دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 7 شعبان 1439هـ/22-04-2018م, 03:09 AM
هيئة الإدارة هيئة الإدارة غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 29,544
افتراضي التطبيق الثاني من دورة أصول القراءة العلمية

التطبيق الثاني



لخّص مقاصد إحدى الرسالتين التاليتين:
1: "الرسالة التبوكية" لابن القيم.
2: رسالة "قاعدة في المحبة" لشيخ الإسلام ابن تيمية.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 8 شعبان 1439هـ/23-04-2018م, 05:47 PM
علاء عبد الفتاح محمد علاء عبد الفتاح محمد غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 599
افتراضي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

التطبيق الثاني: استخراج مقاصد الرسالة التبوكية لابن القيم.

المقصد العام للرسالة:
بيان معنى البر والتقوى وأهمية التعاون عليهما، وما في ذلك من المصالح في الدنيا والآخرة، وبيان معنى الهجرة إلى الله ورسوله، وحكمها، وأهميتها، ومقتضياتها، وأوصافها، وما يعين على تحقيقها من زاد ومركب ورفقة، وثمار تحقيقها، وعوامل نجاح الدعوة إليها.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
المقاصد الفرعية للرسالة:
 أهمية معرفة حدود الألفاظ الشرعية ودلالاتها ومفاسد الجهل بذلك
 بيان ما تضمنه قوله تعالى " وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" من مصالح الدنيا والآخرة وتعريف البر والتقوى والفرق بينهما، والإثم والعدوان والفرق بينهما
 بيان واجب العبد تجاه الخالق سبحانه، وبين المخلوقين، والطريق الموصل لتحقيق كل منها على الوجه الصحيح
 ذكر نوعي الهجرة، ومتعلقات ودلائل هجرة القلب إلى الله ورسوله وفوائدها وحكمها وسوء عاقبة من تركها
 زاد المسافر إلى الله ورسوله وطريقه ومركبه وما يثبته في الطريق
 أهمية الرفيق في هذه الهجرة وأهم صفاته

------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
المسائل التي اشتملت عليها هذه المقاصد
 أهمية معرفة حدود الألفاظ الشرعية ودلالاتها ومفاسد الجهل بذلك
[أهمية معرفة حدود ودلالات الألفاظ الشرعية]
[مفاسد الجهل بحدود ودلالات الألفاظ الشرعية]
[كثير من الخلاف وقع بسبب الجهل بحدود ودلالات الألفاظ الشرعية وبعض الأمثلة على ذلك]
 بيان ما تضمنه قوله تعالى " وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" من مصالح الدنيا والآخرة وتعريف البر والتقوى والفرق بينهما، والإثم والعدوان والفرق بينهما
[اشتمال قوله تعالى " وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" على جميع مصالح المعاش والمعاد]
[بيان جماع الواجب على العبد مع الخلق]
[سعادة العبد لا تتحقق إلا بتحقيق مرضاة الله وهو "البر والتقوى"]
[اختلاف البر والتقوى في حال الاجتماع وحال الافتراق]
[تفصيل الكلام على معنى البر إذا انفرد]
=تعريف البر في اللغة والشرع
=العلاقة بين البر والإيمان
=آية تجمع خصال البر وفيها أنه يجمع أركان الإيمان، والأعمال الظاهرة، وأعمال القلوب وختمت الآية بأن هذه الأعمال هي صفات المتقون
[تفصيل الكلام على معنى التقوى عند الانفراد]
=أفضل ما قيل في حد التقوى
=دخول البر في التقوى
[تعريف البر والتقوى عند الاقتران]
[فائدة الأمر بالتعاون على البر والتقوى]
[الفرق بين الإثم والعدوان في قوله تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.]
 بيان واجب العبد تجاه الخالق سبحانه، وبين المخلوقين، والطريق الموصل لتحقيق كل منها على الوجه الصحيح
[حكم العبد فيما بينه وبين الخالق وما بينه وبين المخلوق]
[العلاقة بين الواجبين وأهمية معرفتها]
 ذكر نوعي الهجرة، ومتعلقات ودلائل هجرة القلب إلى الله ورسوله وفوائدها وحكمها وسوء عاقبة من تركها
[النوع الأول من الهجرة]
[النوع الثاني من الهجرة]
[متعلقات هجرة القلب إلى الله]
[السر العظيم في الهجرة إلى الله]
[الذي يفيده معرفة معنى الفرار من الله إليه]
[الهجرة إلى الله تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة]
[الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وغربة المهاجرين إليها]
[حدّ الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكمها، وكيف يعرف العبد إن كان مهاجراً أم لا.]
[قوله تعالى "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" وكيف يطبقه المؤمن]
[بعض الأسرار التي اشتمل عليها قوله تعالى " ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه" الآية.]
[توقف حصول الهداية على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو من مقتضيات الهجرة إليه]
[فوائد من الاستدلال على الهجرة بقول الله تعالى " يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم" الآية.]
==فائدة النداء باسم الإيمان في أول الآية
==فائدة تكرار الفعل "أطيعوا" مرتين وليس ثلاثاً
=تعريف أولي الأمر في الآية وحدود طاعتهم
== ما يجب على المؤمنين عند التنازع
==أهمية هذه الآية في إقامة الحجة على وجوب جعل الحكم لله ولرسوله في كل الأمور
==عاقبة امتثال ما جاء في الآية من أوامر.
==السبيل لكمال السعادة بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يحصل بأمرين
[عاقبة من يتخذ سبيلا غير سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم سواء من الأتباع أو المتبوعين]
[المهاجرون إلى الله ورسوله هم السعداء وهم نوعان]
==النوع الأول: المتبوعين
==النوع الثاني: الاتباع
[خلاصة القول في أقسام الناس إجمالاً تجاه الهجرة إلى الله ورسوله]
 زاد المسافر إلى الله ورسوله وطريقه ومركبه وما يثبته في الطريق
[زاد المسافر إلى الله ورسوله]
[طريقة الهجرة إلى الله ورسوله]
[المركب الذي يحتاجه المهاجر إلى الله ورسوله]
[بالإقبال على القرآن يستقيم للمهاجر سيره وترسخ قدمه في طريقه]
[السبيل إلى تحقيق الإقبال على القرآن]
 أهمية الرفيق في هذه الهجرة وأهم صفاته، وبيان أهمية النصيحة والدعوة إلى هذه الهجرة وعوامل نجاحها
[الحاجة ماسة إلى رفيق في السفر فإن لم يوجد فسر ولو وحيدا]
[الوصية إلى الإخوة وتشجيعهم للحرص على ما ينفعهم]
[صحبة الأموات الذين تحيا القلوب بذكر أخبارهم أنفع من صحبة الأحياء الذين تموت القلوب بمخالطتهم]
[ضرر الصحبة على السائر في الطريق الله ورسوله]
[أمران مهمان ينبغي الحرص عليهما عند التعامل من الناس]
[بيان ما في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)} من الخير للناس جميعا الداعي إلى الله والمدعو]
[ذكر ثلاثة أسباب تعيين على تحقيق نجاح دعوة الناس إلى الهجرة إلى الله ورسوله]
[جماع الأمر هو معاملة الله وحده وانقطاع القلب كله إليه]

------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
شرح مسائل الرسالة:

 أهمية معرفة حدود الألفاظ الشرعية ودلالاتها ومفاسد الجهل بذلك
[أهمية معرفة حدود ودلالات الألفاظ الشرعية]
أنها ينتفع بها انتفاع عظيم في فهم ألفاظ القرآن ودلالته، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله؛ وهذا هو العلم النافع، وقد ذمّ سبحانه في كتابه من ليس له علم بحدود ما أنزله على رسوله.
[مفاسد الجهل بحدود ودلالات الألفاظ الشرعية]
-وعدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين:
إحداهما: أن يدخل في مسمّى اللفظ ما ليس منه؛ فيحكم له بحكم المراد من اللفظ؛ فيسوّى بين ما فرق الله بينهما.
والثانية: أن يخرج من مسمّاه بعض أفراده الداخلة تحته؛ فيسلب عنه حكمه؛ فيفرّق بين ما جمع الله بينهما.
[كثير من الخلاف وقع بسبب الجهل بحدود ودلالات الألفاظ الشرعية وبعض الأمثلة على ذلك]
ولهذا حث المصنف على فهم هذه القاعدة وأمثلتها لأن كثير من الاختلاف يرجع للجهل بها وضرب أمثلة لهذا منها:
- لفظ "الخمر"؛ فإنه اسم شامل لكل مسكر، فلا يجوز إخراج بعض المسكرات منه، وينفى عنها حكمه. فإذا فعل هذا أحدهم نشأ خلاف بينه وبين العالم بحدود ودلالات هذا اللفظ لأن الأول قد أخطأ.
ومثله الميسر والربا وغير ذلك.

 بيان ما تضمنه قوله تعالى " وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" من مصالح الدنيا والآخرة وتعريف البر والتقوى والفرق بينهما، والإثم والعدوان والفرق بينهما
[اشتمال قوله تعالى " وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" على جميع مصالح المعاش والمعاد]
فقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فيما بينهم في بعضهم بعضا، وفيما بينهم وبين ربهم، فإن كلّ عبد لا ينفكّ من هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق.
[بيان جماع الواجب على العبد مع الخلق]
فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصّحبة، فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته.
[سعادة العبد لا تتحقق إلا بتحقيق مرضاة الله وهو "البر والتقوى"]
فمرضاة الله هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها، وهي "البرّ والتقوى" اللذان هما جماع الدين كله،
[اختلاف البر والتقوى في حال الاجتماع وحال الافتراق]
إذا أفرد كلّ واحد من الاسمين دخل فيه المسمّى الآخر، إما تضمنا وإمّا لزوما، ودخوله فيه تضمنا أظهر؛ لأن البرّ جزء مسمّى التقوى، وكذلك التقوى فإنه جزء مسمّى البر، وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند الانفراد.
ونظير هذا لفظ "الإيمان والإسلام"، "والإيمان والعمل الصالح"، و"الفقير والمسكين"، و"الفسوق والعصيان"، و"المنكر والفاحشة"، ونظائره كثيرة. وهذه قاعدة مهمة جدا تزيل إشكالات كثيرة عند طوائف من الناس وفيما يأتي تطبيقها على البر والتقوى.
[تفصيل الكلام على معنى البر إذا انفرد]
=تعريف البر في اللغة والشرع
قال ابن القيم رحمه الله:
"فإن حقيقة البرّ هو الكمال المطلوب من الشيء، والمنافع التي فيه والخير، كما يدلّ عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام.
ومنه "البرّ" بالضم؛ لكثرة منافعه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب.
ومنه رجل بارٌ، وبرٌّ، و{كرام بررة}، والأبرار.
فالبرّ كلمة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابلته "الإثم"، وفي حديث النّواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [له]: (جئت تسأل عن البرّ والإثم) ؛ فالإثم كلمة جامعة للشرّ والعيوب التي يذمّ العبد عليها.
=العلاقة بين البر والإيمان
يدخل في مسمى البرّ الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة،
وأكثر ما يعبر بالبرّ عن برّ القلب، وهو وجود طعم الإيمان [فيه] وحلاوته، وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه وقوته وفرحه بالإيمان، فإن للإيمان فرحة وحلاوة ولذاذة في القلب، فمن لم يجدها فهو فاقد للإيمان أو ناقصه، وهو من القسم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}.
فهؤلاء -على أصح القولين- مسلمون غير منافقين، وليسوا بمؤمنين، إذ لم يدخل الإيمان في قلوبهم؛ فيباشرها حقيقته.


=آية تجمع خصال البر وفيها أنه يجمع أركان الإيمان، والأعمال الظاهرة، وأعمال القلوب وختمت الآية بأن هذه الأعمال هي صفات المتقون
وقد جمع [الله] تعالى خصال البرّ في قوله: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون (177)}.

فأخبر سبحانه أن البرّ هو:
-1- الإيمان به، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهذه هي أصول الإيمان الخمس التي لا قوام للإيمان إلا بها.
-2-وأنه الشرائع الظاهرة: من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنفقات الواجبة.
-3-وأنه الأعمال القلبية التي هي حقائقه؛ من الصبر والوفاء بالعهد.

فتناولت هذه الخصال جميع أقسام الدين: حقائقه وشرائعه، والأعمال المتعلقة بالجوارح وبالقلب، وأصول الإيمان الخمس.
ئم أخبر سبحانه أن هذه خصال التقوى بعينها، فقال: {أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون (177)}.
[تفصيل الكلام على معنى التقوى عند الانفراد]
=أفضل ما قيل في حد التقوى
-التقوى حقيقتها العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا
فيفعل ما أمره الله به إيمانا بالأمر، وتصديقا بموعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي، وخوفا من وعيده.
كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله".
-وهذا من أحسن ما قيل في حدّ التقوى، فإن كلّ عمل لابدّ له من مبدأ وغاية، فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان، ، لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، وغايته ثواب الله تعالى، وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب.
-و[لهذا] كثيرا ما يقرن بين هذين الأصلين في مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان إيمانا واحتسابًا" و"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا"، ونظائره.
=دخول البر في التقوى

فإن قول طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله".
لا ريب أنه جامع لجميع أصول الإيمان وفروعه، حيث أن التقوى تشمل الإيمان بالله لأنه الباعث على العمل وتشمل الإيمان بالوعد والوعيد وهو الثواب أو العقاب، وهذا المعنى يشمل أصول الدين وفروعه، وعليه فأن البرّ داخل فى هذا المسمى.
[تعريف البر والتقوى عند الاقتران]
عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى} فالفرق بينهما فرق بين السّبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها؛ فإن البرّ مطلوب لذاته، إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه، كما تقدّم.
وأما التقوى فهي الطريق الموصلة إلى البرّ، والوسيلة إليه، ولفظها يدلّ على هذا؛ فإنها فعلى من وقى يقي، وكان أصلها وقوى، فقلبوا الواو تاء، كما قالوا: تراث من الوراثة، وتجاه من الوجه، وتخمة من الوخم، ونظائره،
فلفظها دالٌ على أنها من الوقاية، فإن المتّقي قد جعل بينه وبين النار وقاية، فالوقاية من باب دفع الضرر، والبرّ من باب تحصيل النفع، فالتقوى كالحمية، والبرّ كالعافية والصحة.
[فائدة الأمر بالتعاون على البر والتقوى]
فالمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى؛ فيعين كلّ واحد صاحبه على ذلك علما وعملا. فإنّ العبد وحده لا يستقلّ بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه.
[الفرق بين الإثم والعدوان في قوله تعالى {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.]
الإثم والعدوان في جانب النهي نظير البرّ والتّقوى في جانب الأمر.
-فالإثم: ما كان حراما لجنسه.
ومن أمثلته:
الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، ونحوها
-والعدوان: ما حرّم الزيادة في قدره، وتعدي ما أباح الله منه.
ومن أمثلته:
نكاح الخامسة، واستيفاء المجنيّ عليه أكثر من حقه، ونحوه.
فالعدوان هو تعدّي حدود الله التي قال فيها: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون (229)}، وقال في موضع آخر: {تلك حدود اللّه فلا تقربوها}.
وهذا لأن حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام،
ونهاية الشيء تارة تدخل فيه فتكون منه، وتارة لا تكون داخلةً فيه فيكون لها حكم مقابله،
فبالاعتبار الأول نهى عن تعدّيها، وبالاعتبار الثاني نهى عن قربانها)

 بيان واجب العبد تجاه الخالق سبحانه، وبين المخلوقين، والطريق الموصل لتحقيق كل منها على الوجه الصحيح
[حكم العبد فيما بينه وبين الخالق وما بينه وبين المخلوق]
حكم العبد فيما بينه وبين الناس: هو أن تكون مخالطته لهم تعاونا على البر والتّقوى، علما وعملًا.
وأما حاله فيما بينه وبين الله تعالى: فهو إيثار طاعته، وتجنّب معصيته، وهو قوله تعالى: {واتّقوا اللّه}.
[العلاقة بين الواجبين وأهمية معرفتها]
أنه لا يتمّ الواجب الأول إلا بعزل نفسه من الوسط، والقيام بذلك لمحض النصيحة والإحسان ورعاية الأمر.
ولا يتم له أداء الواجب الثاني إلا بعزل الخلق من البين، والقيام به لله إخلاصا ومحبةً وعبودية.
فينبغي التّفطن لهذه الدّقيقة التي كلّ خلل يدخل على العبد في أداء هذين الواجبين إنما هو من عدم مراعاتها علما وعملا.

 ذكر نوعي الهجرة، ومتعلقات ودلائل هجرة القلب إلى الله ورسوله وفوائدها وحكمها وسوء عاقبة من تركها
[النوع الأول من الهجرة]
- هو الهجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها في هذه الرسالة.
[النوع الثاني من الهجرة]
- الهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعةٌ لها،
وقال ابن القيم في موضع أخر من رسالته " والذي يقضى منه العجب أن المرء يوسّع الكلام، ويفرّع المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضةٌ ربما لا تتعلق به في العمر أصلا.
وأما هذه الهجرة التي هي واجبةٌ على مدى الأنفاس [فإنه] لا يحصل [فيها] علما ولا إرادة، وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال عما لا ينجيه غيره، وهذه حال من غشيت بصيرته، وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال، والله المستعان، وبه التوفيق، لا إله غيره، ولا رب سواه). أ.هـ
[متعلقات هجرة القلب إلى الله]
المحبة والعبودية والخوف والدعاء والخضوع والاستكانة وغيرها فيهاجر القلب فيها من الخلق إلى الخالق سبحانه فتكون كلها لله.
وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {ففرّوا إلى اللّه}. فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
[السر العظيم في الهجرة إلى الله]
ففيها سر عظيم من أسرار التوحيد؛ فإنّ الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية، ولوازمها من المحبة والخشية والإنابة والتوكل وسائر منازل العبودية، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم [أجمعين].
وأما الفرار منه إليه؛ فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كلّ ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفرّ منه العبد، فإنما أوجبته مشيئة الله وحده، فالله هو الذي شاء وجوده، فإذا فرّ العبد إلى الله فإنما يفرّ من شيء وجد بمشيئة الله وقدره؛ فهو في الحقيقة فارّ من الله إليه.
وبه يفهم معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك منك" وقوله: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك". فإنه ليس في الوجود شيءٌ يفرّ منه ويستعاذ منه ويلجأ منه إلا وهو من الله خلقا وإبداعا.
فالفارّ والمستعيذ فارّ مما أوجبه قدر الله ومشيئته وخلقه، إلى ما تقتضيه رحمته وبرّه ولطفه وإحسانه؛ ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه، ومستعيذ بالله منه.
[الذي يفيده معرفة معنى الفرار من الله إليه]
أنه يوجب للعبد انقطاع تعلّق قلبه من غير الله بالكلّية خوفا ورجاء ومحبة؛ فإنه إذا علم أن الذي يفرّ [منه] ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده.
فعاد الأمن كلّه إلى الفرار من الله إليه؛ وهو معنى الهجرة إلى الله [تعالى]. ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
والهجرة تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحبّ والبغض؛ فإن المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما يهاجر إليه أحبّ إليه مما يهاجر منه؛ فيؤثر أحبّ الأمرين إليه على الآخر.
[الهجرة إلى الله تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة]
فكلما كان داعي [المحبة] في قلب العبد أقوى كانت هذه الهجرة [أقوى و] أتمّ وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علما، ولا يتحرك بها إرادة، وهذا يحصل للإعراض عما يهم والإقبال على ما لا ينفع ولذا وجب الاهتمام بالكلام على هذه الهجرة كما هو الحال في هجرة الأبدان لأنها قد لا تتعلق بفرد طول عمره، وأما هذه فهي متعلقة به على مدار حياته.
[الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وغربة المهاجرين إليها]
وأما الهجرة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فمعلم لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك منه بنيّات الطريق سوى اسمه،
وسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حيٍّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما [به] يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون.
-قعدوا عن الهجرةٍ النبوية وهو في طلبها مشمّر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه إزراء على جهالاتهم وأهوائهم؛ وحاله كقول القائل:
نحن وإيّاكم نموت ولا ... أفلح عند الحساب من ندما
-والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد.
بعيدٌ على كسلان أو ذي ملالةٍ ... وأما على المشتاق فهو قريب
[حدّ الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكمها، وكيف يعرف العبد إن كان مهاجراً أم لا.]
حدّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثةٍ من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلّا وحيٌ يوحى (4)}،
وأما القائل: إنا على طريقة آبائنا سالكون، وإنا بحبلهم مستمسكون، وإنا على آثارهم مقتدون، وما لهذه الهجرة؟ فهذا قد أخلد إلى أرض البطالة والملالة والكسل.
-وهذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
-وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بهما في الدنيا، قال قتادة: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ".
-وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين،
=ثم جاء الميزان الذي يحدد الدليل على صدق الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا (65)}؛
فأقسم سبحانه بأجل مقسم به -وهو نفسه -عز وجل-- على أنهم لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكّموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين. فإن لفظة "ما" من صيغ العموم
ومع هذا فإنه ينبغي أن يأخذوا هذه الأحكام بصدور رحبة ويتقبلونها بلا حرج.
ومتى أراد العبد أن يعلم منزلته من هذا
فلينظر في حاله، وليطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلّد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها، {بل الإنسان على نفسه بصيرةٌ (14) ولو ألقى معاذيره (15)}.فسبحان الله كم من حزازةٍ في قلوب كثير من الناس من كثير من النصوص وبودّهم أن لو لم ترد؟

-ثم لم يقتصر [سبحانه] على ذلك حتى ضمّ إليه قوله: {ويسلّموا تسليمًا (65)}؛ فذكر الفعل مؤكدًا له بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو الخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعا ورضى، وتسليمًا لا قهرا ومصابرةً؛ كما يسلّم المقهور لمن قهره كرها، بل تسليم عبدٍ محب مطيع لمولاه وسيّده الذي هو أحبّ شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه.

=وتأمّل تأكيده سبحانه لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التأكيد:
-أولها: تصديرها بلا النافية، وليست زائدة كما يظنّ من يظنّ ذلك، وإنما دخولها لسرٍّ في القسم، وهو الإيذان بتضمّن المقسم عليه للنّفي، وهو قوله: {لا يؤمنون}.
وهذا منهج معروف في كلام العرب، إذا أقسموا على نفي شيء صدروا جملة القسم بأداة نفي، مثل هذه الآية، ومثل قول الصديق - رضي الله عنه -: "لاها الله، لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله؛ فيعطيك سلبه".
وقال الشاعر:
فلا وأبيك ابنة العامر ... يّ لا يدّعي القوم أنّي أفرّ
وهذا في كلامهم أكثر من أن يذكر.
-وثانيها: تأكيده بنفس القسم.
-وثالثها: تأكيده بالمقسم به، وهو إقسامه بنفسه لا بشيءٍ من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة، وبمخلوقاته تارة.
-ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج، ووجود التسليم.
-وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر.
وما هذا التأكيد والاعتناء إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم، وأنه مما يعتنى به، ويقرّر في نفوس العباد بما هو من أبلغ أنواع التقرير.
[قوله تعالى "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" وكيف يطبقه المؤمن]
هذا دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين. وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:
-منها: أن يكون أحبّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا فيجب أن يكون الرسول أولى به -منها، وأحبّ إليه منها؛ فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة، من الرضى بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على كل من سواه.
-ومنها: أن لا يكون للعبد حكمٌ على نفسه أصلًا، بل الحكم على نفسه للرسول، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده، والوالد على ولده.
فيا عجبًا كيف تحصل هذه الأولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول عن منصب التحكيم، ورضي بحكم غيره، واطمأن إليه أعظم من طمأنينته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم –والواجب عليه عكس ذلك فيعزل كلام كل الناس في مقابلة كلامه صلى الله عليه وسلم فإن صح النقل عنه قبله وإن لم يصح رده وإن لم يعلم صحته من ضعفه توقف فيه حتى يتأكد منه. فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة، واستقام له علمه وعمله، وأقبلت وجوه الحقّ إليه من كلّ جهة.
وقال ابن القيم في موضع متقدم من الرسالة:
"والمقصود أن الواجب الذي لا يتمّ الإيمان بل لا يحصل مسمّى الإيمان إلا به مقابلة النصوص بالتّلقّي والقبول، والإظهار لها، ودعوة الخلق إليها, لا تقابل بالإعراض تارةً، وباللّيّ أخرى. قال تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}؛ فدلّ هذا على أنه إذا ثبت لله ولرسوله في كل مسألة من المسائل حكمٌ طلبيٌّ أو خبريٌّ، فإنه ليس لأحد أن يتخيّر لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن [ولا مؤمنة] أصلًا، فدلّ على أن ذلك منافٍ للإيمان." ا.هـ

[بعض الأسرار التي اشتمل عليها قوله تعالى " ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه" الآية.]
قال تعالى: {ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)}.
=أمر سبحانه بالقيام بالقسط، وهو العدل، وهذا أمر بالقيام به في حقّ كل أحد عدوًّا كان أو وليًّا، وأحقّ ما قام له العبد بالقسط: الأقوال والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره؛ فالقيام فيها بالهوى والعصبية مضادٌّ لأمر الله, منافٍ لما بعث به رسله، ولا يعدل في هذا إلا من صدق عليه أنه من ورثة الأنبياء.
=ثم قال: {شهداء للّه} والشاهد هو المخبر، فإن أخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول، وإن أخبر بباطل فهو شاهد زور؛ فأمر تعالى أن نكون شهداء له مع القيام بالقسط، وهذا يتضمن أن تكون الشهادة بالقسط أيضًا، وأن تكون لله لا لغيره.
وقال في الآية الأخرى: {كونوا قوّامين للّه شهداء بالقسط}.
[فتضمنت الآيتان أمورًا أربعة:
أحدها: القيام بالقسط].
والثاني: أن يكون لله.
والثالث: الشهادة بالقسط.
والرابع: أن تكون لله.
واختصت آية النساء بالقيام بالقسط والشهادة لله، وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط، لسرٍّ عجيبٍ من أسرار القرآن ليس هذا موضع ذكره.

=ثم قال تعالى: {ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}، فأمر سبحانه بأن يقام بالقسط، ويشهد به على كل أحد، ولو كان أحبّ الناس إلى العبد، فيقوم به على نفسه، ووالديه اللذين هما أصله، وأقربيه الذين هم أخصّ به وألصق من سائر الناس،
وهذا يمتحن به العبد إيمانه؛ فيعرف منزلة الإيمان من قلبه ومحلّه منه، وعكس هذا عدل العبد في أعدائه ومن يشنؤه، وإنه لا ينبغي له أن يحمله بغضه لهم على أن يجنف عليهم، كما لا ينبغي أن يحمله حبّه لنفسه ووالديه وأقاربه على أن يترك القيام عليهم بالقسط،

=ثم قال تعالى: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما}؛ أي: إن يكن المشهود عليه غنيًّا ترجون وتأملون عود منفعة غناه عليكم فلا تقومون عليه، أو فقيرًا فلا ترجونه ولا تخافونه، فالله أولى بهما منكم، هو ربهما ومولاهما، وقد يقال: فيه معنى آخر أحسن من هذا، وهو أنهم ربما خافوا من القيام بالقسط وأداء الشهادة على الغني والفقير؛ أما الغنيّ فخوفًا على ماله، وأما الفقير فلإعدامه، وأنه لا شيء له؛ فتتساهل النفوس في القيام عليه بالحق، فقيل لهم: الله أولى بالغني والفقير منكم، أعلم بهذا، وأرحم بهذا؛ فلا تتركوا أداء الحق والشهادة على غنيٍّ ولا فقير.
=ثم قال تعالى: {فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل.
=ثم قال تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا} ذكر سبحانه السّببين الموجبين لكتمان الحق محذرًا منهما، متوعدًا عليهما:
أحدهما: اللّيّ. والآخر: الإعراض. فاللي مثل الفتل وهو التحريف وقد يكون في اللفظ كما كان يفعل اليهود في السلام على النبي، أو لي في المعنى، والإعراض هو مقابل الكتمان وهذان الأمران شأنهما أن تضيع الحقوق فهما يمثلان تغيير الشهادة وكتمانها.
[توقف حصول الهداية على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو من مقتضيات الهجرة إليه]
=قال تعالى: {قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرّسول إلّا البلاغ المبين (54)}، فأخبر سبحانه أن الهداية إنما هي في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلّق بالشرط؛ فينتفي بانتفائه، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، كما يغلط فيه كثير من الناس،
وقوله: {فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل}،
=فإن تركتم أنتم ما حمّلتموه من الإيمان والطاعة، فعليكم لا عليه؛ فإنه لم يحمّل طاعتكم وإيمانكم، وإنما حمّل تبليغكم وأداء الرسالة إليكم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، ليس عليه هداكم وتوفيقكم.
[فوائد من الاستدلال على الهجرة بقول الله تعالى " يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم" الآية.]
==فائدة النداء باسم الإيمان في أول الآية
قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا}؛ فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله.
وافتتح الآية بندائهم باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا وخوطبوا به، كما يقال: يا من أنعم الله عليه وأغناه من فضله! أحسن كما أحسن الله إليك.
==فائدة تكرار الفعل "أطيعوا" مرتين وليس ثلاثاً
ثم قال: {أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول}؛ ففرق بين طاعته وطاعة رسوله في الفعل، ولم يسلّط الفعل الأول عليها،
وقال: {وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم}، فقرن بين طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وسلّط عليهما عاملًا واحدًا،
وقد كان ربّما يسبق إلى الوهم أن الأمر يقتضي عكس هذا؛ فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، ولكن الواقع في الآية هو المناسب،
وتحته سرٌّ لطيف وهو دلالته على أن ما يأمر به رسوله تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورًا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردةً ومقرونةً، فلا يتوهّم متوهّمٌ أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن وإلا فلا تجب طاعته فيه؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك رجلٌ شبعان متكئٌ على أريكته يأتيه الأمر من أمري؛ فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه".
==تعريف أولي الأمر في الآية وحدود طاعتهم
أولو الأمر وهم العلماء والأمراء كما ثبت عن الصحابة؛ ولا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول، لا طاعة مفردة مستقلة؛ كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على المرء السّمع والطاعة [فيما أحبّ وكره] ما لم يؤمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله، فلا سمع ولا طاعة".
فتأمّل كيف اقتضت إعادة هذا المعنى قوله تعالى: {فردّوه إلى اللّه والرّسول}، ولم يقل: وإلى الرسول؛ فإن الردّ إلى القرآن ردٌّ إلى الله والرسول، والردّ إلى السنة ردٌّ إلى الله والرسول، فما يحكم به الله هو بعينه حكم رسوله, وما يحكم به الرسول هو بعينه حكم الله.
== ما يجب على المؤمنين عند التنازع
قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}.
وهذا دليل قاطعٌ على أنه يجب ردّ موارد النّزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كلّه إلى الله ورسوله، لا إلى أحدٍ غير الله ورسوله، فمن أحال الردّ على غيرهما فقد ضادّ أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية.
==أهمية هذه الآية في إقامة الحجة على وجوب جعل الحكم لله ولرسوله في كل الأمور
قال ابن القيم: " وحسبك بهذه الآية القاصمة العاصمة بيانًا وشفاءً، فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها، عاصمةٌ للمتمسكين بها الممتثلين لما أمرت به؛ {ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ وإنّ اللّه لسميعٌ عليمٌ (42)}.
وقد اتفق السّلف والخلف على أن الردّ إلى الله هو الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله هو الردّ إليه في حياته والردّ إلى سنّته بعد وفاته."
==عاقبة امتثال ما جاء في الآية من أوامر.
قال تعالى: {ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا (59)}؛ أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر، وردّ ما تنازعتم فيه إليّ وإلى رسولي، خيرٌ لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خيرٌ لكم وأحسن عاقبةً.
فدلّ هذا على أن طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله، هو سبب السعادة عاجلًا وآجلًا.
ومن تدبّر العالم والشّرور الواقعة فيه علم أن كل شرٍّ في العالم فسببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته، وكل خير في العالم فإنما هو بسبب طاعة الرسول. وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هي موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها.
==السبيل لكمال السعادة بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يحصل بأمرين
أحدهما: دعوة الخلق إليه.
والثاني: صبره وجهاده على تلك الدّعوة.
وقد سبق هاتان المرتبتان مرتبة العلم ومرتبة العمل به كما تقدم، وعليه تكون المراتب أربعة: العلم، العمل به، الدعوة إليه، الصبر على الدعوة إليه.
[عاقبة من يتخذ سبيلا غير سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم سواء من الأتباع أو المتبوعين]
=قال تعالى: {ويوم يعضّ الظّالم على يديه يقول ياليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلًا (27) ياويلتى ليتني لم أتّخذ فلانًا خليلًا (28) لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جاءني وكان الشّيطان للإنسان خذولًا (29)}.
فكل من اتخذ خليلًا غير الرسول، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول؛ فإنه قائلٌ هذه المقالة لا محالة، ولهذا فإنه سبحانه لم يعيّن هذا الخليل، وكنّى عنه باسم فلان، إذ لكلّ متبعٍ أولياء من دون الله فلانٌ وفلانٌ.
=وقد ذكر تعالى حال هؤلاء الأتباع وحال من اتبعوهم في غير موضع من كتابه؛ كقوله تعالى: {يوم تقلّب وجوههم في النّار يقولون ياليتنا أطعنا اللّه وأطعنا الرّسولا (66) وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السّبيلا (67) ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا (68)}.
تمنى القوم طاعة الله وطاعة رسوله حين لا ينفعهم ذلك، واعتذروا بأنهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم، واعترفوا بأنهم لا عذر لهم في ذلك، وأنهم أطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول،
=وقال تعالى: {فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذبًا أو كذّب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه قالوا ضلّوا عنّا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النّار قال لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)}.
فليتدبر العاقل هذه الآيات وما اشتملت عليه من العبر...
فلله ما أشفاها من موعظة، وما أبلغها من نصيحةٍ، لو صادفت من القلوب حياةً، فإن هذه الآيات وأمثالها مما تذكّر قلوب السائرين إلى الله، وأما أهل البطالة الثكلة فليس عندهم من ذلك خبر.
فهذا حكم الأتباع والمتبوعين المشتركين في الضلالة،
=وأما الأتباع المخالفون لمتبوعيهم، العادلون عن طريقتهم، الذين يزعمون أنهم تبع لهم، وليسوا متّبعين لطريقتهم، فهم المذكورون في قوله تعالى: {إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب (166) وقال الّذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ منهم كما تبرّءوا منّا كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النّار (167)}.
فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، وأتباعهم ادّعوا أنهم على طريقتهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم، فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله، وظنوا أن هذا الاتخاذ ينفعهم.
ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وبين ربه، وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله، وتجريد عبادته وحده، ولوازمها من الحبّ والبغض، والعطاء والمنع، والموالاة والمعاداة، والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسوله وترك أقوال غيره لقوله، وترك كل ما خالف ما جاء به، والإعراض عنه، لا الموالاة والمعاداة عليه كما كان يفعل هؤلاء.
وقد قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورًا (23)}.
فهذه الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنّة رسله وطريقتهم ولغير وجهه، يجعلها الله هباءً منثورًا، لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلًا؛ وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة أن يرى سعيه كلّه ضائعًا لم ينتفع منه بشيء، وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله.
[المهاجرون إلى الله ورسوله هم السعداء وهم نوعان]
==النوع الأول: المتبوعين
ومنهم أتباعٌ لهم حكم الاستقلال، وهم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي اللّه عنهم ورضوا عنه}.
فهؤلاء هم السّعداء الذين ثبت لهم رضى الله عنهم، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل من تبعهم بإحسان، وهذا يعمّ كل من اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ولا يختصّ ذلك بالقرن الذين رأوهم فقط، وقيّد سبحانه هذه التبعية بأنها تبعية [بإحسانٍ، ليست مطلقة فتحصل بمجرد النسبة والاتباع في شيء والمخالفة في غيره، ولكن تبعية] مصاحبةٌ للإحسان؛ فإن الباء هنا للمصاحبة، والإحسان في المتابعة شرطٌ في حصول رضى الله عنهم وجنّاته.
وقال تعالى أيضاً: {هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم (4)}.
فالأولون هم الذين أدركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وصحبوه، والآخرون الذين لم يلحقوا بهم هم كل من بعدهم على منهاجهم إلى يوم القيامة، فيكون التّأخّر وعدم اللّحاق بهم في الزمان. وقيل في الفضل والرتبة وكلاهما متلازمان فإنهم لا يلحقونهم في الزمان ولا الفضل
==النوع الثاني: الاتباع
وهم أتباع المؤمنين من ذريّتهم، الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا، وإنما هم مع آبائهم تبعٌ لهم، قال الله تعالى فيهم: {والّذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ كلّ امرئٍ بما كسب رهينٌ (21)}.
أخبر سبحانه أنه ألحق الذّرية بآبائهم في الجنة، كما أتبعهم إياهم في الإيمان, ولما كان الذّرية لا عمل لهم يستحقون به تلك الدرجات قال تعالى: {وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ}، والضمير عائد إلى الذين آمنوا؛ أي: وما نقصناهم شيئًا من عملهم، بل رفعنا ذريّتهم إلى درجاتهم، فألحقهم بهم سبحانه في الفضل والثواب، وهذا لا يكون في العقاب إن كان علي الأباء عقاب
[خلاصة القول في أقسام الناس إجمالاً تجاه الهجرة إلى الله ورسوله]
قد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعثه الله به [من الهدى] في قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم: كمثل غيثٍ أصاب أرضًا؛
فكانت منها طائفةٌ طيّبةٌ قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير،
وكان منها أجادب أمسكت الماء؛ فسقى الناس وزرعوا،
وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً،
فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا, ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
فشبّه - صلى الله عليه وسلم - العلم الذي جاء به بالغيث؛ لأن كلًّا منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان، والعلم سبب حياة القلوب.
وشبّه القلوب القابلة للعلم بالأرض القابلة للغيث؛ ومن الحديث نجد أن الناس ثلاثة أقسام:
فالأول: عالمٌ معلّمٌ، داعٍ إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرّسل.
والثاني: حافظٌ مؤدٍّ لما سمعه، فهذا يحمل إلى غيره ما يتّجر به المحمول إليه ويستثمر.
والثالث: لا هذا ولا هذا، فهو الذي لم يقبل هدى الله، ولا رفع به رأسًا.
فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم، منها قسمان سعيدان، وقسمٌ شقي.

 زاد المسافر إلى الله ورسوله وطريقه ومركبه وما يثبته في الطريق
[زاد المسافر إلى الله ورسوله]
زاده العلم الموروث عن خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، ولا زاد له سواه؛ فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته، وليقعد مع الخالفين، فرفقاء التخلّف البطّالون أكثر من أن يحصوا فله أسوةٌ بهم، ولن ينفعه هذا التأسي يوم الحسرة شيئًا
[طريقة الهجرة إلى الله ورسوله]
طريقه: هو بذل الجهد, واستفراغ الوسع، فلن ينال بالمنى, ولا يدرك بالهوينا، وإنما كما قيل:
فخض غمرات الموت واسم إلى العلا ... لكي تدرك العزّ الرفيع الدعائم
فلا خير في نفسٍ تخاف من الرّدى ... ولا همّةٍ تصبو إلى لوم لائم

ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين:
أحدهما: أن لا يصبو في الحق إلى لومة لائم؛ فإن اللوم يدرك الفارس؛ فيصرعه عن فرسه, ويجعله طريحًا في الأرض.
والثاني: أن تهون عليه نفسه في الله؛ فيقدم حينئذٍ ولا يخاف الأهوال, فمتى خافت النّفس تأخرت وأحجمت, وأخلدت إلى الأرض.
ولا يتمّ له هذان الأمران إلا بالصبر؛ فمن صبر قليلًا صارت تلك الأهوال ريحًا رخاءً في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه, فبينما هو يخاف منها, إذ صارت أعظم أعوانه وخدمه, وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه.
[المركب الذي يحتاجه المهاجر إلى الله ورسوله]
مركبه: صدق اللّجأ إلى الله, والانقطاع إليه بكلّيته, وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه, والضراعة إليه, وصدق التوكل عليه، والاستعانة به، والانطراح بين يديه.
[بالإقبال على القرآن يستقيم للمهاجر سيره وترسخ قدمه في طريقه]
وذلك إن أقبل على تدبر آيات القرآن ومعانيه حتى يستحوذ ذلك على قلبه فيحنها يكون هو المتحكم فيه وحينئذٍ يستقيم له سيره، ويتضح له الطريق، وتراه ساكنًا وهو يباري الريح كما قال تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمرّ مرّ السّحاب}
[السبيل إلى تحقيق الإقبال على القرآن]
حتى يحصل تدبر القرآن وتفهمه واستخراج كنوزه لابد من طريق لذلك وقد ضرب ابن القيم أمثالاً على ذلك ليوضح المراد وأنقل هنا المثال الذي ذكره -بتصرف يسير مني-؛ فقال رحمه الله:
سأضرب لك أمثالًا تحتذي عليها، وتجعلها إمامًا لك في هذا المقصد.
قال الله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلامًا قال سلامٌ قومٌ منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمينٍ (26) فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون (27)} إلى قوله: {الحكيم العليم (30)}.
فعهدي بك إذا قرأت هذه الآيات، وتطلّعت إلى معناها وتدبرتها؛ فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة أضيافٍ يأكلون، وبشّروه بغلام عليم، وأن امرأته عجبت من ذلك؛ فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك، ولم يجاوز تدبرك غير ذلك.
والآن إلى بعض ما جاء في الآيات ليظهر لك المراد:
=قال الله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24)} افتتح الله سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام، وليس المراد به حقيقته من الاستفهام. ولهذا قال بعض الناس: إن "هل" في مثل هذا الموضع بمعنى "قد" التي تقتضي التحقيق.
=ولكن في ورود الكلام في مثل هذا الاستفهام سر لطيف، ومعنى بديع، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر مخاطبه بأمر عجيب ينبغى الاعتناء به، وإحضار الذهن له، صدّر له الكلام بأداةٍ تنبّه سمعه وذهنه للخبر، فتارةً يصدّره بـ"ألا"، وتارةً يصدّره بـ"هل"، [فيقول: هل علمت ما كان من كيت وكيت؟ إما مذكّرًا به، وإما واعظًا له مخوّفًا]، وإما منبّهًا على عظمة ما يخبر به, وإما مقرّرًا له.
=فقوله تعالى: {هل أتاك حديث موسى (15)}, و{هل أتاك نبأ الخصم}, و{هل أتاك حديث الغاشية (1)}, و{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24)} متضمن لتعظيم هذه القصص، والتنبيه على تدبرها، ومعرفة ما تضمنته.
وفيه أمر آخر، وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علمٌ من أعلام النّبوة؛ فإنه من الغيب الذي لا تعلمه أنت ولا قومك، فهل أتاك من غير إعلامنا وإرسالنا وتعريفنا أم لم يأتك إلا من قبلنا؟
فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام، وتأمل عظم موقعه في جميع موارده يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا.

=وقوله: {ضيف إبراهيم المكرمين (24)} متضمن لثنائه على خليله إبراهيم؛ فإن في {المكرمين} قولين:
أحدهما: إكرام إبراهيم لهم؛ ففيه مدحٌ له بإكرام الضيف.
والثاني: أنهم مكرمون عند الله؛ كقوله: {بل عبادٌ مكرمون (26)}، وهو متضمن أيضًا لتعظيم خليله ومدحه؛ إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافًا له.
فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم.

=وقوله تعالى: {فقالوا سلامًا قال سلامٌ} متضمن لمدحٍ آخر لإبراهيم حيث ردّ عليهم أحسن مما حيّوه به؛ فإن تحيتهم باسم منصوبٍ متضمن لجملةٍ فعليّةٍ تقديره: سلّمنا عليك سلامًا، وتحية إبراهيم لهم باسمٍ مرفوعٍ متضمن لجملةٍ اسميّةٍ، تقديره: سلامٌ ثابتٌ أو دائم أو مستقرٌّ عليكم. ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم، والفعلية تقتضي التجدد والحدوث؛ فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن.

=ثم قال: {قومٌ منكرون (25)}، وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمّم منه وجهان من المدح:
أحدهما: أنه حذف المبتدأ، والتقدير أنتم منكرون، فتذمّم منهم، ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من بعض الاستيحاش، بل قال: {قومٌ منكرون (25)}، ولا ريب أن حذف المبتدأ في هذا من محاسن الخطاب، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يواجه أحدًا بما يكرهه، بل يقول: "ما بال أقوامٍ يقولون كذا، ويفعلون كذا".
والثاني: قوله {قومٌ منكرون}؛ فحذف فاعل الإنكار، وهو الذي كان أنكرهم؛ كما قال تعالى في موضع آخر: {نكرهم}، ولا ريب أن قوله: {منكرون (25)} ألطف من أن يقول: أنكرتكم.

=وقوله: {فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمينٍ (26) فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون (27)} متضمنٌ وجوهًا من المدح، وآداب الضيافة، وإكرام الضيف:
منها: قوله {فراغ إلى أهله} , والروغان: الذهاب في سرعة واختفاءٍ، وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف، والاختفاء ترك تخجيله وألا يعرّضه للحياء، وهذا بخلاف من يتثاقل، يتبارد على ضيفه، ثم يبرز بمرأًى منه، ويحلّ صرّة النفقة، ويزن ما يأخذ، ويتناول الإناء بمرأى منه، ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه، فلفظة "راغ" تنفي هذين الأمرين.
وفي قوله: {إلى أهله} مدحٌ آخر، لما فيه من الإشعار بأن كرامة الضيف معدّةٌ حاصلةٌ عند أهله، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه، ولا يذهب إلى غير أهله، إذ نزل الضيف حاصل عندهم.
وقوله: {فجاء بعجلٍ سمينٍ (26)} يتضمن ثلاثة أنواع من المدح:
أحدها: خدمة ضيفه بنفسه، فإنه لم يرسل به، وإنما جاء به بنفسه.
الثاني: أنه جاءهم بحيوان تام لم يأتهم ببعضه؛ ليتخيّروا من أطايب لحمه ما شاءوا.
الثالث: أنه سمين ليس بمهزولٍ، وهذا من نفائس الأموال، ولد البقرة السمين، فإنهم يعجبون به، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره.
=وقوله: {إليهم} متضمنٌ لمدحٍ وأدبٍ آخر، وهو إحضار الطعام إلى بين أيدي الضيف، بخلاف من يهيّئ الطعام في موضع، ثم يقيم ضيفه؛ فيورده عليه.
=وقوله: {قال ألا تأكلون (27)} فيه مدحٌ وأدب آخر؛ فإنه عرض عليهم الأكل بقوله: {ألا تأكلون (27)}، وهذه صيغة عرضٍ مؤذنة بالتلطف، بخلاف من يقول: ضعوا أيديكم في الطعام، كلوا، تقدموا، ونحو ذلك.

=وقوله: {فأوجس منهم خيفةً}؛ لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفًا أن يكون منهم شر؛ فإن الضيف إذا أكل من طعام ربّ المنزل اطمأنّ إليه وأنس به، فلما علموا منه ذلك {قالوا لا تخف وبشّروه بغلامٍ عليمٍ (28)}، وهذا الغلام إسحاق لا إسماعيل؛ لأن امرأته عجبت من ذلك، وقالت: عجوزٌ عقيمٌ لا يولد لمثلي، فأنى [لي] بالولد؟ وأما إسماعيل فإنه من سرّيته هاجر، وكان بكره وأول ولده، وقد بين سبحانه في سورة هود في قوله تعالى: {فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (71)} في هذه القصة نفسها.

=وقوله: {فأقبلت امرأته في صرّةٍ فصكّت وجهها}؛ فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها؛ إذ بادرت إلى النّدبة وصكّ الوجه عند هذا الإخبار.

=وقوله: {وقالت عجوزٌ عقيمٌ (29)} فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال، واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة، فإنها حذفت المبتدأ، فلم تقل: أنا عجوز عقيم، واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة، لم تذكر غيره، وأما في سورة هود فذكرت السبب المانع منها ومن إبراهيم، وصرّحت بالتعجب.

=وقوله: {قالوا كذلك قال ربّك} متضمن لإثبات صفة القول [له].

=وقوله: {إنّه هو الحكيم العليم (30)} متضمنٌ لإثبات صفة الحكمة والعلم اللذين هما مصدر الخلق والأمر، فجميع ما خلقه سبحانه صادرٌ عن علمه وحكمته، وكذلك أمره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته.
والعلم والحكمة متضمنان لجميع الكمال، فالعلم يتضمن الحياة ولوازم كمالها من القومية، [والقدرة]، والبقاء، والسمع، والبصر، وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التّام.
والحكمة تتضمن كمال الإرادة، من العدل، والرحمة، والإحسان، والجود، والبر، ووضع الأشياء مواضعها على أحسن وجوهها، ويتضمن إرسال الرسل، وإثبات الثواب والعقاب...
إلى أن قال
واختصت هذه القصة [بذكر] هذين الاسمين لاقتضائها لهما؛ لتعجّب النفوس من تولد مولودٍ بين أبوين لا يولد لمثلهما عادة، وخفاء العلم بسبب هذا الإيلاد، وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على [غير] العادة المعروفة؛ فذكر في الآية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق وغايته، وحكمته في وضعه موضعه من غير إخلالٍ بموجب الحكمة.

=ثمّ ذكر سبحانه قصة الملائكة في إرسالهم لإهلاك قوم لوط، وإرسال الحجارة المسوّمة عليهم، وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله وإهلاك المكذّبين لهم، والدلالة على المعاد والثواب والعقاب؛ لوقوعه عيانًا في هذا العالم، وهذا من أعظم الأدلة الدالة على صدق رسله وصحة ما أخبروا به عن ربهم.

=ثمّ قال: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين}، ففرّق بين الإسلام والإيمان هنا لسرٍّ اقتضاه الكلام؛ فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة، فهو إخراج نجاةٍ من العذاب، ولا ريب أن هذا مختصٌّ بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرًا وباطنًا.

=وقوله: {فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين (36)} لما كان الموجودون من المخرجين أوقع اسم الإسلام عليهم؛ لأنّ امرأة لوط كانت من أهل هذا البيت، وهي مسلمةٌ في الظاهر، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجين. وقد أخبر الله سبحانه عن خيانة امرأة لوط، وخيانتها أنّها كانت تدلّ قومها على أضيافه وقلبها معهم، وليست خيانة فاحشةٍ، فكانت من أهل البيت المسلمين ظاهرًا، وليست من المؤمنين الناجين.
ومن وضع دلالات القرآن وألفاظه مواضعها، تبين له من أسراره وحكمه ما يهزّ العقول، ويعلم معه تنزّله من حكيم حميد.
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور، وهو أن الإسلام أعمّ من الإيمان، فكيف استثنى الأعمّ من الأخصّ، وقاعدة الاستثناء تقتضي العكس؟
وتبين أن المسلمين مستثنين مما وقع عليه فعل الوجود، والمؤمنين غير مستثنين منهم، بل هم المخرجون الناجون.

=وقوله تعالى: {وتركنا فيها آيةً للّذين يخافون العذاب الأليم (37)}، فيه دليل على أن آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم وأبقى آثارها دالّةً عليه وعلى صدق رسله، إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد، ويخشى عذاب الله؛ كما قال تعالى في موضع آخر: {إنّ في ذلك لآيةً لمن خاف عذاب الآخرة}، وقال تعالى: {سيذّكّر من يخشى (10)}.
فإن من لا يؤمن بالآخرة غايته أن يقول: هؤلاء قومٌ أصابهم الدهر كما أصاب غيرهم، ولا زال الدهر فيه الشقاء والسعادة، وأما من آمن بالآخرة وأشفق منها، فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ.
والمقصود بهذا إنما هو التثميل والتنبيه على تفاوت الأفهام في معرفة القرآن، واستنباط أسراره، وإثارة كنوزه، واعتبر بهذا غيره، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. انتهى كلامه رحمه الله

 أهمية الرفيق في هذه الهجرة وأهم صفاته
[الحاجة ماسة إلى رفيق في السفر فإن لم يوجد فسر ولو وحيدا]
فأنت تحتاج لمن تأنس به في الطريق في زمن كثر فيه المخالفين المثبطين، وليت الكلّ كانوا هكذا، فلقد أحسن إليك من خلّاك وطريقك ولم يطرح شرّه عليك؛ بل يقومون بالاعتراض عليك وتقديم اللوم إليك والأمر كما قال القائل:
إنّا لفي زمنٍ ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسانٌ وإجمال
فينبغي أن لا يتوقف العبد في سيره، بل يسير ولو وحيدًا غريبًا، فانفراد العبد في طريق طلبه دليلٌ على صدق المحبة.
[الوصية إلى الإخوة وتشجيعهم للحرص على ما ينفعهم]
فقد وصف ابن القيم رسالته هذه فقال:
"وأشهد الله -وكفى بالله شهيدًا- لو توافيه من أحدٍ منهم لقابلها بالقبول، ولبادر إلى تفهّمها وتدبّرها، وعدّها من أفضل ما أهدى صاحبٌ إلى صاحبه، فإن غير هذا من ماجريانات الرّكب الخبريّة، -وإن تطلعت [النفوس] إليها- ففائدتها قليلة، وهي في غاية الرّخص لكثرة جالبيها، وإنما الهدية النافعة كلمةٌ من الحكمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم."
[صحبة الأموات الذين تحيا القلوب بذكر أخبارهم أنفع من صحبة الأحياء الذين تموت القلوب بمخالطتهم]
فمن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، فإنّه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين في الناس أموات، فإنهم يقطعون [عليه] طريقه، فقد قال بعض من سلف: "شتّان بين أقوامٍ موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين أقوامٍ أحياءٍ تموت القلوب بمخالطتهم".
وقال في موضع متقدم:
فمتى ترقّت همّته إلى صحبة من أشباحهم مفقودةٌ، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم مشهودةٌ، استحدث بذلك همةً أخرى وعملًا آخر، وصار بين الناس غريبًا، وإن كان فيهم [مشهورًا و] نسيبًا، ولكنه غريب محبوبٌ يرى ما الناس فيه، وهم لا يرون ما هو فيه، يقيم لهم المعاذير ما استطاع، وينصحهم بجهده وطاقته.
[ضرر الصحبة على السائر في الطريق الله ورسوله]
فما على العبد أضرّ من عشرائه وأبناء جنسه، فإن نظره قاصر، وهمّته واقفةٌ عند التشبه بهم ومباهاتهم والسلوك أيّةً سلكوا، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لأحبّ أن يدخل معهم.
[أمران مهمان ينبغي الحرص عليهما عند التعامل من الناس]
أن يكون سائرًا فيهم بعينين:
-عين ناظرة إلى الأمر والنهي؛ بها يأمرهم وينهاهم، ويواليهم ويعاديهم، ويؤدي إليهم الحقوق، ويستوفيها عليهم.
-وعين ناظرة إلى القضاء والقدر، بها يرحمهم ويدعو لهم ويستغفر لهم، ويلتمس لهم وجوه المعاذير فيما لا يخلّ بأمرٍ ولا يعود بنقض شرعٍ، قد وسعتهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته، واقفًا عند قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)}، متدبرًا لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق، وأداء حقّ الله فيهم، والسلامة من شرهم.
[بيان ما في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)} من الخير للناس جميعا الداعي إلى الله والمدعو]
فلو أخذ الناس كلّهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم؛
-فمن الناس إلى الداعي: العفو وهو ما عفا من أخلاقهم، وسمحت به طبائعهم، ووسعهم بذله من أموالهم وأخلاقهم.
-وأما ما يكون منه إليهم؛ فأمرهم بالمعروف، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه، وهو ما أمر الله به.
وأما ما يتّقي به أذى جاهلهم؛ فالإعراض عنهم، وترك الانتقام لنفسه والانتصار لها.
فأيّ كمالٍ للعبد وراء هذا؟ وأي معاشرة وسياسة للعالم أحسن من هذه المعاشرة والسياسة؟
ولو فكّر الرّجل في كل شرٍّ يلحقه من العالم -أعني الشرّ الحقيقيّ الذي لا يوجب له الرّفعة والزّلفى من الله- وجد سببه الإخلال بهده الثلاث أو ببعضها، وإلا فمع القيام بها، فكل ما يحصل له من الناس فهو خيرٌ له وإن كان شرًّا في الظاهر، فإنّه متولّدٌ من القيام بالأمر [بالمعروف]، ولا يتولّد منه إلا خيرٌ وإن ورد في حالة شرٍّ وأذًى؛ كما قال تعالى: {إنّ الّذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم لا تحسبوه شرًّا لكم بل هو خيرٌ لكم}، وقال تعالى لنبيه: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على اللّه}.

[ذكر ثلاثة أسباب تعيين على تحقيق نجاح دعوة الناس إلى الهجرة إلى الله ورسوله]
النجاح في دعوة الناس لا يتمّ إلا بثلاثة أشياء:
أحدها: أن يكون العود طيبًا، فأما إذا كانت الطبيعة جافيةً غليظةً يابسةً عسر عليها مزاولة ذلك علمًا وإرادةً وعملًا.
الثاني: أن تكون النفس قويةً غالبةً قاهرةً لدواعي البطالة والغيّ والهوى، فإن هذه أعداء الكمال.
الثالث: علمٌ شافٍ بحقائق الأشياء، وتنزيلها منازلها، يميز به بين الشّحم والورم، والزجاجة والجوهرة.
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاثة، وساعده التوفيق فهو من القسم الذين سبقت لهم من ربهم الحسنى، وهم القسم الأول من الناس الذين شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالأرض الطيبة التي أصابها الغيث فأنبتت الكلأ والعشب الكثير.
[جماع الأمر هو معاملة الله وحده وانقطاع القلب كله إليه]
قال رحمه الله
"وأول الأمر وآخره: إنما هو معاملة الله وحده، والانقطاع إليه بكلّيّه القلب، ودوام الافتقار إليه، فلو وفّى العبد هذا المقام حقّه لرأى العجب العجيب من فضل ربّه وبرّه ولطفه ودفاعه عنه، والإقبال بقلوب عباده إليه، وإسكان الرّحمة والمحبة له في قلوبهم،
ولكن نقول:
ربّنا غلب علينا لؤمنا، وجهلنا وظلمنا وإساءتنا من أدلّ شيءٍ منه، فها نحن مقرّون بالتفريط والتقصير، ومن ادّعى منّا عندك وجاهةً فليس إلّا ذليلٌ حقيرٌ، فإن تكلنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضيعةٍ وعجز وذنب وخطيئة؛ فوا حسرتاه ووا أسفاه على رضاك! ولو غضب كل أحدٍ سواك، وعلى إيثار طاعتك ومحبتك على ما سواهما، وعلى صدق المعاملة معك.
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّنٌ ... وكلّ الذي فوق التراب تراب

وقد كان يغني من كثير من هذا التطويل ثلاث كلماتٍ كان يكتب بها بعض السلف إلى بعض، فلو نقشها العبد في لوح قلبه يقرؤها على عدد الأنفاس لكان ذلك بعض ما يستحقه، وهي:
"من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله مؤونة دنياه".

والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10 شعبان 1439هـ/25-04-2018م, 05:56 AM
نورة الأمير نورة الأمير غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز - مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 749
افتراضي

تلخيص رسالة "قاعدة في المحبة" لشيخ الإسلام ابن تيمية:

قبل أن أضع المقاصد والتلخيص, لفت نظري تمكن وعمق تأصيل ابن تيمية –رحمه الله-, والأهم من ذلك تدرجه من أصل الحركات والأفعال إلى فروع هذا الأصل وما ينتج عنه, لذا فإن المقصد الأساس هو توضيح أن الحب والكره مبدؤ الأفعال والترك, وأن أعظم الحب حب الله, وأعظم الكره كره الإشراك به, وما ينتج عن ذلك من اعتقادات تخص العقيدة والولاء والبراء, بل والدين كله يرجع لهذين الأمرين: حب الله وما يحبه, وكره ما يكرهه, والمقاصد الفرعية هي ما ينتج عن ذلك ويترتيب عليه.
والحقيقة أن سعة علم الشيخ ماشاء الله لا قوة إلا بالله أتعبتني في محاولة تبيين المقاصد, لذا فالمقصد الكلي آليت أن أنقله بلسان الشيخ نفسه في ختام رسالته, إذ كأنه أشعرني بحديثه أن سبب تأصيله لهذا الموضوع هو هذا المقصد.
المقصد الكلي:
بيان أنه إذا علم أن جميع حركات العالم صادرة عن محبة وإرادة ولا بد للمحبة والإرادة من سبب فاعل يكون هو المحبوب فبذلك يعلم أنه لا بد لجميع الحركات من إله يكون المعبود المقصود المراد المحبوب لها وأنها دالة على الإله الحق من هذا الوجه وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
المقاصد الفرعية:
*بيان أن جميع الحركات ناشئة عن الحب والإرادة.
*بيان أن أصل كل فعل ومبدؤه هو الحب, وأصل كل ترك هو البغض.
*بيان أن أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها, وخلق خلقه, وحرك بها مخلوقاته لأجلها, هي ما في عبادته وحده لا شريك له.
*بيان أن الحب أصل كل عمل من حق وباطل وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله.
*بيان أن الأصول التي يقوم عليها الدين الحق, والتي بها تتحقق السعادة هي:
الإيمان بالله, واليوم الآخر, والعمل الصالح, والشرع الذي جاءت به الرسل.
*إثبات المحبة بين الرب وعبده, والعبد وربه.
*إثبات اللذة كنتيجة عن المحبة الصحيحة, والألم كنتيجة عن المحبة المحرمة.
*بيان أن أصل العبادة هو كمال المحبة مع كمال الذل.
*إثبات النعيم كمقصود لكل عمل أصله المحبة, وأن النعيم الكامل هو في الدين الحق.
*بيان أن كل ضراء وسراء هي نعيم للمؤمن إن أحسن التعامل معها.
*بيان أن الموالاة والمعاداة في الله من أهم مستلزمات محبته.

الملخص:
* جميع الحركات ناشئة عن الحب الإرادة والاختيار, وهما مستلزمان للحياة والعلم, ولهذا كان أعظم آية في القرآن {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .

*أصل كل فعل ومبدؤه الحب, وأصل كل ترك ومبدؤه البغض.
*قواعد في الحب والكره:
*أن الإنسان لا يحب الشيء ويريده حتى يكون له به شعور أو إحساس أو معرفة ونحو ذلك ويكون مع ذلك بنفسه إليه ميل.
*بعض الأمور وإن كانت مكروهة من وجوه, فإن فعلها لمحبة وإرادة, ولم تكن المحبة لنفسها, بل لملازمها.
- مثال: حب العافية يدفع لشرب الدواء وإن كان مكروها.
*لا يترك الحي ما يحبه ويهواه, إلا لما يحبه ويهواه, لكنه يترك أضعفمها محبة لأقواهما محبة, كما يفعل ما يكرهه لما محبته أقوى من كراهة ذلك، وكما يترك ما يحبه لما كراهته أقوى من محبة ذلك.
- مثال: محبة رحمة الله (الأقوى محبة) تدفع لترك ما قد يهواه المرء من أمور الدنيا (الأضعف محبة) :(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى).
*المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة, وعلة لها ولازم مستلزم لها من غير علة.
- وبيان ذلك: أن فعل البغض في العالم إنما هو لمنافاة المحبوب، ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض.
*والشيء قد يحب من وجه دون وجه، وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده, ولا تصلح الإلهية إلا له ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
*أن الحي قد يحب ما يضره, لجهله وظلمه, وهذا هو حال من اتبع هواه بغير علم, وقد يكون عن اعتقاد فاسد, كحال من اتبع الظن وما تهواه النفس.
*أن سماع الوصف قد يورث المحبة والشوق, كما قيل: والأذن تعشق قبل العين أحيانا.
*أن الأمور الغائبة عن المشاهدة والإحساس لا تعرف وتحب وتبغض إلا بنوع من التمثيل والقياس سواء كان الغائب أكمل في الصفات المطلوبة المشتركة كالموعود به من أمر الجنة والنار وكما يصف به الرب نفسه سبحانه وتعالى أو ما كان دون ذلك كما مثل من الأمور بما هو أكمل منه.
*قوة المحبة لكل محبوب يتفاوت الناس فيها تفاوتا عظيما، ويتفاوت حال الشخص الواحد في محبة الشيء الواحد بحيث يقوي الحب تارة ويضعف تارة بل قد يتبدل أقوي الحب بأقوى البغض وبالعكس.
*أن المحبة أصل كل دين صالحا كان أو فاسدا.
*أن كل محبة وبغضة فإنه يتبعها لذة وألم, ففي نيل المحبوب لذة وفراقه يكون فيه ألم, وفي نيل المكروه ألم وفي العافية منه تكون فيه لذة.
* أن المحب إذا أحب الشيء لم يحب ضده بل يبغضه, فلا يتصور اجتماع إرادتين تامتين للضدين, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن..".
* من تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب وبغض بغيضه ويشهد لهذا الحديث أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.

ينتج عن تلك القواعد أن تعلم:
*أنه إذا كان الحب يتبع الإحساس, والإحساس لا يكون إلا بموجود ما, فإن ما يحب لا يكون إلا بموجود, وأيضا فإن الإحساس لا يكون أولا إلا لموجود, فكذلك الحب في نفسه لا يكون إلا لموجود أو محبوب, وإن كان يحب وجود المعدوم, فهو لاشيء, وما ليس بشيء لا يكون محبوبا, وإن كان يحب وجود المعدوم ويريده, فلا بد أن يكون قبل ذلك قد ذاقه والتذ به موجودا حتى أحبه بعد ذلك, أو ذاق والتذ بنظيره أو بما يشبهه.
*أن أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها, وخلق خلقه, وحرك بها مخلوقاته لأجلها, هي ما في عبادته وحده لا شريك له, إذ العبادة متضمنة لغاية الحب بغاية الذل, ظاهرا وباطنا.
*وأن جماع القرآن هو الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهي عن هذه المحبات ولوازمها وضرب الأمثال والمقاييس للنوعين وذكر قصص أهل النوعين.
*وأن أعظم المحبة في الحق محبة الله, ومحبة ما يحبه, وموالاة من يواليه, وإرادته بعبادته وحده لا شريك له، وأعظمها في الباطل أن يتخذ الناس من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ويجعلون له عدلا وشريكا, ويوالون من يبغضه.
ولهذا: فإن رأس الإيمان: الحب في الله, والبغض في الله.
* إذا كان كل عمل أصله المحبة والإرادة والمقصود منه التنعم بالمراد المحبوب, فكل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته, فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد, كما أن التعذب والتألم هو المكروه أولا وهو سبب كل بغض وكل حركة امتناع.
* أن المحبة توجب الدنو من المحبوب والبعد عن مكروهاته, قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
*إذا كانت المحبة أصل كل دين, لزم عن ذلك أن كل طائفة من بني آدم لا بد لهم من دين يجمعهم، إذ لا غنى لبعضهم عن بعض، وإذا اجتمعوا فلا بد أن يشتركوا في اجتلاب ما ينفعهم, وفي دفع ما يضرهم, ولا بد أن يشتركوا في محبة شيء عام وبغض شيء عام وهذا هو دينهم المشترك العام.
*وإذا كان كذلك فالأمور التي يحتاجون إليها يحتاجون أن يوجبوها على أنفسهم، والأمور التي تضرهم يحتاجون أن يحرموها على نفوسهم، وذلك دينهم، وذلك لا يكون إلا باتفاقهم على ذلك وهو التعاهد والتعاقد، ولهذا جاء في الحديث: "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له".

*فصل: الدين, كأحد أهم نواتج المحبة:
- لا بد في كل دين من شيئين: أحدهما الدين المحبوب المطاع وهو المقصود المراد، والثاني نفس صورة العمل التي تطاع ويعبد بها وهو السبيل والطريق والشريعة والمنهاج والوسيلة, فالدين يجمع أمرين: المعبود, وهو الله وحده, والعبادة, وهي عبادة الله وطاعة رسله واتباع الدين الذي ارتضاه "ورضيت لكم الإسلام دينا".
- كل دين يجتمع عليه الناس غير دين الله, فهو باطل, وكل من اتبع دين الله, فهو الحق, قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.
- الدين يكون بطاعة الله وعبادته وحده دون واسطة, قال سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ), وطاعة الله تستلزم طاعة رسله, وينتج عن طاعة رسله طاعة أولي الأمر ما لم يكن في معصية الله, قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه "من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصي الله ومن عصي أميري فقد عصاني".’ فهذه هي درجات الطاعة, وسلم العبادة.
- يشترك الأولون والآخرون في الدين الحق, وهو عبادة الله وحده, ويختلفون فيما عبدوه وعرفوه به "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا".
- أصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله, كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله
*الأصول التي يقوم عليها الدين الحق هي:
الإيمان بالله, واليوم الآخر, والعمل الصالح, والشرع الذي جاءت به الرسل.
-الإتيان بهذه الأصول يستلزم السعادة في كل ملة, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
-من مقاصد الدين تحقيق المصالح الدنيوية للعباد, لكنه لا يقتصر عليها, "ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق", فجعل مقصد ما هو دنيوي أخروي, ليبين أن الآخرة مقصود يعمل لأجله في كل صغيرة وكبيرة.

*فصل: الحب والكره بين الرب وعبده, والعبد وربه:
-أعظم حب قد يناله المرء هو حب الله له, وأعظم حب قد يحبه العبد هو حبه لله.
*دليل اتصاف الله بالحب والكره:
-قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
-ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه".
*تأويل صفة الحب لله:
- تأول الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام محبة الله لعبده على أنها الإحسان إليه فتكون من الأفعال.
- تأولت طائفة من الصفاتية محبة الله على أنها إرادة الإحسان، وربما قال كلا من القولين بعض المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
- أقر بعض الصفاتية محبة العبد ربه على أنها إرادة العبادة له وإرادة التقرب إليه.
- أقر سلف الأمة وأئمة السنة على المحبة على ما هي عليه, بل هم متفقون على أنه لا يكون شيء من أنواع المحبة أعظم من محبة العبد ربه, كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه)
*مسألة: حكم إطلاق لفظ العشق على لله:
عرف بعضهم العشق أنه المحبة الكاملة التامة.
وإن كان العشق هو ما سبق تعريفه, فلا شك أن أولى المستحقين لذلك العشق هو الله, لكن مكمن الاستنكار على هذه اللفظة عدة أمور.
- مآخذ لفظ " العشق":
- من جهة اللفظ:
- أنه ليس مأثورا عن السلف وباب الأسماء والصفات يتبع فيها الألفاظ الشرعية فلا نطلق إلا ما يرد به الأثر.
- المشهور من لفظ العشق هو محبة النكاح ومقدماته, ولا يعرف استخدامه في محبة الولد أو الوطن ونحوه, وهذا قد يوهم بالمعنى الفاسد للكلمة, وهو ما لا يليق بالله.
- من جهة المعنى:
- أن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب. وهذا المعنى ممتنع في حق الله من الجهتين فإن الله لا يحب محبة زيادة على العدل ومحبة عبادة المؤمنين له ليس لها حد تنتهي إليه حتى تكون الزيادة إفراطا وإسرافا ومجاوزة للقصد بل الواجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
- وقيل أن العشق هو فساد في الإدراك والتخيل والمعرفة فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق. وإذا كان الأمر كذلك امتنع في حق الله من الجانبين فإن الله بكل شيء عليم وهو سميع بصير مقدس منزه عن نقص أو خلل في سمعه وبصره وعلمه والمحبون له عباده المؤمنون الذين آمنوا به وعرفوه بما تعرف به إليهم من أسمائه وآياته وما قذفه في قلوبهم من أنوار معرفته فليست محبتهم إياه عن اعتقاد فاسد.
* باب من ضل في حب الله:
- فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوا هذا الباب وكذبوا بحقيقته, فهؤلاء يشبهون المستكبرين, كاليهود ومن شابههم.
- وفريق من أهل التعبد والتصوف والزهد أدخلوا فيه من الاعتقادات والإرادات الفاسدة, وهؤلاء يشبهون المشركين والنصارى ومن شابههم.
* درجات محبة الله:
محبة الله ورسوله على درجتين:
- واجبة: وهي درجة المقتصدين, وتقتضي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
- مستحبة: وهي درجة السابقين, وهي أن يحب ما أحبه الله من النوافل والفضائل محبة تامة وهذه حال المقربين الذين قربهم الله إليه.
*أقسام المحبوبات:
- قسم: يحب لنفسه, وهذا لا يشرع إلا لله.
- وقسم: يحب لغيره, وهو كل ما أمر الله بحبه.

*فصل: اللذة والألم, كأحد نواتج الحب والبغض:
من المعلوم أن المحبة هي العلة الفاعلة لإدراك الملائم المحبوب المشتهى, واللذة والسرور هي الغاية.
*أجناس اللذات الدنيوية:
- جنس بالجسد, كالأكل والنكاح.
- جنس بالتخييل, كالمدح والتعظيم.
- جنس بالقلب والروح والعقل, كالتلذذ بذكر الله ومعرفته.
*قاعدة: كل لذة وإن جلت هي في نفسها مقصودة لنفسها إذ المقصود لنفسه هو اللذة, لكن من اللذات ما يكون عونا على ما هو أكثر منه أيضا فيكون مقصودا لنفسه بقدره ويكون مقصودا لغيره بقدر ذلك الغير.

*فصل: النعيم التام, كحق لأهل الدين الحق الناتج عن محبة الله:
- النعيم التام هو في الدين الحق, فأهل الدين الحق هم الذين لهم النعيم التام, وأهل الدين الباطل هم الذين لهم العذاب التام, كما أخبر الله بذلك في كتابه في غير موضع كقوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ).
- الأصل أن المؤمن في نعيم, سواء أصابته سراء أم ضراء, وبيان ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن أن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له" وإذا كان خيرا فالخير هو المنفعة والمصلحة الذي فيه النعيم واللذة.
- قد يكون ما ظاهره نعمة هو لذة عاجلة قد تكون سببا للعذاب, وما ظاهره عذاب هو ألم عاجل قد يكون سببا للنعيم.
- قد يبتلى المؤمن بالسراء كما يبتلى بالضراء, بل كان بعض الصحابة يقول: ابتلينا بالضراء فصبرنا, وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من فتنة القبر وشر فتنة الغنى, وقال لأصحابه: " والله ما الفقر أخشي عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوا فيها وتهلككم كم أهلكتهم".
*مسألة: شبهة عدم تنعم المؤمن بالدنيا, وتنعم نظيره الكافر بها في كثير من الأحيان:
ينبغي أن يعرف أن الذي اشتبه عليه ذلك في الغالب يبني كلامه على مقدمتين خاطئتين, هما:
- حسن ظنه بدين نفسه نوعا أو شخصا, واعتقاده في خصمه ونظيره خلاف ذلك.
- أن الله قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا.
والرد عليهما كالتالي:
-أما الأول: فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها, أو من يفعل محرمات اقتداء بأسلافه ظنا بأنها واجبات, أو غير ذلك.
-وأما الثاني: فالرد عليه من كتاب الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.
لذا يجب أن يعلم:
-أن حصول النصر وغيره من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم وجرحه.
-أن التنعم يكون في الأمور الدنيوية والدينية, فأما الدنيوية فيشترك فيها المؤمن والكافر, وأما الدينية فجماعها أمران: طاعته فيما أمر, وتصديقه فيما أخبر, وهذه لا تحصل إلا للمؤمن, لشرف الخبر الصدق عن الله, ولطاعته ما فيه صلاحه ومنفعته من أوامر الله.
*مسألة: هل النعيم الدنيوي نعمة في حق الكافر أم لا؟
- القدرية الذين يقولون لم يرد الله لكل أحد إلا خيرا له بخلقه وأمره وإنما العبد هو الذي أراد لنفسه الشر بمعصيته وبترك طاعته التي يستعملها بدون مشيئة الله وقدرته أراد لنفسه الشر, يقولون ما نعم به الكافر فهو نعمة تامة كما نعم به المؤمن سواء.
- وأهل الإثبات قالوا: ليس لله على الكافر نعمة دنيوية كما ليس له عليه نعمة دينية تخصه, إذ اللذة المستعقبة ألما أعظم منها ليست بنعمة كالطعام المسموم "إنما نملي لهم لزدادوا إثما".
- وخالفهم آخرون من أهل الإثبات للقدر أيضا فقالوا بل لله على الكافر نعم دنيوية, والقولان في عامة أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيره, ودليلهم امتنانه تعالى على الكفار بنعمه, ومطالبته إياهم بشكرها, فكيف يقال ليست نعما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار)ِ.
-والراجح أن هذه التنعمات هي نعمة من وجه دون وجه فليست من النعم المطلقة ولا هي خارجة عن جنس النعم مطلقها ومقيدها فباعتبار ما فيها من التنعم يصلح أن يطلب حقها من الشكر وغيرها وينهى عن استعمالها في المعصية فتكون نعمة في باب الأمر والنهي والوعد والوعيد, وباعتبار أن صاحبها يترك فيها المأمور ويفعل فيها المحظور الذي يزيد عذابه على نعمها كانت وبالا عليه وكان أن لا يكون ذلك من حقه خيرا له من أن يكون فليست نعمة في حقه في باب القضاء والقدر والخلق والمشيئة العامة وإن كان يكون نعمة في حق عموم الخلق والمؤمنين.

*فصل: في الموالاة والمعاداة, كأحد أهم نواتج الحب والكره:
- تعريف الموالاة والمعاداة:
المولي من الولي وهو القرب, والعدو من العدواء وهو البعد.
فأولياء الله ضد أعدائه يقربهم منه ويدنيهم إليه ويتولاهم ويتولونه ويحبهم ويرحمهم ويكون عليهم منه صلاة وأعداؤه يبعدهم ويلعنهم وهو إبعاد منه ومن رحمته ويبغضهم ويغضب عليهم.
قال تعالى: في حق المنافقين {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}
وقال تعالى: في حق المجاهدين {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}.
*مظاهر الولاء وقواعده:
-أصل الموالاة هي المحبة كما أن أصل المعاداة البغض فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق والتباغض يوجب التباعد.
-مدار الولاء حب ما يحبه المحبوب, وبغض ما يبغضه.
-الولاء يوجب موافقة المحب للمحبوب.
-الولاء الفاسد يوجب ظلم المتحابين لأنفسهما ولغيرهما.
-الولاء يوجب تعاون المتحابين واتفاقهما فلا بد أن يبغضا ويعاديا من يبغض ذلك منهما ويخالفهم فيه.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13 شعبان 1439هـ/28-04-2018م, 09:22 AM
هناء محمد علي هناء محمد علي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
المشاركات: 439
افتراضي

تلخيص مقاصد الرسالة التبوكية لابن قيم الجوزية

🔹 مسائل الرسالة :
واجب العبد بينه وبين الخلق وبينه وبين الحق وكيف يتم أداؤهما :
🔺أولا : واجب العبد بينه وبين الخلق
- اجتماع الخلق ينبغي أن يكون تعاونا على البر والتقوى اللذان هما جماع الخير كله
- البر والتقوى إذا اجتمعا افترق معناهما ؛ وإذا تفرقا دخل كل منهما في مسمى الآخر .
- حقيقة البر وما يدخل في مسماه
- حقيقة التقوى وكيف تكون وأنها وسيلة لتحقيق البر
- كيف تكون معاشرة السالك في درب الحق للخلق
- أن هذا الواجب لا يتم إلا بالتمحض للنصيحة والإحسان إلى الخلق
🔺ثانيا : واجب العبد بينه وبين الحق ( الهجرة إليه سبحانه)
- أن تقديم طاعة الله تعالى ومعاملته وحده والانقطاع إليه وترك المعاصي هو مقصود العبد وغايته
- أن أداء واجب الله لا يتم إلا بالإخلاص لله تعالى وتوحيده علما وعملا

وجوب الهجرة إلى الله ورسوله وأهميتهما وبم تكون كل منهما
- أنواع الهجرة .
- الهجرة إلى الله تعالى تكون بهجر ما سوى الله من المحاب والفرار منه إليه سبحانه وفي ذلك كمال التوحيد ألوهية وعبودية
- أن هذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه في قلب العبد
- بم تكون الهجرة إلى رسول الله
- الكمال الإنساني باتباع السنة والعلم بها
- حال الناس بالنسبة إلى دعوته صلى الله عليه وسلم
- حد هذه الهجرة
- وجوب تحكيم رسول الله في جميع موارد النزاع والرضا بحكمه
- التحذير من اتباع الهوى ووجوب تقديم نصوص القرآن والسنة على الأقوال والمذاهب والآراء
- كيف يمتحن العبد تحقيق أولوية الله ورسوله في قلبه
- طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان ، ثم لا طاعة لأحد بعد إلا إذا اندرجت تحت طاعة رسول الله ،
- أهمية هاتين الهجرتين في حياة العبد وآخرته
- بيان زاد هذه الهجرة وطريقها ومركبها
- أهمية التدبر والتفكر في كتاب الله لاستقامة السير في طريق الهجرة إلى الله ورسوله

▪- أهمية الرفيق الناصح وخطورة رفقاء السوء في سفر الهجرة إلى الله ورسوله
- حاجة السالك إلى رفيق الطريق يقوي عزمه ويشد عضده
- حكم الأتباع السعداء من المكلفين وغير المكلفين
- حكم الأتباع الأشقياء
- الحذر ممن يقطع الطريق على السالك والمهاجر في طريق هجرته
سواء كان من رفقاء السوء أو ممن يتبعهم من الأشقياء

🔹المقاصد الفرعية للرسالة :
- بيان واجب العبد بينه وبين الخلق ( التعاون على البر والتقوى ) وبينه وبين الحق ( إيثار الطاعة وتجنب المعصية ) وكيف يتم له أداؤهما
- بيان وجوب الهجرة إلى الله تعالى وإلى رسوله وأهميتهما وبم تكون كل منهما
- أهمية الرفيق الناصح وخطورة رفقاء السوء في سفر الهجرة إلى الله ورسوله

🔹المقصد العام :
النصيحة لإخوانه وللسالكين في سفر الهجرة إلى الله ورسوله والذي هو غاية العبد ومقصوده ؛ وبيان كيف يكون هذا السفر وما هو سبيله وزاده وثمراته ومن هم رفقاؤه فيه .

🔹 تلخيص مقاصد الرسالة :
واجب العبد بينه وبين الخلق وبينه وبين الحق وكيف يتم أداؤهما :
🔺أولا : واجب العبد بينه وبين الخلق
🔸 اجتماع الخلق ينبغي أن يكون تعاونا على البر والتقوى اللذان هما جماع الخير كله
قال تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) بينت هذه الآية أن اجتماع الخلق ومعاشرتهم وصحبتهم ينبغي أن يكون في طاعة الله والتناصح على ذلك ، وأن يعاون بعضهم بعضا على البر والتقوى وهما جماع الدين كله ، إذ العبد وحده لا يقدر على ذلك ولا يستقل به ، فجعل الله له من بني جنسه من يقويه وينصح له
وحذرت الآية من التعاون على ما كان إثما في نفسه أو كان عدوانا وتجاوزا لحدود الله

🔸 البر والتقوى إذا اجتمعا افترق معناهما ؛ وإذا تفرقا دخل كل منهما في مسمى الآخر .
- البر والتقوى لفظان متلازمان ، فإذا أفرد كل منهما دخل أحدهما في مسمى الآخر ، وإن اقترنا كان لكل منهما معناه وكان الفرق بينهما كالفرق بين السبب والغاية . وهما في ذلك كألفاظ أخرى مثل الإيمان والإسلام ، والايمان والعمل الصالح ، والفقير والمسكين .
- إذا اقترن البر والتقوى فالفرق بينهما أن البر هو الغاية والمقصود لذاته ، والتقوى هي وسيلة البر الموصلة إليه .
- للتفريق بين ألفاظ القرآن ودلالتها منفعة وعظيمة ، وكل المفسدة في عدم إدراك الفروق بينها ؛ لأنه قد يجر إلى :
أ- أن يدخل في مسمى اللفظ ما ليس منه ويحكم له بحكمه
ب - أن يخرج من مسمى اللفظ ما كان داخلا فيه فيخرجه عن حكمه
فهذا يجعله يسوي بين ما فرق الله ويفرق ما جمع الله تعالى فيضل بذلك ضلالا مبينا .

🔸حقيقة البر وما يدخل في مسماه
- فالبر هو كلمة تجمع جميع أنواع الخير ومنافعه وهو الكمال المطلوب من العبد ، وعكسه الإثم الذي هو جماع الشر والعيب الذي يذم به العبد
ويكون البر بأمور كثيرة بينها الله في آية البقرة فقال ( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ...) الآية
فتدخل أركان الإيمان التي هي أصول الدين كلها في البر
وتدخل الأعمال الصالحة سواء أعمال القلب من محبة وخوف ورجاء وصبر ووفاء بالعهد أو شرائع من صلاة وصيام وصدقة وزكاة فيه
وهذه الأعمال هي نفسها خصال التقوى لقوله تعالى ( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )

🔸 حقيقة التقوى وكيف تكون وأنها وسيلة لتحقيق البر
- وأما التقوى فهي العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابا ، فيكون الباعث له على العمل هو الإيمان المحض ، إذ لا يقبل عمل بلا إيمان ؛ ويكون غايته ثواب الله ورضاه وهو الاحتساب .
أو كما عرفها طلق بن حبيب ( أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ؛ وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله )
فهي أن يجعل العبد وقاية بينه وبين غضب الله وعقابه وذلك يكون بطاعته واجتناب معاصيه
فالتقوى جامعة لأصول الإيمان وفروعه والبر داخل في ذلك .

- وعلى هذين المعنيين ينبغي أن يكون تعاون العبد مع الخلق وتعاملهم معهم ، فلا يعاونهم على ما كان إثما في نفسه أو كان اعتداء وتجاوزا ؛ وإنما يعاونهم على كل ما فيه خير وبر وكانت غايته الله .

🔸كيف تكون معاشرة السالك في هجرته للخلق
وإن الخلق منهم من يكون سائرا على دربه رفيقا له في سفره إلى الله ورسوله فيتعاونان معا ليصلا إلى البر وجماع الخير كله ؛ أو يكونون على غير دربه ... أو تاركين له معرضين عنه فأولئك الذين لم يسيروا معه فليحسن معاشرتهم وليعاملهم بما أمره الله ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) فليأخذ بالعفو مما سمحت به أخلاقهم ، وليأمرهم بالمعروف وما حسن ، وليعرض عمن أساء وآذى ،... وليكن معهم على أعظم خلق وأحسنه ؛ وذلك بأن يلين معهم ولا يكون فظا غليظا جافيا ؛
وهذا يتأتى له بطيب النفس ؛ وقوتها وغلبتها للبطالة والهوى ، وعلمه بحقائق الأشياء ومكانتها ... فيضع نفسها في مكانها ويحفظ لها منزلتها وذلك دون أن ينسى الإحسان إلى الخلق والتخلق بالقرآن . وليحرص ابتداء على إصلاح ما بينه وبين الله ليتكفل الله له إصلاح ما بينه وبين العباد ... ف( من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ، ومن عمل لآخرته كفاه الله مؤونة دنياه )

🔸 أن هذا الواجب لا يتم إلا بالتمحض للنصيحة والإحسان إلى الخلق
يتحقق هذا الواجب بأن يكون غرض العبد من مخالطة الناس النصيحة والإحسان لهم ، وأن يتقوى بهم في سفره ، فلا يجعل مخالطته لهم صارفة له عن شغله ولا ملهاة له في سفره ؛ ومن كان مثبطا له فيه فعليه بالإعراض وإكمال طريقه .

🔺ثانيا : واجب العبد بينه وبين الحق
🔸 أن تقديم طاعة الله تعالى ومعاملته وحده والانقطاع إليه وترك المعاصي هو مقصود العبد وغايته
يعلم العبد أن الله تعالى خلقه لعبادته ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فيجعل حياته كلها طاعة لله وعبادة له ؛ وليوجه كل أمره لتحقيق ذلك ، فتكون قومته ونومته لله ، ويكون سعيه لله ، وطلبه للرزق أو العلم أو غيرها لله ؛ وليضرب عصا الترحال قاصدا وجهه سبحانه لأنه لم يخلق إلا لذلك؛ ليكون لله عبدا ..

🔸 أن أداء واجب الله لا يتم إلا بالإخلاص لله تعالى وتوحيده علما وعملا
ولا بد للعبد حتى يقوم بواجب الله أن يقوم له علما وعملا وحالا ، فتكون سكناته وحركاته وجوارحه كلها لله ، فيكون مع الخلق ببدنه ومع الحق بقلبه وروحه وسعيه وعمله .
ولتكن عبادته لله على بصيرة ؛ وسيره في دربه مبصرا عارفا مواضع أقدامه يضع غايته ومقصوده أمام ناظريه ويبتعد عن كل ما يحرفه عن قصده ووجهته ...

وجوب الهجرة إلى الله ورسوله وبم تكون كل منهما
🔸 أنواع الهجرة
الهجرة هجرتان :
- هجرة الجسد من بلد إلى بلد ،
- وهجرة القلب إلى الله ورسوله وهي الهجرة الحقيقية وهجرة الجسد تابعة لها
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) . وهذه الهجرة هي الهجرة الواجبة التي يسأل عنها العبد ، والتي هو مطالب بتحقيقها علما وعملا وحالا ، فالهجرة إلى الله توحيده سبحانه في القصد والتوجه والتقرب إليه بالطاعات والابتعاد عن المعاصي والمنهيات ، وهي مقتضى ( أشهد ألا إله إلا الله ) والهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته والسير على نهجه ؛ وهو مقتضى ( وأشهد أن محمدا رسول الله )

🔸الهجرة إلى الله تعالى تكون بهجر ما سوى الله من المحاب والفرار منه إليه سبحانه وفي ذلك كمال التوحيد ألوهية وعبودية
فالعبد في هجرته إلى الله يهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله ؛ ومن عبودية غير الله إلى عبودية الله ، ومن خوف غيره أو رجائه أو التوكل عليه إلى خوفه ورجائه والتوكل عليه سبحانه
وذلك يجعله يفر من طاعة المخلوق إذا كانت في معصية الخالق إلى طاعة الخالق وحده ، ويجعله يوحد قصده الله فلا يكون له غاية وهمة إلا باتباع شرعه سبحانه ؛ وهذا يتضمن إفراده سبحانه في القصد والطلب والحب والخوف والرجاء وهو توحيد الألوهية
ثم إنه في هجرته هذه يفر من الله إليه ، كما قال عمر ( نفر من قدر الله إلى قدر الله ) إذ يعلم أن كل شر أو سوء يصيبه مقدر له من الله ، وهذا إقرار لله بأن كل ما في الكون يسير بتقدير الله وأمره ومشيئته وهذا توحيده بالربوبية ؛ فيفر من ذلك السوء إلى مولاه يلتجئ إليه ويطلب منه الإعانة فيدعوه ويرجوه ... فيكون فارا إليه سبحانه ؛ وهو معنى قوله تعالى ( ففروا إلى الله ) ..
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ( أعوذ بك منك ) و ( لا ملجأ منك إلا إليك ) فإذا علم العبد أن كل ذلك بأمر الله لم يبق في قلبه ما يخافه ويخشاه إلا مولاه .

🔸 أن هذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه في قلب العبد
ولأن القلوب بين يدي الرحمن ، ولا يستقيم للعبد قلبه على حال واحد كانت هذه الهجرة تقوى وتضعف في قلب العبد بحسب داعي المحبة في قلبه ، فكلما قوي هذا الداعي في قلبه قويت هجرته ، وكلما ضعف هذا الداعي ضعفت هجرته وضعف حاله علما وعملا .

🔸بم تكون الهجرة إلى رسول الله
والهجرة إلى رسول الله تكون باتباع سنته ، والسير على نهجه واتباعه بإحسان ؛ وهي من مقتضيات الشهادتين .

🔸 الكمال الإنساني باتباع السنة والعلم بها
وكمال سعادة العبد تكون بمعرفة ما جاء به رسول الله علما والقيام به عملا ، فيحقق الكمال الإنساني بأربعة أمور :
أ- العلم بما جاء به رسول الله
ب- العمل بما علم
ج- دعوة الخلق إلى شرع الله ورسوله
د- صبره وجهاده في دعوته
فبهذا تكون الهداية وبهذا يكون اللحاق بالركب من الذين أنعم الله عليهم ... وكلما كان تحقق السالك بهذه الأمور أكثر نال من هذا الكمال بمقدار تحققها في نفسه ، ومن تخلف عن ذلك وترك اتباع الوحي تاه وضل .

🔸 حال الناس بالنسبة إلى دعوته صلى الله عليه وسلم
وإن الخلق متفاوتون في تقبلهم للهدى الذي جاء به رسول الله ؛ فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال الناس بالنسبة إلى ما جاء به من الهدى فقال : "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم: كمثل غيثٍ أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفةٌ طبّبةٌ قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء؛ فسقى الناس وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا, ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
فشبه الهدى والعلم الذي جاء به بالغيث ، وشبه الناس المتلقين لهذا الهدى بأنواع مختلفة من الأرض ...

فجعل الناس على أصناف ثلاثة :
1- صنف كالأرض الزكية تشربت الماء وأنبتت به الخير الكثير ؛ فهذا حال العالم المعلم ؛ تشرب الهدى والعلم ثم دعا به على بصيرة فهو قلب زكي ذكي قابل للعلم مثمر به ، فهذا هو الذي حقق معنى الكمال الإنساني الذي ذكر آنفا ؛ فهو عالم بالهدى عامل به داع إليه صابر على ذلك كله ...
2- صنف كالأرض الجدباء ، تشربت الماء لكنها لم تنبت به ، وهذا حال من قبل العلم وحفظه كما سمعه لكن لا شغل له بفقهه والاستنباط منه ؛ بل هو ينقله إلى من هو أوعى منه لينشره ويتبحر فيه
3- صنف كالأرض القاع الملساء المستوية لا تقبل ماء ولا تتشربه فهذا صاحب القلب الذي لم يقبل هدى الله ولم ينتفع به أو ينفع به أو حتى ينقله وهذا هو الشقي .

🔸حد هذه الهجرة
وحد هذه الهجرة رد كل مسألة من مسائل الإيمان ونوازل القلب وحوادث الأحكام إلى الشرع الذي جاء به صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا ينطق عن الهوى ، وكل ما جاء به وأمر به من الأحكام وجب اتباعه
وذلك يعني تحكيمه صلى الله عليه وسلم في كل أمور الحياة ، فلا يكون سير السالك مقلدا للآباء أو لما وجد عليه الناس من حوله ، وإنما يكون متبعا لرسول الله .

🔸وجوب تحكيم رسول الله في جميع موارد النزاع والرضا بحكمه
بين الله تعالى في قوله ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ؛ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )
فنفى الله عنهم الإيمان إن لم يحكموه في موارد النزاع ، وأكد هذا النفي بأمور :
بلا النافية للقسم التي تؤكد نفي المقسم عليه
بالقسم بنفسه سبحانه ( وربك )
ثم بنفي الإيمان ( لا يؤمنون )

ثم جعل هذا التحكيم حتى يكون تاما مقترنا بأمور :
- أن تنشرح صدورهم بحكم رسول الله فلا يجدوا ضيقا وحرجا في نفوسهم منه
- أن يتلقوه بالقبول
- أن يسلموا له ، وأكد التسليم بالمصدر ( تسليما )
فإن أراد العبد أن يعلم منزلته من أحكام الله عرض نفسه على هذه الآية فإن كان يجد غضاضة في أحكام الله ورسوله ويضيق بها فهذا نقص في إيمانه . وإن كان راضيا مستسلما مسلما لها فهذا هو الذي قدم الله ورسوله على ما سواهما ، وهو الذي يحقق معنى أولوية الرسول بالمؤمنين ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) فيكون رسول الله أحب إليه من نفسه ، ويتبع هذا ما تستلزمه المحبة من الطاعة والانقياد ، ثم يكون أرضى بحكم رسول الله فيه من حكمه بنفسه .
- ثم لزم للعبد أن يعلم أن حكم رسول الله هو حكم الله تعالى ، إذ رسوله لا ينطق عن الهوى ولا يحكم إلا بالحق ؛ ولذلك قال ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) وجعله علامة الإيمان وشرطه فقال ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) فالرد إلى الله رد إلى كتابه ؛ والرد إلى رسوله رد إلى سنته . والرد إلى أي منهما هو رد إلى الله ورسوله

🔸 التحذير من اتباع الهوى واللي والإعراض عن النصوص وتقديم نصوص القرآن والسنة على الأقوال والمذاهب والآراء
ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وكان يرضى بحكم الله ورسوله ويجعل رسول الله أولى به من نفسه كان كل ما يأتيه من الناس موزونا بميزان الله ورسوله ، فما وافقهما قبله وما عارضهما وخالفهما تركه ،
بل إن من لوازم أولويته لرسول الله أن يكون اشتغاله بتقرير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتصار لها لا الانتصار لغيرها من الآراء والأقوال ، فيترك قول غيره إلى قوله صلى الله عليه وسلم
ويعلم أنه ليس له إلا اتباع سنته صلى الله عليه وسلم إذ الخسران كله في الإعراض عنها ومخالفتها
وكما قال الشافعي ( من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد )

🔸 كيف يمتحن العبد تحقيق أولوية الله ورسوله في قلبه
وحتى يمتحن العبد تحقق هذا المعنى في قلبه ، وأولوية الله ورسوله في أموره وأحكامه فليعرض نفسه على قوله سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) الآية
فإنها قد بينت أمورا عظيمة تبين صدق العبد في دعواه تقديم الله ورسوله على ما سواهما ...
فالقسط هو العدل ؛ والآية تطالب المؤمنين بـ:
1- بالقيام بالعدل في حق كل أحد عدوا كان أو وليا وقريبا ؛ وهنا يكون الاختبار الحقيقي إذ قد يكون البغض دافعا لعدم العدل واتباع الهوى ، لكن الله قال ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ؛ اعدلوا هو أقرب للتقوى ) فمن صدق تقديمه لله ورسول قام بالعدل ولو لأعدى الناس له ، وقام به ولو كان على أقرب الناس له

2- الشهادة لله ؛ فتكون شهادته شهادة حق لا يكتم ما علمه ولو كان فيها الشهادة على والديه أو الأقربين ، فلا يقصر به حبه لهم عن الحق ، ويقوم بالشهادة ولو على غني يرجو خيرا من غناه أو فقيرا معدوما يشفق على حاله ؛ فالله أولى بعباده وهو عليه القيام بالعدل والحق .

3- ترك اتباع الهوى لأنه حامل على الحيف والظلم والميل .

4- عدم اللي أو الإعراض عن شرع الله تعالى وسنة رسوله وحكمه
وعدم اللي والإعراض في الشهادة ؛ فاللي تحريف للمعنى والقصد فلا يغير شهادته لهوى ، والإعراض تركها وكتمانها ؛
فمن كان الله ورسوله في قلبه أولا أقام العدل في نفسه وفي أقرب الناس له ولم يكتمه لمحاباة أحد ولا رغبة أو رهبة من الخلق ، بل أداها على وجهها رغبة في الحق .

🔸 طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان ، ثم لا طاعة لأحد بعد إلا إذا اندرجت تحت طاعة رسول الله ،
- ومن سار في هجرته هذه علم أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نطق به هو من وحي الله تعالى ، وعلم بالتالي أن كل ما جاء به رسول الله وحكم به هو حكم الله ... فانقاد لرسول الله وسنته وعلم أنه بذلك يرضي الله تعالى ؛ وبمخالفته لرسوله يسخطه سبحانه ... فالخير كل الخير له في طاعة الله وطاعة رسول ، والثبور والخسران بمخالفتهما ،...
- وقد قرن الله بين طاعته وطاعة رسوله في مواضع كثيرة ( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) كما جعل طاعة رسوله من مستلزمات طاعته ( من يطع الرسول فقد أطاع الله )
ومع أن الله قرن بين طاعته وطاعة رسوله إلا أنه نبه إلى أمر يضل به كثير من الناس ، وهو أن طاعة رسول الله واجبة مقرونة ومستقلة ، أي لا يلزم لطاعة رسول الله وما حكم به أن يكون لحكمه أو بيانه ذكر وبيان في القرآن ، بل قد تستقل السنة ببيان بعض الأحكام ، ويكون الالتزام بها ملزما ، وطاعتها واجبة
- ودل على ذلك قوله تعالى ( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فكرر لفظ الطاعة ليدل على ما ذكر بأن ما أمر به رسول الله تجب طاعته ولو لم يذكر في القرآن ؛ فإن أعرضوا فقد أدى رسول الله الأمانة وبلغ الرسالة وهم وزرهم على أنفسهم ( فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم )
- وقد جعل الله هذه الطاعة شرطا للهداية تحصل بحصولها وتنتفي بانتفائها فقال ( وإن تطيعوه تهتدوا )
ثم بين تعالى أن لا طاعة لمخلوق بعد ذلك إلا إذا اندرجت تحت طاعة رسول الله ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) فجعل طاعة أولى الأمر مندرجة تحت طاعة رسوله ، فإن أطاعوه تجب طاعتهم ، وإن عصوا فلا طاعة لهم فيما عصوا فيه ... فليس لهم طاعة مستقلة منفردة
- وأولوا الأمر كما قال الصحابة هم الأمراء ؛ وقال بعضهم هم العلماء ؛ وكلاهما يصلح عليه الوصف لأن كلا الصنفين قائم بأمر الله حافظ له
فالعلماء حفظا وبيانا وبلاغا
والأمراء قياما ورعاية وجهادا
ولذلك كان الخلفاء يقولون ( أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم )

🔸أهمية هاتين الهجرتين في حياة العبد وآخرته
ومن حقق ما سبق علم أن هذه الهجرة إلى الله ورسوله فرض على كل مسلم ، ولا يكون إيمان للعبد دونها ، فهاتين الهجرتين هما :
- أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة وفي البرزخ
- و هما مقتضى الشهادتين ولا يتم إيمان عبد إلا بهما ، فهجرته إلى الله بتوحيده وعبادته والإخلاص له وحده مقتضى ( لا إله إلا الله ) ؛ وهجرته إلى رسول الله باتباع سنته وطاعته مقتضى ( وأشهد أن محمد رسول الله )
- و أنهما سعادة العبد وفلاحه في الدنيا والآخرة
فلا سعادة له إلا بطاعة الله ورسوله وتحكيم شرع الله وسنة رسوله في حياته كلها
- وهما هداية العبد ( وإن تطيعوه تهتدوا ) فلا هداية دون طاعة رسول الله ،ومن يطع الرسول فقد أطاع الله .
- ونصيب العبد من هذه الهجرة هي السبب الواصل بينه وبين الله تعالى ، وهي السبب الباقي الذي لا ينقطع بصاحبه يوم القيامة يوم تتقطع الأسباب ويكون هم العبد أن يجد سببا ينجيه من سخط الله فلا يجد إلا متبرئا أو عدوا ؛ إلا من مان وصل ما بينه وبين الله فيصله الله فيذلك اليوم .

🔸 بيان زاد هذه الهجرة وطريقها ومركبها ورأس أمرها
- وأما زاد هذه الهجرة فهو العلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به والاستنان بسنته
- وأما طريقها فبذل الجهد واستفراغ الوسع بحيث يسير مع الحق لا يخشى فيه لومة لائم ، وتهون عليه نفسه في الله فلا يخاف الأهوال ولا يخلد إلى الأرض بل يصبر ويصابر حتى يهون عليه كل صعب في سبيل مطلوبه
- وأما مركبها فصدق الالتجاء إلى الله والافتقار إليه
ورأس أمرها دوام الفكر والتدبر في كتاب الله تعالى بحيث يصير همه فيه وتصير خواطره شغله الشاغل .

🔸أهمية التدبر والتفكر في كتاب الله لاستقامة السير في طريق الهجرة إلى الله ورسوله
التدبر في كتاب الله ودوام النظر والتفكر فيه يفتح للعبد آفاقا في سيره فيستقيم له ويتضح طريقه
والمقصود بالتدبر ليس مجرد معرفة معاني ألفاظ كلام الله وإنما الغوص في مقاصد الآيات والبحث عن دقيق معانيها ، ومثال ذلك قصة ضيف إبراهيم التي بينت آياتها الكثير من العبر والأسرار ، فتضمنت :
أعظم الثناء على خليل الرحمن إذ ذكرت الآيات أن أضيافه ( مكرمين ) وهذا لكرمه وعلو مكانته ،
وذكرت كيف كانت تحيته لهم بالسلام ، وكيف كان مع ضيفه رغم إنكاره لهم فلم يواجههم بذلك بل قال (قوم منكرون ) ،
وبينت آداب الضيافة من روغانه إلى أهله ، وإحضاره لعجل كامل ، وهذا العجل سمين ، ثم تقريبه لهم والإشراف على ذلك بنفسه إلى آخر ما بينته الآيات من الدلالات ...
ولو توقف المرء عند كل آية من كتاب الله وحاول استخراج ما فيها من العبر والمقاصد حصل خير كثيرا ؛ وأنس بكتاب الله أيما أنس ...
فآيات القرآن خير زاد ورفيق للمهاجر إلى الله ورسوله ، وهو الشفاء من أدواء الأبدان والأرواح ...

أهمية الرفيق الناصح وخطورة رفقاء السوء في سفر الهجرة إلى الله ورسوله
🔸حاجة السالك إلى رفيق الطريق يقوي عزمه ويشد عضده
لما كان السفر بالجسد من بلد إلى بلد يتطلب رفيقا يأنس به المسافر ويعينه على مشقة الطريق ويهونها عليه ، كذلك كان السالك في طريقه إلى الله ورسوله ؛ فإنه يحتاج الرفيق عضدا ومؤازرا ...
( واجعل لي وزيرا من أهلي ؛ هارون أخي ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا )
فهذا الرفيق يكون معه معينا ؛ له ناصحا إن زل أو ضل ، متعاونا معه على البر والتقوى ؛ فتجده يحرص على رفع أخيه معه كلما ارتفع ؛ وكلما رقى سلما حرص على رقيه معه ... وإن وجده ظالما أخذ على يده ، أو مظلوما نصره ...يأخذ بيده ليكونا معا إخوانا على سرر متقابلين .
فمن ظفر بأخ له على الطريق فليحمد الله كثيرا أن هيأ له من يحمل المصاعب معه ... وإن لم يجد إلا لائما أو مثبطا أو معرضا عن دربه تركهم وأكمل سيره ولو كان وحده ، إذ الحق ليس بالكثرة ، وقد يكون الحق معك وأنت وحدك ...
وليجعل رفقاءه في سيره أولئك الذين أنعم الله عليهم ممن قضوا نحبهم في الله ، فليأتسي بهم ويتقوى بسيرهم على سيره ...
فهؤلاء هم السعداء الذين يسعد بهم جليسهم ولا يشقى بهم

🔸حكم الأتباع السعداء من المكلفين وغير المكلفين
السعداء هم الذين أحسنوا الاتباع فكانوا ممن قال الله فيهم ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه )
فهؤلاء الذين ( سعدوا ) : ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ) إذ تعبوا في الدنيا وبذلوا وجاهدوا وصبروا ؛ فكانوا في الآخرة أهل الجنة ... وهم أصناف ودرجات :
فالسابقون الأولون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خير قرون هذه الأمة
ثم تابعوهم بإحسان وهم كل من تبعهم من عهد التابعين إلى يوم القيامة إذ حرصوا على اتباع سنة رسول الله والاقتداء بصحابته بعده ثم إحسان المتابعة لهم في الأمور كلها فاستحقوا القربة والدرجات العلى

فهؤلاء السعداء أعد الله لهم النعيم المقيم والدرجات العالية ، وهؤلاء الذين تحسن رفقتهم ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، ذلك الفضل من الله )
- وأما غير المكلفين من أطفال المسلمين الذين توفاهم الله قبل سن التكليف فهؤلاء ممن قال الله فيهم ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) فبكرامة الآباء ألحق الله بهم الذرية تبعا لهم ثم لم ينقص ذلك من أجور الآباء شيئا ؛ بل تفضل الله على ذريتهم ورفعهم إلى درجات الآباء وهذا من من الله وفضل عظيم

🔸 حكم الأتباع الأشقياء
وأما الأشقياء وهؤلاء إما تابعون او متبوعون في الضلال ؛ إما أن يكون ضالا داعيا إلى ضلاله فيفتري على الله ورسوله ويكون منشئا للباطل ، أو يكون جاحدا للحق كافرا به متبعا لباطل ..
وقد توعد الله كلا الصنفين بالعذاب الشديد ؛ سواء كان هذا الصنف داعيا إلى الضلالة أو كان جاحدا للحق متبعا لأولئك الدعاة ، أو متبعا للهوى والباطل .
فإنهم يوم القيامة ( يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) ؛ وكل منهم خالد في العذاب لا يخفف عنهم أنهم كانوا أتباعا لا متبوعين ؛ إذ لما قالوا ( ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون )
فليحذر العبد كل الحذر من دعاة الضلالة فإنهم يزينون له الباطل في الدنيا حتى إذا كان يوم القيامة تبرؤوا منهم وكانوا جميعا في العذاب مشتركون .

- وأما من كان من الأشقياء جاحد للحق عابدا للخلق ممن اتخذه هو إلها كمن اتخذ الملائكة آلهة أو اتخذوا أصناما مخلدين صالحين حتى عبدوهم فهؤلاء المتبوعون يتبرؤون منهم يوم القيامة ( قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم ؛ بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) فلا ينفع هؤلاء الأتباع أنهم عبدوا عبادا لله ولا يقربهم هذا إلى الله ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )، بل يتبرأ منهم هؤلاء ، وتتقطع الأسباب ملها بوم القيامة ولا يكون لهم إلا مصيرهم الذي استحقوه ...

🔸الحذر ممن يقطع الطريق على السالك والمهاجر في طريق هجرته سواء كان من رفقاء السوء أو ممن يتبعهم من الأشقياء
وأخيرا فليحذر المهاجر في طريقه من رفيق سوء يقطع عليه طريقه ، أو يثبطه أو شقي يشقى به والعياذ بالله ؛ إذ لا بد أن يكون دائم التذكر أنه لن تنفعه يوم القيامة قرابة ولا ينفعه سبب ولا نسب ، بل في ذلك اليوم ( وتقطعت بهم الأسباب ) وفي هذا اليوم لا ينجو إلا من وصل السبب بينه وبين الله فوحده حبا وخوفا ورجاء وتوكلا وتجرد له طاعة وعلما وعملا وكان هذا حاله ودوامه .
إذ هو السبب الذي ينفع صاحبه يوم القيامة وينجيه من أهواله ؛ وهذا السبب هو حظه من هجرته إلى الله ورسوله وتجريد نفسه لله عملا وحالا .

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13 شعبان 1439هـ/28-04-2018م, 01:18 PM
عقيلة زيان عقيلة زيان غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 700
افتراضي


تلخيص مقاصد الرسالة التبوكية لابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى وغفر له-





المقصد الكلي الرسالة التبوكية


نصيحة للإخوان وطلبة العلم في بيان معالم الطريق الموصل إلى الله ورسوله



المقاصد الفرعية
1- المقصد الأول واجب العبد فيما بينه وبين الناس وواجب العبد فيما بينه وبين ربه
2-المقصد الثاني الهجرة إلى الله ورسوله حكمها ومقتضياتها .
3 المقصد الثالث زاد السافر والمهاجر إلى الله ورسوله وطريقه ومركبه .
4المقصد الرابع رفقاء المهاجر إلى الله وعلاقته بعامة الناس
5- المقصد الخامس الغرض من تأليف الرسالة و بيان أهميتها و الاعتذار للإخوان.

المسائل


-المقصد الأول
الأول واجب العبد فيما بينه وبين الناس وواجب العبد فيما بينه وبين ربه
1--الآية أصل في اشتمالها على جميع مصالح العباد ومعاشهم
2 - واجب العبد فيما بينه وبين الناس .
-1 حقيقة البر والتقوى والفرق يبنهما
-حقيقة البر
-حقيقة التقوى
-معنى البر والتقوى حالة اجتماعهما
-مقصد الشارع بالأمر بالتعاون على البر والتقوى
- مفاسد الجهل بحقائق الألفاظ الشرعية


2-حقيقة الإثم والعدوان و الفرق بينهما
-الجمع بين النهي عن تعد الحدود والنهي عن قربان الحدود
3- واجب العبد فيما بينه وبين ربه.
4-ما يتم به تحقيق حق الله و حق العباد


-المقصد الثاني الهجرة إلى الله وإلى الرسولحكمها ومقتضياتها
1-الهجرة إلى الله
1-أنواع الهجرة والعلاقة بينها
2-معنى الهجرة إلى الله
3-حقيقة الهجرة إلى الله هو الفرار إليه وتحقيق توحيده
4-الهجرة تقتض تحقيق توحيد الربوبية وإثبات القدر
5-معنى الفرار من الله إليه
6-ما يقتضيه الفرار من الله إليه
7-الهجرة مبناها على أصلين.
8-الهجرة لا تنفك على العبد ملازمة لها حتى الموت
9-سبب قوة الهجرة وضعفها
10-الهجرة العارضة والهجرة الدائمة
11- العلم بحدود الله هو العلم النافع


2- الهجرة إلى رسوله
-1 غربة المهاجرين إليها
2- حد الهجرة إلى الرسول
3-حكم الهجرة إلى الرسول

4- مقتضيات الهجرة إلى الله والرسول

--الهجرة إلى الله والرسول هما مضمون تحقيق الشهادتين
-- الهجرة إلى الله والرسول تقتضى التحاكم إلى الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم
--الهجرة تقتضي نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته و موالاته
---الهجرة تقتضي أن لا يقابل شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض و الرد
- الهجرة الرسول تقتضى وتوجب طاعة الرسول.
- الهجرة تقضى حصول الهداية وحلولها وتركها يقتضى حلول الضلال
5-طاعة الرسول سبب السعادة في الدنيا الآخر و مخالفته سبب الخذلان في الدنيا والآخرة
***
6- أصناف الناس اتجاه الهجرة إلى الله والرسول من حيث القبول و الرد
-
-صنف الأشقياء
* أتباع ومتبوعين مشتركون في الضلالة :
*الصنف الثاني من الأشقياء الأتباع المخالفون لمتبوعيهم
-صنف السعداء
*-أتباع لهم حكم استقلالا..
-النوع الثاني من السعداء.

7-دليل انقسام الناس باعتبار قبولهم الهدى ورده قسمين شقي وسعيد


المقصد الثالث زاد المسافر والمهاجر إلى الله ورسوله وطريقه ومركبه
1-زاد المسافر إلى الله
2-طريقه
3-مركبه
4--التفكر والتدبر في آيات الله سبيل استقامة سير المهاجر

5-طريقة التفكر و التدبر في آيات الله


المقصد الرابع رفقاء المهاجر إلى الله وعلاقته بعامة الناس
1طلب الرفيق في السفر ومواصلة السير ولو وحيدا غريبا
2الرفيق في السفر هو من يحيا القلب بمصاحبته
3علاقة المسافر مع عامة الناس
4-جماع الأمر معاملة الله وحده والانقطاع إليه بكليته

مقصد الخامس الغرض من تأليف الرسالة و بيان أهميتها و الاعتذار للإخوان

1-أهمية الرسالة وسبب تأليفها
2-اعتذار إلى الإخوان


التلخيص:




المقصد الأول
الأول واجب العبد فيما بينه وبين الناس وواجب العبد فيما بينه وبين ربه
1-الآية أصل في اشتمالها على جميع مصالح العباد ومعاشهم
قال تعالى:{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
اشتملت الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم وفيما بينهم و بين ربهم...العبد له علاقة فيما بينهم وبين ربه وعلاقة فيما بينهم وبين الناس فهو لا ينفك بين واجبين واجب بينه وبين ربه وواجب بينه وبين الخلق
فأما ما بينه وبين ربه لابد أن يقوم بحق الله بفعل الواجب وترك المحرم؛وأما ما بينه وبين الخلق لابد أن يكون هناك معاشرة ومعاونة و صحبة قائمة على مرضاة الله
فالآية جامعة لبيان حق الله تعالى وحق العباد


1-واجب العبد فيما بينه وبين الناس .
العبد بطبعه التي خلق فيها لا ينفك من مخالطة الناس و البشر .
وهذه المخالطة لابد لها من ضابط يضبطها ؛ويصحح مسلكها حتى تدوم العلاقة بين الناس وتستمر وقد جاء في كتاب الله ما يبن ذلك ويوضح قال تعالى: " وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"
الآية بينت أن مبدأ مخالطة الناس فيما بينهم هو إقامة وتحقيق مراضي الله وهو مبني على أمرين :
التعاون على البر والتقوى علم وعملا .
-والنهى عن التعاون على الإثم والعدوان
-حقيقة البر والتقوى والفرق يبنهما
"البرّ والتقوى" جماع الدين كله، وهما من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت و إذا افترقت اجتمعت مثل لفظ الإيمان والإسلام و الفقير و المسكين..فعلاقة بينهما إما علاقة تلازم أو علاقة تضمن.
.وعلاقة التضمن أقرب. ففي حالة افتراقهما البر جزء مسمى التقوى ؛و التقوى جزء مسمى البر
-حقيقة البر
البر: الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه؛ فهو كلمة جامعة لأنواع الخير ...وهو عكس الإثم التي هي كلمة جامعة لأنواع الشرور والعيوب التي يذم عليها العبد.
.فيدخل في البر الإيمان و أجزاؤه الظاهرة والباطنة و لا شك أن التقوى جزء من هذا المعنى وقد جمع الله خصال البر في قوله تعالى : {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون (177)}.
صدر الآية نصت على خصال البر؛ فهو يشمل جميع أقسام الدين: حقائقه وشرائعه، والأعمال المتعلقة بالجوارح وبالقلب، وأصول الإيمان الخمس.ثم في ختامها بينت أن الذين يقومون بهذه الخصال هو المتقون فدل ذلك أن التقوى جزء من معنى البر
-حقيقة التقوى
وأما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا
-وأحسن ما قيل في حد التقوى ما قاله طلق بن حبيب "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله".
كلام طلق بن حبيب فيه إشارة إلى قاعدة مهمة وهي أنه لا بد لكل عمل لابد له من مبدأ و نهاية. فالمبدأ باعث العمل..والنهاية الهدف من العمل. فالمبدأ محض الإيمان، وغايته ثواب الله تعالى، وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب.وهما أصلان قد دلت عليهما نصوص الشريعة وكثيرا ما تقرن بينهما
كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان إيمانا واحتسابًا" و"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا".
فقوله: "على نور من الله" إشارة الإيمان الذي هو مصدر العمل.

وقوله: "ترجو ثواب الله" إشارة إلى الاحتساب، وهو الغاية التي لأجلها يوقع العمل، ولها يقصد به.

ولا ريب أن هذا جامع لجميع أصول الإيمان وفروعه، وأن البرّ داخل في هذا المسمى.

-معنى البر والتقوى حالة اجتماعهما
أما إذا اقترن " البر والتقوى "كقوله تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى} فهما يفترقان في المعنى ؛.فلكل لفظ منها له معنى وحقيقة .
فحقيقة البر هو العمل المطلوب لذاته
وحقيقة التقوى هي الوسيلة الموصلة إليه

ومما يدل على ذلك أن لفظ التقوى من{ وقي؛ يقي ؛وقاية}
والوقاية هي الحماية و الصيانة وهو أن يجعل العبد شيئا يحميه مما يريد أن يتجنبه...
فالفرق بينهما فرق بين السّبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها؛فالمتّقي يجعل بينه وبين النار وقاية بالقيام بأمر الله واجتناب نهيه
فالوقاية من باب دفع الضرر، والبرّ من باب تحصيل النفع، فالتقوى كالحمية، والبرّ كالعافية والصحة.
-مقصد الشارع بالأمر بالتعاون على البر والتقوى
أمر الله عزوجل بالتعاون على البر والتقوى لأن المقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى؛ فيعين كلّ واحد صاحبه على ذلك علما وعملا. فإنّ العبد وحده لا يستقلّ بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه، فاقتضت حكمة الربّ سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائما بعضه ببعض، معينًا بعضه لبعض.
- مفاسد الجهل بحقائق الألفاظ الشرعية
مما يجب الاهتمام به فهم حقائق الألفاظ الشرعية لأن ذلك يزيل كثيرا من الإشكال التي أشكلت على طوائف كثيرة من الناس؛ وعدم الإحاطة بها سبب منشأ كثير من الاختلاف بين أهل العلم؛ وهو يورث خطا وخلطا كبيرا في فهم حدود ما أنزل الله على رسوله؛ وخلطا في إنزال أحكام كل اسم منزلتها
فعدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين
إحداهما: أن يدخل في مسمّى اللفظ ما ليس منه؛ فيحكم له بحكم المراد من اللفظ؛ فيسوّى بين ما فرق الله بينهما.
والثانية: أن يخرج من مسمّاه بعض أفراده الداخلة تحته؛ فيسلب عنه حكمه؛ فيفرّق بين ما جمع الله بينهما.
ومثال ذلك لفظ "الخمر"؛ فإنه اسم شامل لكل مسكر، فلا يجوز إخراج بعض المسكرات منه، وينفى عنها حكمه.و الحكم منطبق على باق الألفاظ كلفظ الميسر و النكاح و الربا الظلم والعدل" و"المعروف والمنكر"،وغيرها فلا يصح إخراج بعض أنواعها منها، كما لا يصح إدخال ما ليس منها.
.

-حقيقة الإثم والعدوان والفرق بينهما
في الآية نهى عن التعاون عل الإثم والعدوان لقوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.
والإثم والعدوان في جانب النهي نظير البرّ والتّقوى في جانب الأمر.
فعليه يكون حد الإثم داخل في حد العدوان لأنه نوع اعتداء؛ ويكون حد العدوان داخل في حد الإثم لأن الذي يقوم بالاعتداء آثم .هذا في حالة افتراقهما أما في حالة اجتماعهما
فالإثم: ما كان حراما لجنسه؛ كالزنى و السرقة وشرب الخمر
والعدوان: ما حرّم الزيادة في قدره، وتعدي ما أباح الله منه...فالتزوج الخامسة اعتداء لأن فيه مجاوزة القدر الذي أباحه الله .
الجمع بين النهي عن تعد الحدود والنهي عن قربان الحدود
-و العدوان هو تعدي حدود الله ؛ وحدود الله هي النهاية الفاصلة بين الحلال والحرام .ولما كان حد شيء قد يدخل في مسمى الشيء و قد لا يدخل في مسمى الشيء بل له حكم مقابله ؛جاءت نصوص الكتاب بالنهي عن تعد لحدود... كما قال تعالى: "{ تلك حدود الله فلا تعتدوها} وبالنهي عن قربانها
كما قال تعالى: "{ تلك حدود الله فلا تقربوها}
فالنهى عن تعديها باعتبار أن حد الشيء داخل في مسماه..وأما على اعتبار أن حد الشيء لا يدخل في مسمى الشيء حقيقته فالنهى يكون عن قربان الحدود.
2-واجب العبد فيما بينه وبين ربه.
والجزء الثاني من علاقة العبد هي علاقته بربه .وضابطها هو تحقيق تقوى الله كما قال تعالى "" واتقوا الله" والتقوى:امتثال الأمر واجتناب النهي طاعة لله وابتغاء مرضاته و الرغبة في ثوابه والخوف من عقابه
3-ما يتم به تحقيق حق الله و حق العباد
ولا يتم تحقيق الواجب الذي بين العبد وربه الذي هو امتثال الأمر طاعة ورغبة فيما عند الله محبة وإخلاصا وعبودية إلا بخلو القلب من النظر إلى الخلق
فأصل تحقيق عبادة الله هو الإخلاص كما قال تعالى :"وما أمروا غلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين" وأعظم ما يفسد الإخلاص النظر إلى الخلق .فكان تجريد القلب من الخلق سبيل تحقيق الواجب الذي بين العبد وربه
-ولا يتم تحقيق الواجب الذي بين العبد و بين الخلق الذي هو المخالطة لهم تعاونا على البر والتّقوى، علما وعملًا..إلا أن يكون العمل يراد به النصيحة والإحسان للخلق فليزم من ذلك تجريد القلب من النظر إلى النفس وقطع أطماعها وشهواتها من حب ظهور وتطلب المدح وغير ذلك
فكلّ خلل يدخل على العبد في أداء هذين الواجبين إنما هو من عدم مراعاة وتحقيق هذين الأصلين علما وعملا.
وهذا هو معنى قول الشيخ عبد القادر الجيلانى -قدّس الله روحه-: "كن مع الحقّ بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس، ومن لم يكن كذلك لم يزل في تخبيط، ولم يزل أمره فرطا".
المقصد الثاني الهجرة إلى الله وإلى الرسولحكمها ومقتضياتها
.-الهجرة إلى الله
أنواع الهجرة والعلاقة بينها
الهجرة نوعان
-الهجرة الأولى :هجرة بالجسم؛ من بلد إلى بلد
-الهجرة الثانية: هجرة بالقلب إلى الله و رسوله وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعةٌ لها. فإذا لم تحصل الهجرة الثانية لن تحصل الهجرة الأولى.
معنى الهجرة إلى الله
الهجرة :معناها ترك شيء والانتقال والارتحال منه إلى شيء آخر
فالهجرة إلى الله مبناها أمرين :"من " و " إلى "..وهذا يقتضى إفراغ القلب من كل ما سوى الله عزوجل و إقباله على الله وحده وهو مطابق لمعنى التوحيد الذي مبناه على "لا إله" و إلا الله" فيهجر العبد وهو بعينه معنى الفرار إلى الله كما قال تعالى :{ ففروا على الله "}
والفرار إلى الله :فرارا من كل ما سواه إلى الله وحده؛ وهذا يقتضى إفراد الله بالطلب والقصد؛ وهو توحيد الألوهية ؛وهو التوحيد المطلوب من العباد الذي اتفقت عليه جميع دعوة الرسل
فالعبد يفر من التوكل على غير الله إلى التوكل عليه، والخوف من غيره إلى الخوف منه وحده، وحب غيره والحب لغيره إلى الحب له وفيه -سبحانه-، ورجاء غيره وابتغاء غير وجهه إلى رجاء فضله وابتغاء وجهه -سبحانه وتعالى-، وهكذا في كل عبادة من العبادات يهجر ما نهى الله عنه إلى ما يحبه -عز وجل- ويرضاه.
التوحيد هو الفرار إلى الله أي فروا من كل ما سوى الله إلى الله.
ومن الفرار إلى الله ؛ الفرار منه إليه؛ فهذا متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كلّ ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفرّ منه العبد، فإنما أوجبته مشيئة الله وحده؛ فإنه ما شاء الله كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته، فإذا فرّ العبد إلى الله فإنما يفرّ من شيء وجد بمشيئة الله وقدره؛ فهو في الحقيقة فارّ من الله إليه.
وهو معنى جاء في الحديث" قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك منك" وقوله: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك"
ما تقتضيه الهجرة إلى الله
توجب انقطاع تعلّق قلبه من غير الله بالكلّية خوفا ورجاء ومحبة؛ فإنه إذا علم أن الذي يفرّ منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده؛ فتضمّن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء، ولو كان ذلك فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجبا لخوفه منه، مثل من يفرّ من مخلوق آخر أقدر منه، فإنه في حال فراره من الأول إلى الآخر خائفا منه حذر أن لا يكون الثاني يعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفر إليه هو الذي قضى وقدر وشاء ما يفرّ منه؛ فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره بوجه.
. فرجع جماع الأمر أن الهجرة "من" و "إلى" تحقيق لتوحيد الله عزوجل وإثبات للقدر.

و المقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجر ما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه .ولهدا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
ولهذا يقرن سبحانه بين الإيمان والهجرة في القرآن في غير موضع؛ لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر

-الهجرة مبناها على أصلين.
أصل الهجرة وأصلها الحبّ والبغض؛ فإن المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما يهاجر إليه أحبّ إليه مما يهاجر منه؛ فيؤثر أحبّ الأمرين إليه على الآخر، لهذا كانت تقوية محبة الله تعالى أمراً أساسياً في حدوث الهجرة، سواء هجرة الجسد أو هجرة القلب.

-الهجرة لا تنفك على العبد فهي ملازمة له حتى الموت
العبد ابتلى بثلاث يصدونه عن الهدى وعن محاب الله ؛ نفسه ؛هواه ؛ شيطانه..وليزال هؤلاء الثلاثة يدعونه إلى غير مرضاة الله..ولزال الإيمان في قلب العبد يدعوه إلى مرضاة ربه.فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفكّ في هجرة حتى الممات)
سبب قوة الهجرة وضعفها
لما كان الدافع إلى الهجرة والمحرك لها المحبة كان معيار وميزان قوتها وضعفها قوة المحبة في القلب وضعفها
فكلما كانت المحبة أقوى كانت الهجرة أقوى أتمّ وأكمل. ؛وإذا ضعفت ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علما، ولا يتحرك بها إرادة..
فظهر أن تفاوت الهجرة بين الناس مرجع إلى تفاوت محبة الله في قلوبهم و تحقيق مراضيه .
الهجرة العارضة والهجرة الدائمة
الهجرة نوعان
- هجرة عارضة.
- وهجرة دائمة.
-الهجرة العارضة هي هجرة الجسد، وسميت عارضة لأنها قد تعرض للعبد وقد لا تعرض له وأيضا تزول بزوال موجبها فهي غير باقية ولا مستمرة
- الهجرة الدائمة : هي هجرة القلب إلى الله. وهي الهجرة الواجبة الثابتة الملازمة للعبد لا تنفك عنه حتى الممات لهذا وسمت بكونها دائمة.
العلم بحدود الله هو العلم النافع
فـابن القيم -رحمه الله- يتعجب من بعض من بعض أهل العلم الذين يركزون على الهجرة العارضة، وهي هجرة الجسد، ويذكرون الفروع والأحكام المتعلقة بها، ويوسعون فيها المسائل، وربما لن تمر على بعض الناس مطلقاً ولا مرة واحدة، في الوقت الذي يفوتون ويغفلون الكلام عن الهجرة الدائمة الواجبة على مدى الأنفاس، وهي هجرة القلب.
فهذا يكون قد فوت عليه وعلى الناس ما ينفعه و ينجيهم من عذاب لله وأشغلهم بما لا نفع فيه وما كان مؤدى ذلك إلا الجهل أو ضعف المعرفة بمراتب العلوم والأعمال


2- الهجرة إلى رسوله
-غربة السالكين فيها
توجع المصنف لقلة السالكين والسائرين في طريق الهجرة إلى الرسول ؛حتى أضحى ذلك غريبا نسيا منسيا لقلة السائرين فيه..والسالك فيه غريب بين العباد ؛ فريد بين كل حي وناد؛ لأن شانها شديد لا يصبر عليها إلا المحب؛ المخلص الصادق في حبه
- حد الهجرة إلى الرسول
الهجرة إلى الرسول هجرة إلى سنته، وإلى حديثه، وإلى طريقته في كل مسألة تعرض للعبد؛ سواء كانت في العبادات أو المعاملات ؛لابد من عرضها على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكل مسألة لا توافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو كل عمل خالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكل منهج خالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم فيجب تركه والاكتفاء بما كان عليه الرسول
لهذا قال فحدّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثةٍ من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلّا وحيٌ يوحى }
- حكم الهجرة إلى الرسول
الهجرة إلى الرسول واجبة على كل مسلم وهي من مقتضيات تحقيق شهادة "وأن محمدا رسول الله "كما أن الهجرة "إلى الله " مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.

والعبد مطالب بهاتين الهجرتين في الدور الثلاثة الدنيا؛البرزخ ؛ يوم القيامة وعليها يسأل كما قال قتادة "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ ".
فالأولى: متعلقة بمبعث العمل وغايته، أشهد أن لا إله إلا الله، إيمان بالله، واحتساب لما عند الله.
والثانية: متعلقة بكيفية العمل، وهي مرتبطة بشهادة أن محمداً رسول الله، هل تابعت سنته وطريقته في العمل .
- مقتضيات الهجرة إلى الله والرسول
-الهجرة إلى الله والرسول هما مقتضى تحقيق الشهادتين
الهجرة إلى الله و الهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم انطوتا على تحقيق الشاهدتين ل"لا إله إلا الله " " وأن محمدا رسول الله"
وهما لا تنفكان بل ملازمان
فلا إيمان للعبد إذا لم يقبل شهادة أن محمدا رسول الله ..وبقدر زيادة إيمان العبد وهجرته إلى الله بقدر زيادة هجرته إلى الرسول و إتباعه و طاعته ومحبته و وقبول شريعته و وتقديمه منهجه و تحكيمه في كل شؤونه.
ولا يحق الإعراض عنه وتركه .
-الهجرة إلى الله والرسول تقتضى التحاكم إلى الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم
كما قال تعالى :{ : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
الله عزوجل في الآية نفى الإيمان عن لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحصل من خصومات وشجار بين العباد
فالآية انطوت على عدة مؤكدات لبيان وجوب التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته .
أولاً: صدّرها بالنفي "{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}وهذا أسلوب معروف عند العرب، .قال الشاعر:
فلا والله لا يلقى لما بي ولا لما بهم أبداً دواء
تصدير القسم بالنفي إيذانا بتضمّن المقسم عليه للنّفي؛ وهو يقتضي تقوية المقسم عليه وتأكيده وشدة انتفائه.
ثانياً: تأكيده ب القسم نفسه { فَلا وَرَبِّكَ } الواو
ثالثاً: التأكيد بالمقسم به، فإنه أقسم هنا بالرب سبحانه وتعالى، والله يُقسم بالمخلوقات ويُقسم بنفسه سبحانه، فهنا أقسم بنفسه.
رابعاً: أكده بنفي الحرج والتسليم : { ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً [النساء:65] بعض الناس يسمع حكم الله ورسوله لكنه يتحرج منه،نفسه حزازة، بل يتمنى أن الحكم ما كان، لأنه فوت عليه أشياء.
خامساً: تأكيد الفعل بالمصدر، قال سبحانه وتعالى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فكأنه قال: (ويسلموا) مرتين، لأجل ألا يكون هناك أي نوع من أنواع الاعتراض، ويكون هناك كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم.
والمقصود أن الهجرة إلى الرسول لما كانت هي مضمون شهادة أن محمدا رسول الله وهذه الشهادة تقتضي تحكميه في كل الخصومات وإتباع أمره واجتناب نهيه كانت الهجرة إلى الرسول تقتضي التحكيم والطاعة و الإتباع ...
-الهجرة تقتضي نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته و موالاته
قال تعالى: {النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛}


الآية علقت تحق ولاية النبي صلى الله عليه وسلم في العبد ومحبته ونصرته بالإيمان
وهذا دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين
وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:
منها: أن يكون الرسول أحبّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب. فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
ومنها :ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة، من الرضى بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على كل من سواه.
ومنها: أن لا يكون للعبد حكمٌ على نفسه أصلًا، بل الحكم على نفسه للرسول، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده، والوالد على ولده؛ فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها...
-بما تثبت الأولوية وما يناقض تحقيقها
لا تثبت الأولوية لله والرسول إلا بالإيمان.. كما قال {النبي أولى بالمؤمنين} فعلق الحكم بوصف الإيمان
وهو الإيمان بالله وبمحمد نبيا رسولا مبعوثا مبلغا عن رب العالمين وهو يوجب
قبول بكل ما جاء به ورد كل من سواه ؛ فلا سبيل إلى ثبوت هذه الأولوية إلّا بعزل كل ما سواه، وتوليته في كل شيء، وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به؛ فإن شهد له بالصحة قبله، وإن شهد له بالبطلان ردّه، وإن لم تتبين شهادته له بصحةٍ ولا بطلانٍ جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقفه حتى يتبيّن أي الأمرين أولى به؟
فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة، واستقام له علمه وعمله، وأقبلت وجوه الحقّ إليه من كلّ جهة.
ومما يناقض تحقيق هذا الأولوية الإعراض عنه..فكل من كان سعيه واجتهاده الانشغال بأقوال غير النبي صلى الله عليه وسلم وتقريرها و اعتقادها وتقديمها على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ؛و تحكيم غير شرع النبي صلى الله عليه وسلم والتحاكم إليه والرضا به ؛ ومن زعم أن الهدى لا يتلقى من مشكاته بل من دلالات العقول وأقوال الرجال .
أو اعتقد أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيد اليقين ولا يوجب الانقياد والخضوع فهو إن ادعى محبة النبي والأولوية له فهو كاذب في ذلك .


-الهجرة تقتضي أن لا يقابل شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض و الرد

قال تعالى:{ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا }
اشتملت الآية على حكمين عظيمين وهما هما القيام بالقسط والشهادة لله على الأولياء والأعداء؛ على كل أحد حتى على النفس.؛ثم بينت الآية أن سبب عدم امتثال وتطبيق الحكم هو الهوى كما قال"{ فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا }؛ أي فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا.
ثم ذكرت الآية سببان موجبان لكتمان الحق وتركه وهما
، فأول ما يحاول أصحاب الباطل أن يلووا الأمور، ويحرفونها، فإذا ما استطاعوا أعرضوا عنها.
اللي: هو التحريف، فقد يكون في الألفاظ، إما بزيادة أو نقصان أو تبديل وقد يكون في المعنى
واللّيّ مثل الفتل، وهو التحريف. وهو نوعان: ليٌّ في اللفظ، وليٌّ في المعنى. و هو تأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم به.فيقول: المقصود بكذا كذا، غير ما قصده الله وما أراده سبحانه وتعالى
والإعراض : هو ترك الدليل تماما والإعراض عنه
ولما كان الشاهد مطالبًا بأداء الشهادة على وجهها، فلا يكتمها ولا يغيّرها، كان الإعراض نظير الكتمان، واللّيّ نظير تغييرها وتبديلها.

- الهجرة الرسول تقتضى وتوجب طاعة الرسول.
- حكى الشافعي - رضي الله عنه - إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أنّ من استبانت له سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
ولا يستريب أحدٌ من أئمة الإسلام في صحّة ما قال الشافعي - رضي الله عنه -. فإن الحجّة الواجب إتباعها على الخلق كافّةً إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الإتباع لا واجبة الإتباع، فضلًا عن أن تعارض بها النصوص، وتقدّم عليها، عياذًا بالله من الخذلان.

قال تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم
فدلّ هذا على أنه إذا ثبت لله ولرسوله في كل مسألة من المسائل حكمٌ طلبيٌّ أو خبريٌّ، فإنه ليس لأحد أن يتخيّر لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلًا، فدلّ على أن ذلك منافٍ للإيمان.
وقال تعالى: {قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرّسول إلّا البلاغ المبين (54)
فأخبر سبحانه أن الهداية إنما هي في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلّق بالشرط؛ فينتفي بانتفائه. فالآية نصٌّ على انتفاء الهداية عند عدم طاعته.
فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم.
إذا توليتم عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما عليه ما حمل، ..والذي حمل التبليغ، وعلينا ما حملنا وهو التنفيذ والعمل، فالرسول صلى الله عليه وسلم غير مكلف بتنفيذنا نحن، إنما هو مكلف بالتبليغ فقط.
وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا}.
فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله. وافتتح الآية بندائهم باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا وخوطبوا به،
ثم قال: {أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول}؛ ففرق بين طاعته وطاعة رسوله في الفعل، ولم يسلّط الفعل الأول عليها، للدلالة على أن طاعة الرسول أمر واجب مستقل بذاته وإن كان ما أمر به ليس موجودا في القران .
و لم يعد الفعل في قوله "و أولى الأمر منكم" للدلالة أن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله وطاعة الرسول فليس لهم طاعة مفردة مستقلة
قوله تعالى: {فردّوه إلى اللّه والرّسول}،و الردّ إلى القرآن ردٌّ إلى الله والرسول،
والردّ إلى السنة ردٌّ إلى الله والرسول، فما يحكم به الله هو بعينه حكم رسوله, وما يحكم به الرسول هو بعينه حكم الله.
فإذا رددتم إلى الله ما تنازعتم فيه، يعني إلى كتابه؛ فقد رددتموه إلى الله ورسوله، وكذلك إذا رددتموه إلى رسوله فقد رددتموه إلى الله والرسول، وهذا من أسرار القرآن.
وقد اتفق السّلف والخلف على أن الردّ إلى الله هو الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله هو الردّ إليه في حياته والردّ إلى سنّته بعد وفاته
" أولي الأمر" في المراد بهم قولان:
أحداهما: أنهم العلماء.
والثاني: أنهم الأمراء.
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية. والصحيح: أنها متناولة للصنفين جميعًا؛ فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله.
فالعلماء ولاته حفظًا، وبيانًا، وبلاغًا، وذبًّا عنه، وردًّا على من ألحد فيه وزاغ عنه، وقد وكّلهم الله بذلك
والأمراء ولاته قيامًا، ورعايةً، وجهادًا، وإلزامًا للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه.
وهذان الصنفان هم الناس، وسائر النوع الإنساني تبعٌ لهم ورعيةٌ.
ثم قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}.
وهذا دليل قاطعٌ على أنه يجب ردّ موارد النّزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كلّه إلى الله ورسوله، لا إلى أحدٍ غير الله ورسوله، فمن أحال الردّ على غيرهما فقد ضادّ أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية. فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يردّ كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله.
ومن حكّم غير الله ورسوله في موارد النزاع كان خارجًا عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.
ثم قال تعالى: {ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا }؛ أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر، وردّ ما تنازعتم فيه إليّ وإلى رسولي، خيرٌ لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خيرٌ لكم وأحسن عاقبةً.


- الهجرة تقضى حصول الهداية وحلولها وتركها يقتضى حلول الضلال
قال تعالى :
-: {قل إن ضللت فإنّما أضلّ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربّي إنّه سميعٌ قريبٌ}
فهذا نص صريح في أن هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حصل بالوحي.
فكل من ادعى الهداية في غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضال لأنه ليس هناك إلا حق و باطل ؛ فمن جانب الحق وقع في الباطل
والحق فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ولا أحد أعظم ضلال ممن زعم أن الهداية لا تحصل بالوحي
قال تعالى: {المص كتابٌ أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكّرون }
فأمر سبحانه بإتباع ما أنزل على رسوله، ونهى عن إتباع غيره، فليس هناك إلا إتباع المنزل أو إتباع أولياء من دونه.فليس هناك برزخ بينهما ؛ فكل من لم يتّبع الوحي فقد اتبع الباطل .


- طاعة الرسول سبب السعادة في الدنيا الآخر و مخالفته سبب الخذلان في الدنيا والآخرة
والمقصود من ذكر الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول أن طاعة الرسوله، سبب السعادة عاجلًا وآجلًا.و هو الحصن الذي من دخله كان آمنا.
فلا نجاة للعبد ولا سعادة إلا باجتهاده في معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمًا، والقيام به عملًا؛ فإن كمّل نفسه بقي عليه إكمال غيره..فيلزمه أمران
الأول: دعوة الخلق إلى هذا الحق.
الثاني: الصبر على ما تلقاه.
فصار عندنا علم وعمل ودعوة وصبر.
هذه أربعة مراتب إذا عملها الإنسان تكمل بها سعادة العبد وفلاحه.
و مخالفة الرسول سبب حصول كل شرٍّ في العالم؛ من المصائب والغم والحزن وكذا مخالفة الرسول سبب وقوع شرور الآخرة وآلامها وعذابها


-أصناف الناس اتجاه الهجرة إلى الله والرسول من حيث القبول و الرد
انقسم الناس باعتبار قبولهم الهجرة إلى الله والرسول إلى صنفين
السعداء هم الذين قبلوا هذه الهجرة وساروا فيها ؛ فكان لهم الفوز في الدنيا و الآخرة و السعداء الأبدية
الأشقياء وهم الذين لم يقلبوا الهجرة إلى الله والرسول فلم يرفعوا بها رأسا فكان جزاءهم الخذلان والشقاء والعذاب الدائم المقيم
صنف الأشقياء
هؤلاء الصنف من الناس لم يقبلوا بالهجرة إلى الله ورسوله ولم يقبلوا الهدى الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم و لم ترضى نفوسهم بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم بل وطلبوا الهداية و المحبة والنصرة والمولاة في الأولياء والأنداد و الشركاء
وهم قسمان: أتباع ومتبوعين مشتركون في الضلالة ؛ وأتباع مخالفون لمتبوعيهم
-أتباع ومتبوعين مشتركون في الضلالة :
أتباع اتخذوا متبوعيهم أولياء ينصرونهم و يحبونهم ويعادون لأجلهم؛ ويبغضون لأجلهم ؛وجعلوا الهداية فيما أمروا يهم ونهوا عنه.و الحال أنهم جميعا قد اشتركوا في الضلال و الغي؛ فكان مصيرهم يوم القيامة أنهم في العذاب مشتركون ؛ و انقلبت مودتهم بغضا وكراهة؛ وصارت نصرتهم وموالاتهم عداوة وخذلان.فيكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا
كما قال تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين }
وقال تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
فالآية دليل أن الجميع الأتباع والمتبوعين في العذاب مشتركون ؛و لكل ضعف من الأتباع والمتبوعين بحسب ضلالة وكفره.
بل يتمنى الواحد منهم أن يرجع إلى الدنيا حتى يحقق الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيتبعه ويطيعه و يتخذه وليا ناصرا محبا.
-كقوله تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه ، يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخد فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني . وكان الشيطان للإنسان خذولا } فكل من اتخذ غير الرسول ، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فانه قائل هذه المقالة لا محالة .
وكقوله تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول . وقالوا ربنا أنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا }
تمنى القوم طاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم ذلك واعتذروا بأنهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم واعترفوا بأنهم لا عذر لهم في ذلك ، وانهم أطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول ، وآلت تلك الطاعة والموالاة إلى قولهم : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا }
. فهذا حال الخليلين المتخالين على خلاف طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم

- الصنف الثاني من الأشقياء الأتباع المخالفون لمتبوعيهم

المتبوعين على هدى والتابعين لهم يزعمون أنهم متبعون لطريقتهم وهم على منهجهم..وهم في الحقيقة مخالفون لهم ؛سالكون غير طريقتهم..فيوم القيامة يتبرأ المتبوعين من تابعيهم و تنقطع بينهم الوصلة والمودة والموالاة وجميع تلك الأسباب ،لأنهم اتخذوا أولياء من دون الله يحبونهم فظنوا أنها تنفعهم يوم القيامة من دون الله شيء فكان الجزاء نقيض قصدهم ومرادهم كما قال تعالى "{{ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا . كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار }
أبطل الله عز وجل ذلك العمل كله وقطع جميع الأسباب التي كانت بينهم يظنون أنها تنفعهم

-المقصود أن كل من اتخذ من دون الله ورسوله وليجة وأولياء ، يوالي لهم ويعادي لهم ، ويرضى لهم ويغضب لهم ويحبهم وينصرهم فإن أعماله كلها باطلة يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه ، فكل الأسباب زو الوصلات زائلة ..

ولا يبقى إلا السبب والوصلة التي بين العبد وبين الله فقط وهو سبب العبودية المحضة التي لا وجود لها ولا تحقيق إلا بتجريد متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم وقد قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءاً منثورا } ، فهذه هي أعماله التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه يجعلها الله هباءاً منثورا . ولا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلاً ، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة : أن يرى سعيه كله ضائعاً لم ينتفع منه بشيء وهو أحوج ما كان العامل إلى عمله ، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم .


صنف السعداء

وهم صنف سعدوا في الدنيا والآخرة لقبولهم الهجرة إلى الله والى الرسول فقاموا بحقها و والتزموا يمقتضياتها
وهم صنفان

-أتباع لهم حكم استقلالا..
وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } .
هؤلاء الذين رضي الله عنهم و رضوا عنه ؛ وهم السعداء نالتهم السعادة الأبدية فلا شقاق بعدها ولا تعاسة.

وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكل من جاء بعدهم ولم يرهم ولم يحلقوا بهم في الفضل و الرتبة . كما قال في الآية الأخر:{ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } . فلا يختص ذلك بقرن معين بل يدخل فيهم كل من جاء بعدهم إلى لا يوم القيامة يدخلون في سلك السعداء بشرط الإتيان بالوصف المقبول والشرط المطلوب وهو الإتباع والإحسان

فهي تبعية مصاحبة الإحسان؛ فصار الإحسان والمتابعة شرط في حصول رضاء الله عنهم وجناته.

وهذا الإتباع الذي يستلزم حسن الأخذ، وحسن التلقي، وحسن التطبيق، مبني على تشرب السنة، وأخذ العلم.
-النوع الثاني من السعداء.
وأما النوع الثاني من السعداء ؛ فهم أتباع المؤمنين من ذريتهم الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا ، وإنما هم مع آبائهم تبع لهم ، فهؤلاء لم يكن لهم الحكم استقلالا بل هم تبعا لمن هم مؤمنين أي آباءهم
قال الله تعالى فيهم : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } .

أخبر سبحانه انه الحق الذرية بآبائهم في الجنة كما اتبعهم إياهم في الإيمان.

وعندما يلحق الولد المؤمن بأبيه المؤمن في الآخرة وفي الجنة، لا يعنى ذلك أن عمل الأب سيوزع على الأب والولد، أي: ينقص عمل الأب لكي يدخل الولد معه الجنة.. لهذا قال تعالى {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ }
وحتى لا يتصور أن الأب إذا كان قد عمل سيئة فسيعاقب عليها الولد -أيضاً- من باب الإتباع والإلحاق، { كل نفس بما كسبت رهينة } ؛ فلذلك الإلحاق في الفضل والثواب وليس في العدل والعقاب، فإن الولد ليس له دخل بسيئة أبيه


-دليل انقسام الناس باعتبار قبولهم الهدى ورده قسمين شقي وسعيد

جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم{ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في الدين فنفعه ما بعثني الله به و مثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به . }


الله سبحانه وتعالى أنزل الوحي من السماء غيثاً للقلوب، والغيث كما أنه يحيي الأرض، فكذلك يحيي الله القلوب بالوحي، والأراضي أنواع:

1- أرض طيبة تأخذ الماء فارتوت ثم أنبتت من كل زوج بهيج.

2- وأرض صلبة أجادب؛ تأخذ الماء وتحفظه ولا تنبت شيئاً، لكن الماء لا يضيع. فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع ،

1- وأرض قيعان؛ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، إنما هي قيعان. لم تنتفع منه شيئا


وكذلك القلوب في قبولها للهدى و العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ورده

فهناك قلوب إذا سمع الأدلة وكلام الله وكلام رسوله أنبتت الثمار، ونفع الله بها، وانتفع الخلق، فقهت العلم تعلمت وعلمت الناس
-وهناك قلوب تسمع النصوص وتحفظها.. صالحة في نفسها، لكن لا تستطيع أن تستنبط من النصوص ولا تُعلِّم، فليس لها إلا أن تنقل هذا العلم لغيرها حتى يستفيد منه، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه).
ومثل هاتين الدرجتين كالتاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات، فهذا يشغل المال ويكسب منه ويثمر، وآخر يحفظ المال، لكنه لا يستطيع أن ينميه.

وهناك الطائفة الأخرى: وهى القلوب لا تقبل العلم ولا تفقه شيئا لا فقه دراية لا رواية التي لا تمسك شيئاً ولا تنبت شيئاً، فلا فائدة للغير ولا فائدة لنفسها.

فالأول : عالم معلم وداع إلى الله على بصيرة فهذا من ورثة الرسل .
والثاني : حافظ مؤد لما سمعه فهذا يحمل لغيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر .
والثالث : لا هذا ولا هذا فهو الذي لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأساً .

فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم منها قسمان قسم سعيد وقسم شقي .


المقصد الثالث زاد المسافر والمهاجر إلى الله ورسوله وطريقه ومركبه.

- زاد الهاجر
العلم الموروث من خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ولا زاد له سواه فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته وليقعد مع الخالفين .

و لابد للسير والهجرة من رفقاء لهذا يجب على المهاجر أن يتخير من الرفقاء الطيبين الصالحين الذين يعينونه على الوصول إلى هدفه لا الذين يقطعون عنه الطريق.



والذي يتخذ رفقاء قرناء السوء يحملونه على المنكر والمعاصي فإنه سيتضرر بهم في الدنيا ويوم القيامة عندما يكون معهم في العقاب، فلن ينفعهم اشتراك بعضهم مع بعض في العقاب، كما كانوا يفعلون ذلك كما قال الله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}؛ ليس حال الآخرة مثل حال الدنيا ؛ ففي الأخرة إذا حصلت مصيبة على الجميع فكل واحد يخف عنه الألم لما يجده من مصاب الآخرين، فهذه الخنساء عندما قتل أخوها صخر ، عزت نفسها بأن كثيراً من النساء قد قتل أزواجهن أو أولادهن، فقالت:

ولولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن * أسلي النفس عنه بالتأسي

طريقه :
بذل الجهد واستفراغ الوسع ، فلا يُنال بالمني ، ولن يدرك بالهوينا.
وهو مبناه على أمرين:
- أحدهما : أن لا يصبو في الحق إلى لوم لائم فإن اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه ويجعله صريعا في الأرض .
-والثاني : أن تهون عليه نفسه في الله ، فيقدم حينئذ ولا يخاف الأهوال فمتى خافت النفس تأخرت و أحجمت وأخلدت إلى الأرض .

ولا يتم له هذان الأمران إلا بالصبر ، فمن صبر قليلاً صارت تلك الأهوال ريحا رخاء في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه ، فبينما هو يخاف منها إذ صارت أعظم أعوانه وخدمه ، وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه .

-أما مركبه
فصدق اللجأ إلى الله وانقطاع إليه بكليته وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه والضراعة إليه وصدق التوكل و الإستعانة به والانطراح بين يديه.

-التفكر والتدبر في آيات الله سبيل استقامة سير المهاجر

الزاد و المركب الهنيء و السلوك الطريق الصحيح سبب لوصول المسافر إلى بغيته ؛ لكن مع ذلك قد لا يستقيم سيره ولا يثبت على سفره لوجود أي سبب كقطاع الطريق أو فتور النفس
فما الذي يثبت قدم المهاجر إلى الله ورسوله فيستقيمَ سفره ولا ينقطع؟

هو دوام التفكر والتدبر في آيات الله ؛ حتى تستولي على الفكر وتحل محل حديث النفس وخواطر القلب.فإذا صارت كذلك استقام سيره وثبتت قدمه

طريقة التفكر و التدبر في آيات الله

آيات القران؛ إذا قرأها الشخص العادي يفهم شيئاً، وإذا تدبرها صاحب العلم يفهم شيئاً آخر،فيستخرج من الكنوز و الأسرار عجبا
مثال ذلك
قول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ }.


قال: هذه الآيات لو طرحت على الشخص العادي، فسيخرج منها أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة أضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام، والمرأة لما سمعت ضربت وجهها ..

أما العالم المتدبر لكتاب الله فسيخرج منها بأسرار جمة ..
قال الله تعالى : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين }

"هل" هنا بمعنى " قد" التي تفيد التحقيق .

وهو أسلوب مطروق عند العرب أن يستفتح الكلام بما يجلب الاهتمام ؛ مثل ما يفتح الكلام ب"ألا" .لجب سمع المخاطب و ذهنه للمخبر به لأن الخبر عظيم يجب الانتباه له؛ فهو متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفتها ما تضمنته

..وهذا فيه إشارة بديعة إلى أن هذا الخبر لم يأتيك من عند غير الله ؛ من غير الله يأتيك بهذا الخبر ..؟ فإتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة .

ما جاء في الآيات ما يدل على فضل إبراهيم و مدحه و الثناء عليه

-قوله { مكرمين} يدل على الثناء على إبراهيم من جهتين

-لما وصفهم بأنهم مكرمون؛ عرفنا أن إبراهيم قد أكرمهم، فإذاً إبراهيم يُكرم الضيوف وهذه من مناقبه.
ولو كان المقصود بالمكرمين أن الله كرمهم، أي مكرمين من عند الله عزوجل ففيه أيضا تعظي لشان إبراهيم إذ جعل الله ملائكته المكرمين أضيافا لإبراهيم

- قوله : " فقالوا سلاما قال سلام"
هذا أيضا مما يدل على فضل سيدنا إبراهيم و مدح الله له..أنه رد عليهم السلام بأحسن مما حيوه به.
قالوا "سلاماً "جملة فعلية، أي سلمنا عليك سلاماً ؛ وقال هو "سلامٌ "جملة اسمية، أي سلام دائم أو ثابت أو مستقر عليكم؛ والشيء الفعلي يقتضي التجدد والحدوث، والشيء الاسمي يقتضي الثبات والاستقرار، فإذاً: سلامٌ أبلغ؛ لأنها تقتضي الثبات والاستقرار.

-قال { قوم منكرون } وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح . فلم يقل "أنتم منكرون" لم يواجههم بهذا الخطاب
ولم يقل لهم "أنا أنكركم" بل قال "منكرون" وهذا واضح لما فيه من الأدب و الاطافة ..فدل ذلك على لطافة أسلوبه مع ضيفه.

ما جاء في مدح إبراهيم وبيان آداب الضيافة

وقوله { فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال إلا تأكلون }

قوله { فراغ إلى أهله} يدل على الذهاب بسرعة واختفاء ؛ فالسرعة تتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف ، والاختفاء يتضمن ترك تخجيله وألا يعرض للحياء .

قوله { إلى أهله}.فيه تنبيه أن إكرام الضيف معد عنده ؛ لا يحتاج إلى الاستقراض ..وفيه إشارة إلى أن بين إبراهيم بيت الضيفان فهو دائما مستعد لإكرام الضيوف.

وقوله : { فجاء بعجل سمين } يتضمن ثلاثة أنواع من المدح :
أحدها : خدمة ضيفه بنفسه فإنه لم يرسل به وإنما جاء به بنفسه .
الثاني : انه جاءهم بحيوان تام لم يأتهم ببعضه . ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاءوا .
الثالث : انه سمين ليس بهمزول ، وهذا من نفائس الأموال ، ولد البقر السمين فإنهم يعجبون به ، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره .

وقوله { إليهم } متضمن المدح وآداباً أخرى وهو إحضار الطعام إلى بين يدي الضيف ، بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ثم يقيم ضيفه فيورده عليه .

وقوله { ألا تأكلون } فيه مدح وآداب أخر ، فإنه عرض عليهم الأكل بقوله : { ألا تأكلون} وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف بخلاف من يقول : : ضعوا أيديكم في الطعام ، كلوا ، تقدموا ، ونحو هذا .
وقوله : { فأوجس منهم خيفة } لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفاً أن يكون معهم شر ، فإن الضيف إذا أكل من طعام رب المنزل اطمأن إليه وأنس به ، فلما علموا منه ذلك قالوا :{ لا تخف وبشروه بغلام عليم } وهذا الغلام اسحق لا إسماعيل .

-وقوله تعالى : { فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها } فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها ، إذ بادرت إلى الندبة فصكت الوجه عند هذا الإخبار .

- وقوله : { عجوز عقيم } فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة ، فإنها حذفت المبتدأ ولم تقل أنا عجوز عقيم .

وقوله تعالى { قالوا كذلك قال ربك } متضمن لإثبات صفة القول له .

وقوله { إنه هو الحكيم العليم } متضمن لإثبات صفة الحكمة والعلم اللذين هما مصدر الخلق والأمر ، فجميع ما خلقه سبحانه صادر عن علمه وحكمته ، وكذلك أمره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته .
واختصت هذه القصة بذكر هذين الإسمين لاقتضائهما لتعجب النفوس من تولد مولود بين أبوين لا يولد لمثلهما عادة ، وخفاء العلم بسبب هذا الإيلاد وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على غير العادة المعروفة فذكر في الآية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق وغايته وحكمته في وضعه موضعه من غير إخلال بموجب الحكمة .

جميع صفات الكمال مردها إلى العلم والحكمة
والعلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال ، فالعلم يتضمن الحياة و لوازم كمالها من القيومية والقدرة والبقاء والسمع والبصر وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام.
والحكمة تتضمن كمال الإرادة والعدل والرحمة والإحسان والجود والبر ، ووضع الأشياء في مواضعها على أحسن وجوهها ، ويتضمن إرسال وإثبات الثواب والعقاب .


ما يدل على علم من أعلام نبوة وصدق الرسول

ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة الملائكة في إرسالهم لهلاك قوم لوط ، وإرسال الحجارة المسومة عليهم . وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله وإهلاك المكذبين لهم والدلالة على المعاد والثواب والعقاب لوقوعه عياناً في هذا العالم ، وهذا من أعظم الأدلة الدالة على صدق رسله لصحة ما أخبروا به عن ربهم .

الفرق بين الإسلام والإيمان

ثم قال تعالى : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } ففرق بين الإسلام والإيمان هنا لسر اقتضاه الكلام ، فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة فهو ، إخراج نجاة من العذاب و لا ريب إن هذا مختص بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرا وباطناً .

أما من لم يكن من الناجين فقد أوقع اسم الإسلام عليهم لأن امرأة لوط كانت من أهل هذا البيت وهي مسلمة في الظاهر ، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجيين .

بقاء آيات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الآخر . . .

وقوله تعالى : { وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم } فيه دليل على أن آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم وأبقى آثارها دالة عليه وعلى صدق رسله.
لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوف من عذاب الآخرة وهم المؤمنون بها . . .


و إنما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد ويخشى عذاب الله تعالى كما قال الله تعالى في موضع آخر { إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة } ، وقال تعالى : { سيذكر من يخشى }.
فإذا قارنت بين المعنى العام الذي يفهمه الشخص وبين هذه الدقائق التي لا يُتوصل إليها إلا بالتدبر في الآيات؛ بفهم ولتبين معنى تدبر القران


المقصد الرابع رفقاء المهاجر إلى الله وعلاقته بعامة الناس

-طلب الرفيق في السفر ومواصلة السير ولو وحيدا غريبا

المسافر والمهاجر بحاجة على رفيق يؤنسه في سفره ويشد عضده حاله فتوره؛ يتعاون معه على تحقيق الهجرة إلى الله ورسوله؛ يتعاون معه على البر والتقوى ..فمن وجد هذا الرفيق فيعضد عليه بالنواجذ فمثله أندر من الكبريت الأحمر؛ لأن حال أغلب الناس الإعراض و النقض و التأنيب و اللوم ؛ وأفضلهم من سكت عن ذلك وتركك وشأنك ولم يطرح عليك شره؛ فهذا أفضلهم؛ ليت شعري جميع الناس مثله .لقل كثير من الشر في المجتمع
فإذا لم يجد المسافر الرفيق المعين؛ فليسافر لوحد ويثبت على سفره وهجرته فهو دليل صدق المحبة.

الرفيق في السفر هو من يحيا القلب بمصاحبته

الهجرة إلى الله و الرسول تقتضى حياة القلب وصحته ؛ فمن رام البحث عن الرفيق فليبحث عن من يحيا القلب بصحبته ويزيده صحة وسلامة لا من يموت القلب بصحبته؛ فإن لم يجد المهاجر ذاك الرفيق والصاحب من بني جنسه فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في عالم الأحياء
فلقلب يحيا بصحبتهم و ليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات
فمتى صرف همته عن صحبتهم إلى صحبة من أشباحهم مفقودة ، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم موجودة ، استحدث بذلك همة أخرى وعملا آخر .



علاقة المسافر مع عامة الناس

المهاجر إلى الله ورسوله في علاقاته مع عامة الناس له نظران

نظرة بعين الشرع: يأمرهم وينهاهم ويواليهم ويعاديهم ، ويؤدي لهم الحقوق و يستوفيها عليهم .
نظرة بعين القدر:.. يرحمهم ويدعو لهم و يستغفر لهم ، ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر و لا يعود بنقض شرع
كما قال تعالى :{ { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }

فالآية تضمن آداب :حسن المعاشر مع الخلق ؛وأداء لحق الرب جلا وعلا.

- العفو ما عفي من أخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذله من أموالهم و أخلاقهم . .فلقبل المهاجر ذلك منهم.

المعروف: ما تشهد به العقول وتعرف حسنه وهو ما أمر الله به ..فعلي المهاجر أن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

وأما ما يلتقي به أذى جاهلهم فالإعراض عنه وترك الانتقام لنفسه والانتصار لها .
فهذا أدب جم وخلق شريف يحصل من وراءه كمال العبد؛ والقيام بهذه الخصال الثلاثة يندفع الشر بين الناس و يحصل لهم الخير
كيف لا وهو أدب القران الذي أدب الله به عباده؛ فكان المصطفى عليه الصلاة والسلام قد ناله من ذلك النصيب الأوفر ؛ قال تعالى "{وإنك لعل خلق عظيم}
وجاء فى الحديث عن عائشة رضى الله عنها"{ كان خلقه القران}
ومن ظن أن قيامه بهذه الخصال الثلاث يلحقه الشر بها ؛ فيظن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يناله منه شر الناس وأذاهم فيقال له هو شر بحسب ما ظهر لك وإلا في الحقيقة هو خير كما قال تعالى "{ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم"

ولن يقوى العبد على تحقيق هذا الأدب الشريف من إتيان حق الله وحق البعاد إلا بثلاثة أشيئا:

أحدها : أن يكون العود طيباً ، فأما أن كانت الطبيعة جافية غليظة يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علماً وإرادة وعملاً بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فإنها مستعدة إنما تريد الحرث والبذر .
الثاني : أن تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فإن هذه الأمور تنافي الكمال ، فإن لم تقو النفس على قهرها و إلا لم تزل مغلوبة مقهورة .
الثالث : علم شاف بحقائق الأشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم ، والزجاجة والجوهرة .
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى ، وتمت لهم العناية .


-جماع الأمر معاملة الله وحده والانقطاع إليه بكليته

فأول الأمر وآخره:إنما هو معاملة الله وحده، والانقطاع إليه بكلّيّه القلب، ودوام الافتقار إليه، فلو وفّى العبد هذا المقام حقّه لرأى العجب العجيب من فضل ربّه وبرّه ولطفه ودفاعه عنه، والإقبال بقلوب عباده إليه، وإسكان الرّحمة والمحبة له في قلوبهم

ولكن نقول: ربّنا غلب علينا لؤمنا، وجهلنا وظلمنا وإساءتنا من أدلّ شيءٍ منه، فها نحن مقرّون بالتفريط والتقصير، ومن ادّعى منّا عندك وجاهةً فليس إلّا ذليلٌ حقيرٌ، فإن تكلنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضيعةٍ وعجز وذنب وخطيئة؛ فوا حسرتاه ووا أسفاه على رضاك! ولو غضب كل أحدٍ سواك، وعلى إيثار طاعتك ومحبتك على ما سواهما، وعلى صدق المعاملة معك.

وقد كان يغني من كثير من هذا التطويل ثلاث كلماتٍ كان يكتب بها بعض السلف إلى بعض، فلو نقشها العبد في لوح قلبه يقرؤها على عدد الأنفاس لكان ذلك بعض ما يستحقه، وهي: "من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله مؤونة دنياه".
وهذه الكلمات برهانها وجودها، ولمّيّتها إنّيّتها، والتوفيق بيد الله، ولا إله غيره ولا ربّ سواه.

مقصد الخامس :الغرض من تأليف الرسالة و بيان أهميتها و الاعتذار للإخوان

-أهمية الرسالة وسبب تأليفها

بين المصنف أن هذه الرسالة كتبها وجعلها هدية معجلة إلى إخوانه؛ ورفقائه في طلب العلم .؛ وبين أن قصده من تأليفها بيان أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى وسفر الهجرة إلى الله ورسوله .
وحث أصحابه على الإقبال عليها وتفهما لعظم فائدتها ؛وليعدها الواحد منهم أفضل هدية وصلت إليه..

إنما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم .

اعتذار إلى الإخوان

آخر ما ختم به المصنف رسالته اعتذار إلى إخوانه
فقال -رضي الله عنه وأرضاه-: وليعذر الأصحاب في هذه الكلمات؛ فإنها والله نفثة مصدورٍ، وتنفّس محرورٍ.
أقلّب طرفي لا أرى من أحبّه ... وفي الحيّ ممن لا أحبّ كثير

فهو نفس من قد أكل بعضه بعضًا، فهو المبتدأ والخبر، ومنه الغناء ومنه الطرب.
ما في الخيام أخو وجدٍ يطارحه ... حديث ليلى ولا صبٌّ يجاريه

فأحبّ محبّكم مطارحة من بعدت عنده دياره، وشطّ عنه مزاره؛ فهو كما قيل:
يا ثاويًا بين الجوانح والحشا ... [منّي] وإن بعدت عليّ دياره
عطفًا على قلبٍ يحبّك هائمٍ ... إن لم تصله تقطّعت أعشاره
وارحم كئيبًا فيك يقضي نحبه ... أسفًا عليك وما انقضت أوطاره
لا يستفيق من الغرام وكلّما ... نحّوك عنه تهتّكت أستاره

وكلّ ذي شجوٍ يصرف هذا وأمثاله إلى شجوه، وهذا مما يستروح إليه المكروب بعض الاسترواح، وهيهات هيهات إن القلب لن يقرّ له قرارٌ حتى يوضع في موضعه، ويستقرّ في مستقرّه الذي لا مقرّ له سواه، كما قيل:
إذا ما وضعت القلب في غير موضعٍ ... بغير إناءٍ فهو قلبٌ مضيّع

وتحت هذا البيت معنًى شريفٌ جدًّا؛ قد شرحته في كراسةٍ مفردةٍ، والله أعلم.
هذا آخر ما ذكره الشيخ رضي الله عنه وأرضاه في هذا الباب.

والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.






*********
تمت بفضل الله ومنته -ما كنت أخالها تتم لولا فضل الله - -....الحمد لله رب العالمين

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 16 شعبان 1439هـ/1-05-2018م, 04:29 PM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تقويم التطبيق الثاني من دورة أصول القراءة العلمية


نودّ التنبيه على أمر مهمّ وهو التفريق بين أنواع المسائل التي تشتمل عليها أي رسالة أو كتاب، وهي مسائل العماد ومسائل السناد ومسائل الاستطراد.
فمسائل العماد هي لبّ الرسالة، والتي يتأثّر بها مضمون الرسالة وجودة محتواها.
أما مسائل السناد فهي المسائل التي ليست مقصدا للكتاب ولكن يستعان بها على فهم مقاصده ومسائله، فهي شارحة لمسائل الرسالة الأساسية ومبيّنة لها.
فالفرق بين مسائل العماد والسناد هو الفرق بين المقصود لذاته والمقصود لغيره.
أما مسائل الاستطراد فهي لا تتعلّق بالمسائل الأساسيّة ولكن يحصل من ذكرها فوائد، وغيابها لا يؤثّر على محتوى الرسالة ومضمونها، وإن كانت في نفسها مسائل مهمّة.
لذا فإن الطالب أثناء استخلاص المسائل تكون عينه معلّقة دوما بمقاصد الرسالة ليتمكّن من انتقاء المسائل والتمييز بينها، هذا فيما يتعلّق باستخلاص المسائل.

أما ما يتعلّق بالتلخيص، فإننا بعد استخلاص المسائل وتصنيفها وتعيين المقاصد الفرعية للرسالة نبدأ في تلخيص المقاصد، فنذكر المسائل تحت كل مقصد وسناد هذه المسائل، والسناد ليس الأدلّة على المسائل فقط وإنما يشمل كل ما له علاقة بتعزيز مسائل العماد وإيضاحها، فنذكر تحت كل مسألة أدلّتها وحججها في نقاط مختصرة مركّزة، ولا ينبغي للتلخيص أن يكون طويلا محشوّا بالتفصيلات الزائدة والعبارات المكرّرة.


أولا: الرسالة التبوكية.
1: علاء عبد الفتاح د
أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- بالنسبة للمقاصد الفرعيّة الستة التي استخلصتها فإنك لو تأمّلتها تجد أنها ترجع إلى مقصدين:
1: مقدّمة في معنى قوله تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتقوى}، وبيان أن المقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو المعاونة على البرّ والتقوى علما وعملا.
2: بيان معنى الهجرة إلى الله ورسوله وأهميّتها وما ينبغي للمهاجر إلى ربه، وبيان أن المعاونة عليها باليد والقلب واللسان نصيحة وتعليما ومودة من أعظم التعاون على البرّ والتقوى.
- يلاحظ عدم التفريق بين أنواع المسائل أحيانا، فجعلت بعض مسائل السناد والاستطراد مسائل عماد.
فمثلا الآيات كقوله تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم} وقوله: {النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم} ونحوها هي سناد مسألة واجب الهجرة إلى رسول الله وليست مسائل مستقلّة.
- أهمّ ملاحظة على التلخيص أنه طويل جدا -مع ثنائي على اجتهادك في فهم المسائل وتصنيفها-، فالتلخيص يجب أن يكون مركّزا مختصرا، ولكنك أسهبت كثيرا في تفصيل المسائل، حتى إنك استعنت بالأبيات الشعرية ونقلت فقرات كاملة بنصّها وهذا يعارض التلخيص والاختصار، ولعلك تراجع تلخيص مسائل التحفة العراقيّة للفائدة، كما يمكنك إعادة التلخيص وتحسين الدرجة.


2: هناء محمد علي أ+

أحسنت وأجدت بارك الله فيك ونفع بك.
- لما تكلّم ابن القيّم -رحمه الله- عن الأتباع والمتبوعين كان ذلك في معرض ذمّ من لم يتّبع الرسول واتّخذ من دونه خليلا ووليّا ومتبوعا وذلك بعد أن بيّن أن اتّباعه هو واجب الهجرة إليه، وقد بيّن عاقبة الأشقياء منهم وعاقبة السعداء اللذين اتّبعوا وأطاعوا، فهي تابعة لهذه المسألة.
وهذه المسألة -أعني ذمّ من اتّخذ متبوعا ووليّا من دون الرسول- كانت تحتاج منك إلى عناية أكثر، وقد فاتك التعرّض لكثير من أدلّتها -ربما لعدم وضوح المسألة لك- كقوله تعالى: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء} وقوله: {ويوم يعضّ الظالم على يديه} وقوله: {وقالوا ربنا إن أطعنا سادتنا وكبراءنا} الآيات.
- لفت نظري أنك أدخلتِ الكلام عن معاملة المهاجر للخلق ضمن المقصد الأول ولم تتكلّمي عن الهجرة بعد، وكان الأولى تأخيرها لحين الكلام عن رفقة الهجرة.
وقد أحسنتِ تلخيص مقاصد الرسالة -بارك الله فيك- وأوصيك بالمحافظة على ألفاظ الكتاب وعباراته ما لم تعارض التلخيص.


3:
عقيلة زيان ج
أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- المقاصد الفرعيّة يمكن حصرها في عدد أقلّ من ذلك، والمقصد الخامس (غرض تأليف الرسالة) هو المقصد الرئيس للرسالة وليس مقصدا فرعيّا، ويراجع التصحيح رقم 1.
- قلتِ في أول مسألة "الآية أصل في.." ولم تذكري الآية.
- وقد أحسنت استخلاص المسائل -بارك الله فيك-، وأوصيك بمحاكاة صياغة الشيخ -حفظه الله- للمسائل كما في الأمثلة المذكورة في الدرس، فإن الواجب أن تصاغ المسألة بعبارة كاشفة عن مضمونها قدر المستطاع دون إطالة، بحيث يتكوّن لدى القاريء تصوّر جيّد لمحتوى الرسالة من خلال قراءة عناوين هذه المسائل، بل إن هذه الصياغة المركّزة قد تكون كافية في بعض الأحيان في تلخيص المسألة.
- الملاحظة المهمّة على الرسالة والتي أثّرت على تقويمها هي طول التلخيص فهو طويل جدا، والمطلوب وضع نقاط مختصرة تحت كل مسألة، فأذكر الدليل -إن وجد- وتعليقا مختصرا عليها دون تفصيل أو إطناب.
وتأمّلي قولك: "
فـابن القيم -رحمه الله- يتعجب من بعض من بعض أهل العلم الذين يركزون على.."، وقولك:" توجع المصنف لقلة السالكين والسائرين في طريق الهجرة إلى الرسول.." فهذا الكلام لا يناسب التلخيص، فأوصيك ثانية بمراجعة الأمثلة وتأمّل طريقة الشيخ في التلخيص، غير أن "غربة السالكين" يبعد أن تكون مسألة مستقلّة بل تدخل ضمن مسألة بيان أهميّة الهجرة إلى الرسول وبيان أحوال الناس فيها، ومثلها مسألة "اعتذار إلى الأخوان"، وأحبّ أن تعيدي التلخيص ثانية للفائدة ولو في وقت آخر وتحسين درجة التطبيق، وأرجو أن يكون يسيرا لأن مسائله جاهزة.


رزقكم الله العلم النافع والعمل الصالح


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 17 شعبان 1439هـ/2-05-2018م, 12:57 AM
سارة المشري سارة المشري غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 544
افتراضي

تلخيص مقاصد الرسالة التبوكية لابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى -

المقاصد الفرعية :
1 - أهمية قوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب ) وما اشتملت عليه من معان : وفيه مسائل :
- بيان أهمية هذه الآية .
- معنى البر ، وما يدخل في مسمّاه ، وأكثر ما يُعبّر فيه عن لفظ البرّ .
- خصال البرّ .
- معنى التقوى .
- الفرق بين البر والتقوى عند الاجتماع .
- وجه دخول البر في التقوى إذا انفردا ونظائر ذلك .
- مفاسد عدم فهم ألفاظ القرآن ودلالته ، وأمثلة على ذلك .
- المقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم والحكمة من ذلك .
- النهي عن الإثم والعدوان .
- الفرق بين الإثم والعدوان .
- الحكمة من النهي عن تعدي حدود الله تارة ، والنهي عن قربانها تارة أخرى .

2- بيان واجب العبد بينه وبين الخلق ، وواجبه بينه وبين الحق .
وفيه مسائل :
- واجب العبد بينه وبين الخلق .
- بيان واجب العبد بينه وبين الله .
- ما يتم به أداء الواجبين .

3- الهجرة إلى الله ، حكمها ، وأقسامها ، ومعناها ، ومضمونها ، و ثمراتها .
وفيه مسائل :
- حكم الهجرة إلى الله ورسوله .
- أقسام الهجرة .
- الفرار إلى الله وما يتضمنه من التوحيد المطوب .
- ما يتضمنه الفرار من الله إلى الله .
- ما يوجبه الفرار من الله إليه ، وفائدة الهجرة إلى الله .
-معنى الهجرة إلى الله .
- علة الاقتران بين الإيمان والهجرة في القرآن .
- أصل الهجرة إلى الله .
- تأثير داعي المحبة على قوة الهجرة وضعفها.
- الغفلة عن هذا النوع من الهجرة .

4- الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، حدّها ، وأهميتها ، و مقتضاها :
وفيه مسائل :
- عزّة الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
- حال المهاجر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
- حدّ الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
- المانع من الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
- أهمية الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .

5- ذكر الآيات والأدلة في تقرير الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادة أن محمداً رسول الله .
- قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليما ) .
- جواب القسم في الآية ، وهو مقتضى الهجرة إلى الرسول وشهادة أن محمدا رسول الله .
- ما تضمنته الآية من الفرق بين العلم والحال .
- ذكر المؤكدات في الآية السابقة .
- قوله تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ، وما تتضمنه من أمور .
- دلالة الإعراض عن شهادة أن محمدا رسول الله .
- الأمر بالقيام بالقسط وشموله للأشخاص و الأقوال والآراء والمذاهب ، ووجه شموله لذلك .
- مثال للخروج عن القيام بالقسط .
- معنى شهداء لله .
- الأوامر الأربعة في الآية .
- امتحان الإيمان في الاستجابة لأمر الله بالقيام بالقسط .
- الحامل على ترك العدل .
- التقدير في ( أن تعدلوا ) .
- ذكر السببين الموجبين لكتمان الحق والتحذير منهما .
- معنى الّلي ، وأنواعه.
- المقصود من إيراد هذه الآية .
- قوله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} .
- متعلّق الإيمان .
- حكم من استبانت له سنة أو أمر عن الله ورسوله .
- قوله تعالى ( قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرّسول إلّا البلاغ المبين (54)) .
- تعليق الهداية بشرط طاعة الرسول .
- معنى ( فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حمّلتم ).
- قوله تعالى ( يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا ) .
- فائدة النداء باسم الإيمان .
- فائدة التفريق بين طاعة الله وطاعة رسوله في الفعل ، ثم الاقتران بين طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر .
- المراد بأولي الأمر .
- اللطيفة في قوله تعالى : ( فردوه إلى الله والرسول ) ولم يقل وإلى الرسول .
- الدليل على وجوب رد النزاع إلى الله و رسوله .
- معنى الرد إلى الله ، والرد إلى رسوله .
- معنى ذلك خير وأحسن تأويلا ، ودلالتها .
- مراتب الكمال الإنساني .
- قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : {قل إن ضللت فإنّما أضلّ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربّي إنّه سميعٌ قريبٌ (50)}.
- النص على سبب هداية النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا هداية لأحد بغير ذلك .
- قوله تعالى : ( المص (1) كتابٌ أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكّرون (3) ) .
- ما يفيده أسلوب التقسيم في الآية .
- قوله تعالى : ( ويوم يعضّ الظّالم على يديه يقول ياليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلًا (27) ياويلتى ليتني لم أتّخذ فلانًا خليلًا (28) لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جاءني وكان الشّيطان للإنسان خذولًا (29))
- فائدة التكنية بالخليل .
- مآل الخلة على غير طاعة الله ورسوله .

6- بيان أقسام الأتباع وحكمهم :
- قوله تعالى : ( فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذبًا أو كذّب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه قالوا ضلّوا عنّا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها) .
- ذكر الصنفين المبطلين في الآية ووجه كفرهما .
- حال المكذب بالله ورسوله في الدنيا وحاله في الآخرة .
- حكم الأتباع والمتبوعين المشتركين في الضلالة .
- معنى قوله تعالى : ( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ ) .
- قوله تعالى : ( إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب (166) وقال الّذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ منهم كما تبرّءوا منّا كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النّار (167) )
- حال الأتباع المخالفين لمتبوعيهم المهتدين .
- قطع كل الأسباب يوم القيامة سوى حظ العبد من الهجرة إلى الله ورسوله وتجريد العبودية له .
- أنواع الأتباع السعداء ، ودليلهم .
- حكم الأتباع السعداء ، وقيد التبعية .
- قوله تعالى : ( يوم تقلّب وجوههم في النّار يقولون ياليتنا أطعنا اللّه وأطعنا الرّسولا (66) وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السّبيلا (67) ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا (68)) .
- فوائد الآية .
- قوله تعالى : ( هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم (4)) .
- المراد بالأولين ، وبالآخرين من صنفي الأتباع والمتبوعين السعداء .
- أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوة النبي .
- وجه تشبيه العلم بالغيث .
- وجه تشبيه القلب بالأرض .
- من أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله ، وجزاء من كان هذا ديدنه .

7- بيان ما يحتاجه المسافر في سفره :
- بيان زاد هذا السفر وطريقه ومركبه ورأس ماله وعموده .
- بيان كيفية هذا التدبر والتفهم وكشف الحجاب عنه بمثال .
- العلة من استبدال شرح طريقة التدبر بذكر مثال عليه .
- ما تضمنه قوله تعالى : ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم ... ) من أسرار التدبر .
- الغرض من الاستفهام في الآية .
- الثناء على إبراهيم عليه السلام
- آداب الضيافة وحقوقها ، وكيف يراعى الضيف .
- الولدالمبشر به .
- بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها .
- بيان حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال .
- إثبات صفة القول لله تعالى .
- تضمنها جميع صفات الكمال، التي مردّها إلى العلم والحكمة.
- الإشارة إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها، ثم الإفصاح بوقوعه ، والدلالة على صدق الرسل فيما أخبروا به عن ربهم .
- ذكر الإسلام والإيمان والفرق بينهما.
- بقاء آيات الرب الدالة على توحيده، وصدق رسله، وعلى اليوم الآخر.
- تضمن أنه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوفٌ من عذاب الآخرة .
- حاجة المسافر إلى معاون في السفر .
- المطوب ممن لم يجد معاوناً .
- ضرر صحبة العشراء وأبناء جنسه .
- طرق تعامل المسافر إلى الله مع الخلق .
- تأدب المسافر إلى الله بما أدب الله به رسوله في قوله تعالى : ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) .
- الخصال الثلاث التي تعين المسافر في التحلي بأخلاق الهجرة .
- أول الأمر وآخره وثمرة تحقيق هذا المقام .

8- الختام .
- حال المؤمن في تواضعه لربه واعترافه بذنبه وتقصيره كلما ازداد علماً ورفعة .
- الختام بثلاث كلمات مما يتناصح به السلف فيما بينهم .

المقصد الكلي : معنى قوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله ) وبيان ماهية التعاون على البر والتقوى وأهميته وأهم ما يحصل به وما يتضمنه من سفر الهجرة إلى الله ورسوله .

المقاصد الفرعية :
1- أهمية قوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله ) وما اشتملت عليه من معان .
2- بيان واجب العبد بينه وبين الخلق ، وواجبه بينه وبين الحق .
3- الهجرة إلى الله ،حكمها ، وأقسامها ، و معناها ومضمونها وثمراتها .
4- الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حدّها وأهميتها ومقتضاها .
5- ذكر الآيات والأدلة في تقرير الهجرة إلى الرسول وشهادة أن محمداً رسول الله .
6- بيان أقسام الأتباع وحكمهم .
7- بيان ما يحتاجه المسافر في سفره .
8- الختام .


تلخيص المقاصد الفرعية :
1 - أهمية قوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) وما اشتملت عليه من معان :
وفيه مسائل :
- بيان أهمية هذه الآية .

اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فيما بينهم في بعضهم بعضا، وفيما بينهم وبين ربهم ، فأما ما بين العبد وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصّحبة، فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته، التي هي غاية سعادته وفلاحه، والبرّ والتقوى جماع الدين كله .
- معنى البر ، وما يدخل في مسمّاه ، وأكثر ما يُعبّر فيه عن لفظ البرّ .
البرّ كلمة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد ، والمنافع التي فيه والخير، كما يدلّ عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام.
ومنه "البُرّ" بالضم؛ لكثرة منافعه وخيره بالإضافة إلى سائر الحبوب ، ومنه رجل بارٌ، وبرٌّ، و{كرام بررة}، والأبرار ، ويقابله ( الإثم ) .
و يدخل في مسمى البرّ الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، و التّقوى جزء من هذا المعنى .
وأكثر ما يعبر بالبرّ عن برّ القلب، وهو وجود طعم الإيمان فيه و حلاوته، وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه وقوته وفرحه بالإيمان .
- خصال البرّ والتقوى .
مجموعة في قوله تعالى : {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون (177)}.
فأخبر سبحانه أن البرّ هو الإيمان به، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهذه هي أصول الإيمان الخمس التي لا قوام للإيمان إلا بها.
وأنه الشرائع الظاهرة: من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنفقات الواجبة.
وأنه الأعمال القلبية التي هي حقائقه؛ من الصبر والوفاء بالعهد ، فتناولت هذه الخصال جميع أقسام الدين: حقائقه وشرائعه، والأعمال المتعلقة بالجوارح وبالقلب، وأصول الإيمان الخمس.
وفي قوله تعالى : ( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) بيان أنها خصال التقوى بعينها .
- معنى التقوى .
فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا فيفعل ما أمره الله به إيمانا بالأمر، وتصديقا بموعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي، وخوفا من وعيده.
كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله".
- الفرق بين البر و التقوى عند الاجتماع .
الفرق بينهما فرق بين السّبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها؛ فإن البرّ مطلوب لذاته، إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه، وأما التقوى فهي الطريق الموصلة إلى البرّ، والوسيلة إليه، ولفظها يدلّ على هذا؛ فإنها فعلى من وقى يقي، فلفظها دالٌ على أنها من الوقاية، فإن المتّقي قد جعل بينه وبين النار وقاية، فالوقاية من باب دفع الضرر، والبرّ من باب تحصيل النفع، فالتقوى كالحمية، والبرّ كالعافية والصحة.
- وجه دخول البر في التقوى إذا انفردا ، ونظائر ذلك .
لأن البرّ جزء مسمّى التقوى، وكذلك التقوى فإنه جزء مسمّى البر .
ونظير هذا لفظ "الإيمان والإسلام"، "والإيمان والعمل الصالح"، و"الفقير والمسكين"، و"الفسوق والعصيان"، و"المنكر والفاحشة"، وغيرها .
- مفاسد عدم فهم ألفاظ القرآن ودلالته ، وأمثلة على ذلك .
عدم العلم بذلك يستلزم مفسدتين عظيمتين:
1- أن يُدخل في مسمّى اللفظ ما ليس منه؛ فيحكم له بحكم المراد من اللفظ؛ فيسوّى بين ما فرق الله بينهما.
2- أن يُخرج من مسمّاه بعض أفراده الداخلة تحته؛ فيسلب عنه حكمه؛ فيفرّق بين ما جمع الله بينهما.
و من هذا لفظ "الخمر"؛ فإنه اسم شامل لكل مسكر، فلا يجوز إخراج بعض المسكرات منه، وينفى عنها حكمه.
وكذلك لفظ "الميسر"، وإخراج بعض أنواع القمار منه.
وكذلك لفظ "النكاح"، وإدخال ما ليس بنكاح في مسمّاه.
وكذلك لفظ "الربا"، وإخراج بعض أنواعه منه، وإدخال ما ليس بربًا فيه ، وغير ذلك كثير .
- المقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم والحكمة من ذلك .
المقصود من ذلك هو التعاون على البر والتقوى؛ فيعين كلّ واحد صاحبه على ذلك علما وعملا. فإنّ العبد وحده لا يستقلّ بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه، فاقتضت حكمة الربّ سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائما بعضه ببعض، معينًا بعضه لبعض.
- النهي عن الإثم والعدوان .
وهما في جانب النهي نظير البر والتقوى في جانب الأمر ، قال تعالى ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .
- الفرق بين الإثم والعدوان ، وأمثلته .
هو فرق ما بين محرّم الجنس ومحرّم القدر ، فالإثم: ما كان حراما لجنسه.
والعدوان: ما حرّم الزيادة في قدره، وتعدي ما أباح الله منه.
فالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، ونحوها إثم. ونكاح الخامسة، واستيفاء المجنيّ عليه أكثر من حقه، ونحوه عدوان.
- الحكمة من النهي عن تعدي حدود الله تارة ، والنهي عن قربانها تارة أخرى .
لأن حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام ، ونهاية الشيء تارة تدخل فيه فتكون منه ، وتارة لا تكون داخلةً فيه فيكون لها حكم مقابله ، فبالاعتبار الأول نهى عن تعدّيها، وبالاعتبار الثاني نهى عن قربانها .

2- بيان واجب العبد بينه وبين الخلق ، وواجبه بينه وبين الحق .
وفيه مسائل :
- واجب العبد بينه وبين الخلق .

هو أن تكون مخالطته لهم تعاونا على البر والتّقوى، علما وعملًا .
- بيان واجب العبد بينه وبين الله .
حاله فيما بينه وبين الله تعالى : إيثار طاعته، وتجنّب معصيته، وهو قوله تعالى: ( واتّقوا اللّه ) .
- ما يتم به أداء الواجبين .
أمّا الواجب الأول فلا يتم إلا بعزل نفسه من الوسط، مع القيام بواجب النصح والإحسان ورعاية الأمر.
وأمّا الواجب الثاني فلا يتم إلا بعزل الخلق من البين، والقيام به لله إخلاصا ومحبةً وعبودية.

3- الهجرة إلى الله تعالى ، حكمها ، و أقسامها ، و معناها ، ومضمونها ، و ثمراتها .
وفيه مسائل :
- حكم الهجرة إلى الله ورسوله .
فرض عين على كلّ أحد في كلّ وقت، و لا انفكاك لأحد من وجوبها .
- أقسام الهجرة .
الهجرة هجرتان:
- هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليست هي المرادة في كلام الشيخ .
- والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعةٌ لها، وهي هجرة تتضمن "من" و"إلى":
فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى عبوديته ، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذّلّ له والاستكانة له إلى دعاء ربّه وسؤاله والخضوع له والذلّ والاستكانة له.
- الفرار إلى الله وما يتضمنه من التوحيد المطوب .
الهجرة إلى الله هو بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {ففرّوا إلى اللّه}. فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
و الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية، ولوازمها من المحبة والخشية والإنابة والتوكل وسائر منازل العبودية، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم .
- ما يتضمنه الفرار من الله إلى الله .
يتضمن توحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كلّ ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفرّ منه العبد، فإنما أوجبته مشيئة الله وحده؛ فإنه ما شاء الله كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته، فإذا فرّ العبد إلى الله فإنما يفرّ من شيء وجد بمشيئة الله وقدره؛ فهو في الحقيقة فارّ من الله إليه.
و بهذا نفهم معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك منك" وقوله: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك". فإنه ليس في الوجود شيءٌ يفرّ منه ويستعاذ منه ويلجأ منه إلا وهو من الله خلقا وإبداعا.
فالفارّ والمستعيذ فارّ مما أوجبه قدر الله ومشيئته وخلقه، إلى ما تقتضيه رحمته وبرّه ولطفه وإحسانه؛ ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه، ومستعيذ بالله منه.
- ما يوجبه الفرار من الله إليه ، وفائدة الهجرة إلى الله.
يوجب للعبد انقطاع تعلّق قلبه من غير الله بالكلّية خوفا ورجاء ومحبة ؛ فإنه إذا علم أن الذي يفرّ منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده؛ فتضمّن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء .
وفائدة الهجرة إلى الله الحصول على الأمن نتيجة الفرار من الله إليه ، وإفراده بالحب والخوف والرجاء .
-معنى الهجرة إلى الله وما تتضمنه .
الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه .
- علة الاقتران بين الإيمان والهجرة في القرآن .
لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
- أصل الهجرة إلى الله .
أصلها الحبّ والبغض؛ فإن المهاجر من شيء إلى شيء لابد أن يكون ما يهاجر إليه أحبّ إليه مما يهاجر منه؛ فيؤثر أحبّ الأمرين إليه على الآخر، وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوه إلى خلاف ما يحبه الله ويرضاه وقد بلي بهؤلاء الثلاث فلا تزال تدعوه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفكّ في هجرة حتى الممات
- تأثير داعي المحبة على قوة الهجرة وضعفها.
كلما كان داعي المحبة في قلب العبد أقوى كانت هذه الهجرة أقوى و أتمّ وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علما ، ولا يتحرك بها إرادة .
- الغفلة عن هذا النوع من الهجرة .
ربما فرّع أحدهم المسائل في الهجرة من دار الكفار إلى دار الإسلام ، وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح ، ثم يغفل عن هذه الهجرة الواجبة ، إما إعراضاً عما خلق له، أو اشتغالا بغيره ، وهذه حال من غشيت بصيرته، وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال .

4- الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، حدّها ، وأهميتها ، و مقتضاها :
وفيه مسائل :
- عزّة الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .

فهي مَعلَم لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك منه بنيّات الطريق سوى اسمه، ومحجّةٌ سفت عليها السّوافي فطمست رسومها، وأغارت عليها الأعادي فغوّرت مناهلها وعيونها .
- حال المهاجر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
حاله كما وصفه ابن القيم : غريب بين العباد، فريد بين كل حيٍّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبه، لا يقرّ قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم وما ليل مطيه بئائم، وقعدوا عن الهجرةٍ النبوية وهو في طلبها مشمّر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه إزراء على جهالاتهم وأهوائهم؛ قد رجموا فيه الظّنون، وأذكوا عليه العيون، وتربّصوا به ريب المنون .
- حدّ الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال ابن القيم رحمه الله : هي سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثةٍ من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلّا وحيٌ يوحى (4)}، فكل مسألةٍ طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عدّله هذا المزكّي الصادق وإلا فعدّه من أهل الريب والتهمات؛ فهذا هو حدّ هذه الهجرة.
- المانع من الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
الركون إلى الطبع والعوائد ، مع البطالة والكسل والملالة ، و الاقتداء بالآباء و تعظيم ما هم عليه وتقديم آرائهم وأقوالهم على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وقوله .
- أهمية الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
هي فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله ، كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ ، ويطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدّور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار ، وهناك آيات كثيرة تؤكد أهميتها وتربط الإيمان بالتسليم للنبي صلى الله عليه وسلم وتنفيه عمن لم يسلم له .
5- ذكر الآيات والأدلة في تقرير الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادة أن محمداً رسول الله .
- قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليما ) .
- المقسم عليه في الآية ، وهو مقتضى الهجرة وشهادة أنّ محمداًرسول الله :
أقسم أنهم لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكّموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين ، لأنّ "ما" من صيغ العموم؛ وهي موصولة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم ، وليس هذا فحسب بل ضمّ إليه انشراح صدورهم بحكمه، حيث لا يجدوا في أنفسهم حرجا -وهو الضّيق والحصر- من حكمه، بل يتلقّوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالقبول، لا أنهم يأخذونه على إغماض ، فإن هذا مناف للإيمان، ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضمّ إليه قوله: {ويسلّموا تسليمًا (65)} ، وهو الخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعا ورضى، وتسليمًا لا قهرا ومصابرةً؛ كما يسلّم المقهور لمن قهره كرها، بل تسليم عبدٍ محب مطيع لمولاه وسيّده الذي هو أحبّ شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبرّ به منها، وأرحم به منها، وأنصح له منها، وأعلم بمصالحه منها، وأقدر على تحصيلها .
- ما تضمنته الآية من الفرق بين العلم والحال .
فرق بين علم الحب ، وحال الحب ، كالفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخنٌ بالمرض، وبين الصحيح السليم وإن لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها.
وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به، وبين حاله ووجوده.

- ذكر المؤكدات في الآية السابقة .
1- افتتاح هذا القسم بأداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتأكيده وشدة انتفائه.
2- تأكيده بنفس القسم.
3- تأكيده بالمقسم به، وهو إقسامه بنفسه لا بشيءٍ من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة، وبمخلوقاته تارة.
4- تأكيده بانتفاء الحرج، ووجود التسليم.
5- تأكيد الفعل بالمصدر ( ويسلموا تسليما ) .

- ما تتضمنه الأولوية في قوله تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ، ولوازمها .
1- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحبّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا فيجب أن يكون الرسول أولى به منها، وأحبّ إليه منها؛ فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة، من الرضى بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على كل من سواه.
2- أن لا يكون للعبد حكمٌ على نفسه أصلًا، بل الحكم على نفسه للرسول، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده، والوالد على ولده؛ فليس له في نفسه تصرف إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.
3- أن يعرض قول كل أحد سواه على ما جاء به؛ فإن شهد له بالصحة قبله، وإن شهد له بالبطلان ردّه، وإن لم تتبين شهادته له بصحةٍ ولا بطلانٍ جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقفه حتى يتبيّن أي الأمرين أولى به .
- دلالة الإعراض عن شهادة أن محمدا رسول الله .
عزل ما جاء به الرسول عن منصب التحكيم، و الرضى بحكم غيره، و الاطمئنان إليه أعظم من طمأنينته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وزعم أن الهدى لا يتلقّى من مشكاته, وإنما يتلقى من دلالات العقول، وأنّ ما جاء به لا يفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراض عنه وعما جاء به، والحوالة في العلم النافع على غيره .
- قوله تعالى : ( ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا ) .
- الأمر بالقيام بالقسط وشموله للأشخاص والأقوال والآراء والمذاهب ، ووجه شموله لذلك .
هذا الأمر بالقيام بالقسط في حقّ كل أحد عدوًّا كان أو وليًّا، وأحقّ ما قام له العبد بالقسط: الأقوال والآراء والمذاهب؛ لأنها متعلقة بأمر الله وخبره؛ فالقيام فيها بالهوى والعصبية مضادٌّ لأمر الله ، منافٍ لما بعث به رسله، والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته، وأمنائه بين أتباعه، ولا يستحقّ اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض، نصيحةً لله ولكتابه ولرسوله ولعباده.
- مثال للخروج عن القيام بالقسط .
أن يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه عيارًا على الحق وميزانًا له؛ يعادي من خالفه ويوالي من وافقه لمجرد موافقته ومخالفته .
- معنى شهداء لله .
الشاهد هو المخبر، فإن أخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول، وإن أخبر بباطل فهو شاهد زور .
- الأوامر الأربعة في الآية .
1- القيام بالقسط. 2- أن يكون لله.
3- الشهادة بالقسط . 4- و أن تكون لله.
- امتحان الإيمان في الاستجابة لأمر الله بالقيام بالقسط .
ويظهر ذلك جلياً في الشهادة على النفس والوالدين والأقربين لما في العبد من محبة لنفسه ولوالديه وأقربيه تمنعه من القيام عليهم بالحق، ولاسيما إذا كان الحق لمن يبغضه ويعاديه ؛ فإنه لا يقوم به في هذه الحال إلا من كان الله ورسوله أحبّ إليه من كل ما سواهما ، وعكس هذا عدل العبد في أعدائه ومن يشنؤه، فلا يحمله بغضه لهم على أن يجنف عليهم، كما لا ينبغي أن يحمله حبّه لنفسه ووالديه وأقاربه على أن يترك القيام عليهم بالقسط، فلا يدخله ذلك البغض في باطل، ولا يقصر به هذا الحبّ عن الحقّ ، وإن كان المشهود عليه غنيّاً فلا يحابوا غنيًّا لغناه، ولا يطمعوا في فقيرٍ لفقره؛ فإن الله أولى بهما منهم .
- بيان الحامل على ترك العدل .
اتباع الهوى .
- التقدير في ( أن تعدلوا ) .
1- كراهية أن تعدلوا، أو حذار أن تعدلوا؛ فيكون اتّباعكم الهوى كراهية العدل وفرارًا منه ، وهو قول البصريين وهو الأظهر .
2- أن لا تعدلوا ، وهو قول الكوفيين .
- ذكر السببين الموجبين لكتمان الحق والتحذير منهما .
1- اللّي .
2- و الإعراض .
فإن الحقّ إذا ظهرت حجّته، ولم يجد من يروم دفعها طريقًا إلى دفعها، أعرض عنها وأمسك عن ذكرها، فكان شيطانًا أخرس، وتارةً يلويها أو يحرّفها.
- معنى الّلي ، وأنواعه.
اللّيّ مثل الفتل، وهو التحريف. وهو نوعان :
1- ليٌّ في اللفظ: أن يلفظ بها على وجهٍ لا يستلزم الحقّ؛ إما بزيادة لفظة، أو نقصانها، أو إبدالها بغيرها ، أو ليًّا في كيفية أدائها، وإيهام السامع لفظًا ومراده غيره؛ كما كان اليهود يلوون ألسنتهم بالسّلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2- ليّ المعنى، وهو تحريفه، وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم به، وتحميله ما لم يرده، أو يسقط منه بعض ما أراد به، ونحو هذا من ليّ المعاني .
- المقصود من إيراد هذه الآية .
أن الواجب الذي لا يحصل مسمّى الإيمان إلا به مقابلة النصوص بالتّلقّي والقبول، والإظهار لها، ودعوة الخلق إليها, و لا تقابل بالإعراض تارةً، وباللّيّ أخرى.
- قوله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} .
- متعلّق الإيمان .
الاستجابة لحكم الله ورسوله ، ولا يتخيّر لنفسه غير حكمهم ، و دلّت الآية على أن تخيّر سوى حكمهم منافٍ للإيمان.
حكم من استبانت له سنة أو أمر عن الله ورسوله .
حكى الشافعي - رحمه الله - إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أنّ من استبانت له سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
لأن الحجّة الواجب اتباعها على الخلق كافّةً هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع، فضلًا عن أن تعارض بها النصوص، و تُقدّم عليها .
- قوله تعالى : ( قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرّسول إلّا البلاغ المبين (54) ) .
- تعليق الهداية بشرط طاعة الرسول .
علّق سبحانه الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها، و ما علّق على الشرط فهو عدم عند عدمه؛ وينتفي بانتفائه وإلا لم يكن شرطًا له . إذا ثبت هذا فالآية نصٌّ على انتفاء الهداية عند عدم طاعته.
- معنى ( فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حمّلتم ).
أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد حمّل أداء الرسالة وتبليغها ، وحمّلتم طاعته والانقياد له والتسليم ؛ كما ذكر البخاري في "صحيحه" عن الزهري قال: "من الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم".
والمراد أنه إن تركتم أنتم ما حمّلتموه من الإيمان والطاعة، فعليكم لا عليه ؛ فإنه لم يحمّل طاعتكم وإيمانكم، وإنما حمّل تبليغكم وأداء الرسالة إليكم، فإن تطيعوه فهو حظّكم وسعادتكم وهدايتكم، وإن لم تطيعوه فقد أدّى ما حمّل .
- قوله تعالى ( يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا ) .
- فائدة النداء باسم الإيمان .
لإشعارهم بأنّ المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا وخوطبوا به ، فأنكم إن كنتم مؤمنين؛ فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا، فإنّه من موجبات الإيمان وتمامه.
- فائدة التفريق بين طاعة الله وطاعة رسوله في الفعل ، ثم الاقتران بين طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر .
للدلالة على أن ما يأمر به رسول الله تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورًا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردةً ومقرونةً، فلا يتوهّم متوهّمٌ أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن فلا تجب طاعته فيه؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك رجلٌ شبعان متكئٌ على أريكته يأتيه الأمر من أمري؛ فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه".
وأما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول، لا طاعة مفردة مستقلة؛ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على المرء السّمع والطاعة فيما أحبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله، فلا سمع ولا طاعة".
- المراد بأولي الأمر .
القول الأول : أنهم العلماء .
القول الثاني : أنهم الأمراء .
والصحيح تناولها للصنفين جميعًا؛ فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله.
فالعلماء ولاته حفظًا، وبيانًا، وبلاغًا، وذبًّا عنه، وردًّا على من ألحد فيه وزاغ عنه، وقد وكّلهم الله بذلك، فقال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين (89)}. فهذه الوكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم، وكون الناس تبعًا لهم.
والأمراء ولاته قيامًا، ورعايةً، وجهادًا، وإلزامًا للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه.
- اللطيفة في قوله تعالى : ( فردوه إلى الله والرسول ) ولم يقل وإلى الرسول .
لأن الردّ إلى القرآن ردٌّ إلى الله والرسول، والردّ إلى السنة ردٌّ إلى الله والرسول، فما يحكم به الله هو بعينه حكم رسوله, وما يحكم به الرسول هو بعينه حكم الله .
- الدليل على وجوب رد النزاع إلى الله و رسوله .
الأمر في قوله تعالى : ( فردوه إلى الله والرسول ) يقتضي الوجوب ، والشرط في قوله تعالى ( إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر) بعدها ، يدلّ على أن من حكّم غير الله ورسوله في موارد النزاع كان خارجًا عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر .
- معنى الرد إلى الله ، والرد إلى رسوله .
اتفق السّلف والخلف على أن الردّ إلى الله هو الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله هو الردّ إليه في حياته والردّ إلى سنّته بعد وفاته.
- معنى ذلك خير وأحسن تأويلا ، ودلالتها .
الخيرية في المعاش والمعاد وفيه السعادة في الدارين ، وحسن العاقبة .
و دلّت هذه الآية على أن كل شرٍّ في العالم فسببه الجهل بما جاء به الرسول و مخالفته والخروج عن طاعته، وكل خير في العالم فإنما هو بسبب طاعة الرسول ، و كذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هي موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها.
فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شرٌّ قط ، وهذا في الشّرور العامّة والمصائب الواقعة في الأرض؛ و في الشّر والألم والغمّ الذي يصيب العبد في نفسه كذلك .
وهذا برهان قاطعٌ على أنه لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا باجتهاده في معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمًا، والقيام به عملًا.
- مراتب الكمال الإنساني .
إحداها: العلم بما جاء به الرسول.
الثانية: العمل به.
الثالثة: بثّه في الناس، ودعوتهم إليه.
الرابعة: صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه.
- قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : {قل إن ضللت فإنّما أضلّ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربّي إنّه سميعٌ قريبٌ (50)}.
- النص على سبب هداية النبي صلى اله عليه وسلم ، ولا هداية لأحد بغير ذلك .
هذه الآية نص صريح في أن هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حصل بالوحي، فيا عجبًا كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة ؟ ولا ضلال أعظم من الزعم بعدم حصول الهداية بالوحي .
- قوله تعالى : (المص (1) كتابٌ أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكّرون (3) )
- ما يفيده أسلوب التقسيم في الآية .
أمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله، ونهى عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل أو اتباع أولياء من دونه، فإنه لم يجعل بينهما واسطة، فكل من لم يتّبع الوحي فإنما اتبع الباطل واتبع أولياء من دون الله .
- قوله تعالى : ( ويوم يعضّ الظّالم على يديه يقول ياليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلًا (27) ياويلتى ليتني لم أتّخذ فلانًا خليلًا (28) لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جاءني وكان الشّيطان للإنسان خذولًا (29))
- فائدة التكنية بالخليل .
للدلالة على أن كل من اتخذ خليلًا غير الرسول يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول ؛ فإنه قائلٌ هذه المقالة لا محالة، ولهذا لم يعيّن سبحانه هذا الخليل، وكنّى عنه باسم فلان، إذ لكلّ متبعٍ أولياء من دون الله فلانٌ وفلانٌ .
- مآل الخلة على غير طاعة الله ورسوله .
مآلها إلى العداوة واللعنة ، قال تعالى : ( الأخلّاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلّا المتّقين ) ، وقال تعالى على لسانهم : ( ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا ) .

6- بيان أقسام الأتباع وحكمهم :
- قوله تعالى : ( يوم تقلّب وجوههم في النّار يقولون ياليتنا أطعنا اللّه وأطعنا الرّسولا (66) وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السّبيلا (67) ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا (68) ) .
- فوائد الآية .
تمنى القوم طاعة الله وطاعة رسوله حين لا ينفعهم ذلك، واعتذروا بأنهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم، واعترفوا بأنهم لا عذر لهم في ذلك، وأنهم أطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول، وآلت تلك الطاعة والموالاة إلى قولهم هذا وتلاعنهم .
- - قوله تعالى : ( فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذبًا أو كذّب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه قالوا ضلّوا عنّا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها ... ) .
- ذكر الصنفين المبطلين في الآية ووجه كفرهما .
1- منشىء الباطل والفرية، وواضعها، وداعي الناس إليها ، وهذا كفره بالافتراء وإنشاء الباطل .
2- المكذّب بالحق ، وهذا كفره بجحود الحق .
فإن انضاف إلى ذلك دعوته إلى باطله، وصدّ الناس عن الحقّ، استحقّ تضعيف العذاب؛ لتضاعف كفره وشرّه؛ قال تعالى : ( الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه زدناهم عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ) .
- معنى ( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ) .
أي ينالهم ما كتب لهم في الدنيا من الحياة والرزق وغير ذلك .
- حال المكذبين بالله ورسوله في الدنيا وفي الآخرة .
أما في الدنيا فينالهم ما كتب لهم فيها من الحياة والرزق وغير ذلك ، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار .
- حال الأتباع والمتبوعين المشتركين في الضلالة .
لكل من الأتباع والمتبوعين ضعف من العذاب بحسب ضلاله وكفره ، ولكن لا تعلم كل طائفة بما في أختها من العذاب المضاعف قال تعالى : ( قال لكلّ ضعف ولكن لا تعلمون ) .
- معنى قوله تعالى : ( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ) .
أي أنكم جئتم بعدنا فأرسلت فيكم الرسل، وبينوا لكم الحق، وحذّروكم من ضلالنا، ونهوكم عن اتباعنا وتقليدنا؛ فأبيتم إلا اتباعنا وتقليدنا، وترك الحق الذي أتتكم به الرسل، فأيّ فضلٍ كان لكم علينا، وقد ضللتم كما ضللنا، وتركتم الحق كما تركناه؛ فضللتم أنتم بنا كما ضللنا نحن بقوم آخرين، فأي فضل لكم علينا؟
- قوله تعالى : ( إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب (166) وقال الّذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ منهم كما تبرّءوا منّا كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النّار (167)) .
- حال الأتباع المخالفين لمتبوعيهم المهتدين .
الأتباع المخالفون لمتبوعيهم، العادلون عن طريقتهم، الذين يزعمون أنهم تبع لهم، وليسوا متّبعين لطريقتهم ، فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، وأتباعهم ادّعوا أنهم على طريقتهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم، يزعمون أنّهم يحبونهم، وأن محبّتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم لهم، فيتبرءون منهم يوم القيامة، فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله، وظنوا أن هذا الاتخاذ ينفعهم.
- قطع كل الأسباب يوم القيامة سوى حظ العبد من الهجرة إلى الله ورسوله وتجريد العبودية له .
في يوم القيامة يقطع الله كل الأسباب والعلق والوصلات التي كانت بين الخلق في الدنيا , ولا يبقى إلا السبب والوصلة التي بين العبد وبين ربّه فقط، وهو سبب العبودية المحضة التي لا وجود لها ولا تحقّق إلا بتجريد متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم، وما عرفت إلا بهم, ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم .
- أنواع الأتباع السعداء ، ودليلهم .
1- أتباعٌ لهم حكم الاستقلال، وهم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي اللّه عنهم ورضوا عنه}.
فهؤلاء هم السّعداء الذين ثبت لهم رضى الله عنهم، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة .
2- أتباع المؤمنين من ذريّتهم، الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا، وإنما هم مع آبائهم تبعٌ لهم، قال الله تعالى فيهم: {والّذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ كلّ امرئٍ بما كسب رهينٌ (21)}.
فأخبر سبحانه أنه ألحق الذّرية بآبائهم في الجنة، كما أتبعهم إياهم في الإيمان, ولما كان الذّرية لا عمل لهم يستحقون به تلك الدرجات قال تعالى: {وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ} أي ما نقصنا الذين آمنوا من عملهم من شيء .
- حكم الأتباع السعداء ، وقيد التبعية .
هؤلاء الأتباع ثبت لهم رضا الله عنهم وجناته ، قال تعالى : ( والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي اللّه عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات ) .
و قيّد سبحانه هذه التبعية بأنها تبعية بإحسانٍ، ليست مطلقة فتحصل بمجرد النسبة والاتباع في شيء والمخالفة في غيره، ولكن تبعية مصاحبةٌ للإحسان؛ والإحسان في المتابعة شرطٌ في حصول رضى الله عنهم وجنّاته .
- في قوله تعالى : ( هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم (4)) .
- المراد بالأولين ، وبالآخرين من صنفي الأتباع والمتبوعين السعداء .
الأولون هم الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبوه، والآخرون الذين لم يلحقوا بهم ، و هم كل من بعدهم على منهاجهم إلى يوم القيامة، فيكون التّأخّر وعدم اللّحاق بهم في الزمان.
وفي الآية قول آخر: إن المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل والمرتبة، بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة ، والصحيح أن القولين متلازمين ، فإنّ من بعدهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان ، وكلاهما من السعداء .
- أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوة النبي .
ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم: كمثل غيثٍ أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء؛ فسقى الناس وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا, ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
1- عالمٌ معلّمٌ، داعٍ إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرّسل.
2- حافظٌ مؤدٍّ لما سمعه، فهذا يحمل إلى غيره ما ينتفع به ويستثمره.
3- لا هذا ولا هذا، فهو الذي لم يقبل هدى الله، ولا رفع به رأسًا.
- وجه تشبيه العلم بالغيث .
لأن كلًّا منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان، والعلم سبب حياة القلوب.
- وجه تشبيه القلب بالأرض .
كما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة لقبول الغيث ، فالقلوب مثل ذلك في قبول العلم :
1- أرضٌ زكيّةٌ قابلةٌ للشّرب والنبات؛ فإذا أصابها الغيث ارتوت منه، ثمّ أنبتت من كل زوجٍ بهيجٍ.
فهذا مثل القلب الزّكي الذّكي؛ فهو يقبل العلم بذكائه، ويثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه؛ فهو قابلٌ للعلم، مثمرٌ لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.
2- أرضٌ صلبة قابلة لثبوت الماء فيها وحفظه، فهذه ينتفع الناس بورودها والسّقي منها والازدراع.
وهذا مثل القلب الحافظ للعلم، الذي يحفظه كما سمعه، ولا تصرّف له فيه ولا استنباط، بل له الحفظ المجرد، فهو يؤدي كما سمع
3- أرض قاعٌ؛ وهو المستوي الذي لا يقبل النبات، ولا يمسك ماءً، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع بشيء منه.
فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم ولا الفقه والدراية فيه، وإنما هو بمنزلة الأرض البوار التي لا تنبت ولا تحفظ الماء .
- من أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله ، وجزاء من كان هذا ديدنه .
هذا من أعظم التعاون ويكون باليد واللسان والقلب، مساعدةً، ونصيحةً، وتعليمًا، وإرشادًا، ومودةً.
ومن كان هكذا مع عباد الله كان الله بكل خير إليه أسرع، وأقبل الله إليه بقلوب عباده، وفتح على قلبه أبواب العلم، ويسّره لليسرى، ومن كان بالضد فبالضدّ .

7- بيان ما يحتاجه المسافر في سفره :
- بيان زاد هذا السفر وطريقه ومركبه ورأس ماله وعموده .
زاده : العلم الموروث عن خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله ، ولا زاد للمسافر غيره .
وطريقه : بذل الجهد واستفراغ الوسع ، والعمل بأمرين : 1- أن لا يصغي في الحق إلى لومة لائم ؛ فإن اللوم يدرك الفارس؛ فيصرعه عن فرسه ويجعله طريحا .
2- أن تهون عليه نفسه في الله؛ فيقدم ولا يخاف الأهوال ، ولا يتمّ له هذان الأمران إلاّ بالصبر .
أمّا رأس ماله وعموده : فدوام التفكر وتدبر آيات القرآن ، بحيث يستولي على الفكر ويشغل القلب ، ويحلّ محلّ الخواطر ، وحينئذ يتمكن الإيمان في قلبه ويستقيم سيره ويتضح له الطريق .
- بيان كيفية هذا التدبر والتفهم وكشف الحجاب عنه بمثال .
- العلة من استبدال شرح طريقة التدبر بذكر مثال عليه .
لأن الاحتذاء بالمثال المذكور يسهل الوصول للمطلوب من التدبر ، ويعين على فهم كيفيته .
- ما تضمنه قوله تعالى : ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم ... ) من أسرار التدبر .
- الغرض من الاستفهام في الآية .
ليس المراد به حقيقة الاستفهام وإنما التنبيه على عدة أمور :
1- على أهمية هذا الخبر والحث على تدبره ، وأنه أمر عجيب عليه التنبه له .
2- التنبيه على أن إتيان هذا إليك علمٌ من أعلام النّبوة؛ فإنه من الغيب الذي لا تعلمه أنت ولا قومك، فهل أتاك من غير إعلامنا وإرسالنا وتعريفنا أم لم يأتك إلا من قبلنا؟
3- تقريره لهذا الخبر .
- الثناء على إبراهيم عليه السلام .
1- مدحه بإكرام الضيف ، وسيأتي بيان وجوه المدح في ذلك في آداب الضيافة .
2- جعل ملائكته المكرمين أضيافاً له .
- آداب الضيافة وحقوقها ، وكيف يراعى الضيف .
- ردّ إبراهيم عليه السلام عليهم بأحسن ممّا حيّوه به ، ( فقالوا سلامًا قال سلامٌ ) ، فإن تحيتهم باسم منصوبٍ متضمن لجملةٍ فعليّةٍ تقديره: سلّمنا عليك سلامًا، وتحية إبراهيم لهم باسمٍ مرفوعٍ متضمن لجملةٍ اسميّةٍ، تقديره: سلامٌ ثابتٌ أو دائم أو مستقرٌّ عليكم. ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم، والفعلية تقتضي التجدد والحدوث؛ فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن.
- حسن مخاطبته لضيفه في قوله ( قوم منكرون ) من جهتين : 1- حذف المبتدأ ، ولم يواجههم بقوله أنتم منكرون لما فيه من الإيحاش ، 2- وحذف فاعل الإنكار ، وهو الذي كان أنكرهم ، وهذا ألطف .
-( فراغ إلى أهله) ، والروغان: الذهاب في سرعة واختفاءٍ، وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف، والاختفاء ترك تخجيله وألا يعرّضه للحياء، وهذا بخلاف من يتثاقل و يتبارد على ضيفه، ثم يبرز بمرأًى منه، ويحلّ صرّة النفقة، ويزن ما يأخذ، ويتناول الإناء بمرأى منه، ونحو ذلك .
-( إلى أهله) مدحٌ آخر، لما فيه من الإشعار بأن كرامة الضيف معدّةٌ حاصلةٌ عند أهله، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه، ولا يذهب إلى غير أهله، إذ نزل الضيف حاصل عندهم.
وقوله: {فجاء بعجلٍ سمينٍ (26)} يتضمن ثلاثة أنواع من المدح وبيان الإكرام :1- خدمة ضيفه بنفسه، فإنه لم يرسل به، وإنما جاء به بنفسه.
2- أنه جاءهم بحيوان تام لم يأتهم ببعضه؛ ليتخيّروا من أطايب لحمه ما شاءوا.
3- أنه سمين ليس بمهزولٍ، وهذا من نفائس الأموال، ولد البقرة السمين، فإنهم يعجبون به، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره.
- وقوله: {إليهم} متضمنٌ لمدحٍ وأدبٍ آخر، وهو إحضار الطعام إلى بين أيدي الضيف، بخلاف من يهيّئ الطعام في موضع، ثم يقيم ضيفه؛ فيورده عليه.
-( قال ألا تأكلون ) فيه مدحٌ وأدب آخر؛ فإنه عرض عليهم الأكل بصيغة عرضٍ مؤذنة بالتلطف، بخلاف من يقول: كلوا، تقدموا، ونحو ذلك.
- الولدالمبشر به .
هو إسحاق لا إسماعيل عليهما السلام ، لأن امرأته عجبت من ذلك، وقالت: عجوزٌ عقيمٌ لا يولد لمثلي ، وأما إسماعيل فإنه من سرّيته هاجر، وكان بكره ، وقد بينه سبحانه في سورة هود في قوله تعالى: {فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (71)} .
- بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها .
إذ بادرت إلى النّدبة وصكّ الوجه عند هذا الإخبار ، ( فأقبلت امرأته في صرّةٍ فصكّت وجهها ) .
- بيان حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال .
لاقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة، فإنها حذفت المبتدأ، فلم تقل: أنا عجوز عقيم، واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة، و لم تذكر غيره .
- إثبات صفة القول لله تعالى .
في قوله تعالى : ( قالوا كذلك قال ربّك ) .
- تضمن الآيات جميع صفات الكمال، التي مردّها إلى العلم والحكمة.
الحكمة والعلم هما مصدر الخلق والأمر، فجميع ما خلقه سبحانه صادرٌ عن علمه وحكمته، وكذلك أمره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته ، و هما متضمنان لجميع الكمال، فالعلم يتضمن الحياة ولوازم كمالها من القيومية، والقدرة، والبقاء، والسمع، والبصر، وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التّام ، والحكمة تتضمن كمال الإرادة، من العدل، والرحمة، والإحسان، والجود، والبر، ووضع الأشياء مواضعها على أحسن وجوهها، ويتضمن إرسال الرسل، وإثبات الثواب والعقاب.
- الإشارة إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها، ثم الإفصاح بوقوعه ، والدلالة على صدق الرسل فيما أخبروا به عن ربهم .
أمّا الإشارة ففي تضمّن اسمه الحكيم ، وأما وقوعه ففي ذكره سبحانه إرسال الملائكة لإهلاك قوم لوط، وإرسال الحجارة المسوّمة عليهم، وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله وإهلاك المكذّبين لهم، والدلالة على المعاد والثواب والعقاب؛ لوقوعه عيانًا في هذا العالم، وهذا من أعظم الأدلة الدالة على صدق رسله وصحة ما أخبروا به عن ربهم.
- ذكر الإسلام والإيمان والتفريق بينهما.
قال تعالى : ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين ) ، ففرّق بين الإسلام والإيمان هنا لغرض ، فإن الإخراج هنا عبارة عن النجاة، فهو إخراج نجاةٍ من العذاب، ولا ريب أن هذا مختصٌّ بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرًا وباطنًا.
و لما كانت امرأة لوط من أهل هذا البيت، وهي مسلمةٌ في الظاهر، فكانت في البيت الموجودين لا في القوم الناجين. وقد أخبر الله سبحانه عن خيانة امرأة لوط، وخيانتها أنّها كانت تدلّ قومها على أضيافه وقلبها معهم، وليست خيانة فاحشةٍ، فكانت من أهل البيت المسلمين ظاهرًا، وليست من المؤمنين الناجين.
- بقاء آيات الرب الدالة على توحيده، وصدق رسله، وعلى اليوم الآخر.
قال تعالى : ( وتركنا فيها آيةً للّذين يخافون العذاب الأليم (37) )، فيه دليل على أن آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم أبقى آثارها دالّةً عليه وعلى صدق رسله .
- تضمن أنه لا ينتفع بهذا كله إلا من في قلبه خوفٌ من عذاب الآخرة .
إنما ينتفع بهذه الآيات من يؤمن بالمعاد، ويخشى عذاب الله؛ كما قال تعالى في موضع آخر: (إنّ في ذلك لآيةً لمن خاف عذاب الآخرة)، وقال تعالى: ( سيذّكّر من يخشى ) .
فإن من لا يؤمن بالآخرة غايته أن يقول: هؤلاء قومٌ أصابهم الدهر كما أصاب غيرهم، ولا زال الدهر فيه الشقاء والسعادة، وأما من آمن بالآخرة وأشفق منها، فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ .
- حاجة المسافر إلى معاون في السفر .
كلّ مسافر لا بدّ معه من رفيق يأنس به ، فإن لم يجد فيمن حوله ، فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء ، فإنّه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين في الناس أموات، فإنهم يقطعون عليه طريقه .
- المطوب ممن لم يجد معاوناً .
عليه ألاّ يتوقف في سيره ، بل يسير ولو وحيدًا غريبًا، فانفراد العبد في طريق طلبه دليلٌ على صدق المحبة .
- ضرر صحبة العشراء وأبناء جنسه .
يصبح نظره قاصر، وهمّته واقفةٌ عند التشبه بهم ومباهاتهم والسلوك أيّةً سلكوا، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لأحبّ أن يدخل معهم .
- طرق تعامل المسافر إلى الله مع الخلق .
-أن يقيم لهم المعاذير ما استطاع فيما لا يخلّ بأمرٍ ولا يعود بنقض شرعٍ ، وينصحهم بجهده وطاقته .
- أن يسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته، واقفًا عند قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين )، فيؤدي حقّ الله فيهم، مع السلامة من شرهم ، و يأخذ ما عفا من أخلاقهم، وسمحت به طبائعهم، ووسعهم بذله من أموالهم وأخلاقهم ، وأما ما يكون منه إليهم؛ فأمرهم بالمعروف، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه، وهو ما أمر الله به ، و يتّقي أذى جاهلهم؛ بالإعراض ، وترك الانتقام لنفسه والانتصار لها.
- تأدب المسافر إلى الله بما أدب الله به رسوله في قوله تعالى : ( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) .
تضمنت هذه الآية مراعاة حقّ الله وحقّ الخلق؛ فإنهم إمّا أن يسيئوا في حقّ الله أو في حقّ رسوله؛ فإن أساءوا في حقّك يامحمد فقابل ذلك بعفوك عنهم، وإن أساءوا في حقّ ربهم فاسأله أن يغفر لهم ، واستجلب قلوبهم، واستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم، فإن ذلك أحرى في استجلاب طاعتهم وبذلهم النصيحة، فإذا عزمت على أمرٍ فلا استشارة بعد ذلك، بل توكّل على الله، وامض لما عزمت عليه من أمرك؛ فإن الله يحبّ المتوكلين.
- الخصال الثلاث التي تعين المسافر في التحلي بأخلاق الهجرة .
1- أن يكون العود طيبًا، غير جافٍ ولا غليظ .
2- أن تكون النفس قويةً غالبةً قاهرةً لدواعي البطالة والغيّ والهوى، فإنها أعداء الكمال، فإن لم تقو النفس على قهرها وإلا لم تزل مغلوبةً مقهورةً.
3- علمٌ شافٍ بحقائق الأشياء، وتنزيلها منازلها، يميز به بين الشّحم والورم، والزجاجة والجوهرة.
- أول الأمر وآخره وثمرة تحقيق هذا المقام .
أول الأمر وآخره : معاملة الله وحده، والانقطاع إليه بكلّيّه القلب، ودوام الافتقار إليه ، وثمرة ذلك : نيله لفضل ربّه وبرّه ولطفه ودفاعه عنه، والإقبال بقلوب عباده إليه، وإسكان الرّحمة والمحبة له في قلوبهم .

8- الختام .
- حال المؤمن في تواضعه لربه واعترافه بذنبه وتقصيره كلما ازداد علماً ورفعة .
يظهر هذا في تضرع ابن القيم رحمه الله في ختام الرسالة واعتذاره ، واعترافه بالتقصير والذنب ، والتبرؤ من ادّعاء الوجاهة عند ربه ، وطلب عفوه ورضاه و محبته وصدق المعاملة معه .
- الختام بثلاث كلمات مما يتناصح به السلف فيما بينهم .
"من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله مؤونة دنياه"، هذه الكلمات كان يكتب بها بعض السلف إلى بعض ، وهي مغنية عن كثير من الكلام .

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 29 شعبان 1439هـ/14-05-2018م, 11:13 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

سارة المشري ب
أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
- المقاصد الفرعيّة كثيرة، وهي لا تخرج عن مقصدين أو ثلاثة على الأكثر.
- كذلك المسائل كثيرة، وقد أدّى ذلك إلى تطويل التلخيص، فينتبه إلى الفرق بين أنواع المسائل وإبراز مسائل العماد تحت المقاصد.
والتصنيف الجيّد للمسائل والمقاصد ابتداء يعين على التلخيص الجيّد، فاجتهدي دائما في ضمّ كل ما يحسن ضمّه في تصنيف واحد أو مسألة واحدة، وتأمّلي الآيات المذكورة في الرسالة تجدي أغلبها مسائل سناد تتعلّق بمسألة واحدة هي واجب الهجرة إلى الرسول، فيكفي مع ذكرها في مسائلها تلخيص يسير لمعانيها وليس تفسيرا مطوّلا كما فعلت.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 8 محرم 1440هـ/18-09-2018م, 11:34 PM
ماهر القسي ماهر القسي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى السابع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2015
المشاركات: 467
افتراضي الطالب ماهر غازي القسي

نصيحة الإخوان بدلائل الإيمان
الفصل الأول ( الطرق المؤدية إلى الإيمان )
أولا : الواجبات الإيمانية
* مسألة : تداخل معنيي البر والتقوى عند الانفراد
* مسألة : معنى البر
* مسألة : خصال البر
* مسألة : حقيقة الإيمان
* مسألة : معنى التقوى
* مسألة : تغاير معنيي البر والتقوى عند الاقتران
* مسألة : التفريق بين معنيي الإثم والعدوان
* مسألة : حدود الله وأنواعها
ثانياً : الهجرة الإيمانية
* تعريف الهجرة
* دليل الهجرة
* حقيقة الهجرة
* مسألة : المحبة هي المحرك الأساسي للهجرة
* الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
* حكم هذه الهجرة
* زاد الهجرة الى الله
* معينات الطريق
* مركبه في السير
* مسألة : عدم الوحشة في طريق الهجرة
ثالثاً : التسليم لأوامر الله ورسوله وحكمهما
* دليل وجوب التسليم
* إنشراح القلب لأوامر الله علامة الإيمان
* التأكيد على معنى التسليم
رابعاً : الأولوية الإيمانية
* تعريفها
* كيفية ثبوت هذه الأولوية
رابعاً : القيام بالعدل دليل الإيمان
خامساً : طاعة الله ورسوله دليل الإيمان
* دليله
* وجوب الرجوع إلى الله ورسوله في موارد النزاع
* سبب الشرور في الدنيا والآخرة هو عدم تحكيم شرع الله
* هدى الله تعالى محصور في اتباع الوحي

الفصل الثاني ( طرق الكفر والتحذير منها )
طرق الكفر ودلائله
حكم التبعية في الضلال
أقسام الخلق بالنسبة لبعثته صلى الله عليه و سلم
التفكر في آيات الله هو رأس الأمر كله وأقوى باعث إلى الإيمان

ثانياً : حسن الخلق طريق السلامة
* الأمر بحسن الخلق
* اتباع الأسوة في أخلاقه صلى الله عليه وسلم


تفاصيل المسائل في الرسالة
أولا : الوجبات الإيمانية

قال الله تعالى في كتابه: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتّقوا اللّه إنّ اللّه شديد العقاب (2)}.
وقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فيما بينهم في بعضهم بعضا، وفيما بينهم وبين ربهم
النوع الأول : واجبات العباد فيما بينهم
- الواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته، التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها،
- ولا يتمّ هذا الواجب إلا بعزل نفسه من الوسط، والقيام بذلك لمحض النصيحة والإحسان ورعاية الأمر.

النوع الثاني : واجبات العباد فيما بينهم وبين ربهم
- فهو إيثار طاعته، وتجنّب معصيته، وهو قوله تعالى: {واتّقوا اللّه}.
- ولا يتم له أداء هذا الواجب إلا بعزل الخلق من البين، والقيام به لله إخلاصا ومحبةً وعبودية.

دلائل هذا التقسيم :
- وهذا هو معنى قول الشيخ عبد القادر -قدّس الله روحه-: "كن مع الحقّ بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس، ومن لم يكن كذلك لم يزل في تخبيط، ولم يزل أمره فرطا".
- وقال تعالى لنبيه: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على اللّه}.
وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حقّ الله وحقّ الخلق؛ فإنهم إمّا أن يسيئوا في حقّ الله أو في حقّ رسوله؛ فإن أساءوا في حقّك فقابل ذلك بعفوك عنهم، وإن أساءوا في حقّي فاسألني أغفر لهم، واستجلب قلوبهم، واستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم، فإن ذلك أحرى في استجلاب طاعتهم وبذلهم النصيحة، فإذا عزمت على أمرٍ فلا استشارة بعد ذلك، بل توكّل على الله، وامض لما عزمت عليه من أمرك؛ فإن الله يحبّ المتوكلين.

* مسألة : تداخل معنيي البر والتقوى عند الانفراد
- وهي "البرّ والتقوى" اللذان هما جماع الدين كله، وإذا أفرد كلّ واحد من الاسمين دخل فيه المسمّى الآخر، إما تضمنا وإمّا لزوما، ودخوله فيه تضمنا أظهر؛ لأن البرّ جزء مسمّى التقوى، وكذلك التقوى فإنه جزء مسمّى البر، وكون أحدهما لا يدخل في الآخر عند الاقتران لا يدل على أنه لا يدخل فيه عند الانفراد.
- ونظير هذا لفظ "الإيمان والإسلام"، "والإيمان والعمل الصالح"، و"الفقير والمسكين"، و"الفسوق والعصيان"، و"المنكر والفاحشة"، ونظائره كثيرة.
- ئم أخبر سبحانه أن هذه خصال التقوى بعينها ( خصال البر ) ، فقال: {أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون (177)}.

* مسألة : معنى البر
- فإن حقيقة البرّ هو الكمال المطلوب من الشيء، والمنافع التي فيه والخير، كما يدلّ عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام , وفي مقابلته "الإثم" .
- وفي حديث النّواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [له]: (جئت تسأل عن البرّ والإثم) ؛ فالإثم كلمة جامعة للشرّ والعيوب التي يذمّ العبد عليها.
- فيدخل في مسمى البرّ الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا ريب أن التّقوى جزء هذا المعنى، وأكثر ما يعبر بالبرّ عن برّ القلب،

* مسألة : خصال البر
- جمع [الله] تعالى خصال البرّ في قوله: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون (177)}.
فأخبر سبحانه أن البرّ
= هو الإيمان به، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهذه هي أصول الإيمان الخمس التي لا قوام للإيمان إلا بها.
= وأنه الشرائع الظاهرة: من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنفقات الواجبة.
= وأنه الأعمال القلبية التي هي حقائقه؛ من الصبر والوفاء بالعهد.

* مسألة : حقيقة الإيمان
- حقيقة الإيمان هو وجود طعم الإيمان [فيه] وحلاوته، وما يلزم ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه وقوته وفرحه بالإيمان،
- ومن لم يجد طعم الإيمان يكون من القسم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}.
فهؤلاء -على أصح القولين- مسلمون غير منافقين، وليسوا بمؤمنين، إذ لم يدخل الإيمان في قلوبهم؛ فيباشرها حقيقته.

* مسألة : معنى التقوى
- هي العمل بطاعة الله إيمانا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا فيفعل ما أمره الله به إيمانا بالأمر، وتصديقا بموعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانا بالنهي، وخوفا من وعيده.
دليله
- كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: "أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله".
- كثيرا ما يقرن بين هذين الأصلين في مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان إيمانا واحتسابًا" و"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا"، ونظائره.

* مسألة : تغاير معنيي البر والتقوى عند الاقتران
وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى} فالفرق بينهما فرق بين السّبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها؛
= البرّ مطلوب لذاته، إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه، كما تقدّم.
= وأما التقوى فهي الطريق الموصلة إلى البرّ، والوسيلة إليه، فلفظها دالٌ على أنها من الوقاية، فإن المتّقي قد جعل بينه وبين النار وقاية، فالوقاية من باب دفع الضرر، والبرّ من باب تحصيل النفع،
= فالتقوى كالحمية، والبرّ كالعافية والصحة.

* مسألة : التفريق بين معنيي الإثم والعدوان
- الإثم والعدوان في جانب النهي نظير البرّ والتّقوى في جانب الأمر.
- والفرق ما بين الإثم والعدوان فوق ما بين محرّم الجنس ومحرّم القدر.
= فالإثم: ما كان حراما لجنسه. فالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، ونحوها إثم.
= والعدوان: ما حرّم الزيادة في قدره، وتعدي ما أباح الله منه. ونكاح الخامسة، واستيفاء المجنيّ عليه أكثر من حقه، ونحوه عدوان.

* مسألة : حدود الله وأنواعها
- فنهى عن تعدّيها في آية، وعن قربانها في آية، وهذا لأن حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام، ونهاية الشيء تارة تدخل فيه فتكون منه، وتارة لا تكون داخلةً فيه فيكون لها حكم مقابله، فبالاعتبار الأول نهى عن تعدّيها، وبالاعتبار الثاني نهى عن قربانها
فالعدوان هو تعدّي حدود الله التي قال فيها: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم الظّالمون (229)}، وقال في موضع آخر: {تلك حدود اللّه فلا تقربوها}.
- ذمه سبحانه لمن لم يعلم حدود ما أنزله على رسوله
ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله؛ فإنه هو العلم النافع، وقد ذمّ سبحانه في كتابه من ليس له علم بحدود ما أنزله على رسوله. فإن عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين:
إحداهما: أن يدخل في مسمّى اللفظ ما ليس منه؛ فيحكم له بحكم المراد من اللفظ؛ فيسوّى بين ما فرق الله بينهما.
والثانية: أن يخرج من مسمّاه بعض أفراده الداخلة تحته؛ فيسلب عنه حكمه؛ فيفرّق بين ما جمع الله بينهما.

ثانياً : الهجرة الإيمانية
* تعريف الهجرة
- الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كلّ أحد في كلّ وقت، وأنه لا انفكاك لأحد من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد، إذ الهجرة هجرتان:
= هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها.
= والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعةٌ لها، وهي هجرة تتضمن "من" و"إلى":
فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته , ومن عبودية غيره إلى عبوديته , ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه.

* دليل الهجرة
وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {ففرّوا إلى اللّه}. فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
- وتحت "من" و"إلى" في هذا سرّ عظيم من أسرار التوحيد؛
= فإنّ الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم [أجمعين].
= وأما الفرار منه إليه؛ فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، فإذا فرّ العبد إلى الله فإنما يفرّ من شيء وجد بمشيئة الله وقدره؛ فهو في الحقيقة فارّ من الله إليه.
= ودليله :
ومن تصوّر هذا حقّ تصوّره فهم معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك منك" وقوله: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك". فإنه ليس في الوجود شيءٌ يفرّ منه ويستعاذ منه ويلجأ منه إلا وهو من الله خلقا وإبداعا.

* حقيقة الهجرة
- وتصوّر هذين الأمرين ( الجهرة من و إلى ) هو حقيقة الهجرة , فتأمّل كيف عاد الأمن كلّه إلى الفرار من الله إليه؛ وهو معنى الهجرة إلى الله [تعالى]. ولهدا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
- ولهذا يقرن سبحانه بين الإيمان والهجرة في القرآن في غير موضع؛ لتلازمهما واقتضاء أحدهما للآخر.
- والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحبّ والبغض؛ وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوه إلى خلاف ما يحبه الله ويرضاه وقد بلي بهؤلاء الثلاث فلا تزال تدعوه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفكّ في هجرة حتى الممات

* مسألة : المحبة هي المحرك الأساسي للهجرة
- وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه، فكلما كان داعي [المحبة] في قلب العبد أقوى كانت هذه الهجرة [أقوى و] أتمّ وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علما، ولا يتحرك بها إرادة.

* الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
- هو سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلّا وحيٌ يوحى (4)} .
- غربة هذه الهجرة بين العباد
= وأما الهجرة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فمعلم لم يبق منه سوى رسمه، فسالكها غريب بين العباد، منفرد في طريق طلبه، لا يقرّ قراره حتى يظفر بأربه
= هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد.
[بعيدٌ على كسلان أو ذي ملالةٍ ... وأما على المشتاق فهو قريب]

* حكم هذه الهجرة
- هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله.
- وعن هاتين الهجرتين يسأل كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدّور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.

* زاد الهجرة الى الله
- زاده العلم الموروث عن خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، ولا زاد له سواه؛ فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته،
- طريقه: فهو بذل الجهد, واستفراغ الوسع، فلن ينال بالمنى, ولا يدرك بالهوينا .

* معينات الطريق
أحدهما: أن لا يصبو في الحق إلى لومة لائم .
والثاني: أن تهون عليه نفسه في الله .
ولا يتمّ له هذان الأمران إلا بالصبر؛ فمن صبر قليلًا صارت تلك الأهوال ريحًا رخاءً في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه, فبينما هو يخاف منها, إذ صارت أعظم أعوانه وخدمه .

* مركبه في السير
- صدق اللّجأ إلى الله, والانقطاع إليه بكلّيته, وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه, فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته، وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة .

* مسألة : عدم الوحشة في طريق الهجرة
- والمقصود أن القلب لما تحوّل لهذا السفر طلب رفيقًا يأنس به في السفر، فلم يجد إلا معارضًا مناقضًا، ولا يستوحش في الطريق فانفراد العبد في طريق طلبه دليلٌ على صدق المحبة.
- خير صاحب في طريق السفر
=ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء , وليحذر من مرافقة الأحياء الذين في الناس أموات، فقد قال بعض من سلف: "شتّان بين أقوامٍ موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين أقوامٍ أحياءٍ تموت القلوب بمخالطتهم".
= وصار بين الناس غريبًا، سائرًا فيهم بعينين:
عين ناظرة إلى الأمر والنهي؛ بها يأمرهم وينهاهم، ويواليهم ويعاديهم، ويؤدي إليهم الحقوق، ويستوفيها عليهم.
وعين ناظرة إلى القضاء والقدر، بها يرحمهم ويدعو لهم ويستغفر لهم، ويلتمس لهم وجوه المعاذير فيما لا يخلّ بأمرٍ ولا يعود بنقض شرعٍ .

ثالثاً : التسليم لأوامر الله ورسوله وحكمهما
* دليل وجوب التسليم
قال تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا (65)}؛ فأقسم سبحانه بأجل مقسم به -وهو نفسه -عز وجل-- على أنهم لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكّموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين. فإن لفظة "ما" من صيغ العموم؛ فإنها موصولة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.

* إنشراح القلب لأوامر الله علامة الإيمان
- حيث لا يجدوا في أنفسهم حرجا -وهو الضّيق والحصر- من حكمه، بل يتلقّوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالقبول، لا أنهم يأخذونه على إغماض
- ثم لم يقتصر [سبحانه] على ذلك حتى ضمّ إليه قوله: {ويسلّموا تسليمًا (65)}؛ فذكر الفعل مؤكدًا له بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو الخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعا ورضى، وتسليمًا لا قهرا ومصابرةً؛
- وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة، بل هو أمر قد انشقّ [له] القلب واستقرّ في سويدائه، لا تفي العبارة بمعناه، ولا مطمع في حصوله بالدعوى والأماني.

* التأكيد على معنى التسليم
أولها: تصديرها بلا النافية، وليست زائدة كما يظنّ من يظنّ ذلك، وإنما دخولها لسرٍّ في القسم، وهو الإيذان بتضمّن المقسم عليه للنّفي، وهو قوله: {لا يؤمنون}.
وثانيها: تأكيده بنفس القسم.
وثالثها: تأكيده بالمقسم به، وهو إقسامه بنفسه لا بشيءٍ من مخلوقاته، وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة، وبمخلوقاته تارة.
ورابعها: تأكيده بانتفاء الحرج، ووجود التسليم.
وخامسها: تأكيد الفعل بالمصدر.


رابعا : الأولوية الإيمانية
* تعريفها
وقال تعالى: {النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، وهذا دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين.
وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:
- أن يكون أحبّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة .
- أن لا يكون للعبد حكمٌ على نفسه أصلًا، بل الحكم على نفسه للرسول، فيا عجبًا كيف تحصل هذه الأولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول عن منصب التحكيم، والحوالة في العلم النافع على غيره، وذلك هو الضلال المبين.

* كيفية ثبوت هذه الأولوية
ولا سبيل إلى ثبوت هذه الأولوية إلّا بعزل كل ما سواه، وتوليته في كل شيء، وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به؛ فإن شهد له بالصحة قبله، وإن شهد له بالبطلان ردّه، وإن لم تتبين شهادته له بصحةٍ ولا بطلانٍ جعله بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقفه حتى يتبيّن أي الأمرين أولى به؟

خامساً : القيام بالعدل دليل الإيمان
* تعريفه ودليله
قال تعالى: {ياأيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)}.
- فأمر سبحانه بالقيام بالقسط، وهو العدل، وهذا أمر بالقيام به في حقّ كل أحد عدوًّا كان أو وليًّا، وأحقّ ما قام له العبد بالقسط: الأقوال والآراء والمذاهب؛
- ثم قال: {شهداء للّه} والشاهد هو المخبر، فإن أخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول، وإن أخبر بباطل فهو شاهد زور؛ فأمر تعالى أن نكون شهداء له مع القيام بالقسط، وهذا يتضمن أن تكون الشهادة بالقسط أيضًا، وأن تكون لله لا لغيره.
وقال في الآية الأخرى: {كونوا قوّامين للّه شهداء بالقسط}.
[فتضمنت الآيتان أمورًا أربعة:
أحدها: القيام بالقسط].
والثاني: أن يكون لله.
والثالث: الشهادة بالقسط.
والرابع: أن تكون لله.
- ثم قال تعالى: {ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}، فأمر سبحانه بأن يقام بالقسط، ويشهد به على كل أحد، ولو كان أحبّ الناس إلى العبد،
- ثم قال تعالى: {إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما}؛ أي: إن يكن المشهود عليه غنيًّا ترجون وتأملون عود منفعة غناه عليكم فلا تقومون عليه، أو فقيرًا فلا ترجونه ولا تخافونه، فالله أولى بهما منكم، هو ربهما ومولاهما،
وفيه معنى آخر يتركون له الشهادة : أما الغنيّ فخوفًا على ماله، وأما الفقير فلإعدامه، وأنه لا شيء له؛ فتتساهل النفوس في القيام عليه بالحق، فقيل لهم: الله أولى بالغني والفقير منكم .
- ثم قال تعالى: {فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل.
وقوله: {أن تعدلوا} منصوب الموضع على أنه مفعول لأجله. وتقديره عند البصريين: كراهية أن تعدلوا، أو حذار أن تعدلوا؛
- ثم قال تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا} ذكر سبحانه السّببين الموجبين لكتمان الحق محذرًا منهما، متوعدًا عليهما:
أحدهما: اللّيّ.
والآخر: الإعراض.
فإن الحقّ إذا ظهرت حجّته، ولم يجد من يروم دفعها طريقًا إلى دفعها، أعرض عنها وأمسك عن ذكرها، فكان شيطانًا أخرس، وتارةً يلويها أو يحرّفها.
واللّيّ مثل الفتل، وهو التحريف. وهو نوعان: ليٌّ في اللفظ، وليٌّ في المعنى.
فاللّيّ في اللفظ: أن يلفظ بها على وجهٍ لا يستلزم الحقّ؛ إما بزيادة لفظة، أو نقصانها، أو إبدالها بغيرها، أو ليًّا في كيفية أدائها، وإيهام السامع لفظًا ومراده غيره؛ كما كان اليهود يلوون ألسنتهم بالسّلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا أحد نوعي اللّيّ.
والنوع الثاني منه: ليّ المعنى، وهو تحريفه، وتأويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم به، وتحماله ما لم يرده، أو يسقط منه بعض ما أراد به، ونحو هذا من ليّ المعاني، فقال تعالى: {وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (135)}.
ولما كان الشاهد مطالبًا بأداء الشهادة على وجهها، فلا يكتمها ولا يغيّرها، كان الإعراض نظير الكتمان، واللّيّ نظير تغييرها وتبديلها.

سادساً : طاعة الله ورسوله دليل الإيمان
* دليله
- قال تعالى: {قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرّسول إلّا البلاغ المبين (54)}، فأخبر سبحانه أن الهداية إنما هي في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلّق بالشرط؛ فينتفي بانتفائه، و هذا من الأحكام التي رتّبت على شروط وعلّقت، فلا وجود لها بدون شروطها، إذ ما علّق على الشرط فهو عدم عند عدمه .
- قوله: {فإن تولّوا فإنّما عليه ما حمّل}، الفعل للمخاطبين، وأصله: تتولوا، والمعنى: أنه قد حمّل أداء الرسالة وتبليغها، وحمّلتم طاعته والانقياد له والتسليم؛ كما ذكر البخاري في "صحيحه" عن الزهري قال: "من الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم".
- ودل على هذا المعنى بآية أخرى وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا}؛ فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله. وافتتح الآية بندائهم باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا وخوطبوا به،
- ثم قال: {أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول}؛ ففرق بين طاعته وطاعة رسوله في الفعل، ولم يسلّط الفعل الأول عليها، وقال: {وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم}، فقرن بين طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وسلّط عليهما عاملًا واحدًا، والمراد هو دلالته على أن ما يأمر به رسوله تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورًا به بعينه في القرآن، فكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك رجلٌ شبعان متكئٌ على أريكته يأتيه الأمر من أمري؛ فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه".
- وأما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول، لا طاعة مفردة مستقلة؛ كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على المرء السّمع والطاعة [فيما أحبّ وكره] ما لم يؤمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله، فلا سمع ولا طاعة".
- فتأمّل كيف اقتضت إعادة هذا المعنى قوله تعالى: {فردّوه إلى اللّه والرّسول}، ولم يقل: وإلى الرسول؛ فإن الردّ إلى القرآن ردٌّ إلى الله والرسول، والردّ إلى السنة ردٌّ إلى الله والرسول .
- معنى أولي الأمر في قوله {وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم}،
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في أولي الأمر، فعنه فيهم روايتان:
إحداهما: أنهم العلماء.
والثانية: أنهم الأمراء.
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية. والصحيح: أنها متناولة للصنفين جميعًا؛ فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله.
فالعلماء ولاته حفظًا، وبيانًا، وبلاغًا، وذبًّا عنه، وردًّا على من ألحد فيه وزاغ عنه، وقد وكّلهم الله بذلك، فقال تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين (89)}.
والأمراء ولاته قيامًا، ورعايةً، وجهادًا، وإلزامًا للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه.

* وجوب الرجوع إلى الله ورسوله في موارد النزاع
- ثم قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه والرّسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}.
وهذا دليل قاطعٌ على أنه يجب ردّ موارد النّزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كلّه إلى الله ورسوله، ولهذا قال تعالى: {إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر}،
- وقد اتفق السّلف والخلف على أن الردّ إلى الله هو الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله هو الردّ إليه في حياته والردّ إلى سنّته بعد وفاته.

* سبب الشرور في الدنيا والآخرة هو عدم تحكيم شرع الله
- ثم قال تعالى: {ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا (59)}؛ أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر، وردّ ما تنازعتم فيه إليّ وإلى رسولي، خيرٌ لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خيرٌ لكم وأحسن عاقبةً.
- فعاد شرّ الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول وما يترتب عليه، فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شرٌّ قط.
وهذا كما أنه معلوم في الشّرور العامّة والمصائب الواقعة في الأرض؛ فكذلك هو في الشّر والألم والغمّ الذي يصيب العبد في نفسه، فإنما هو بسبب مخالفة الرسول،
- فعلم أن شرور الدنيا والآخرة إنما هي الجهل بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخروج عنه .
- انحصر الكمال الإنسانيّ في هذه المراتب الأربعة:
إحداها: العلم بما جاء به الرسول.
الثانية: العمل به.
الثالثة: بثّه في الناس، ودعوتهم إليه.
الرابعة: صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه.

* هدى الله تعالى محصور في اتباع الوحي
- قال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قل إن ضللت فإنّما أضلّ على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربّي إنّه سميعٌ قريبٌ (50)}.
فهذا نص صريح في أن هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حصل بالوحي، فأيّ ضلالٍ أعظم من ضلال من يزعم أن الهداية لا تحصل بالوحي،
- وقال تعالى: {المص (1) كتابٌ أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكّرون (3)}؛ فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله، ونهى عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل أو اتباع أولياء من دونه، فإنه لم يجعل بينهما واسطة،
- وقال تعالى: {ويوم يعضّ الظّالم على يديه يقول ياليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلًا (27) ياويلتى ليتني لم أتّخذ فلانًا خليلًا (28) لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جاءني وكان الشّيطان للإنسان خذولًا (29)}.
فكل من اتخذ خليلًا غير الرسول، يترك لأقواله وآرائه ما جاء به الرسول؛ فإنه قائلٌ هذه المقالة لا محالة، ولهذا فإنه سبحانه لم يعيّن هذا الخليل، وكنّى عنه باسم فلان، إذ لكلّ متبعٍ أولياء من دون الله فلانٌ وفلانٌ.
- فهذا حال هذين الخليلين المتخالّين على خلاف طاعة الرسول، ومآل تلك الخلّة إلى العداوة واللعنة؛ كما قال تعالى: {الأخلّاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌّ إلّا المتّقين (67)}.

الفصل الثاني ( طرق الكفر والتحذير منها )
أولاً : طرق الكفر ودلائله
- قال تعالى: {فمن أظلم ممّن افترى على اللّه كذبًا أو كذّب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه قالوا ضلّوا عنّا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النّار قال لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)}.
فليتدبر العاقل هذه الآيات وما اشتملت عليه من العبر...
= قوله تعالى: {افترى على اللّه كذبًا أو كذّب بآياته} ذكر الصنفين المبطلين:
أحدهما: منشىء الباطل والفرية، وواضعها، وداعي الناس إليها.
والثاني: المكذّب بالحق.
فالأول كفره بالافتراء وإنشاء الباطل، والثاني كفره بجحود الحق. وهذان النوعان يعرضان لكل مبطل؛ فإن انضاف إلى ذلك دعوته إلى باطله، وصدّ الناس عن الحقّ، استحقّ تضعيف العذاب؛ لتضاعف كفره وشرّه؛ ولهذا قال تعالى: {الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه زدناهم عذابًا فوق العذاب بما كانوا يفسدون (88)}، فلما كفروا وصدّوا عباده عن سبيله عذّبهم عذابين: عذابًا بكفرهم، وعذابًا بصدّهم عن سبيله.

ثانياً : حكم التبعية في الضلال
* حكم الأتباع والمتبوعين المشتركين في الضلالة

- {حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه}؛ أين من كنتم توالون فيه وتعادون فيه، وترجونه وتخافونه من دون الله؟ {قالوا ضلّوا عنّا}. زالوا وفارقوا، وبطلت تلك الدعوة.
{وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين (37) قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النّار}، ادخلوا في جملة هذه الأمم.
{كلّما دخلت أمّةٌ لعنت أختها حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعًا قالت أخراهم لأولاهم} كل أمة متأخرة ضلّت بأسلافها.
{ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النّار} ضاعف عليهم العذاب بما أضلّونا وصدّونا عن طاعة رسلك.
- قال الله تعالى: {لكلٍّ ضعفٌ} من الاتباع والمتبوعين بحسب ضلاله وكفره.
{ولكن لا تعلمون (38)} لا تعلم كل طائفة بما في أختها من العذاب المضاعف.
- {وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ}؛ فإنكم جئتم بعدنا فأرسلت فيكم الرسل، وبينوا لكم الحق، وحذّروكم من ضلالنا، ونهوكم عن اتباعنا وتقليدنا؛ فأبيتم إلا اتباعنا وتقليدنا، وترك الحق الذي أتتكم به الرسل، فأيّ فضلٍ كان لكم علينا، وقد ضللتم كما ضللنا، وتركتم الحق كما تركناه؛ فضللتم أنتم بنا كما ضللنا نحن بقوم آخرين، فأي فضل لكم علينا؟ {فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)}.


* حكم الأتباع المخالفون لمتبوعيهم
وأما الأتباع المخالفون لمتبوعيهم، العادلون عن طريقتهم، الذين يزعمون أنهم تبع لهم، وليسوا متّبعين لطريقتهم، فهم المذكورون في قوله تعالى: {إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب (166) وقال الّذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ منهم كما تبرّءوا منّا كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النّار (167)}.
فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، وأتباعهم ادّعوا أنهم على طريقتهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم، يزعمون أنّهم يحبونهم، وأن محبّتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم لهم، فيتبرءون منهم يوم القيامة، فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله، وظنوا أن هذا الاتخاذ ينفعهم.

* حكم الأتباع الأشقياء
- كل من اتخذ من دون الله ورسوله ولياً فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسراتٍ عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه، فأبطل الله ذلك العمل كلّه، وقطع تلك الأسباب، وهي الوصل والموالاة التي كانت بينهم في الدنيا لغيره كما قال: {وتقطّعت بهم الأسباب (166)}؛ فينقطع يوم القيامة كل سببٍ ووصلةٍ ووسيلة ومودّة [وموالاة] كانت لغير الله, ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وبين ربه،
- والمقصود أن الله سبحانه يقطع يوم القيامة الأسباب والعلق والوصلات التي كانت بين الخلق في الدنيا كلها
- قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورًا (23)} , هذه الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنّة رسله وطريقتهم ولغير وجهه، يجعلها الله هباءً منثورًا، لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلًا؛

* حكم الأتباع السّعداء فنوعان:
النوع الأول : أتباعٌ لهم حكم الاستقلال، وهم الذين قال الله -عز وجل- فيهم: {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي اللّه عنهم ورضوا عنه}.
- فهؤلاء هم السّعداء الذين ثبت لهم رضى الله عنهم، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل من تبعهم بإحسان، فكل من سلك سبيلهم فهو من التابعين لهم بإحسان .
وقيّد سبحانه هذه التبعية بأنها تبعية [بإحسانٍ، ليست مطلقة فتحصل بمجرد النسبة والاتباع في شيء والمخالفة في غيره، ولكن تبعية] مصاحبةٌ للإحسان؛ فإن الباء هنا للمصاحبة،
- وقال تعالى: {هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبينٍ وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم (4)}.
= الأولون هم الذين أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبوه، والآخرون الذين لم يلحقوا بهم هم كل من بعدهم على منهاجهم إلى يوم القيامة، فيكون التّأخّر وعدم اللّحاق بهم في الزمان.
= و في الآية قول آخر: إن المعنى لم يلحقوا بهم في الفضل والمرتبة، بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة.
والقولان كالمتلازمين؛ فإنّ من بعدهم لا يلحقون بهم لا في الفضل ولا في الزمان، فهؤلاء الصنفان هم السّعداء.

النوع الثاني : فهم أتباع المؤمنين من ذريّتهم، الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا، وإنما هم مع آبائهم تبعٌ لهم، قال الله تعالى فيهم: {والّذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ كلّ امرئٍ بما كسب رهينٌ (21)}.
= أخبر سبحانه أنه ألحق الذّرية بآبائهم في الجنة، كما أتبعهم إياهم في الإيمان, ولما كان الذّرية لا عمل لهم يستحقون به تلك الدرجات قال تعالى: {وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ}، والضمير عائد إلى الذين آمنوا؛ أي: وما نقصناهم شيئًا من عملهم، بل رفعنا ذريّتهم إلى درجاتهم، مع توفيتهم أجور أعمالهم؛ فليست منزلتهم منزلة من لم يكن له عمل، بل وفّيناهم أجورهم، وألحقنا بهم ذرياتهم فوق ما يستحقونه من أعمالهم.
= ثم لما كان هذا الإلحاق في الثواب والدرجات فضلًا من الله، فربما وقع في الوهم أن إلحاق الذرية أيضًا حاصلٌ بهم في حكم العدل، فإذا اكتسبوا سيئاتٍ أوجبت عقوبة، كان كل عامل رهينًا بكسبه لا يتعلق بغيره منه شيء.
= فالإلحاق المذكور إنما هو في الفضل والثواب لا في العدل والعقاب،

* أقسام الخلق بالنسبة لبعثته صلى الله عليه و سلم
وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعثه الله به [من الهدى] في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم: كمثل غيثٍ أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفةٌ طبّبةٌ قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء؛ فسقى الناس وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا, ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
فشبّه - صلى الله عليه وسلم - العلم الذي جاء به بالغيث؛ لأن كلًّا منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان، والعلم سبب حياة القلوب.
= كما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:
إحداها: أرضٌ زكيّةٌ قابلةٌ للشّرب والنبات؛ فإذا أصابها الغيث ارتوت منه، ثمّ أنبتت من كل زوجٍ بهيجٍ.
فهذا مثل القلب الزّكي الذّكي؛ فهو يقبل العلم بذكائه، ويثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه؛ فهو قابلٌ للعلم، مثمرٌ لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.
والثانية: أرضٌ صلبة قابلة لثبوت الماء فيها وحفظه، فهذه ينتفع الناس بورودها والسّقي منها والازدراع.
وهذا مثل القلب الحافظ للعلم، الذي يحفظه كما سمعه، ولا تصرّف له فيه ولا استنباط، بل له الحفظ المجرد، فهو يؤدي كما سمع، وهو من القسم الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه غير فقيه".
والأرض الثالثة أرض قاعٌ؛ وهو المستوي الذي لا يقبل النبات، ولا يمسك ماءً، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع بشيء منه.
فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم ولا الفقه والدراية فيه، وإنما هو بمنزلة الأرض البوار التي لا تنبت ولا تحفظ الماء، وهو مثل الفقير الذي لا مال له، ولا يحسن يمسك مالًا , فهو الذي لم يقبل هدى الله، ولا رفع به رأسًا. وأما من لم يقبل هدى الله الذي بعث به رسوله، ولم يرفع به رأسًا، فهو من الصنف الثالث، وهم {الّذين حمّلوا التّوراة ثمّ لم يحملوها}.

الفصل الثالث ( الطرق المنجية )
أولاً : التفكر في آيات الله هو رأس الأمر كله وأقوى باعث إلى الإيمان
- رأس مال الأمر وعموده في ذلك إنما هو دوام التفكر وتدبر آيات القرآن، بحيث يستولي على الفكر، فإذا فعل ذلك تمكّن حينئذٍ الإيمان من قلبه،

* مثال عظيم على تدبر القرآن وما فيه من معانٍ كثيرة جليلة
قال الله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلامًا قال سلامٌ قومٌ منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمينٍ (26) فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون (27)} إلى قوله: {الحكيم العليم (30)}.
فعهدي بك إذا قرأت هذه الآيات، وتطلّعت إلى معناها وتدبرتها؛ فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة أضيافٍ يأكلون، وبشّروه بغلام عليم، وأن امرأته عجبت من ذلك؛ فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك، ولم يجاوز تدبرك غير ذلك.
فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من الأسرار..
- قال الله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24)}
= افتتح الله سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام، وليس المراد به حقيقته من الاستفهام. فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر مخاطبه بأمر عجيب ينبغى الاعتناء به، وإحضار الذهن له، صدّر له الكلام بأداةٍ تنبّه سمعه وذهنه للخبر، فتارةً يصدّره بـ"ألا"، وتارةً يصدّره بـ"هل"، [فيقول: هل علمت ما كان من كيت وكيت؟ إما مذكّرًا به، وإما واعظًا له مخوّفًا]، وإما منبّهًا على عظمة ما يخبر به, وإما مقرّرًا له.
= وفيه أمر آخر، وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علمٌ من أعلام النّبوة؛ فإنه من الغيب الذي لا تعلمه أنت ولا قومك،

- وقوله: {ضيف إبراهيم المكرمين (24)} متضمن لثنائه على خليله إبراهيم؛ فإن في {المكرمين} قولين:
أحدهما: إكرام إبراهيم لهم؛ ففيه مدحٌ له بإكرام الضيف.
والثاني: أنهم مكرمون عند الله؛ كقوله: {بل عبادٌ مكرمون (26)}، وهو متضمن أيضًا لتعظيم خليله ومدحه؛ إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافًا له.

- وقوله تعالى: {فقالوا سلامًا قال سلامٌ}
متضمن لمدحٍ آخر لإبراهيم حيث ردّ عليهم أحسن مما حيّوه به؛ فإن تحيتهم باسم منصوبٍ متضمن لجملةٍ فعليّةٍ تقديره: سلّمنا عليك سلامًا، وتحية إبراهيم لهم باسمٍ مرفوعٍ متضمن لجملةٍ اسميّةٍ، تقديره: سلامٌ ثابتٌ أو دائم أو مستقرٌّ عليكم. ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم، والفعلية تقتضي التجدد والحدوث؛ فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن.

- وقوله {قومٌ منكرون (25)}، وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمّم منه وجهان من المدح:
أحدهما: أنه حذف المبتدأ، والتقدير أنتم منكرون، فتذمّم منهم، ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من بعض الاستيحاش، بل قال: {قومٌ منكرون (25)}، ولا ريب أن حذف المبتدأ في هذا من محاسن الخطاب، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يواجه أحدًا بما يكرهه، بل يقول: "ما بال أقوامٍ يقولون كذا، ويفعلون كذا".
والثاني: قوله {قومٌ منكرون}؛ فحذف فاعل الإنكار، وهو الذي كان أنكرهم؛ كما قال تعالى في موضع آخر: {نكرهم}، ولا ريب أن قوله: {منكرون (25)} ألطف من أن يقول: أنكرتكم.

- وقوله: {فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمينٍ (26) فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون (27)} متضمنٌ وجوهًا من المدح، وآداب الضيافة، وإكرام الضيف:
= منها: قوله {فراغ إلى أهله} , والروغان: الذهاب في سرعة واختفاءٍ، وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف، والاختفاء ترك تخجيله وألا يعرّضه للحياء،
= وفي قوله: {إلى أهله} مدحٌ آخر، لما فيه من الإشعار بأن كرامة الضيف معدّةٌ حاصلةٌ عند أهله، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه، ولا يذهب إلى غير أهله، إذ نزل الضيف حاصل عندهم.
= وقوله: {فجاء بعجلٍ سمينٍ (26)} يتضمن ثلاثة أنواع من المدح:
أحدها: خدمة ضيفه بنفسه، فإنه لم يرسل به، وإنما جاء به بنفسه.
الثاني: أنه جاءهم بحيوان تام لم يأتهم ببعضه؛ ليتخيّروا من أطايب لحمه ما شاءوا.
الثالث: أنه سمين ليس بمهزولٍ، وهذا من نفائس الأموال، ولد البقرة السمين، فإنهم يعجبون به، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره.
= وقوله: {إليهم} متضمنٌ لمدحٍ وأدبٍ آخر، وهو إحضار الطعام إلى بين أيدي الضيف، بخلاف من يهيّئ الطعام في موضع، ثم يقيم ضيفه؛ فيورده عليه.
= وقوله: {قال ألا تأكلون (27)} فيه مدحٌ وأدب آخر؛ فإنه عرض عليهم الأكل بقوله: {ألا تأكلون (27)}، وهذه صيغة عرضٍ مؤذنة بالتلطف،
= وقوله: {فأوجس منهم خيفةً}؛ لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفًا أن يكون منهم شر؛ فإن الضيف إذا أكل من طعام ربّ المنزل اطمأنّ إليه وأنس به، فلما علموا منه ذلك {قالوا لا تخف وبشّروه بغلامٍ عليمٍ (28)}، وهذا الغلام إسحاق لا إسماعيل؛ لأن امرأته عجبت من ذلك، وقالت: عجوزٌ عقيمٌ لا يولد لمثلي، فأنى [لي] بالولد؟

- وقوله: {فأقبلت امرأته في صرّةٍ فصكّت وجهها}؛ فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها؛ إذ بادرت إلى النّدبة وصكّ الوجه عند هذا الإخبار.
- وقوله: {وقالت عجوزٌ عقيمٌ (29)} فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال، واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة، فإنها حذفت المبتدأ، فلم تقل: أنا عجوز عقيم، واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة، لم تذكر غيره، وأما في سورة هود فذكرت السبب المانع منها ومن إبراهيم، وصرّحت بالتعجب.

-وقوله: {قالوا كذلك قال ربّك} متضمن لإثبات صفة القول [له].
- وقوله: {إنّه هو الحكيم العليم (30)} متضمنٌ لإثبات صفة الحكمة والعلم اللذين هما مصدر الخلق والأمر،
- واختصت هذه القصة [بذكر] هذين الاسمين لاقتضائها لهما؛ لتعجّب النفوس من تولد مولودٍ بين أبوين لا يولد لمثلهما عادة، وخفاء العلم بسبب هذا الإيلاد، وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على [غير] العادة المعروفة؛ فذكر في الآية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق وغايته، وحكمته في وضعه موضعه من غير إخلالٍ بموجب الحكمة.

ثانياً : حسن الخلق طريق السلامة
* الأمر بحسن الخلق
قال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)}، على المسلم أن يكون متدبرًا لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق، وأداء حقّ الله فيهم، والسلامة من شرهم. فلو أخذ الناس كلّهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم؛
- فإن العفو ما عفا من أخلاقهم، وسمحت به طبائعهم، ووسعهم بذله من أموالهم وأخلاقهم؛ فهذا ما منهم إليه.
- وأما ما يكون منه إليهم؛ فأمرهم بالمعروف، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه، وهو ما أمر الله به.
- وأما ما يتّقي به أذى جاهلهم؛ فالإعراض عنهم، وترك الانتقام لنفسه والانتصار لها.

* اتباع الأسوة في أخلاقه صلى الله عليه وسلم
وخير معين على حسن الخلق معرفة أخلاقه صلى الله عليه وسلم
- وقال فيه: {وإنّك لعلى خلقٍ عظيمٍ (4)}. قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان خلقه القرآن".
وهذه لا تتمّ إلا بثلاثة أشياء:
أحدها: أن يكون العود طيبًا، فأما إذا كانت الطبيعة جافيةً غليظةً يابسةً عسر عليها مزاولة ذلك علمًا وإرادةً وعملًا، بخلاف الطبيعة المنقادة اللّينة السّلسة القياد، فإنها مستعدّةٌ إنما تريد الحرث والبذر.
الثاني: أن تكون النفس قويةً غالبةً قاهرةً لدواعي البطالة والغيّ والهوى .
الثالث: علمٌ شافٍ بحقائق الأشياء، وتنزيلها منازلها، يميز به بين الشّحم والورم، والزجاجة والجوهرة.

والحمد لله رب العالمين

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 25 جمادى الأولى 1440هـ/31-01-2019م, 04:57 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

تابع التقويم

ماهر القسي ب
أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.
وقد بذلت جهدا واضحا في التلخيص -بارك الله فيك- واجتهدت في استخلاص المسائل وتصنيفها، لكن حصل تقليب كبير جدا في ترتيب المؤلف -رحمه الله- للمسائل، وهذا لا يكون سليما في الغالب، لأن المؤلف قصد ترتيبا بعينه للمسائل التي غالبا ما تكون مبنية بعضها على بعض، نعم قد يحصل أن يستطرد المؤلف إلى مسألة خارجية ثم يعود ليكمل المسألة الأصلية فهنا قد نحتاج لتغيير الترتيب، أما أن نغير في ترتيب المسائل لغير سبب واضح فإن هذا لا يقود غالبا لفهم الرسالة فهما جيدا.
وابن القيم -رحمه الله- أراد في هذه الرسالة بيان منزلة سفر الهجرة إلى الله ورسوله وما يعين عليه، فقدّم لذلك ببيان قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} وبيّن صلة ذلك بمسألة سفر الهجرة، ثم بين نوعي هجرة القلب وهما الهجرة إلى الله والهجرة إلى رسوله، وبين واجب كل نوع وغايته، وما يناقض كل نوع، وكان للهجرة إلى الرسول النصيب الأكبر في الرسالة كما هو معلوم، ولكن الملاحظ في التلخيص أنك جزّأت هذا المقصد إلى أكثر من مقصد، وكان الأفضل أن توالي بين مسائله كما فعل المؤلف حتى يفهم الترابط بينها وأنها تنتمي لمقصد واحد.
وعلى كل أشكر لك اجتهادك وأوصيك بإعادة النظر في التلخيص وطريقة تصنيف المسائل ومحاولة تجويدها، وفقك الله.

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 22 شوال 1441هـ/13-06-2020م, 06:37 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نورة الأمير مشاهدة المشاركة
تلخيص رسالة "قاعدة في المحبة" لشيخ الإسلام ابن تيمية:
قبل أن أضع المقاصد والتلخيص, لفت نظري تمكن وعمق تأصيل ابن تيمية –رحمه الله-, والأهم من ذلك تدرجه من أصل الحركات والأفعال إلى فروع هذا الأصل وما ينتج عنه, لذا فإن المقصد الأساس هو توضيح أن الحب والكره مبدؤ الأفعال والترك, وأن أعظم الحب حب الله, وأعظم الكره كره الإشراك به, وما ينتج عن ذلك من اعتقادات تخص العقيدة والولاء والبراء, بل والدين كله يرجع لهذين الأمرين: حب الله وما يحبه, وكره ما يكرهه, والمقاصد الفرعية هي ما ينتج عن ذلك ويترتيب عليه.
والحقيقة أن سعة علم الشيخ ماشاء الله لا قوة إلا بالله أتعبتني في محاولة تبيين المقاصد, لذا فالمقصد الكلي آليت أن أنقله بلسان الشيخ نفسه في ختام رسالته, إذ كأنه أشعرني بحديثه أن سبب تأصيله لهذا الموضوع هو هذا المقصد.
المقصد الكلي:
بيان أنه إذا علم أن جميع حركات العالم صادرة عن محبة وإرادة ولا بد للمحبة والإرادة من سبب فاعل يكون هو المحبوب فبذلك يعلم أنه لا بد لجميع الحركات من إله يكون المعبود المقصود المراد المحبوب لها وأنها دالة على الإله الحق من هذا الوجه وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.

المقاصد الفرعية:
1- بيان أن جميع الحركات ناشئة عن الحب والإرادة.
2- بيان أن أصل كل فعل ومبدؤه هو الحب, وأصل كل ترك هو البغض.
3- بيان أن أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها, وخلق خلقه, وحرك بها مخلوقاته لأجلها, هي ما في عبادته وحده لا شريك له.
4- بيان أن الحب أصل كل عمل من حق وباطل وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله.
5- بيان أن الأصول التي يقوم عليها الدين الحق, والتي بها تتحقق السعادة هي: الإيمان بالله, واليوم الآخر, والعمل الصالح, والشرع الذي جاءت به الرسل.
6- إثبات المحبة بين الرب وعبده, والعبد وربه.
7- إثبات اللذة كنتيجة عن المحبة الصحيحة, والألم كنتيجة عن المحبة المحرمة.
8- بيان أن أصل العبادة هو كمال المحبة مع كمال الذل.
9- إثبات النعيم كمقصود لكل عمل أصله المحبة, وأن النعيم الكامل هو في الدين الحق.
10- بيان أن كل ضراء وسراء هي نعيم للمؤمن إن أحسن التعامل معها.
11- بيان أن الموالاة والمعاداة في الله من أهم مستلزمات محبته.

الملخص:

1- جميع الحركات ناشئة عن الحب الإرادة والاختيار, وهما مستلزمان للحياة والعلم, ولهذا كان أعظم آية في القرآن {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .
2- أصل كل فعل ومبدؤه الحب, وأصل كل ترك ومبدؤه البغض.
3- قواعد في الحب والكره:
1. أن الإنسان لا يحب الشيء ويريده حتى يكون له به شعور أو إحساس أو معرفة ونحو ذلك ويكون مع ذلك بنفسه إليه ميل.
2. بعض الأمور وإن كانت مكروهة من وجوه, فإن فعلها لمحبة وإرادة, ولم تكن المحبة لنفسها, بل لملازمها.
- مثال: حب العافية يدفع لشرب الدواء وإن كان مكروها.
3. لا يترك الحي ما يحبه ويهواه, إلا لما يحبه ويهواه, لكنه يترك أضعفمها محبة لأقواهما محبة, كما يفعل ما يكرهه لما محبته أقوى من كراهة ذلك، وكما يترك ما يحبه لما كراهته أقوى من محبة ذلك.
- مثال: محبة رحمة الله (الأقوى محبة) تدفع لترك ما قد يهواه المرء من أمور الدنيا (الأضعف محبة) :(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى).
4. المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة, وعلة لها ولازم مستلزم لها من غير علة.
- وبيان ذلك: أن فعل البغض في العالم إنما هو لمنافاة المحبوب، ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض.
5. والشيء قد يحب من وجه دون وجه، وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده, ولا تصلح الإلهية إلا له ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
6. أن الحي قد يحب ما يضره, لجهله وظلمه, وهذا هو حال من اتبع هواه بغير علم, وقد يكون عن اعتقاد فاسد, كحال من اتبع الظن وما تهواه النفس.
7. أن سماع الوصف قد يورث المحبة والشوق, كما قيل: والأذن تعشق قبل العين أحيانا.
8. أن الأمور الغائبة عن المشاهدة والإحساس لا تعرف وتحب وتبغض إلا بنوع من التمثيل والقياس سواء كان الغائب أكمل في الصفات المطلوبة المشتركة كالموعود به من أمر الجنة والنار وكما يصف به الرب نفسه سبحانه وتعالى أو ما كان دون ذلك كما مثل من الأمور بما هو أكمل منه.
9. قوة المحبة لكل محبوب يتفاوت الناس فيها تفاوتا عظيما، ويتفاوت حال الشخص الواحد في محبة الشيء الواحد بحيث يقوي الحب تارة ويضعف تارة بل قد يتبدل أقوي الحب بأقوى البغض وبالعكس.
10. أن المحبة أصل كل دين صالحا كان أو فاسدا.
11. أن كل محبة وبغضة فإنه يتبعها لذة وألم, ففي نيل المحبوب لذة وفراقه يكون فيه ألم, وفي نيل المكروه ألم وفي العافية منه تكون فيه لذة.
12. أن المحب إذا أحب الشيء لم يحب ضده بل يبغضه, فلا يتصور اجتماع إرادتين تامتين للضدين, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن..)).
13. من تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب وبغض بغيضه ويشهد لهذا الحديث أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.

ينتج عن تلك القواعد أن تعلم:

1- أنه إذا كان الحب يتبع الإحساس, والإحساس لا يكون إلا بموجود ما, فإن ما يحب لا يكون إلا بموجود, وأيضا فإن الإحساس لا يكون أولا إلا لموجود, فكذلك الحب في نفسه لا يكون إلا لموجود أو محبوب, وإن كان يحب وجود المعدوم, فهو لاشيء, وما ليس بشيء لا يكون محبوبا, وإن كان يحب وجود المعدوم ويريده, فلا بد أن يكون قبل ذلك قد ذاقه والتذ به موجودا حتى أحبه بعد ذلك, أو ذاق والتذ بنظيره أو بما يشبهه.
2- أن أصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها, وخلق خلقه, وحرك بها مخلوقاته لأجلها, هي ما في عبادته وحده لا شريك له, إذ العبادة متضمنة لغاية الحب بغاية الذل, ظاهرا وباطنا.
3- وأن جماع القرآن هو الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهي عن هذه المحبات ولوازمها وضرب الأمثال والمقاييس للنوعين وذكر قصص أهل النوعين.
4- وأن أعظم المحبة في الحق محبة الله, ومحبة ما يحبه, وموالاة من يواليه, وإرادته بعبادته وحده لا شريك له، وأعظمها في الباطل أن يتخذ الناس من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ويجعلون له عدلا وشريكا, ويوالون من يبغضه.
ولهذا: فإن رأس الإيمان: الحب في الله, والبغض في الله.
5-
إذا كان كل عمل أصله المحبة والإرادة والمقصود منه التنعم بالمراد المحبوب, فكل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته, فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد, كما أن التعذب والتألم هو المكروه أولا وهو سبب كل بغض وكل حركة امتناع.
6-
أن المحبة توجب الدنو من المحبوب والبعد عن مكروهاته, قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
7-
إذا كانت المحبة أصل كل دين, لزم عن ذلك أن كل طائفة من بني آدم لا بد لهم من دين يجمعهم، إذ لا غنى لبعضهم عن بعض، وإذا اجتمعوا فلا بد أن يشتركوا في اجتلاب ما ينفعهم, وفي دفع ما يضرهم, ولا بد أن يشتركوا في محبة شيء عام وبغض شيء عام وهذا هو دينهم المشترك العام.
8-
وإذا كان كذلك فالأمور التي يحتاجون إليها يحتاجون أن يوجبوها على أنفسهم، والأمور التي تضرهم يحتاجون أن يحرموها على نفوسهم، وذلك دينهم، وذلك لا يكون إلا باتفاقهم على ذلك وهو التعاهد والتعاقد، ولهذا جاء في الحديث: ((لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له)).

فصل: الدين, كأحد أهم نواتج المحبة: [ استعمال كاف التشبيه هنا خطأ لغوي ]
- لا بد في كل دين من شيئين:
أحدهما: الدين المحبوب المطاع وهو المقصود المراد.
والثاني: نفس صورة العمل التي تطاع ويعبد بها وهو السبيل والطريق والشريعة والمنهاج والوسيلة, فالدين يجمع أمرين: المعبود, وهو الله وحده, والعبادة, وهي عبادة الله وطاعة رسله واتباع الدين الذي ارتضاه {ورضيت لكم الإسلام دينا}.
- كل دين يجتمع عليه الناس غير دين الله, فهو باطل, وكل من اتبع دين الله, فهو الحق, قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.
- الدين يكون بطاعة الله وعبادته وحده دون واسطة, قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}, وطاعة الله تستلزم طاعة رسله, وينتج عن طاعة رسله طاعة أولي الأمر ما لم يكن في معصية الله, قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصي الله ومن عصي أميري فقد عصاني)).’ فهذه هي درجات الطاعة, وسلم العبادة.
- يشترك الأولون والآخرون في الدين الحق, وهو عبادة الله وحده, ويختلفون فيما عبدوه وعرفوه به {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.
- أصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله, كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله.
*الأصول التي يقوم عليها الدين الحق هي: الإيمان بالله, واليوم الآخر, والعمل الصالح, والشرع الذي جاءت به الرسل.
-الإتيان بهذه الأصول يستلزم السعادة في كل ملة, قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
-من مقاصد الدين تحقيق المصالح الدنيوية للعباد, لكنه لا يقتصر عليها,{ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق}, فجعل مقصد ما هو دنيوي أخروي, ليبين أن الآخرة مقصود يعمل لأجله في كل صغيرة وكبيرة.

فصل: الحب والكره بين الرب وعبده، والعبد وربه:
-أعظم حب قد يناله المرء هو حب الله له, وأعظم حب قد يحبه العبد هو حبه لله.
*دليل اتصاف الله بالحب والكره:
-قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
-ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه)).
*تأويل صفة الحب لله:
- تأول الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام محبة الله لعبده على أنها الإحسان إليه فتكون من الأفعال.
- تأولت طائفة من الصفاتية محبة الله على أنها إرادة الإحسان، وربما قال كلا من القولين بعض المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
- أقر بعض الصفاتية محبة العبد ربه على أنها إرادة العبادة له وإرادة التقرب إليه.
- أقر سلف الأمة وأئمة السنة على المحبة على ما هي عليه, بل هم متفقون على أنه لا يكون شيء من أنواع المحبة أعظم من محبة العبد ربه, كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه}

*مسألة: حكم إطلاق لفظ العشق على لله:
عرف بعضهم العشق أنه المحبة الكاملة التامة.
وإن كان العشق هو ما سبق تعريفه, فلا شك أن أولى المستحقين لذلك العشق هو الله, لكن مكمن الاستنكار على هذه اللفظة عدة أمور.
- مآخذ لفظ " العشق":
- من جهة اللفظ:
- أنه ليس مأثورا عن السلف وباب الأسماء والصفات يتبع فيها الألفاظ الشرعية فلا نطلق إلا ما يرد به الأثر.
- المشهور من لفظ العشق هو محبة النكاح ومقدماته, ولا يعرف استخدامه في محبة الولد أو الوطن ونحوه, وهذا قد يوهم بالمعنى الفاسد للكلمة, وهو ما لا يليق بالله.
- من جهة المعنى:
- أن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب. وهذا المعنى ممتنع في حق الله من الجهتين فإن الله لا يحب محبة زيادة على العدل ومحبة عبادة المؤمنين له ليس لها حد تنتهي إليه حتى تكون الزيادة إفراطا وإسرافا ومجاوزة للقصد بل الواجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
- وقيل أن العشق هو فساد في الإدراك والتخيل والمعرفة فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق. وإذا كان الأمر كذلك امتنع في حق الله من الجانبين فإن الله بكل شيء عليم وهو سميع بصير مقدس منزه عن نقص أو خلل في سمعه وبصره وعلمه والمحبون له عباده المؤمنون الذين آمنوا به وعرفوه بما تعرف به إليهم من أسمائه وآياته وما قذفه في قلوبهم من أنوار معرفته فليست محبتهم إياه عن اعتقاد فاسد.

باب من ضل في حب الله:
- فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوا هذا الباب وكذبوا بحقيقته, فهؤلاء يشبهون المستكبرين, كاليهود ومن شابههم.
- وفريق من أهل التعبد والتصوف والزهد أدخلوا فيه من الاعتقادات والإرادات الفاسدة, وهؤلاء يشبهون المشركين والنصارى ومن شابههم.
* درجات محبة الله:
محبة الله ورسوله على درجتين:
- واجبة: وهي درجة المقتصدين, وتقتضي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
- مستحبة: وهي درجة السابقين, وهي أن يحب ما أحبه الله من النوافل والفضائل محبة تامة وهذه حال المقربين الذين قربهم الله إليه.
*أقسام المحبوبات:
- قسم: يحب لنفسه, وهذا لا يشرع إلا لله.
- وقسم: يحب لغيره, وهو كل ما أمر الله بحبه.

فصل: اللذة والألم, كأحد نواتج الحب والبغض:
من المعلوم أن المحبة هي العلة الفاعلة لإدراك الملائم المحبوب المشتهى, واللذة والسرور هي الغاية.
*أجناس اللذات الدنيوية:
- جنس بالجسد, كالأكل والنكاح.
- جنس بالتخييل, كالمدح والتعظيم.
- جنس بالقلب والروح والعقل, كالتلذذ بذكر الله ومعرفته.
*قاعدة: كل لذة وإن جلت هي في نفسها مقصودة لنفسها إذ المقصود لنفسه هو اللذة, لكن من اللذات ما يكون عونا على ما هو أكثر منه أيضا فيكون مقصودا لنفسه بقدره ويكون مقصودا لغيره بقدر ذلك الغير.

فصل: النعيم التام, كحق لأهل الدين الحق الناتج عن محبة الله:
- النعيم التام هو في الدين الحق, فأهل الدين الحق هم الذين لهم النعيم التام, وأهل الدين الباطل هم الذين لهم العذاب التام, كما أخبر الله بذلك في كتابه في غير موضع كقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}.
- الأصل أن المؤمن في نعيم, سواء أصابته سراء أم ضراء, وبيان ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن أن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له)) وإذا كان خيرا فالخير هو المنفعة والمصلحة الذي فيه النعيم واللذة.
- قد يكون ما ظاهره نعمة هو لذة عاجلة قد تكون سببا للعذاب, وما ظاهره عذاب هو ألم عاجل قد يكون سببا للنعيم.
- قد يبتلى المؤمن بالسراء كما يبتلى بالضراء, بل كان بعض الصحابة يقول: ابتلينا بالضراء فصبرنا, وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من فتنة القبر وشر فتنة الغنى, وقال لأصحابه: (( والله ما الفقر أخشي عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوا فيها وتهلككم كم أهلكتهم)).

*مسألة: شبهة عدم تنعم المؤمن بالدنيا, وتنعم نظيره الكافر بها في كثير من الأحيان: ينبغي أن يعرف أن الذي اشتبه عليه ذلك في الغالب يبني كلامه على مقدمتين خاطئتين،
هما:
- حسن ظنه بدين نفسه نوعا أو شخصا, واعتقاده في خصمه ونظيره خلاف ذلك.
- أن الله قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا.
والرد عليهما كالتالي:
-أما الأول: فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها, أو من يفعل محرمات اقتداء بأسلافه ظنا بأنها واجبات, أو غير ذلك.
-وأما الثاني: فالرد عليه من كتاب الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.
لذا يجب أن يعلم:
-أن حصول النصر وغيره من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم وجرحه.
-أن التنعم يكون في الأمور الدنيوية والدينية, فأما الدنيوية فيشترك فيها المؤمن والكافر, وأما الدينية فجماعها أمران: طاعته فيما أمر, وتصديقه فيما أخبر, وهذه لا تحصل إلا للمؤمن, لشرف الخبر الصدق عن الله, ولطاعته ما فيه صلاحه ومنفعته من أوامر الله.

*مسألة: هل النعيم الدنيوي نعمة في حق الكافر أم لا؟
- القدرية الذين يقولون لم يرد الله لكل أحد إلا خيرا له بخلقه وأمره وإنما العبد هو الذي أراد لنفسه الشر بمعصيته وبترك طاعته التي يستعملها بدون مشيئة الله وقدرته أراد لنفسه الشر, يقولون ما نعم به الكافر فهو نعمة تامة كما نعم به المؤمن سواء.
- وأهل الإثبات قالوا: ليس لله على الكافر نعمة دنيوية كما ليس له عليه نعمة دينية تخصه, إذ اللذة المستعقبة ألما أعظم منها ليست بنعمة كالطعام المسموم {إنما نملي لهم لزدادوا إثما}.
- وخالفهم آخرون من أهل الإثبات للقدر أيضا فقالوا بل لله على الكافر نعم دنيوية, والقولان في عامة أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيره, ودليلهم امتنانه تعالى على الكفار بنعمه, ومطالبته إياهم بشكرها, فكيف يقال ليست نعما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار}.
-والراجح أن هذه التنعمات هي نعمة من وجه دون وجه فليست من النعم المطلقة ولا هي خارجة عن جنس النعم مطلقها ومقيدها فباعتبار ما فيها من التنعم يصلح أن يطلب حقها من الشكر وغيرها وينهى عن استعمالها في المعصية فتكون نعمة في باب الأمر والنهي والوعد والوعيد, وباعتبار أن صاحبها يترك فيها المأمور ويفعل فيها المحظور الذي يزيد عذابه على نعمها كانت وبالا عليه وكان أن لا يكون ذلك من حقه خيرا له من أن يكون فليست نعمة في حقه في باب القضاء والقدر والخلق والمشيئة العامة وإن كان يكون نعمة في حق عموم الخلق والمؤمنين.

فصل: في الموالاة والمعاداة, كأحد أهم نواتج الحب والكره:
- تعريف الموالاة والمعاداة:
المولي من الولي وهو القرب, والعدو من العدواء وهو البعد.
فأولياء الله ضد أعدائه يقربهم منه ويدنيهم إليه ويتولاهم ويتولونه ويحبهم ويرحمهم ويكون عليهم منه صلاة وأعداؤه يبعدهم ويلعنهم وهو إبعاد منه ومن رحمته ويبغضهم ويغضب عليهم.
قال تعالى: في حق المنافقين {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.
وقال تعالى: في حق المجاهدين {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}.
*مظاهر الولاء وقواعده:
-أصل الموالاة هي المحبة كما أن أصل المعاداة البغض فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق والتباغض يوجب التباعد.
-مدار الولاء حب ما يحبه المحبوب, وبغض ما يبغضه.
-الولاء يوجب موافقة المحب للمحبوب.
-الولاء الفاسد يوجب ظلم المتحابين لأنفسهما ولغيرهما.
-الولاء يوجب تعاون المتحابين واتفاقهما فلا بد أن يبغضا ويعاديا من يبغض ذلك منهما ويخالفهم فيه.


أ

أحسنت وتميّزت بارك الله فيك.

أوصي بتنسيق الملف ونشره.


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثاني, التطبيق

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:44 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir