النبوي.

كما إن الرواية جاء فيها أن إبليس كان من الملائكة, وهذا مصادم لقوله تعالى:{إلا إبليس كان من الجن ففسق عن امر ربه} وفي الآية تصريح واضح أن إبليس لم يكن أبدا من الملائكة.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره: من أنه كان من أشراف الملائكة، ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأنه كان اسمه عزازيل ـ كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها.
وأظهر الحجج في المسألة، حجة من قال: إنه غير ملك؛ لأن قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ...} الآية، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي. والعلم عند الله تعالى)ا.هـ.
وقال الألباني رحمه الله: (وما يروى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:{ من الجن} أي من خزان الجنان ، وأن إبليس كان من الملائكة ، فمما لا يصح إسناده عنه ، ومما يبطله أنه خلق من نار كما ثبت في القرآن الكريم ، والملائكة خلقت من نور كما في " صحيح مسلم " عن عائشة مرفوعا ، فكيف يصح أن يكون منهم خلقة ، وإنما دخل معهم في الأمر بالسجود لآدم عليه السلام لأنه كان قد تشبه بهم وتعبد وتنسك ، كما قال الحافظ ابن كثير ، وقد صح عن الحسن البصري أنه قال : " ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر ")ا.هـ.

والأصل أن قوله تعالى:{للملائكة} عام يشمل جميع الملائكة, وقد يستدل على هذا بقوله تعالى فيما بعدها من الآيات:{فسجد الملائكة كلهم أجمعون}. و(كلهم) من أقوى صيغ العموم ولا استثناء فيها , وأكدت ب {أجمعون} ولا يصرف النص عن ظاهره المراد بلا قرينة.

الثالث: إنهم مجموعة من الملائكة خاطبهم الله -سبحانه- ثم أحرقهم بعد أن قالوا ما قالوا. قاله عبدالله بن يحيى ابن أبي كثير نقلا عن أبيه: (إِنَّ الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ كَانُوا عَشَرَةَ آلافٍ، فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الله فأحرقتهم) .
رواه ابن ابي حاتم عن أبى هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عن أبيه.
ومثل هذا لا يقال بالرأي , ويحيى ابن أبي كثير لم يرو عن الصحابة , وجاء في مشاهير علماء الأمصار: (لا يصح له عن أنس بن مالك ولا غيره من الصحابة سماع وتلك كلها أخبار مدلسة ).
فهذا الخبر مما لا يعتد به.
قال ابن كثير عنه: (وهذا أيضا إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم).

ويرده أيضا نكارة متنه لما تقرر في أصول الشريعة من اعتقاد أهل السنة والجماعة في الملائكة بأنهم كما قال الله عنهم: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وقال عنهم أيضا:{ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فكيف يصح هذا منهم؟!
وإذا عارضت الإسرائيليات ما هو معلوم بالضرورة من أصول الشريعة فإنها ترد ولا يلتفت إليها.

فيكون القول الأول هو الراجح والصحيح من بين هذه الأقوال.

قوله تعالى:{إني جاعل في الأرض خليفة}:
{جاعل}: اختلف المفسرون هنا أيضا في معنى (جاعل) على عدة اقوال:
القول الأول: فاعل , وهو قول الحسن وقتادة , قالا في تفسير قوله تعالى:{ إني جاعل في الأرض خليفة : قال لهم : إني فاعل. ذكره ابن جرير , وذكره ابن عطية ولم يرجحه.
تخريج الأثر:
رواه ابن جرير يسنده إلى الحسن ، وقتادة.
ورواه ابن أبي حاتم عنا الحسن بن محمد بن الصباح، عن سعيد بن سليمان، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن.

الثاني: خالق . وهو قول أبي روق. ذكره ابن جرير , وابن عطية ورجحه , وقاله القرطبي , وذكره ابن كثير , وذكره الشوكاني وقال: (وذكر المطرزي أنه بمعنى خالق ، وذلك يقتضي أنه متعد إلى مفعول واحد ).

تخريج أثر أبي روق:
رواه ابن جرير عن المنجاب بن الحارث عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق حيث قال : كل شيء في القرآن " جعل " فهو خلق .
وهذا الإسناد فيه بشر بن عمارة وهو ضعيف.

وجعل أتت في القرآن الكريم بمعنى (صيّر) وبمعنى (خلق) , فإذا كان معنى (جعل) اعتقد أَو صيّر فإِنه ينصب مفعولين ، أَما إذا كان بمعنى خلق فإنه ينصب مفعولا واحدا .

قال القرطبي: (جاعل من جعل الذي له مفعولان دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله :{ في الأرض خليفة} فكانا مفعولين ، ومعناه مصير في الأرض خليفة) .

وقال الطبري: (والصواب في تأويل قوله :{إني جاعل في الأرض خليفة } أي: مستخلف في الأرض خليفة ، ومصير فيها خلفا, وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة).
وهو الصحيح المناسب لسياق الآية , وليست (جاعل) هنا بمعنى (خالق) , فقد جاءت آيات أخرى تكلمت عن خلق آدم بلفظ (خالق) وخصت آدم به , كقوله تعالى:{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} وقوله:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} , فالكلام في هذه الآية وإن كان عن آدم أصالة : لكنه يشمل غيره , كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله.

أما قوله:{في الأرض}:
فقد اختلف في تعيين الأرض المقصودة في الآية , فجاء عن بعض المفسرين مثل: ابن جرير , وابن الجوزي والقرطبي وابن عطية والرازي , بان المراد ب(الأرض) هنا مكة على وجه الخصوص , واستدلوا على قولهم بأثر ورد فيه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (دحيت الأرض من مكة ، وكانت الملائكة تطوف بالبيت ، فهي أول من طاف به ، وهي " الأرض " التي قال الله :{إني جاعل في الأرض خليفة ...} إلى آخر الأثر.

وهذا الأثر رواه ابن جرير وابن ابي حاتم وابن عساكر بإسناده عن جرير عن عطاء ، عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وابن سابط من طبقة التابعين , فهذا من جنس المرسل والمرسل من الضعيف الذي لا يصح :
جاء في تهذيب الكمال للمزي:(عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن سابط ، ... تابعي أرسل عَنِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ..., وقال مُحَمَّد بْن سعد : اجمعوا على أنه توفي بمكة سنة ثماني عشرة ومائة ، وكان ثقة كثير الحديث).

وقال ابن حجر عنه : (...واما هو فتابعي كثير الإرسال...أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا...).
ق
ال ابن معين: (عطاء بن السائب اختلط، فمن سمع منه قديمًا فهو صحيح، وما سمع منه جرير وذووه ليس من صحيح حديثه).

وهل لهذا الكلام-أعني عن مكة- أصل في الشريعة؟
ذهب بعض العلماء إلى أن مكة سميت " أم القرى " لأنها أصل قرى الأرض كلها ، ومنها دحيت الأرض ، فهي لذلك وسط الأرض .
قال الراغب الأصفهاني عن مكة:(سميت بذلك لأنها وسط الأرض، كالمخ الذي هو أصل ما في العظم).
أما القرطبي فقد قال : (وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطا).
وقال البغوي عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَهَـَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مّصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾: (إنما سميت مكة "أم القرى" لأنها أصل قرى الأرض كلها، ومنها دحيت الأرض، فهي لذلك وسط الأرض) .
أما في الأحاديث فلا يثبت في الأمر شيء إلا حديثا واحدا مرفوعا وهو عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ، ثم مدت منها الأرض ، وإن أول جبل وضعه الله على وجه الأرض " أبو قبيس " ، ثم مدت منه الجبال ) .
والحديث رواه العقيلي في "الضعفاء الكبير" ، والبيهقي في "شعب الإيمان"، والديلمي في "مسند الفردوس" وابن عساكر في "تاريخ دمشق" وعزاه السيوطي في "الجامع" إلى الحاكم في تاريخه .
كلهم من طريق : سليمان بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن علي بن عجلان القرشي عن عبد الملك بن جريج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً .
وهذا الحديث معل بجهالة عبد الرحمن بن علي ، وعبدالرحمن هذا لم يرد توثيقه إلا عن سليمان بن عبد الرحمن الراوي عنه ، وسليمان نفسه متكلم فيه ، أُخذ عليه كثرة روايته عن المجهولين .
قال فيه ابن معين : ثقة إذا روى عن المعروفين .
وقال ابن حبان : يعتبر حديثه إذا روى عن الثقات المشاهير ، فأما إذا روى عن المجاهيل ففيها مناكير .
وأيضا هذا المعنى جاء عن بعض الصحابة, مثل قول عبد الله بن عمرو بن العاص :
" خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، وكان إذ كان عرشه على الماء زبدةً بيضاء ، وكانت الأرض تحته كأنها حشفة ، فدحيت الأرض من تحته "
رواه الطبري في "تفسيره بسند رواته ثقات . وعزاه في الدر المنثور" لابن المنذر والطبراني والبيهقي في "الشعب" .
وكذلك عن بعض التابعين: وبوقف الرواية على عطاء أو مجاهد من قولهم .
لكن قد ورد عن قتادة في "فضائل الصحابة" للإمام أحمد أن صخرة بيت المقدس هي وسط الأرض .
فتضارب الأقوال قد يوحي بأنها مأخوذة من أهل الكتاب, لكنها لا تعارض شيئا من النصوص , والقرائن قد توحي بأن لهذا القول أصلا , وبكل الأحوال فهي بهذا الحال من الأخبار التي لا تصدق ولا تكذب فيتوقف فيها , وهي مع هذا من الأخبار التي لا طائل تحتها كأكثر ما يروى عن أهل الكتاب.

وقد علق ابن كثير على رواية سابط بعد أن أوردها بقوله: (وهذا مرسل ، وفي سنده ضعف ، وفيه مدرج ، وهو أن المراد بالأرض مكة ، والله أعلم ، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك .).

ويبقى أن ظاهر الآية موافق لما قاله جمهور المفسرين , قال الشوكاني: (والأرض هنا : هي هذه الغبراء ، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان - وقيل : إنها مكة).

قوله:{خليفة}:
قرأ الجميع {خليفة} وقرأ زيد بن علي "خليقة" بالقاف.

وهنا نبحث في مسألتين:
الأولى: المعنى اللغوي.
االثانية: المراد بها.

أما المعنى اللغوي: ف(خليفة) يأتي بمعنى الخالف، ويأتي بمعنى المخلوف، فعيلة بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول.
فتكون بمعنى فاعل ، أي يخلف من كان قبله , وإن كان " خليفة " بمعنى مفعول أي: مخلوف, فالخليفة بمعنى المخلوف أي: أن الناس يخلف بعضهم بعضاً في الأرض.

أما المراد ب(الخليفة):
فقد اختلف المفسرون في ذلك على قولين:
الأول : أن المراد به آدم عليه السلام .
وكون الخليفة هو آدم هو الظاهر المتبادر من سياق الآية , ذكره ابن جرير , والبغوي , وابن الجوزي , وابن عطية , والقرطبي. والشنقيطي , ورجحه السعدي.
وأصحاب هذا القول اختلفوا في سبب تسميته (خليفة) على ثلاثة أقوال:

القول الأول : قالوا بأن آدم -عليه السلام- كان خليفة للجن الذين تقدموه وعاشوا في الأرض، ورويت في هذا بعض الآثار عن ابن عباس كما في الأثر الذي رواه ابن جرير بسنده عن أبي ورق عن الضحاك عن ابن عباس قال: ( أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا ...) الأثر.
وهذا السند قد سبق الكلام عليه فهو مما لا يعتد به.

كذلك ما جاء عن الربيع بن أنس في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " ، قال : (إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء ، وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ، فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء ، وكان الفساد في الأرض ).

وهذا الأثر رواه ابن جرير بسنده عن أبي جعفر عن الربيع , ورواه ابن ابي حاتم بسنده عن الربيع عن أبي العالية.
ورواية أبي جعفر الرازي عن الربيع تكلم فيها العلماء:
قال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار: (الربيع بن أنس بن زياد البكري سكن مرو، سمع أنس بن مالك، وكان راوية لأبى العالية، وكل ما في أخباره من المناكير إنما هي من جهة أبى جعفر الرازي).
قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الربيع: (ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه، لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً).
أما أبوجعفر وهو عيسى بن ماهان الرازي، فقد قال الحافظ ابن حجر عنه: (صدوق سيء الحفظ).
وقال ابن حبان عنه: (كان ممن يتفرد بالمناكير عن المشاهير).

القول الثاني: إنما سماه الله خليفة ؛ لأنه يحكم بشرع الله في الأرض , وهو قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن والسدي. ذكره ابن جرير , وابن الجوزي , والشنقيطي وابن عثيمين.
الثالث: لأنه إذا مات يخلفه من بعده. ذكره الشنقيطي وابن عثيمين.

أما القول الثاني في المراد ب(الخليفة): فإن المراد بهم ولد آدم وذريته , فيكون قوله : ( خليفة ) مفرد أريد به الجمع ؛ أي : خلائف.
وسماهم (خليفة) لأنهم يخلف بعضهم بعضا. قاله الحسن وابن سابط , ومثله قوله تعالى:{ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} الأنعام 165. ذكره ابن جرير , وذكره الرازي ورجحه ابن كثير.
قال الحسن في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " أي: خلفا يخلف بعضهم بعضا ، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم ، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله .
رواه بن جرير في تفسيره ونسبه للحسن ولم يسق إسناده.

قال ابن سابط في قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال : يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم .
رواه ابن جرير عن محمد بن بشار ، عن أبي أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط.

قال ابن كثير: (وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم - عليه السلام - فقط ، .... والظاهر أنه لم يرد آدم عينا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة :{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك...).

والصواب -والله أعلم- أن الخليفة اسم لكل من انتقل إليه تدبير أهل الأرض والنظر في مصالحهم , وسياق الآيات في ما أخبر به الله -جل شأنه- عن خلق آدم , ولا يمنع إرادة القولين معا : القول الأول باحتمالاته الثلاثة فجميعها محتملة , والقول الثاني.
فآدم هو القائم على إقامة شرع الله في الأرض التي استخلفه فيها , وبني آدم كانوا خلائف لأبيهم ومن بعدهم خلائف لهم , فعلى هذا يكون معنى الاية : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي, وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه .
قال صاحب أضواء البيان : (وإذا كانت هذه الآية الكريمة تحتمل الوجهين المذكورين . فاعلم أنه قد دلت آيات أخر على الوجه الثاني ، وهو أن المراد بالخليفة : الخلائف من آدم وبنيه لا آدم نفسه وحده . كقوله تعالى :{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }.

ومعلوم أن آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس ممن يفسد فيها ولا ممن يسفك الدماء ، :{هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } ، وقوله :{ ويجعلكم خلفاء }. ونحو ذلك من الآيات .

ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد بالخليفة آدم ، وأن الله أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد ، وسفك الدماء . فقالوا ما قالوا ، وأن المراد بخلافة آدم الخلافة الشرعية ، وبخلافة ذريته أعم من ذلك ، وهو أنهم يذهب منهم قرن ويخلفه قرن آخر) .
فيكون كلام الملائكة المراد به ذرية آدم وليس آدم نفسه كما روى ابن جرير بنده عن عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط ، قوله : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال : يعنون الناس .


وهنا تأتي مسألة يكثر الكلام فيها , وقد تكلم بعض المفسرين عنها , وهي سبب إخبار الله -تعالى وتقدس- الملائكة عن خلق آدم -عليه السلام- بقوله: {إني جاعل في الأرض خليفة}؟!
وقد فتنوعت أقوالهم في هذا المقام كما تنوعت في غيره على عدة أقوال:

القول الأول: أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبرا ، فأحب أن يطلع الملائكة عليه ، وأن يظهر ما سبق عليه في علمه ، نسب لابن عباس وغيره من الصحابة , وقاله السدي , ذكره ابن جرير وهو ظاهر قول البغوي .
فقد جاء عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لمّا فرغ اللّه من خلق ما أحبّ، استوى على العرش فجعل إبليس على ملك سماء الدّنيا، وكان من قبيلةٍ من الملائكة يقال لهم الجنّ؛ وإنّما سمّوا الجنّ لأنّهم خزّان الجنّة. وكان إبليس مع ملكه خازنًا، فوقع في صدره كبرٌ وقال: ما أعطاني اللّه هذا إلاّ لمزيّد لي...).

وجاء في أثر آخر قوله: (...فلمّا وقع ذلك الكبر في نفسه، اطّلع اللّه على ذلك منه، فقال اللّه للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قالوا: ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّيّةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا {قالوا} ربّنا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني من شأن إبليس.
رواه ابن جرير عن موسى بن هارون عن عمرو بن حماد ، عن أسباط ، عن السدي عنهم.

وهذا الإسناد قال عنه ابن جرير عند تفسير قوله تعالى:{هدى للمتقين} قال: (فإنْ كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا؛ إذْ كنت بإسناده مُرتاب )
وقال عنه ابن كثير في تفسيره: (فَهَذَا الْإِسْنَادُ إِلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ مَشْهُورٌ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّي وَيَقَعُ فِيهِ إِسْرَائِيلِيَّاتُ كَثِيرَةٌ، فَلَعَلَّ بَعْضَهَا مُدْرَج لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ، أَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَاكِمُ يَرْوِي فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ أَشْيَاءَ، وَيَقُولُ: هو عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ).
وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة "العجاب" في سياق بيان الضعفاء عن ابن عباس رضي الله عنهما (... ومنهم: إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي وهو كوفي صدوق، لكنه جمع التفسير من طرقٍ، منها: عن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة بن شراحيل، عن ابن مسعود. وعن ناس من الصحابة. وغيرهم. وخلط روايات الجميع، فلم تتميّز رواية الثقة من الضعيف).

القول الثاني: إن الإخبار كان على جهة الاستشارة , قال سعيد عن قتادة قوله : {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } فاستشار الملائكة في خلق آدم . ذكره ابن جرير, وذكره ابن كثير , وذكره صاحب التفسير الكبير.
تخريج الأثر:
رواه ابن جرير عن بشر بن معاذ ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة.
و هذا إسناد حسن ، لحال بشر بن معاذ ، فإنه صدوق . وأما اختلاط سعيد بن أبي عروبة ، فإنه لايضر ؛ لأن الراوي عنه هنا هو : يزيد بن زريع ، وقد سمع منه قبل اختلاطه كما قاله ابن حبان.
وقال أحمد: ( كل شيء رواه عن ابن أبي عروبة ، فلا تبال أن لا تسمعه من أحد ، سماعه من قديم , وكان يأخذ الحديث بنيه).

فالأثر صحيح السند إلى قتادة , فيكون من تحديث التابعي الثقة عمن قرأ كتب أهل الكتاب.

وهذا النوع مما حدث به بعض ثقات التابعين عمَّن قرأ كتب أهل الكتاب, , وهو مع عدم تصريحه عمن حدث من أهل الكتاب لا يخلو متن الأثر من النكارة , فالله سبحانه له العلم الكامل الأزلي الذي لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان , وله الغنى الكامل سبحانه , فكيف يقال بأن الله أراد استشارة الملائكة وهم إنما ينفذون أوامره بلا استدراك ولا مجادلة , وهو سبحانه { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}!

قال ابن كثير بعد ذكره لهذا القول: (وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل ، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن ، والله أعلم ).

القول الثالث: أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة ، وأن الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصة - الذين قاتلوا معه جن الأرض قبل خلق آدم - وأن الله إنما خصهم بقيل ذلك امتحانا منه لهم وابتلاء ، ليعرفهم قصور علمهم وفضل كثير ممن هو أضعف خلقا منهم من خلقه عليهم . قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد , ذكره الطبري.

قال محمد بن إسحاق: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به ، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه - وكان أول بلاء ابتليت به الملائكة مما لها فيه ما تحب وما تكره ، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا ...).
رواه ابن جرير عن ابن حميد عن سلمة بن الفضل عنه.

ومثل هذا النوع من المرويات, هو ما يرويه بعض من لا يتثبت في التلقي؛ فيكتب عن الثقة والضعيف، ويخلط الغث والسمين، ومحمد بن إسحاق منهم , فهو مع عدم تعمده الكذب كونه صادق في نفسه، لكنه وقع في آفة عدم التثبت، وخلط الصحيح بالضعيف فهو يروي كثيرا من الإسرائيليات , وأمثاله من أكثر من أشاع الإسرائيليات في كتب التفسير.

والملائكة لا يمتحنون لإخبار الله عنهم بأنهم:{لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما سؤمرون} فالتكلف في التفسير والحياد به عما هو منصوص عليه : أمر لا يجب أن يُصار إليه.

أما اثر قتادة فقد رواه ابن جرير بسنده عن يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة }....قال : وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ؟ فابتلوا بخلق آدم - وكل خلق مبتلى ، كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة ، فقال الله :{ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين }.
وهذا الإسناد سبق الكلام عنه.

القول الرابع : أنه لما خلق النار خافت الملائكة ، فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه؟ قال: لمن عصاني ، فخافوا وجود المعصية منهم ، وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم ، فقال لهم{: إني جاعل في الأرض خليفة }, قاله ابن زيد.
ذكره الطبري , وابن الجوزي وابن كثير .

وهذا الأثر رواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن ابن زيد .

ومثل هذا من الغيبيات التي لا تقال بالرأي المجرد , ويرده ما ورد عند الترمذي وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ : انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا . قَالَ : " فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا . قَالَ : فَرَجَعَ إِلَيْهِ قَالَ فَوَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا . فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ ؛ فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ . قَالَ : اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ : وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا . فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ؛ فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَيْهَا . فَرَجَعَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ : وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا " قَالَ الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .وقال الحافظ في الفتح : " إسناده قوي ".
كذلك يرده ما جاء في النصوص التي تثبت أن خزنة النار من الملائكة, ففي هذا ما يدل أنه لم يقع الخوف في قلوبهم منها بل ما في قلوبهم هو الفزع من الله كما جاء عند الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على صفوان , فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير ).


القول الخامس: أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه ، فأخبرهم حتى قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فأجابهم: إني أعلم ما لا تعلمون . ذكره ابن الجوزي.

القول السادس: أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده ، ليكونوا معظمين له إن أوجده . ذكره ابن الجوزي.

القول السابع: أنه أراد إعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض ، وإن كانت ابتداء خلقه في السماء
كما روى ابن أبي حاتم بسند إلى خالد الحذاء قال: سألت الْحسن فقلت: يا أبا سعيد، آدم للسماء خلق أَمِ الأرض؟ قَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً؟ لا بَلْ لِلأَرْضِ خُلِقَ
.وذكر هذا القول ابن الجوزي.

ولعل أقرب ما يقال هنا ما رجحه ابن كثير: أن الله جل وعلا وتقدس- أخبر الملائكة بأمر هذا الخليفة لمجرد الإعلام , ويستدل على هذا بتفسير قتادة والحسن لكلمة (جاعل) ب (فاعل) , وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك
.فالملائكة لها تعلق بهذا الأمر , فإخباره -سبحانه- لهم إعلاما لهم بما سيترتب على خلقه من تعلق لهم به وبذريته وبالأرض:
فهناك ملائكة موكلة بالجنين في رحم أمه.
وهناك حفظة الأعمال.
وهناك حفظة الأبدان.
وهناك الموكل بالوحي.
وهناك من هو موكل بالقطر.
وغيرهم الكثير , وحمل الآية على ظاهرها بما يوافق ما هو معلوم من النصوص بالضرورة هو الأسلم وهو الأصح , لأن باب الغيبيات لا يولج إلا بنص من كتاب أو سنة.
ولا يمنع أن يكون الله-تعالى وتقدس- قد اخبرهم ليعظموا هذا الخليفة , فلفظ (خليفة) قد يوجب هذا بشكل أو بآخر , وقد يكون أيضا لإعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض ويترتب على هذا ما يترتب من مهام عليهم مثل ما ذكرنا سابقا.

قوله تعالى:{قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}:
قوله :{قالوا} أي : الملائكة.
{يفسد}: الفساد في اللغة ضد الصلاح،

قال ابن الجوزي: (الفساد: تغيُّر عمَّا كان عليه من الصَّلاح، وقد يقال في الشيء مع قيام ذاته، ويقال فيه مع انتقاضها، ويقال فيه إذا بطل وزال، ويُذكر الفساد في الدِّين كما يذكر في الذَّات، فتارةً يكون بالعِصيان، وتارة بالكفر، ويُقال في الأقوال إذا كانت غير منتظمة، وفي الأفعال إذا لم يعتدَّ بها).

قال الزجاج : ومعنى {يسفك}: يصب، يقال: سفك الشيء إذا صبّه.

وفد جاء هذا القول من الملائكة بعد أن أخبرهم الله تعالى بأنه جاعل في الأرض خليفة,

وهنا قد يسأل سائل: كيف عرفت الملائكة بأن هذا الخليفة سيحصل منه الإفساد وسفك الدماء؟!

والحقيقة أن المفسرين اختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا, وسنورد -إن شاء الله- ما جاء عنهم من الأقوال مع بيان بعض ما احتجوا به من الأدلة:
أما القول الأول: فقد قال أصحابه أن الأرض سكنها حي من أحياء الملائكة التي خلقت من مارج من نار وكانوا يسمون (الجن), فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء حتى بعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحن - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال...) الأثر. وهو قول ابن عباس وعبدالله بن عمرو والكلبي , والأخفش والزجاج, ذكره الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.

قال ابن عباس : (لقد أخرج اللّه آدم من الجنّة قبل أن يدخلها أحدٌ، قال اللّه تعالى:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عامٍ الجنّ بنو الجانّ، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدّماء، فلمّا قال اللّه تعالى: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء، يعنون الجنّ بني الجانّ...) الأثر.
تخريج الأثر:
رواه الحاكم النيسابوري عن عبد اللّه بن موسى الصيدلاني، عن إسماعيل بن قتيبة، عن أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس, وعلق عليه بقوله: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه).ووافقه الذهبي.

قال الشيخ مقبل الوادعي محقق المستدرك: ( هذا من حكايات الكتب القديمة التي لا تصدق ولا تكذب).

وجاء عن عبدالله بن عمروا قوله: (كان الجنّ بنو الجانّ في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنةٍ، فأفسدوا في الأرض، سفكوا الدّماء، فبعث اللّه جندًا من الملائكة فضربوهم حتّى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال اللّه للملائكة: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء، قال: إنّي أعلم ما لا تعلمون».
رواه ابن ابي حاتم عن أبيه عن علي بن محمد الطنافسي، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن بكير ابن الأخنس عن مجاهد، عن عبد اللّه بن عمرو .
وعبدالله بن عمرو رضي الله عنه , اشتهرعنه أنه قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، وتعلم السريانية؛ فكان يقرأ في تلك الكتب ويحدث منها، لما عرفه من الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في التحديث عن بني إسرائيل، وهو مع هذا لم يكن مكثرا من ذلك.

فمثل هذا يكون في أفضل أحواله : لا يصدق ولا يكذب.

القول الثاني: أن الملائكة لما سمعت لفظ (خليفة) فهموا أن في بني آدم من يفسد ; إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد ، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية . ذكره القرطبي وابن كثير.

القول الثالث: أن القائل هم : هاروت وماروت, فقد علما ما لم تعلم باقي الملائكة من نظرة نظروها في اللوح المحفوظ فقالا ما قالا. قاله أبو جعفر محمد بن علي, حيث قال: (السِّجِلُّ مَلَكٌ، وَكَانَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ مِنْ أَعْوَانِهِ، وَكَانَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاثُ لَمْحَاتٍ يَنْظُرُهُنَّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَنَظَرَ نَظْرَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ فَأَبْصَرَ فِيهَا خَلْقَ آدَمَ وَمَا فِيهِ مِنَ الأُمُورِ، فَأَسَرَّ ذَلِكَ إِلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَكَانَا مِنْ أَعْوَانِهِ، فَلَمَّا قَال{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} قَالا ذَلِكَ اسْتِطَالَةً عَلَى الْمَلائِكَة)ِ.

وهذا الأثر رواه ابن ابي حاتم عن أَبِي ثنا هِشَامٌ الرَّازِيُّ عن ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْرُوفٍ عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ.
وهذا إسناد منقطع لجهالة من حدث عن ابي جعفر, فله حكم المردود.

هذا غير نكارة المتن , فالملائكة -عليهم السلام- لا يتجاوزون الأمر , بل يقيمون على ما أمرهم به الله :{لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.

وقد ذكره ابن كثير في تفسيره وعلق عليه بقوله: ( هذا أثرٌ غريبٌ. وبتقدير صحّته إلى أبي جعفرٍ محمّد بن عليّ بن الحسن الباقر، فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارةٌ توجب ردّه، واللّه أعلم. ومقتضاه أنّ الّذين قالوا ذلك إنّما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السّياق).

القول الرابع: إن الملائكة قالت هذا على سبيل الرأي منها والظن. ذكره ابن جرير وأورد ما جاء عن قتادة من تفسير قوله تعالى :{وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفةً}، فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، وقد علمت الملائكة من علم اللّه أنّه لا شيء أكره إلى اللّه من سفك الدماء والفساد في الأرض...) الأثر.
وقد رواه ابن جرير عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة. (سبق الكلام عنه).
قال ابن جرير بعد إيراده هذا الأثر: (وهذا الخبر عن قتادة، يدل على أنّ قتادة كان يرى أنّ الملائكة قالت ما قالت من قولها: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}على غير يقين علمٍ تقدم منها بأن ذلك كائن؛ ولكن على الرأي منها والظن).

القول الخامس: أن الله سبحانه قد أعلم الملائكة بشأن ما سيحصل في الأرض من الإفساد وسفك الدماء , قال ابن قتيبة الدينوري: يرى أهل النظر من أصحاب اللغة: أن اللّه جل وعزّ قال: (إني جاعل في الأرض خليفة يفعل ولده كذا ويفعلون كذا)، فقالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفعل هذه الأفاعيل؟) ولولا ذلك ما علمت الملائكة في وقت الخطاب أن خليفة اللّه يفعل ذلك، فاختصر اللّه الكلام على ما بينت في كتاب «المشكل). وذكره ابن جريج والزجاج وابن جرير والقرطبي وابن كثير وغيرهم.

وجاء هذا في أثر مروي عن ابن عباس وغيره من الصحابة, وقد تقدم الكلام عنه , وهو ما رواه ابن جرير بسنده إلى أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وجاء عن قتادة في قوله :{أتجعل فيها من يفسد فيها } قال : كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك قوله :{ أتجعل فيها من يفسد فيها }.
رواه ابن جرير وعبد الرزاق الصنعاني عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة .

وهذا من نوع المرويات التي يحدث به بعض ثقات التابعين عمن قرأ كتب أهل الكتاب, ولم يصرح قتادة عمن أخذه, ولعله نقله عمن قرأ في كتب أهل الكتاب , ولم يصرح عمن حدث عنه , فهو من نوع الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.

أما أثر الكلبي فقد رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن أبي نجيح عن الكلبي.

وقال ابن جرير: (وأمّا وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربّها عنه بالفساد في الأرض وسفك الدّماء، فغير مستحيلٍ فيه ما روي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الّذي رواه السدي ووافقهما عليه قتادة من التّأويل. وهو أنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبرهم أنّه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرّيّةً يفعلون كذا وكذا، فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} على ما وصفت من الاستخبار).
فإن قال قائل : فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرت ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء ، فمن أجل ذلك قالت الملائكة : " أتجعل فيها من يفسد فيها " فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك ؟
قيل له : اكتفى بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه... فكذلك ذلك في قوله : " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها " ، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله : " إني جاعل في الأرض خليفة " من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض ، اكتفى بدلالته وحذف ، فترك ذكره).

ولعل أقرب الأقوال هو ما ورد بأن الجن قد عمرت الأرض وسكنتها قبل خلق آدم , كذلك ما رجحه الطبري بأن الله قد أعلمهم بهذا , وكذلك قول من قال بأن الملائكة قد فهمت هذا من لفظ (خليفة).
ولا شك أن سياق الآية يدل على أن الملائكة كان لها سابق علم بمسألة حصول الإفساد في الأرض وسفك الدماء , لكن لم يأت في الآية ما يخبر بطريقة وصول هذا العلم إليها , قال ابن عثيمين : (قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} يرجح أنهم خليفة لمن سبقهم، وأنه كان على الأرض مخلوقات قبل ذلك تسفك الدماء، وتفسد فيها، فسألت الملائكة ربها عزّ وجلّ: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} كما فعل من قبلهم).
فإن قال قائل بالتوقف وعدم الجزم في طريقة معرفة الملائكة لذلك : لكان لهذا القول حظ من النظر.


أما عن نوع الاستفهام في سؤال الملائكة , وهل كان هذا منها اعتراضا منها أو إقرار أو استدراكا أو استفهاما!؟
فقد جاء عن المفسرين بعض التوجيهات التي بينت نوعه , فمن أققوالهم:

القول الأول: إن قول الملائكة جاء على جهة التقرير، والملائكة لم تستفهم ربها، وقد قال تبارك وتعالى:{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، ولكن معناها معنى الإيجاب، أي: أنك ستفعل.
وتقول : وأنت تضرب الغلام على الذنب: ألست الفاعل كذا؟ ليس باستفهام ولكن تقرير. وقال بعض المفسرين : إن في الكلام حذفا ، والتقدير : إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا.
قاله ابن جريج, وقاله أبو عبيدة, وذكره ابن كثير.

قال ابن جريج : إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ؟
رواه ابن جرير عن القاسم ، عن حدثنا الحسين عن حجاج ، عنه.

القول الثاني: إن قول الملائكة لم يكن إنكارا منهم على ربهم، إنما سألوا ليعلموا، فكان هذا منهم استفهاما محضا, فكان على جهة الاستعلام وجهة الحكمة، لا على الإنكار، فكأنهم قالوا: يا اللّه، إن كان هذا ظننا، فعرفنا وجه الحق فيه. قاله الأخفش.وقاله الزجاج, والقرطبي, وهو اختيار ابن جرير وابن كثير.

قال ابن جرير: (وأولى هذه التّأويلات بقول اللّه جلّ ثناؤه مخبرًا عن ملائكته قيلها له: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} تأويل من قال: إنّ ذلك منها استخبارٌ لربّها؛ بمعنى: أعلمنا يا ربّنا، أجاعلٌ أنت في الأرض من هذه صفته وتاركٌ أن تجعل خليفتك فيها، ونحن نسبّح بحمدك، ونقدّس لك؟ لا إنكار منها لما أعلمها ربّها أنّه فاعلٌ، وإن كانت قد استعظمت لمّا أخبرت بذلك أن يكون للّه خلقٌ يعصيه.

وهناك من قال بأنهم سألوا لأن الله اذن لهم , ذكره ابن جرير ورده, فقال:( وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التعجب ، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ، ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر . وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة).

القول الثالث: إن الملائكة قالوا ذلك لكراهيتهم أن يعصى الله؛ لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت, كما تقدم من الآثار التي ذكرت, فإما إن الله أعلمها أو أن الجن حصل منها الإفساد. وهو قول ثان للأخفش.
قال فخر الدين الرازي: (أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه) .

القول الرابع: قالوا إن الهمزة وإن كان أصلها للاستفهام ، إلا إن معناها التعجب, كأنهم تعجبوا من استخلاف الله من يعصيه أو من يعصي من يستخلفه في أرضه .قاله ابن زيد , ذكره مكي , ذكره ابن جرير, ذكره ابن عطية وصاحب البحر المحيط.

قال ابن زيد: (قالت الملائكة: يا ربّ أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه. لا يرون له خلقًا غيرهم. قال: لا، إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفةً يسفكون الدّماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} وقد اخترتنا؟ فاجعلنا نحن فيها فنحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل اللّه في الأرض من يعصيه. فقال: إنّي أعلم ما لا تعلمون، يا آدم أنبئهم بأسمائهم. فقال: فلانٌ، وفلانٌ».

وهذا الأثر رواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهبٍ، عن ابن زيد.
سبق الكلام عن هذا السند.

وعلق عليه ابن جرير بقوله: (وغير خطأٍ أيضًا ما قاله ابن زيدٍ من أن يكون قيل الملائكة ما قالت كان على وجه التّعجّب منها من أن يكون للّه خلقٌ يعصي خالقه).

القول الخامس: إن قول الملائكة كان استفهاما إنكاريا, فاستنكروا استخلاف بني آدم في الأرض لكونهم مظنة للإفساد في الأرض . ذكره الشوكاني.
وأصحاب هذا القول استدلوا بما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول من لبى الملائكة ، قال الله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال : فرادوه فأعرض عنهم ، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون : لبيك لبيك اعتذارا إليك ، لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك).
أخرجه السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى ابن أبي الدنيا عن أنس في كتاب التوبة.
ومثل هذا لا يحتج به.

السادس: إن السؤال جاء على طريق الاستعظام والإكبار للاستخلاف والعصيان معا. ذكره ابن عطية.

وكما بينا سابقا من حال الملائكة فلا يليق بها إلا أن يكون سؤالها على سبيل الاستطلاع والاستفهام لا غير .

قوله تعالى:{ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}:
{ونحن} أي الملائكة.

{نسبح بحمدك}:
قال بعضهم في معنى التسبيح : {نسبح}: نصلي. قاله السدي وأبو عبيدة, وعبدالله اليزيدي, ومكي, وذكره ابن جرير,
جاء عن ناس من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم-في قوله:{ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}قال:(يقولون: نصلّي لك).
رواه ابن أبي حاتم عن أَبُي زرعة ثنا عمرو بْن حماد عن أسباط عن السدي
ورواه ابن جرير عن موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي، عن جماعة من الصحابة.
سبق تخريج إسناده.

وقال الزجاج: نبرئك من السوء، وكل من عمل عملا ً قصد به اللّه : فقد سبح. ذكره مكي والقرطبي
قال ابن جرير: (وأصل التسبيح لله عند العرب : التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه ، والتبرئة له من ذلك ).
قال سيبويه وغيره من النحويين: إن معنى "سبحان الله": براءة اللّه من السوء وتنزيهه من السوء.
قال قتادة: في قوله:{ونحن نسبح بحمدك}قال: (التّسبيح: التّسبيح).
رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة.

ولا منافاة بين القولين: فالصلاة على معناها اللغوي يراد بها الدعاء, ومن الدعاء تنزيه الله عن كل نقص وعيب وسوء, وتنزيهه عن وصفه بما لم يصف به نفسه المقدسة, وإن كان أريد ب(الصلاة) المعنى الشرعي: فلا تعارض أيضا, لأن الصلاة فيها الدعاء وفيها التنزيه والحمد.
وقد ثبتت صلاة الملائكة فيما قاله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني: (هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسمع أطيطَ السَّماءِ وما تلام أَنْ تَئِطّ، ما فيها موضع شبرٍ إلاَّ وعليه ملكٌ راكعٌ أو ساجد).
فلا تعارض بين القولين.


أما الحمد فهو: وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله.
ويخرج المدح من التغريف بقولنا : (مع المحبة) فلا تشترط في المدح.
والتسبيح والتحميد من أفضل الذكر, لأن التسبيح فيه تنزيه للرب عن كل ما يسوء, والحمد فيه إثبات نعوت الكمال له سبحانه, فكان التسبيح كالتخلية والحمد كالتحلية.

كما جاء في الحديث المتفق عليه من قوله عليه الصلاة والسلام: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ).
وكما أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي ذر أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الكلام إلى الله ما اصطفاه الله لملائكته، سبحان ربي وبحمده)، وفي لفظ: (سبحان الله وبحمده).


قوله:{ونقدس لك}: جاء فيها ثلاثة أقوال:
الأول: {نقدّس لك}: نطهّر، التقديس: التطهير. قاله ابن عباس أبو عبيدة, واليزيدي, و ابن جرير
وأثر ابن عباس رواه ابن أبي حاتم هن أَبُي زُرْعَةَ عن مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ عن بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عنه.

الثاني: {نقدس لك}نكبرك ونعظمك ونمجدك. قاله أبو صالح ومجاهد واليزيدي, وذكره ابن جرير.
قال أبوصالحٍ: في قوله:{ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: (نعظّمك ونمجّدك).
رواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم، عن هاشم بن القاسم، عن أبي سعيدٍ المؤدب عن إسماعيل، عن أبي صالح.
أما اثر مجاهد فقد رواه ابن جرير بسنده عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد

الثالث: التقديس: الصلاة, قاله قتادة .
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق بسنده عن مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ.

والحقيقة لا تعارض بين القولين الأول والثاني , قال ابن جرير: (التّقديس هو التّطهير والتّعظيم؛ ومنه قولهم: سبّوحٌ قدّوسٌ، يعني بقولهم سبّوحٌ: تنزيهٌ للّه؛ وبقولهم قدّوسٌ: طهارةٌ له وتعظيمٌ؛ ولذلك قيل للأرض: أرضٌ مقدّسةٌ، يعني بذلك المطهّرة.
فمعنى قول الملائكة إذًا {ونحن نسبّح بحمدك} ننزّهك ونبرّئك ممّا يضيفه إليك أهل الشّرك بك، ونصلّي لك. ونقدّس لك: ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطّهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك).
أما القول الثالث فقد رده ابن عطية وتعقبه القرطبي بقوله: (بل معناه صحيح ، فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح.... وبناء " قدس " كيفما تصرف فإن معناه التطهير ، فالقدس : فالقدس : الطهر من غير خلاف . فالصلاة طهرة للعبد من الذنوب ، والمصلي يدخلها على أكمل الأحوال لكونها أفضل الأعمال ، والله أعلم). وهذا إن كان له وجه فيكون من تفسير الشيء بلازمه.


قوله تعالى:{قال إني أعلم ما لا تعلمون}:
هذا إخبار من رب العزة للملائكة بعلمه المحيط الأزلي للغيب والشهادة, كما قال تعالى:{ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.
وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى:{ ما لا تعلمون} على عدة أقوال:
القول الأول: إن الله -تعالى وتقدس- قد علم ما في قلب إبليس من الكبر والطغيان والحسد, وعلم ما سيكون منه من المعصية, ولهذا قال للملائكة :{إني إلم ما لا تعلمون}, ولقد جاء هذا القول عن ابن عباس ومجاهد.وإسحاق, ذكره ابن جرير وابن عطية والقرطبي والشوكاني.

قال ابن عباس: كَانَ إِبْلِيسُ عَلَى مَلائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَاسْتَكْبَرَ وَهَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَطَغَى، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ الْبَغْيُ.

وقال مجاهد: (علم من إبليس المعصية).

أما أثر ابن عباس فقد رواه ابن ابي حاتم عن أبي سعيد الشج عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنِ السُّدِّيِّ، عمن رواه عن ابْنِ عَبَّاس.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن السدي نحو ذلك.

وقال ابن عباس:في قوله تعالى:{إنّي أعلم ما لا تعلمون}, يقول: إنّي قد اطّلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه من كبره واغتراره).
رواه ابن جرير عن محمّد بن العلاء، عن عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاس.
سبق الكلام عليه.

أما أثر مجاهد فقد أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير من عدة طرق عن مجاهد, ورواه عبدالرزاق الصنعاني بسنده عن علي بن بذيمة عن مجاهد.


القول الثاني:
إن الآية عامة: فهي إخبار من الله سبحانه- بكمال علمه, فأخبر بأنه يعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن ، فهو عام .ذكره القرطبي, وذكره صاحب البحر المحيط.

القول الثالث: علمه سبحانه- بما مدحت به الملائكة نفسها, وما حصل من استعظامهم أنفسهم بالتسبيح والتقديس. قاله قتادة
ذكره ابن جرير وصاحب المحيط والشوكاني.
قال قتادة: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: (إنّ اللّه لمّا أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما اللّه خالقٌ خلقًا أكرم عليه منّا، ولا أعلم منّا. فابتلوا بخلق آدم، وكلّ خلقٍ مبتلًى...)
رواه ابن جرير عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة.
سبق الكلام عليه.

القول الرابع: المراد علم الله بمن يملأ جهنم من الجنة والناس ، قاله ابن زيد ذكره صاحب البحر المحيط.

القول الخامس: إن الملائكة لما استعلمت عن خلق آدم وقالت:{أتجعل فيها من فسد فيها...} وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم:{إني أعلم ما لا تعلمون}. قاله قتادة. ذكره ابن جرير وابن عطية والقرطبي والشوكاني.

قال قتادة من تفسير قوله تعالى :{وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، ... فكان في علم اللّه جلّ ثناؤه أنّه سيكون من تلك الخليفة أنبياء ورسلٌ، وقومٌ صالحون، وساكنو الجنّة.

وها الأثر رواه ابن جرير عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة.
سبق الكلام عليه.

ولعل القول الأخير هو أصح الأقوال , فعلم الله -سبحانه- محيط بكل شيء, علم ما سيكون من أمر آدم وذريته , وعلم أن سيكون منهم أنبياء ورسل وصديقين وشهداء وصالحين , وأنهم سيعمرون الأرض بذكره وإعلاء كلمته , وتعريف الناس بخالقهم المعبود سبحانه , كي تتحق لهم السعادة في الدارين.

وبعد أن ذكرنا بعض ما ورد في هذه الاية الكريمة مما ذكره المفسرون , نقول : إن معنى الآية الإجمالي هو :

حين أراد خلق آدم أبي البشر-عليه السلام- أخبر الملائكة بذلك, و ذكر فضله لهم , واخبرهم بأنه مستخلفه في الأرض. فقالت الملائكة عليهم السلام:{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فذكروا الإفساد وخصوا مفسدة القتل لشناعتها، وكلامهم هذا كان بحسب ما ظنوه في أن هذا الخليفة المجعول في الأرض سيقع منه ذلك, فنزهوا الباري عن ذلك, وعظموه, وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة , وبأنهم ينزهونه التنزيه اللائق به سبحانه , وهم في هذا مخلصون لله مطهرون بأصل خلقتهم ليكونوا أهلا لتسبيح الله وتعظيمه , فقالوا:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ, فقال لهم تعالى وتقدس :{ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } , فأنا اعلم من هذا الخليفة ما لا تعلمون أنتم , لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وبحسب ما لديكم من العلم الناقص , فأنا اعلم أن الخير الحاصل بخلقه أضعاف ما في ذلك من الشر الذي خشيتموه.
وقد تحدث العلماء واسهبوا عن هذا الخير فقد قال ابن القيم : (... فأجابهم تعالى عن هذا السؤال بأن له من الحكمة في جعل هذا الخليفة في الأرض ما لا تعلمه الملائكة وإن وراء ما زعمتم من الفساد مصالح وحكما لا تعلمونها أوصلها بعض العلماء إلى قريب من أربعين حكمة:
• فاستخرج تعالى من هذا الخليفة وذريته الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين وعمر بهم الجنة وميز الخبيث من ذريته من الطيب فعمر بهم النار
• وكان في ضمن ذلك من الحكم والمصالح ما لم يكن للملائكة تعلمه، ثم إنه سبحانه أظهر فضل الخليفة عليهم بما خص به من العلم الذي لم تعلمه الملائكة وأمرهم بالسجود له تكريما له وتعظيما له وإظهار لفضله...).

وفي هذي الخلاصة من الفوائد ما لا يحصى , وكلام الله -سبحانه وتعالى- واضح بين متين , فيه هدى للناس , ولعل الأنسب أن لا يفسر كلام الله الذي قال عنه :{لا ريب فيه} بكلام يكون في أفضل حالاته : لا يصدق ولا يكذب !
فكيف يفسر اليقيني بشيء محتمل للكذب!!
وقد اختبرنا الله بالإيمان بالغيب , وكان أول ما مدح به المؤمنين في بداية سورة البقرة قوله:{الذين يؤمنون بالغيب} فما أخبرنا الله تعالى به آمنا به وصدقناه , وما أخفاه عنا ابتعدنا فيه عن تكلف ما ليس لنا به علم , فنقول كما قالت الملائكة :{سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} فسبحانه بين لنا في كتابه ما نحتاج إليه من أمور الدين والدنيا , أما ما ينقل من الإسرائيليات : فهذا لا طائل تحته غالبا , ولا فائدة ترجى من معرفته ولا ثمرة , بل كثرة ما ورد فيه من التفاصيل تبعد الذهن عن تدبر المعنى , وفهم المغزى , وإحسان العمل.
هذا مع تقرير أسباب السادة المفسرين في جمعهم لتلك المرويات , جزاهم الله عنا خير الجزاء.

هذا والله أعلم , وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

المراجع:

مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي (ت:210 هـ ).
تفسير القرآن العزيز، عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت: 211 هـ).
معاني القرآن، إبراهيم بن السَرِيّ الزجاج (ت:213 هـ).
تفسير القرآن العظيم، عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي (ت:327 هـ).
جامع البيان عن تأويل القرآن - لابن جرير الطبري المتوفي عام 310 هـ.
بحر العلوم لأبي الليث نصر بن محمد السمرقندي المتوفي عام 373 هـ.
معالم التنزيل، لأبي محمد الحسن بن مسعود البغوي المتوفي عام 510 هـ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المتوفي بعد عام 541 هـ.
تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير المتوفي عام 774 هـ.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للحافظ جلال الدين بن أبي بكر عبد الرحمن السيوطي المتوفي عام 911 هـ.
فتح القدير، الجامع بين فَنَّى الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني المتوفي عام 1250 هـ.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي المتوفي عام 1405 هـ.
مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي المتوفي عام 606 هـ.
الجامع لأحكام القرآن - القرطبي.
مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي المتوفي عام 606 هـ.
البحر المحيط - محمد بن يوسف، الشهير بأبي حيان.
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - الآلوسي. (ت:1270).
التحرير والتنوير، - محمد الطاهر بن عاشور.
محاسن التأويل - القاسمي. (ت:1323).
تفسير المنار - رشيد رضا. (ت: 1350)
تيسير الكريم الرحمن، عبد الرحمن بن ناصر السعدي (ت:1376).
تفسير الفاتحة والبقرة للشيخ مُحَمّد بن صَالِح العُثَيْمِين (ت: 1347 هـ).



بارك الله فيكِ ونفع بكِ
تم تصحيح البحث في صفحة الاختبارات الخاصة بكِ
زادكِ الله توفيقًا وسدادًا.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تجب, نشر

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:15 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir