دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > مجموعة المتابعة الذاتية > منتدى المستوى الثامن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 3 جمادى الأولى 1441هـ/29-12-2019م, 01:01 PM
هيثم محمد هيثم محمد غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Jul 2016
المشاركات: 482
افتراضي

اختر ثلاث المفردات من المفردات التالية وبيّن معانيها وما يصحّ أن تفسّر به في الآيات المذكورة:
1: معنى البلاء في قول الله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}


ذكر المفسرون للبلاء ثلاثة معاني، هي:

المعنى الأول: النعمة، وهو قول ابن عباس والسدي ومجاهد وابن جريج، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، واختاره ابن المبارك وابن قتيبة والزجاج في هذه الآية، كما في قول الله عزّ وجلّ: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا}، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
جزى اللّه بالإحسان ما فعلا بكم ........ فأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو

وعلى هذا المعنى تكون الإشارة بذلكم إلى التنجية من بني إسرائيل.

المعنى الثاني: الشدة والمكروه أو النقمة، ذكره ابن جرير، واختاره مكي بن أبي طالب وأبي عبيدة، ونسبه القرطبي للجمهور.
وعلى هذا المعنى تكون الإشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النّساء.

المعنى الثالث: الاختبار والامتحان، ذكره أبو عبيدة، واختاره ابن الأنباري، ومنه قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} وقوله تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون}، وذكر ابن جرير أنه: "أصل الكلمة في كلام العرب، ثمّ يستعمل في الخير والشّرّ لأنّ الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشّرّ، كما قال اللّه جلّ ثناؤه: {وبلوناهم بالحسنات والسّيّئات لعلّهم يرجعون}
يقول: اختبرناهم، وكما قال جلّ ذكره: {ونبلوكم بالشّرّ والخير فتنةً} ثمّ تسمّي العرب الخير بلاءً والشّرّ بلاءً، غير أنّ الأكثر في الشّرّ أن يقال: بلوته أبلوه بلاءً، وفي الخير: أبليته أبليه إبلاءً وبلاءً"
فجمع بين اللّغتين لأنّه أراد: فأنعم اللّه عليهما خير النّعم الّتي يختبر بها عباده
{وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيمٌ} يقول تعالى: وفيما يصنع بكم آل فرعون من أنواع العذاب بلاءٌ لكم من ربّكم عظيمٌ: يقول أي ابتلاءٌ واختبارٌ لكم من ربّكم عظيمٌ، وقد يكون البلاء في هذا الموضع نعماء، وقد يكون معناه: من البلاء الّذي قد يصيب النّاس في الشّدائد".

وبهذا يظهر أن البلاء يتصرف على وجوه، كما في قول الفراء: "من ذلك العطاء والثناء والغناء والسماء والبلاء والسواء والبواء".
وجمع ابن عطية بين المعنى الثاني والثالث بقوله: "والبلاء في هذه الآية يحتمل أن يريد به المحنة، ويحتمل أن يريد به الاختبار، والمعنى متقارب".
وأما ترجيح الأصمعي فهو الجمع بين المعنى الأول والثاني أن المراد بالبلاء راجع إلى النعمة والعذاب كما قال: "{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} راجع إلى الأمرين إلى المحنة التي في قوله: {يذبحون أبناءكم} وإلى المنحة التي في قوله: {أنجاكم}"، وهو محتمل لسياق الآية، وهو أيضا قول الأصفهاني في مفرداته: "وقوله عزّ وجلّ: {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} رَاجعٌ إلى الأمرين؛ إلى المحنةِ التي في قوله عزّ وجلّ: {يُذَبِّحُونَ أبناءكم وَيَسْتَحْيُونَ نساءكم} وإلى المنحة التي أنجاهم".
فيتبين بذلك أن أصل استعمال البلاء هو الاختبار والامتحان ثم قد يكون نعمة أو شدة ومكروه، فالمعاني الثلاثة صحيحة للتفسير.

4: معنى النحر في قول الله تعالى: {فصلّ لربّك وانحر}

ذكر المفسرون للنحر خمسة معاني، هي:
المعنى الأول: الذبح لله، وهو قول ابن عباس وأنس بن مالك ومجاهد وقَتَادَة وعِكْرِمَة وعطاء في أحد قوليه والحكم وأبي جَعْفَر في أحد قوليه والرَّبِيع والحَسَن وابن زَيْد ومحمد بن كَعْب القُرَظِي وسَعِيد بن جُبَيْر، -مع الاختلاف بينهم في المراد فيما نزلت: فبعضهم قال أنه ذبح يوم النحر والبعض قال أنه ذبح الهدي يوم الحديبية والبعض قال بعموم الذبح وهو الأولى- رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن وهب وابن نَصْر، ونسبه الزجاج وابن عطية للجمهور.
والمعنى على هذا القول: الأمر أن تكونَ ذبيحتُه لله في كل حال، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
المعنى الثاني: وَضْع اليمين على الشِّمالِ في الصلاة، وهو قول علي بن أبي طالِب والشَّعْبِي وأبي القَمُوص، رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم واستحسنه، وتعقبه ابن عطية بقوله: "فالنحر على هذا ليس بمصدر نحر، بل هو الصّدر"، وذكر ابن كثير أن هذه الرواية عن علي لا تصح.
المعنى الثالث: رْفَع اليد إلى النَّحْر عند افْتِتَاح الصلاة والدخول فيها، وهو قول أبي جَعْفَر في أحد قوليه وعطاء في أحد قوليه، رواه ابن جرير وابن وهب، ورواه الحاكم عن علي واستحسنه.
المعنى الرابع: ادْع رَبَّك وسَلْه، وهو قول الضحاك، رواه ابن جرير.
المعنى الخامس: اسْتَقْبِل القِبْلَة بِنَحْرِك، ذكره الفراء وابن جرير، وقال الفراء: "سمعت بعض العرب يقول: منازلنا تتناحر هذا بنحر هذا أي: قبالته.
وأنشدني بعض بني أسد:
أبا حكم ها أنت عمّ مجالدٍ.......وسيّد أهل الأبطح المتناحر
فهذا من ذلك ينحر بعضه بعضا".

والتحقيق أن الأقوال كلها وإن كانت محتملة لغة – كما قال الأصفهاني في مفرداته: "النحر موضع القلادة من الصدر"-، لكن القول الأول هو الصحيح في التفسير، لأنه المشهور من معنى اللفظ، ومنه يوم النحر، ونحر البدن، كما أنه قول الجمهور، وهو ترجيح ابن جرير وابن كثير.
قال ابن كثير: "ولهذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي العيد ثم ينحر نسكه ويقول: «من صلّى صلاتنا ونسك نسكنا؛ فقد أصاب النّسك، ومن نسك قبل الصّلاة فلا نسك له». فقام أبو بردة بن نيارٍ فقال: يا رسول اللّه، إنّي نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أنّ اليوم يومٌ يشتهى فيه اللّحم. قال: «شاتك شاة لحمٍ». قال: فإنّ عندي عناقاً، هي أحبّ إليّ من شاتين، أفتجزئ عنّي؟ قال: «تجزئك، ولا تجزئ أحداً بعدك»".
وقال ابن جرير: "وأوْلَى هذه الأقوالِ عندِي بالصوابِ: قوْلُ مَن قالَ: معنى ذلك: فاجْعَلْ صَلاَتَكَ كلَّها لربِّك خالِصاً دونَ ما سِوَاه مِن الأندادِ والآلهةِ، وكذلك نَحْرَكَ اجْعَلْه له دونَ الأوثانِ؛ شُكراً له على ما أَعْطَاكَ مِن الكرامَةِ والخيْرِ الذي لا كُفْءَ له، وخَصَّكَ به مِن إعطائِه إيَّاكَ الكوثرَ.
وإنما قلتُ: ذلك أولَى الأقوالِ بالصوابِ في ذلك؛ لأن اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أخْبَرَ نبيَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أكْرَمَه به مِن عَطِيَّتِه وكرامَتِه، وإنعامِه عليه بالكوثرِ، ثم أَتْبَعَ ذلك قولَه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. فكانَ معلوماً بذلك أنَّه خصَّه بالصلاةِ له، والنحرِ على الشكْرِ له، على ما أَعْلَمَه مِن النعمةِ التي أنْعَمَها عليه، بإعطائِه إيَّاه الكوْثَرَ، فلم يَكُنْ لخُصُوصِ بعضِ الصلاةِ بذلك دونَ بَعْضٍ، وبعضِ النحرِ دونَ بعضٍ، وَجْهٌ؛ إذ كانَ حَثًّا على الشكْرِ على النعَمِ.
فتأويلُ الكلامِ إِذَنْ: إنَّا أعْطَيْناكَ يا محمدُ الكوثرَ؛ إِنْعَاماً مِنَّا عليكَ به، وتَكْرِمَةً مِنَّا لك، فأخْلِصْ لربِّكَ العبادَةَ، وأفْرِدْ له صلاتَكَ ونُسُكَكَ؛ خلافاً لما يَفْعَلُه مَن كَفَر به، وعَبَد غَيْرَه، ونَحَر للأوثان".
وقال ابن كثير عن بقية الأقوال الأخرى: "وكل هذه الأقوال غريبة جدًّا، والصحيح القول الأول، أن المراد بالنحر ذبح النسائك".

5: معنى العصر في قول الله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر}

ورد في تفسير العصر ثلاثة معاني، هي:
المعنى الأول: العشي، وهو قول الحسن، رواه عبد الرزاق وابن جرير، وهو ما قَبْل مَغِيب الشمس، وقال قطرب: يقال: أتيتك عصراً أي عشيّاً.
ومنه قول الحارث بن حلزة في معلقته:
آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَها ... القُنَّاصُ عَصْراً وقَدْدَنا الإمسَاءُ.
وقَالَ الشَّاعِر:
تروح بِنَا عمر وَقد قصر الْعَصْر ... وَفِي الروحة الأولى المثوبة وَالْأَجْر.

المعنى الثاني: ساعة من ساعات النهار، وهو قول ابن عبَّاس وقتادة، رواه عبد الرزاق وابن جرير.

المعنى الثالث: الدّهر، ذكره البخاري، وهو ترجيح قطرب والراغب وابن جرير وابن القيم، ولم يذكر الفراء وابن قتيبة ومكي بن أبي طالب غيره، وذكر ابن كثير أنه القول المشهور، ومنه تفسير السمين بأنه الزمان، ثم قال: "قال الشاعر:
وقد مر للدارين من بعد عصرنا
والجمع: أعصر، وعصور. قال الشاعر:
حَيُوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا".

والشواهد الشعرية على هذا المعنى كثيرة، ومنها قول امرؤ القيس:
وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟

وبالرجوع إلى تعريف العصر كما ذكر ابن كثير أنه: "الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خيرٍ وشر"، يتبين أن سبب الاختلاف هو الاشتراك اللغوي في لفظ العصر، فهو يطلق على عدة معان، وكل هذه الأقوال محتملة كما قال ابن جرير، غير أن تفسيره بالدهر يظهر فيه شموله للأوقات كلها، فيكون القول الأخير هو أعم الأقوال وأشملها، كما أنه الأنسب لسياق السورة، والله أعلم.
قال ابن جرير: "والصوابُ من القولِ فِي ذلك: أنْ يُقالَ: إنَّ ربَّنا أقسمَ بالعصرِ {وَالْعَصْرِ} اسمٌ للدهرِ، وهو العشيُّ والليلُ والنهارُ، ولم يُخصِّصْ ممَّا شمِلَهُ هذا الاسمُ معنًى دونَ معنًى، فكلُّ ما لزِمَهُ هذا الاسمُ فداخلٌ فيما أقْسَمَ بهِ جلَّ ثناؤُه".
وقال ابن القيم: "وأكثر المفسرين على أنه الدهر. وهذا هو الراجح. وتسمية الدهر عصراً أمر معروف".

وذكر ابن القيم مكان العبرة في العصر بقوله: "فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدرة العزيز العليم، منتظم لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام، وتعاقبهما مع اعتدالهما تارة وأخذ أحدهما من صاحبه تارة، واختلافهما في الضوء والظلام والحر والبرد، وانتشار الحيوان وسكونه، وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها، آية من آيات الرب تعالى وبرهان من براهين قدرته وحكمته. فأقسم بالعصر الذي هو زمان أفعال الإنسان ومحلها، على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبه بالمبدأ وهو خلق الزمان والفاعلين وأفعالهم، على المعاد، وأن قدرته كما لم تقصر عن المبدأ لم تقصر عن المعاد".

بيّن المراد بالمفردات التاليات:
(1) المحروم في قول الله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم}


للمفسرين في المراد بالمحروم خمسة أقوال، هي:
القول الأول: الذي يصاب زرعه أو حرثه أو نسل ماشيته، وهو قول زيد بن أسلم وعطاء بن أبي رباح وأبي قلابة، رواه ابن وهب وابن جرير.
وهذا المعنى في قول أصحاب الجنّة حين أهلكت جنّتهم: {بل نحن محرومون}، وفي قوله تعالى: {لو نشاء لجعلناه حطامًا فظلتم تفكّهون إنّا لمغرمون بل نحن محرومون}.
القول الثاني: المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا، وهو قول قتادة وابن شهاب والزهري ورواية عن ابن عباس، رواه ابن وهب وعبد الرزاق وابن جرير، وهو محتمل للسياق لأن قبله: السائل.
القول الثالث: هو الّذي لا ينمى له مال، وهو قول عكرمة وأبي الزناد ومجاهد وعطاء الخراساني والضحاك وسعيد بن المسيب، رواه ابن وهب وعبد الرزاق وابن جرير وابن نَصْر، وفي معناه أيضا ما رواه ابن وهب عن مالك أنه: الفقير الذي يحرم الرزق، وهو اختيار ابن عطية، وذكر الزجاج أنه المعنى الأكثر في اللغة.
القول الرابع: المحارف الّذي ليس له في الإسلام سهم، وهو قول ابن عباس، رواه ابن جرير، ولم يذكر ابن المبارك غيره.
القول الخامس: هو الّذي لا سهم له في الغنيمة، وهو قول إبراهيم والحسن بن محمّد، رواه عبد الرزاق وابن جرير، وذكره الفراء وابن قتيبة ومكي بن أبي طالب.

وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى أن المحروم هو الذي لا مال له بأي سبب كان، فكل قول مما سبق هو نوع من الحرمان، وهو اختيار ابن جرير والنحاس وابن عطية.
قالَ النَّحَّاس: "وإنّما وقع الاختلاف في هذا لأنّها صفةٌ أقيمت مقام الموصوف، والمحروم هو الّذي قد حرم الرّزق واحتاج. فهذه الأقوال كلّها داخلةٌ في هذا غير أنّه ليس فيها أجلّ ممّا روي عن ابن عبّاسٍ ولا أجمع أنّه المحارف".
وقالَ ابْن جَرِير: "والصّواب من القول في ذلك عندي أنّه الّذي قد حرم الرّزق واحتاج، وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره، فصار ممّن حرمه اللّه ذلك، وقد يكون بسبب تعفّفه وتركه المسألة، ويكون بأنّه لا سهم له في الغنيمة لغيبته عن الوقعة، فلا قول في ذلك أولى بالصّواب من أن تعمّ".
وقال ابن عطية: "اختلف الناس في "المحروم" اختلافا هو عندي تخليط من المتأخرين; إذ المعنى واحد، وإنما عبر علماء السلف في ذلك العبارات على جهة المثلات فجعلها المتأخرون أقوالا، وحصرها مكي ثمانية، و"المحروم" هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق، إلى غير هذا من الأقوال التي إنما ذكرت مثالا، كأنه يقول: الذي أصيبت ثمرته من المحرومين، والمعنى الجامع لهذه الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه، وإلا فالذي تصاب ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع".

(2) الباقيات الصالحات

ذكر المفسرون في المراد منها أربعة أقوال، هي:
القول الأول: لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر، وهو قول عثمان وعلي وابن عبّاس في أحد أقواله وابن عمر ومجاهد وسعيد بن المسيّب ومحمّد بن كعب القرظي والحسن وقتادة، رواه يحيى بن سلام وعبد الرزاق وابن جرير، ونسبه ابن عطية للجمهور.
وهو أشهر الأقوال لما رواه ابن جرير عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر من الباقيات الصّالحات.
وروى ابن جرير عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "استكثروا من الباقيات الصّالحات"، قيل: وما هي يا رسول اللّه؟ قال: "الملّة"، قيل: وما هي يا رسول اللّه؟ قال: "التّكبير والتّهليل والتّسبيح، والحمد، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه".
القول الثاني: الصلوات الخمس، وهو قول ابن عبّاس في أحد أقواله وسعيد بن جبير وأبي ميسرة عمرو بن شرحبيل وإبراهيم، رواه ابن جرير.
القول الثالث: العمل بطاعة اللّه عزّ وجل، وهو قول ابن زيد وابن عبّاس في أحد أقواله، رواه ابن جرير.
القول الرابع: الكلم الطّيّب، وهو قول ابن عبّاس في أحد أقواله.

والأقوال كلها صحيحة كما قال النحاس: "ولا يمتنع شيء من هذا عند أهل اللغة؛ لأنه كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا".

فيتبين أن المراد من الباقيات الصالحات هو كل قول أو فعل من طاعة الله وكل ما أريد به وجه الله مما يبقى للآخرة، ولهذا جمع بين كل الأقوال النحاس وابن جرير والزجاج والأصفهاني، وأشار إلى ذلك يحيى بن سلام وابن عطية وابن كثير.
قال ابْن جَرِير: "وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب، قول من قال: هنّ جميع أعمال الخير، كالّذي روي عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، لأنّ ذلك كلّه من الصّالحات الّتي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازى ويثاب، وإنّ اللّه عزّ ذكره لم يخصّص من قوله {والباقيات الصّالحات خيرٌ عند ربّك ثوابًا} بعضًا دون بعضٍ في كتاب، ولا بخبرٍ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
فإن ظنّ ظانٌّ أنّ ذلك مخصوصٌ بالخبر الّذي روّيناه عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّ ذلك بخلاف ما ظنّ، وذلك أنّ الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنّما ورد بأنّ قول: سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر، هنّ من الباقيات الصّالحات، ولم يقل: هنّ جميع الباقيات الصّالحات، ولا كلّ الباقيات الصّالحات، وجائزٌ أن تكون هذه باقياتٌ صالحاتٌ، وغيرها من أعمال البرّ أيضًا باقياتٌ صالحات".

وقَال الزَّجَّاج: "والباقيات الصّالحات - واللّه أعلم - كل عمل صالح يبقى ثوابه، فالصلوات الخمس وتوحيد اللّه وتعظيمه داخل في الباقيات الصّالحات، وكذلك الصدقات والصيام والجهاد وأعمال الخير والبر كلّها".
وقال الأصفهاني في مفرداته: "وقوله تعالى: {والباقيات الصالحات}، أي: ما يبقى ثوابه للإنسان من الأعمال، وقد فسر بأنها الصلوات الخمس، وقيل: سبحان الله والحمد لله والصحيح أنها كل عبادة يقصد بها وجه الله تعالى وعلى هذا قوله: {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ}، وأضافها إلى الله تعالى".

(3) ناشئة الليل

ذكر المفسرون في معناها ثلاثة أقوال، هي:
القول الأول: اللّيل كلّه ناشئة، أي: كلّ ساعة من ساعات اللّيل ناشئة من اللّيل، وهو قول ابن الزّبير وعكرمة وابن زيد وابن عبّاس والضحاك ومجاهد في أحد قوليه، رواه ابن جرير وابن نصر، وهو اختيار الزجاج ومكي بن أبي طالب وابن جرير وابن كثير، ولم يذكر أبو عبيدة غيره.
قالَ أَبُو عُبَيْدَة: "{إنّ ناشئة الليل} ساعات الليل وهي آناء الليل ناشئةً بعد ناشئة".
وقال ابن جرير: "إنّ ساعات اللّيل، وكلّ ساعةٍ من ساعات اللّيل ناشئةٌ من اللّيل".
وقال ابن كثير: "ناشئة اللّيل هي: ساعاته وأوقاته، وكلّ ساعةٍ منه تسمّى ناشئة".

القول الثاني: كل شيء بعد العشاء فهو ناشئة، وهو قول الحسن وقتادة ومجاهد في أحد قوليه وأبي مجلز وأبي رجاء، رواه عبد الرزاق وابن جرير.

القول الثالث: قيام ما بين المغرب والعشاء، وهو قول عبادة بن كثير وعلي بن حسين وعطاء الخراساني، رواه ابن وهب وابن نصر ومجاهد في تفسيره، وروى ابن وهب عن قتادة قوله في ناشئة الليل: "حين يقبل الليل من المشرق"، ووجه هذا القول ابن وهب: " كانت صلاتهم أول الليل يقول هو أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام من آخر الليل شفقة من أن يغلبهم النوم فلا يستغفرون"، ويقاربه قول ثعلب: " الناشئة: أول ساعات الليل".

وبالرجوع إلى أقوال أهل اللغة يظهر أن المراد من الناشئة هو ابتداء الحدث أو القيام بالفعل.
فقال ابن قتيبة: "{إنّ ناشئة اللّيل}: ساعاته الناشئة. من «نشأت»: إذا ابتدأت"، وقال أيضا: "{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} وهي: آناؤه وساعاته، مأخوذة من نشأت تنشأ نشئا، ونشأت أي: ابتدأت وأقبلت شيئا بعد شيء، وأنشأها الله فنشأت وأنشأت. ومنه قوله سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} وقوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} أي: ابتدأناهن ونبّتناهن، ومنه قيل لصغار الجواري: نشأ. فكأنه قال: إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف من الاسم".
وقال الزجاج: "{ناشئة اللّيل} ساعات الليل كلها، كلما نشأ منه، أي كل ما حدث منه فهو ناشئة".
وقال الأصفهاني في مفرداته: "نشأ: النشء والنشأة إحداث الشيء وتربيته. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى}. يقال: نشأ فلان، والناشئ يراد به الشاب، وقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} يريد القيام والانتصاب للصلاة، ومنه: نشأ السحاب لحدوثه في الهواء، وتربيته شيئا فشيئا. قال تعالى: {وينشئ السحاب الثقال} والإنشاء: إيجاد الشيء وتربيته".
كما نقل هذا المعنى فيما رواه مجاهد في تفسيره عن ابن عباس في قوله عز وجل إن ناشئة الليل قال يعني قيام الليل والناشئة بالحبشية إذا قام الرجل قالوا نشأ، وقال ابن المبارك: "{إن ناشئة الليل}: القيام بالليل. يقال: نشأ من نومه أي قام".

(4) الحبل في قول الله تعالى: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس}

ذكر المفسرون في المراد بالحبل ثلاثة معاني، هي:
المعنى الأول: العهد، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة والسدي والربيع وابن زيد والضحاك وعطاء الخراساني، رواه عبد الرزاق وابن نصر وابن جرير وابن أبي حاتم، وذكره أَبُو عُبَيْدَة وابن المبارك وابن قتيبة والزجاج، ومنه قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا}.
ووجهه ابن عطية بقوله: "«الحبل» العهد، شبه به لأنه يصل قوما بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام".
المعنى الثاني: الأمان، ذكره ابن قتيبة ومكي بن أبي طالب وابن كثير، ووجهه ابن قتيبة بقوله: "ويقال للأمان أيضا: حبل، لأنّ الخائف مستتر مقموع، والآمن منبسط بالأمان متصرّف، فهو له حبل إلى كل موضع يريده"، ثم استشهد بقول الأعشى:
وإذا تجوّزها حبال قبيلةٍ... أخذت من الأخرى إليك حبالها
وتعقبه ابن كثير بقوله: "كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمّنه واحدٌ من المسلمين ولو امرأةٌ، وكذا عبد".
المعنى الثالث: الذمة، ذكره النحاس وابن كثير، وتعقبه ابن كثير بقوله: "وهو عقد الذّمّة لهم وضرب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملّة".

ويظهر أن الحبل يتصرف على وجوه عدة كما قال الأصفهاني في مفرداته: "واستعير للوصل، ولكل ما يتوصل به إلى شيء"، ويكون المراد به في هذه الآية كما قال ابْن جَرِير: "وأمّا الحبل الّذي ذكره اللّه في هذا الموضع، فإنّه السّبب الّذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين، وعلى أموالهم وذراريّهم من عهدٍ وأمانٍ تقدّم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام".
ولهذا فسره بعض أهل العلم بالإسلام ولا تعارض فيما يظهر والله أعلم.

(5) السيما في قول الله تعالى: {سيماههم في وجوههم}

ذكر المفسرون في المراد بالسيما أقوالا، هي:
القول الأول: علامةٌ يجعلها اللّه في وجوه المؤمنين يوم القيامة، يعرفون بها لما كان من سجودهم له في الدّنيا، وهو قول ابن عباس في أحد قوليه وخالد الحنفي وعطية العوفي ومقاتل بن حيّان والحسن في أحد قوليه، رواه ابن جرير، وذكره الزجاج بقوله: "يبعثون يوم القيامة غرّا محجّلين من أثر الطهور، وهذا يجعله اللّه لهم يوم القيامة علامة وهي السيماء يبين بها فضلهم على غيرهم".

القول الثاني: سيما الإسلام وسمته وخشوعه، وعنى بذلك أنّه يرى من ذلك عليهم في الدّنيا، وهو قول ابن عباس في أحد قوليه ومجاهد، رواه ابن جرير وابن المبارك وعبد الرزاق.
ووجهه ابن عطية بقوله: "هو خشوع يبدو على الوجه، وهذه حالة مكثري الصلاة، لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وتقل الضحك، وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء"، واستشهد ابن كثير بقول بعض السلف: "إنّ للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وسعةً في الرّزق، ومحبّةً في قلوب النّاس، وما روي عن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، أنّه قال: من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته".

القول الثالث: أثرٌ يكون في وجوه المصلّين، مثل أثر السّهر، الّذي يظهر في الوجه مثل الكلف والتّهيّج والصّفرة، وما أشبه ذلك ممّا يظهره السّهر والتّعب في الوجه، وهو قول الحسن في أحد قوليه وشمر بن عطيّة، رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي شيبة عن عكرمة، ولم يذكر الفراء غيره.

القول الرابع: آثارٌ ترى في الوجه من ثرى الأرض، أو ندى الطّهور، وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة، رواه ابن جرير، ورواه ابن وهب عن مالك.

القول الخامس: علامتهم في وجوههم من أثر السّجود في صلاتهم، وهو قول قتادة، رواه عبد الرزاق وابن جرير، وهو ترجيح ابن جرير مع جمعه لكل الأقوال السابقة بقوله: "وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب أن يقال: إنّ اللّه تعالى ذكره أخبرنا أنّ سيّما هؤلاء القوم الّذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السّجود، ولم يخصّ ذلك على وقت دون وقتٍ وإذ كان ذلك كذلك، فذلك على كلّ الأوقات، فكان سيماهم الّذي كانوا يعرفون به في الدّنيا آثار الإسلام، وذلك خشوعه وهديه وسمته، وآثار عناء فرائضه وتطوّعه، وفي الآخرة ما أخبر أنّهم يعرفون به، وذلك الغرّة في الوجه والتّحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السّجود".

وبالنظر في أصل معنى السيما لغة فهو الأثر كما قال الأصفهاني في مفرداته: "وسم: الوسم التأثير، والسمة: الأثر. يقال: وسمت الشيء وسما: إذا أثرت فيه بسمة؛ قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود}، وقال: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ}، وقال تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}، أي: نعلمه بعلامة يعرف بها. وتوسمت: تعرفت بالسمة، ويقال ذلك إذا طلبت الوسمي، وفلان وسيم الوجه: حسنه، وهو ذو وسامة عبارة عن الجمال، وفلانة ذات ميسم: إذا كان عليها أثر الجمال، وفلان موسوم بالخير، وقوم وسام، وموسم الحاج: معلمهم الذي يجتمعون فيه".

أما اختلاف العلماء في التعبير عن معنى السيما فهي معاني متقاربة، وأشهرها ثلاثة معاني كالآتي:
1. العلامة: ذكره ابن المبارك ومكي بن أبي طالب وابن جرير، واستشهد أَبُو عُبَيْد القَاسِم بن سَلاَّم بقول الشاعر:
غلام رماه الله بالخير مقبلاً = له سيمياء لا تشق على البصر
أي يفرح به من ينظر إليه
ومنه قوله عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} وقوله تعالى: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}، وقوله عز وجل: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ}
2. السحنة: ذكره البخاري، ونقل ابن حجر عن عياض قوله: وهو الصّواب عند أهل اللّغة وهو لين البشرة والنّعمة، وقال ابن الأثير: السحنة بشرة الوجه وهيأته وحاله.
3. الهيئة: ذكره ابن حجر والسندي في حاشيته على البخاري.

بيّن أثر دلالة الإعراب على المفردات التالية:
(1) سبيل في قول الله تعالى: {ولتستبين سبيل المجرمين}


في قول الله تعالى: {ولتستبين سبيل المجرمين} أربعة أوجه للقراءة، وهي كالتالي:
1. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم (وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) بالياء ورفع لام السَّبِيل: بجعل (السبيل) فاعلا مرفوعا (على أنّ الفعل للسّبيل)، وتذكيره وهي لغة بني تميم وأهل نجد.

2. وقرأ نافع بالتاء ونصب لام السَّبِيل: بجعل المخاطب فاعلا (التَّاء عَلامَة خطاب واستقبال)، ونصب السبيل لأنّه مفعول، تقديره: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين (فأضمر اسْم النَّبِي فِي الْفِعْل)، كما قال ابن جرير: "كان ابن زيدٍ يتأوّل ذلك: ولتستبين أنت يا محمّد سبيل المجرمين الّذين سألوك طرد النّفر الّذين سألوه طردهم عنه من أصحابه".

3. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم بالتاء ورفع لام السَّبِيل: بجعل السبيل فاعلة (على أنّ القصد للسّبيل)، وتأنيثها وهي لغة أهل الحجاز، فالتَّاء عَلامَة تَأْنِيث واستقبال وَلَا ضمير فِي الْفِعْل كما حكى سِيبَوَيْهٍ استبان الشَّيْء واستبنته أَنا، فيكون المعنى: وكذلك نفصّل الآيات ولتتّضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين.

4. وروي في الشاذ: (وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلَ) بالياء وفتح اللام، على تقدير: وليستبين السائل سبيل (فأضمر اسْم النَّبِي فِي الْفِعْل وَهُوَ الْفَاعِل وَنصب السَّبِيل لِأَنَّهُ مفعول بِه)

- فمن رفع السبيل وهو الوجه الأول والثالث فالمعنى واحد والتقدير: ولتستبين سبيل المجرمين فصّلناها، وإنّما الاختلاف بينهم في تذكير السّبيل وتأنيثها، وهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار، ولغتان مشهورتان من لغات العرب، فالسَّبِيل يذكر ويؤنّث والتأنيث أكثر.
فالتذكير كما قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}.
والتأنيث كما في قوله تعالى: {قُلْ هذه سبيلي}، وقول الشاعر:
خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها

- ومن قرأ السّبيل بالنّصب (وهو الوجه الثاني والرابع): فإنّما جعل تبيين ذلك محصورًا على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فالمعنى: ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين.
وقد اختار ابن جرير قراءة الرفع بقوله: "لأنّ اللّه تعالى ذكره فصّل آياته في كتابه وتنزيله، ليتبيّن الحقّ بها من الباطل جميع من خوطب بها، لا بعضٌ دون بعض".
والوجهان معتبران (الرفع والنصب) -ولا حاجة للترجيح بينهما- كما هو قول الزجاج: "أن جميع ما يخاطب به المؤمنون يخاطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- فكأنّه قال ولتستبينوا المجرمين، أي: لتزدادوا استبانة لها".

(2) سبيلاً في قول الله تعالى: {فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً}
في نصب سبيلا وجهان:
الأول: أنه مفعول به، فيكون تبغوا بمعنى الطلب، من قولهم: بَغَيْت الْأَمْر أي طلبته، وقول القائل: بغيت الضّالّة: إذا التمستها، ومنه قول الشّاعر في صفة الموت:
بغاك وما تبغيه حتّى وجدته = كأنّك قد واعدته أمس موعدا.
بمعنى: طلبك وما تطلبه.
فعلى هذا يكون تبغوا متعديًا، وتكون عليهن متعلق بـ "تبغوا"، مِن نَعْت السَّبِيل، فَيَكُون حَالًا لِتَقَدُّمِه عَلَيْه
وهذا المعنى ذكره ابن جرير عن بعض السلف وابن أبي حاتم عن ابن عباس والفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج والنحاس.

والثاني: أنه على إسقاط الخافض، أي: بسبيل، على أن «تبغوا» من البغي الذي هو الظلم، والمعنى: لا تظلموا بسبيل ما عليهن، فعلى هذا يكون الفعل لازما غير متعل، ومنه قوله تعالى: {فبغى عَلَيْهِمْ}، ويتعلق "عليهن" بمحذوف على أنه حال من (سبيلا) لأنه في الأصل صفة النكرة قُدِّم عليها.
وهذا المعنى ذكره ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان وابن عطية وهو ظاهر كلام ابن كثير.

(3) مرجع الضمير في "جعلناه" في قول الله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا}

ذكر المفسرون في ذلك قولين:
الأول: أنه عائد إلى الكتاب وهو القرآن، رواه ابن جرير عن السدي، ولم يذكر ابن عطية وابن كثير غيره.
الثاني: أنه عائد إلى الإيمان والكتاب، ذكره الفراء والسمين.
قال الفَرَّاء: "قال بعضهم: أراد القرآن والإيمان، وجاز أن يقول: جعلناه لاثنين؛ لأن الفعل في كثرة أسمائه يضبطه الفعل، ألا ترى أنك تقول: إقبالك وإدبارك يغمني، وهما اثنان فهذا من ذلك".
وقال السَّمين: "«جَعَلْنَاه» الضميرُ يعودُ: إمَّا ل «رُوْحاً» وإمَّا ل «الكتاب» وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو كقولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}".

ولا تعارض بين القولين كما قال الزَّجَّاج: "لأن المعنى: ولكن جعلنا الكتاب نورا، وهو دليل على الإيمان"، وقال النحاس: "وأولاَهما أن يكون للكتاب ويعطف الايمان عليه ويكون بغير حذف".

(4) مرجع الضمير في "به" في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}

ذكر الواحدي في البسيط وابن عطية في تفسيره في ذلك ثلاثة أقوال، هي:
الأول: عائد إلى الكتمان، ويقاربه قول ابن جرير: "ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا".
الثاني: عائد إلى الكتاب.
الثالث: عائد إلى "ما" الموصولة، ووجهه ابن عطية بقوله: "وهو جزء من الكتاب، فيه أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه وقع الكتم لا في جميع الكتاب"، فيكون هذا القول على حذف مضاف، والمعنى: يشترون بكتم ما أنزل، وهو أظهر الأقوال لما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه كتموا اسم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وقال ابن كثير: "كتموا صفة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم في كتبهم التي بأيديهم، ممّا تشهد له بالرّسالة والنّبوّة".


استخرج دلالات الصيغة الصرفية مما يأتي:
1: "مزيد" في قوله تعالى: {يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد}

مزيد إما أن يكون:
- مصدر ميمي وهو الزيادة، كالمجيد.
- ويجوز أن يكون اسم مفعول من زاد مثل المبيع، أي هل بقي أحد تزيد به أو أي من شيء تزيدونه أحرقه أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد.
وهو معنى صحيح لما دلت عليه الأحاديث المرفوعة.

2: "مُنزل" في قول الله تعالى: {وقل رب أنزلنا مُنزلا مباركاً وأنت خير المنزلين}

- قرأ الجمهور {مُنزلاً} بضم الميم وفتح الزاي:
فيحتمل أن يكون:
1. اسم مصدر وهو الإِنزال والنزول، أي إنزالا.
2. أو اسم مكان للنزول والإِنزال، أي موضع إنزال.
كقوله {ليدخلهم مدخلاً يرضونه}.

3. وذكر ابن عاشور احتمالا ثالثا: أنه اسم مفعول من أنزله على حذف المجرور، أي مُنزَلا فيه.

- وقرأ أبو بكر عن عاصم: بفتح الميم وكسر الزاي أي مكان نزول.

قال النحاس: "منزل وإنزال واحد والمنزل موضع النزول والمنزل بمعنى النزول كما تقول جلس مجلسا والمجلس الموضع الذي يجلس فيه".
وقال المبرد: "واعلم أن المصدر واسم المكان والزمان بزيادة الميم في أوائلها يكون لفظها لفظ المفعول إذا جاوزت الثلاثة من الفِعْل. وذلك؛ لأنها مفعولات. وذلك نحو قوله: {وقل ربي أنزلني منزلا مباركا}، {وبسم الله مجراها ومرساها}، وما أشبه ذلك".

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17 رمضان 1441هـ/9-05-2020م, 11:55 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هيثم محمد مشاهدة المشاركة
اختر ثلاث المفردات من المفردات التالية وبيّن معانيها وما يصحّ أن تفسّر به في الآيات المذكورة:
1: معنى البلاء في قول الله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}


ذكر المفسرون للبلاء ثلاثة معاني، [ معانٍ] هي:

المعنى الأول: النعمة، وهو قول ابن عباس والسدي ومجاهد وابن جريج، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، واختاره ابن المبارك وابن قتيبة والزجاج في هذه الآية، كما في قول الله عزّ وجلّ: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا}، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
جزى اللّه بالإحسان ما فعلا بكم ........ فأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو

وعلى هذا المعنى تكون الإشارة بذلكم إلى التنجية من بني إسرائيل.

المعنى الثاني: الشدة والمكروه أو النقمة، ذكره ابن جرير، واختاره مكي بن أبي طالب وأبي عبيدة، ونسبه القرطبي للجمهور.
وعلى هذا المعنى تكون الإشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النّساء.

المعنى الثالث: الاختبار والامتحان، ذكره أبو عبيدة، واختاره ابن الأنباري، ومنه قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} وقوله تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون}، وذكر ابن جرير أنه: "أصل الكلمة في كلام العرب، ثمّ يستعمل في الخير والشّرّ لأنّ الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشّرّ، كما قال اللّه جلّ ثناؤه: {وبلوناهم بالحسنات والسّيّئات لعلّهم يرجعون}
يقول: اختبرناهم، وكما قال جلّ ذكره: {ونبلوكم بالشّرّ والخير فتنةً} ثمّ تسمّي العرب الخير بلاءً والشّرّ بلاءً، غير أنّ الأكثر في الشّرّ أن يقال: بلوته أبلوه بلاءً، وفي الخير: أبليته أبليه إبلاءً وبلاءً"
فجمع بين اللّغتين لأنّه أراد: فأنعم اللّه عليهما خير النّعم الّتي يختبر بها عباده
{وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيمٌ} يقول تعالى: وفيما يصنع بكم آل فرعون من أنواع العذاب بلاءٌ لكم من ربّكم عظيمٌ: يقول أي ابتلاءٌ واختبارٌ لكم من ربّكم عظيمٌ، وقد يكون البلاء في هذا الموضع نعماء، وقد يكون معناه: من البلاء الّذي قد يصيب النّاس في الشّدائد".

وبهذا يظهر أن البلاء يتصرف على وجوه، كما في قول الفراء: "من ذلك العطاء والثناء والغناء والسماء والبلاء والسواء والبواء".
وجمع ابن عطية بين المعنى الثاني والثالث بقوله: "والبلاء في هذه الآية يحتمل أن يريد به المحنة، ويحتمل أن يريد به الاختبار، والمعنى متقارب".
وأما ترجيح الأصمعي فهو الجمع بين المعنى الأول والثاني أن المراد بالبلاء راجع إلى النعمة والعذاب كما قال: "{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} راجع إلى الأمرين إلى المحنة التي في قوله: {يذبحون أبناءكم} وإلى المنحة التي في قوله: {أنجاكم}"، وهو محتمل لسياق الآية، وهو أيضا قول الأصفهاني في مفرداته: "وقوله عزّ وجلّ: {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} رَاجعٌ إلى الأمرين؛ إلى المحنةِ التي في قوله عزّ وجلّ: {يُذَبِّحُونَ أبناءكم وَيَسْتَحْيُونَ نساءكم} وإلى المنحة التي أنجاهم".
فيتبين بذلك أن أصل استعمال البلاء هو الاختبار والامتحان ثم قد يكون نعمة أو شدة ومكروه، فالمعاني الثلاثة صحيحة للتفسير.

4: معنى النحر في قول الله تعالى: {فصلّ لربّك وانحر}

ذكر المفسرون للنحر خمسة معاني [ معانٍ] ، هي:
المعنى الأول: الذبح لله، وهو قول ابن عباس وأنس بن مالك ومجاهد وقَتَادَة وعِكْرِمَة وعطاء في أحد قوليه والحكم وأبي جَعْفَر في أحد قوليه والرَّبِيع والحَسَن وابن زَيْد ومحمد بن كَعْب القُرَظِي وسَعِيد بن جُبَيْر، -مع الاختلاف بينهم في المراد فيما نزلت: فبعضهم قال أنه ذبح يوم النحر والبعض قال أنه ذبح الهدي يوم الحديبية والبعض قال بعموم الذبح وهو الأولى- رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن وهب وابن نَصْر، ونسبه الزجاج وابن عطية للجمهور.
والمعنى على هذا القول: الأمر أن تكونَ ذبيحتُه لله في كل حال، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
المعنى الثاني: وَضْع اليمين على الشِّمالِ في الصلاة، وهو قول علي بن أبي طالِب والشَّعْبِي وأبي القَمُوص، رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم واستحسنه، وتعقبه ابن عطية بقوله: "فالنحر على هذا ليس بمصدر نحر، بل هو الصّدر"، وذكر ابن كثير أن هذه الرواية عن علي لا تصح.
المعنى الثالث: رْفَع اليد إلى النَّحْر عند افْتِتَاح الصلاة والدخول فيها، وهو قول أبي جَعْفَر في أحد قوليه وعطاء في أحد قوليه، رواه ابن جرير وابن وهب، ورواه الحاكم عن علي واستحسنه.
المعنى الرابع: ادْع رَبَّك وسَلْه، وهو قول الضحاك، رواه ابن جرير.
المعنى الخامس: اسْتَقْبِل القِبْلَة بِنَحْرِك، ذكره الفراء وابن جرير، وقال الفراء: "سمعت بعض العرب يقول: منازلنا تتناحر هذا بنحر هذا أي: قبالته.
وأنشدني بعض بني أسد:
أبا حكم ها أنت عمّ مجالدٍ.......وسيّد أهل الأبطح المتناحر
فهذا من ذلك ينحر بعضه بعضا".

والتحقيق أن الأقوال كلها وإن كانت محتملة لغة – كما قال الأصفهاني في مفرداته: "النحر موضع القلادة من الصدر"-، لكن القول الأول هو الصحيح في التفسير،لأنه المشهور من معنى اللفظ، ومنه يوم النحر، ونحر البدن، كما أنه قول الجمهور، وهو ترجيح ابن جرير وابن كثير.
قال ابن كثير: "ولهذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي العيد ثم ينحر نسكه ويقول: «من صلّى صلاتنا ونسك نسكنا؛ فقد أصاب النّسك، ومن نسك قبل الصّلاة فلا نسك له». فقام أبو بردة بن نيارٍ فقال: يا رسول اللّه، إنّي نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أنّ اليوم يومٌ يشتهى فيه اللّحم. قال: «شاتك شاة لحمٍ». قال: فإنّ عندي عناقاً، هي أحبّ إليّ من شاتين، أفتجزئ عنّي؟ قال: «تجزئك، ولا تجزئ أحداً بعدك»".
وقال ابن جرير: "وأوْلَى هذه الأقوالِ عندِي بالصوابِ: قوْلُ مَن قالَ: معنى ذلك: فاجْعَلْ صَلاَتَكَ كلَّها لربِّك خالِصاً دونَ ما سِوَاه مِن الأندادِ والآلهةِ، وكذلك نَحْرَكَ اجْعَلْه له دونَ الأوثانِ؛ شُكراً له على ما أَعْطَاكَ مِن الكرامَةِ والخيْرِ الذي لا كُفْءَ له، وخَصَّكَ به مِن إعطائِه إيَّاكَ الكوثرَ.
وإنما قلتُ: ذلك أولَى الأقوالِ بالصوابِ في ذلك؛ لأن اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أخْبَرَ نبيَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أكْرَمَه به مِن عَطِيَّتِه وكرامَتِه، وإنعامِه عليه بالكوثرِ، ثم أَتْبَعَ ذلك قولَه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. فكانَ معلوماً بذلك أنَّه خصَّه بالصلاةِ له، والنحرِ على الشكْرِ له، على ما أَعْلَمَه مِن النعمةِ التي أنْعَمَها عليه، بإعطائِه إيَّاه الكوْثَرَ، فلم يَكُنْ لخُصُوصِ بعضِ الصلاةِ بذلك دونَ بَعْضٍ، وبعضِ النحرِ دونَ بعضٍ، وَجْهٌ؛ إذ كانَ حَثًّا على الشكْرِ على النعَمِ.
فتأويلُ الكلامِ إِذَنْ: إنَّا أعْطَيْناكَ يا محمدُ الكوثرَ؛ إِنْعَاماً مِنَّا عليكَ به، وتَكْرِمَةً مِنَّا لك، فأخْلِصْ لربِّكَ العبادَةَ، وأفْرِدْ له صلاتَكَ ونُسُكَكَ؛ خلافاً لما يَفْعَلُه مَن كَفَر به، وعَبَد غَيْرَه، ونَحَر للأوثان".
وقال ابن كثير عن بقية الأقوال الأخرى: "وكل هذه الأقوال غريبة جدًّا، والصحيح القول الأول، أن المراد بالنحر ذبح النسائك".
تعقيب: إذا صحّ المعنى وصحّت دلالة الآية عليه لغة فتحمل الآية على المعاني الصحيحة كلّها، ولا موجب لتخصيص بعضها.


5: معنى العصر في قول الله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر}
ورد في تفسير العصر ثلاثة معاني، هي:
المعنى الأول: العشي، وهو قول الحسن، رواه عبد الرزاق وابن جرير، وهو ما قَبْل مَغِيب الشمس، وقال قطرب: يقال: أتيتك عصراً أي عشيّاً.
ومنه قول الحارث بن حلزة في معلقته:
آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعَها ... القُنَّاصُ عَصْراً وقَدْ دَنا الإمسَاءُ.
وقَالَ الشَّاعِر:
تروح بِنَا عمر وَقد قصر الْعَصْر ... وَفِي الروحة الأولى المثوبة وَالْأَجْر.

المعنى الثاني: ساعة من ساعات النهار، وهو قول ابن عبَّاس وقتادة، رواه عبد الرزاق وابن جرير.

المعنى الثالث: الدّهر، ذكره البخاري، وهو ترجيح قطرب والراغب وابن جرير وابن القيم، ولم يذكر الفراء وابن قتيبة ومكي بن أبي طالب غيره، وذكر ابن كثير أنه القول المشهور، ومنه تفسير السمين بأنه الزمان، ثم قال: "قال الشاعر:
وقد مر للدارين من بعد عصرنا
والجمع: أعصر، وعصور. قال الشاعر:
حَيُوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا".

والشواهد الشعرية على هذا المعنى كثيرة، ومنها قول امرؤ القيس:
وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟
وبالرجوع إلى تعريف العصر كما ذكر ابن كثير أنه: "الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خيرٍ وشر"، يتبين أن سبب الاختلاف هو الاشتراك اللغوي في لفظ العصر، فهو يطلق على عدة معان، وكل هذه الأقوال محتملة كما قال ابن جرير، غير أن تفسيره بالدهر يظهر فيه شموله للأوقات كلها، فيكون القول الأخير هو أعم الأقوال وأشملها، كما أنه الأنسب لسياق السورة، والله أعلم.
قال ابن جرير: "والصوابُ من القولِ فِي ذلك: أنْ يُقالَ: إنَّ ربَّنا أقسمَ بالعصرِ {وَالْعَصْرِ} اسمٌ للدهرِ، وهو العشيُّ والليلُ والنهارُ، ولم يُخصِّصْ ممَّا شمِلَهُ هذا الاسمُ معنًى دونَ معنًى، فكلُّ ما لزِمَهُ هذا الاسمُ فداخلٌ فيما أقْسَمَ بهِ جلَّ ثناؤُه".
وقال ابن القيم: "وأكثر المفسرين على أنه الدهر. وهذا هو الراجح. وتسمية الدهر عصراً أمر معروف".

وذكر ابن القيم مكان العبرة في العصر بقوله: "فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدرة العزيز العليم، منتظم لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام، وتعاقبهما مع اعتدالهما تارة وأخذ أحدهما من صاحبه تارة، واختلافهما في الضوء والظلام والحر والبرد، وانتشار الحيوان وسكونه، وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها، آية من آيات الرب تعالى وبرهان من براهين قدرته وحكمته. فأقسم بالعصر الذي هو زمان أفعال الإنسان ومحلها، على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبه بالمبدأ وهو خلق الزمان والفاعلين وأفعالهم، على المعاد، وأن قدرته كما لم تقصر عن المبدأ لم تقصر عن المعاد".

بيّن المراد بالمفردات التاليات:
(1) المحروم في قول الله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم}

للمفسرين في المراد بالمحروم خمسة أقوال، هي:
القول الأول: الذي يصاب زرعه أو حرثه أو نسل ماشيته، وهو قول زيد بن أسلم وعطاء بن أبي رباح وأبي قلابة، رواه ابن وهب وابن جرير.
وهذا المعنى في قول أصحاب الجنّة حين أهلكت جنّتهم: {بل نحن محرومون}، وفي قوله تعالى: {لو نشاء لجعلناه حطامًا فظلتم تفكّهون إنّا لمغرمون بل نحن محرومون}.
القول الثاني: المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا، وهو قول قتادة وابن شهاب والزهري ورواية عن ابن عباس، رواه ابن وهب وعبد الرزاق وابن جرير، وهو محتمل للسياق لأن قبله: السائل.
القول الثالث: هو الّذي لا ينمى له مال، وهو قول عكرمة وأبي الزناد ومجاهد وعطاء الخراساني والضحاك وسعيد بن المسيب، رواه ابن وهب وعبد الرزاق وابن جرير وابن نَصْر، وفي معناه أيضا ما رواه ابن وهب عن مالك أنه: الفقير الذي يحرم الرزق، وهو اختيار ابن عطية، وذكر الزجاج أنه المعنى الأكثر في اللغة.
القول الرابع: المحارف الّذي ليس له في الإسلام سهم، وهو قول ابن عباس، رواه ابن جرير، ولم يذكر ابن المبارك غيره.
القول الخامس: هو الّذي لا سهم له في الغنيمة، وهو قول إبراهيم والحسن بن محمّد، رواه عبد الرزاق وابن جرير، وذكره الفراء وابن قتيبة ومكي بن أبي طالب.

وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى أن المحروم هو الذي لا مال له بأي سبب كان، فكل قول مما سبق هو نوع من الحرمان، وهو اختيار ابن جرير والنحاس وابن عطية.
قالَ النَّحَّاس: "وإنّما وقع الاختلاف في هذا لأنّها صفةٌ أقيمت مقام الموصوف، والمحروم هو الّذي قد حرم الرّزق واحتاج. فهذه الأقوال كلّها داخلةٌ في هذا غير أنّه ليس فيها أجلّ ممّا روي عن ابن عبّاسٍ ولا أجمع أنّه المحارف".
وقالَ ابْن جَرِير: "والصّواب من القول في ذلك عندي أنّه الّذي قد حرم الرّزق واحتاج، وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره، فصار ممّن حرمه اللّه ذلك، وقد يكون بسبب تعفّفه وتركه المسألة، ويكون بأنّه لا سهم له في الغنيمة لغيبته عن الوقعة، فلا قول في ذلك أولى بالصّواب من أن تعمّ".
وقال ابن عطية: "اختلف الناس في "المحروم" اختلافا هو عندي تخليط من المتأخرين; إذ المعنى واحد، وإنما عبر علماء السلف في ذلك العبارات على جهة المثلات فجعلها المتأخرون أقوالا، وحصرها مكي ثمانية، و"المحروم" هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق، إلى غير هذا من الأقوال التي إنما ذكرت مثالا، كأنه يقول: الذي أصيبت ثمرته من المحرومين، والمعنى الجامع لهذه الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه، وإلا فالذي تصاب ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع".

(2) الباقيات الصالحات
ذكر المفسرون في المراد منها أربعة أقوال، هي:
القول الأول: لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر، وهو قول عثمان وعلي وابن عبّاس في أحد أقواله وابن عمر ومجاهد وسعيد بن المسيّب ومحمّد بن كعب القرظي والحسن وقتادة، رواه يحيى بن سلام وعبد الرزاق وابن جرير، ونسبه ابن عطية للجمهور.
وهو أشهر الأقوال لما رواه ابن جرير عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر من الباقيات الصّالحات.
وروى ابن جرير عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "استكثروا من الباقيات الصّالحات"، قيل: وما هي يا رسول اللّه؟ قال: "الملّة"، قيل: وما هي يا رسول اللّه؟ قال: "التّكبير والتّهليل والتّسبيح، والحمد، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه".
القول الثاني: الصلوات الخمس، وهو قول ابن عبّاس في أحد أقواله وسعيد بن جبير وأبي ميسرة عمرو بن شرحبيل وإبراهيم، رواه ابن جرير.
القول الثالث: العمل بطاعة اللّه عزّ وجل، وهو قول ابن زيد وابن عبّاس في أحد أقواله، رواه ابن جرير.
القول الرابع: الكلم الطّيّب، وهو قول ابن عبّاس في أحد أقواله.

والأقوال كلها صحيحة كما قال النحاس: "ولا يمتنع شيء من هذا عند أهل اللغة؛ لأنه كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا".

فيتبين أن المراد من الباقيات الصالحات هو كل قول أو فعل من طاعة الله وكل ما أريد به وجه الله مما يبقى للآخرة، ولهذا جمع بين كل الأقوال النحاس وابن جرير والزجاج والأصفهاني، وأشار إلى ذلك يحيى بن سلام وابن عطية وابن كثير.
قال ابْن جَرِير: "وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب، قول من قال: هنّ جميع أعمال الخير، كالّذي روي عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، لأنّ ذلك كلّه من الصّالحات الّتي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازى ويثاب، وإنّ اللّه عزّ ذكره لم يخصّص من قوله {والباقيات الصّالحات خيرٌ عند ربّك ثوابًا} بعضًا دون بعضٍ في كتاب، ولا بخبرٍ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
فإن ظنّ ظانٌّ أنّ ذلك مخصوصٌ بالخبر الّذي روّيناه عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّ ذلك بخلاف ما ظنّ، وذلك أنّ الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنّما ورد بأنّ قول: سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر، هنّ من الباقيات الصّالحات، ولم يقل: هنّ جميع الباقيات الصّالحات، ولا كلّ الباقيات الصّالحات، وجائزٌ أن تكون هذه باقياتٌ صالحاتٌ، وغيرها من أعمال البرّ أيضًا باقياتٌ صالحات".

وقَال الزَّجَّاج: "والباقيات الصّالحات - واللّه أعلم - كل عمل صالح يبقى ثوابه، فالصلوات الخمس وتوحيد اللّه وتعظيمه داخل في الباقيات الصّالحات، وكذلك الصدقات والصيام والجهاد وأعمال الخير والبر كلّها".
وقال الأصفهاني في مفرداته: "وقوله تعالى: {والباقيات الصالحات}، أي: ما يبقى ثوابه للإنسان من الأعمال، وقد فسر بأنها الصلوات الخمس، وقيل: سبحان الله والحمد لله والصحيح أنها كل عبادة يقصد بها وجه الله تعالى وعلى هذا قوله: {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ}، وأضافها إلى الله تعالى".

(3) ناشئة الليل
ذكر المفسرون في معناها ثلاثة أقوال، هي:
القول الأول: اللّيل كلّه ناشئة، أي: كلّ ساعة من ساعات اللّيل ناشئة من اللّيل، وهو قول ابن الزّبير وعكرمة وابن زيد وابن عبّاس والضحاك ومجاهد في أحد قوليه، رواه ابن جرير وابن نصر، وهو اختيار الزجاج ومكي بن أبي طالب وابن جرير وابن كثير، ولم يذكر أبو عبيدة غيره.
قالَ أَبُو عُبَيْدَة: "{إنّ ناشئة الليل} ساعات الليل وهي آناء الليل ناشئةً بعد ناشئة".
وقال ابن جرير: "إنّ ساعات اللّيل، وكلّ ساعةٍ من ساعات اللّيل ناشئةٌ من اللّيل".
وقال ابن كثير: "ناشئة اللّيل هي: ساعاته وأوقاته، وكلّ ساعةٍ منه تسمّى ناشئة".

القول الثاني: كل شيء بعد العشاء فهو ناشئة، وهو قول الحسن وقتادة ومجاهد في أحد قوليه وأبي مجلز وأبي رجاء، رواه عبد الرزاق وابن جرير.

القول الثالث: قيام ما بين المغرب والعشاء، وهو قول عبادة بن كثير وعلي بن حسين وعطاء الخراساني، رواه ابن وهب وابن نصر ومجاهد في تفسيره، وروى ابن وهب عن قتادة قوله في ناشئة الليل: "حين يقبل الليل من المشرق"، ووجه هذا القول ابن وهب: " كانت صلاتهم أول الليل يقول هو أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام من آخر الليل شفقة من أن يغلبهم النوم فلا يستغفرون"، ويقاربه قول ثعلب: " الناشئة: أول ساعات الليل".

وبالرجوع إلى أقوال أهل اللغة يظهر أن المراد من الناشئة هو ابتداء الحدث أو القيام بالفعل.
فقال ابن قتيبة: "{إنّ ناشئة اللّيل}: ساعاته الناشئة. من «نشأت»: إذا ابتدأت"، وقال أيضا: "{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} وهي: آناؤه وساعاته، مأخوذة من نشأت تنشأ نشئا، ونشأت أي: ابتدأت وأقبلت شيئا بعد شيء، وأنشأها الله فنشأت وأنشأت. ومنه قوله سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} وقوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} أي: ابتدأناهن ونبّتناهن، ومنه قيل لصغار الجواري: نشأ. فكأنه قال: إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف من الاسم".
وقال الزجاج: "{ناشئة اللّيل} ساعات الليل كلها، كلما نشأ منه، أي كل ما حدث منه فهو ناشئة".
وقال الأصفهاني في مفرداته: "نشأ: النشء والنشأة إحداث الشيء وتربيته. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى}. يقال: نشأ فلان، والناشئ يراد به الشاب، وقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} يريد القيام والانتصاب للصلاة، ومنه: نشأ السحاب لحدوثه في الهواء، وتربيته شيئا فشيئا. قال تعالى: {وينشئ السحاب الثقال} والإنشاء: إيجاد الشيء وتربيته".
كما نقل هذا المعنى فيما رواه مجاهد في تفسيره عن ابن عباس في قوله عز وجل إن ناشئة الليل قال يعني قيام الليل والناشئة بالحبشية إذا قام الرجل قالوا نشأ، وقال ابن المبارك: "{إن ناشئة الليل}: القيام بالليل. يقال: نشأ من نومه أي قام".


التعقيب: لو خرّجت أقوال السلف لغويا لكان أجود؛ فإنّ ناشئة الليل تطلق على أوّله، فهو أوّل ما ينشأ من الليل، فتكون الإضافة على معنى من، وتُطلق على ما كان بعد يقظة من نوم؛ وتكون الإضافة على معنى "في".


(4) الحبل في قول الله تعالى: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس}
ذكر المفسرون في المراد بالحبل ثلاثة معاني، هي:
المعنى الأول: العهد، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة والسدي والربيع وابن زيد والضحاك وعطاء الخراساني، رواه عبد الرزاق وابن نصر وابن جرير وابن أبي حاتم، وذكره أَبُو عُبَيْدَة وابن المبارك وابن قتيبة والزجاج، ومنه قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا}.
ووجهه ابن عطية بقوله: "«الحبل» العهد، شبه به لأنه يصل قوما بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام".
المعنى الثاني: الأمان، ذكره ابن قتيبة ومكي بن أبي طالب وابن كثير، ووجهه ابن قتيبة بقوله: "ويقال للأمان أيضا: حبل، لأنّ الخائف مستتر مقموع، والآمن منبسط بالأمان متصرّف، فهو له حبل إلى كل موضع يريده"، ثم استشهد بقول الأعشى:
وإذا تجوّزها حبال قبيلةٍ... أخذت من الأخرى إليك حبالها
وتعقبه ابن كثير بقوله: "كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمّنه واحدٌ من المسلمين ولو امرأةٌ، وكذا عبد".
المعنى الثالث: الذمة، ذكره النحاس وابن كثير، وتعقبه ابن كثير بقوله: "وهو عقد الذّمّة لهم وضرب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملّة".

ويظهر أن الحبل يتصرف على وجوه عدة كما قال الأصفهاني في مفرداته: "واستعير للوصل، ولكل ما يتوصل به إلى شيء"، ويكون المراد به في هذه الآية كما قال ابْن جَرِير: "وأمّا الحبل الّذي ذكره اللّه في هذا الموضع، فإنّه السّبب الّذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين، وعلى أموالهم وذراريّهم من عهدٍ وأمانٍ تقدّم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام".
ولهذا فسره بعض أهل العلم بالإسلام ولا تعارض فيما يظهر والله أعلم.

(5) السيما في قول الله تعالى: {سيماههم في وجوههم}
ذكر المفسرون في المراد بالسيما أقوالا، هي:
القول الأول: علامةٌ يجعلها اللّه في وجوه المؤمنين يوم القيامة، يعرفون بها لما كان من سجودهم له في الدّنيا، وهو قول ابن عباس في أحد قوليه وخالد الحنفي وعطية العوفي ومقاتل بن حيّان والحسن في أحد قوليه، رواه ابن جرير، وذكره الزجاج بقوله: "يبعثون يوم القيامة غرّا محجّلين من أثر الطهور، وهذا يجعله اللّه لهم يوم القيامة علامة وهي السيماء يبين بها فضلهم على غيرهم".

القول الثاني: سيما الإسلام وسمته وخشوعه، وعنى بذلك أنّه يرى من ذلك عليهم في الدّنيا، وهو قول ابن عباس في أحد قوليه ومجاهد، رواه ابن جرير وابن المبارك وعبد الرزاق.
ووجهه ابن عطية بقوله: "هو خشوع يبدو على الوجه، وهذه حالة مكثري الصلاة، لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وتقل الضحك، وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء"، واستشهد ابن كثير بقول بعض السلف: "إنّ للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وسعةً في الرّزق، ومحبّةً في قلوب النّاس، وما روي عن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، أنّه قال: من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته".

القول الثالث: أثرٌ يكون في وجوه المصلّين، مثل أثر السّهر، الّذي يظهر في الوجه مثل الكلف والتّهيّج والصّفرة، وما أشبه ذلك ممّا يظهره السّهر والتّعب في الوجه، وهو قول الحسن في أحد قوليه وشمر بن عطيّة، رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي شيبة عن عكرمة، ولم يذكر الفراء غيره.

القول الرابع: آثارٌ ترى في الوجه من ثرى الأرض، أو ندى الطّهور، وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة، رواه ابن جرير، ورواه ابن وهب عن مالك.

القول الخامس: علامتهم في وجوههم من أثر السّجود في صلاتهم، وهو قول قتادة، رواه عبد الرزاق وابن جرير، وهو ترجيح ابن جرير مع جمعه لكل الأقوال السابقة بقوله: "وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب أن يقال: إنّ اللّه تعالى ذكره أخبرنا أنّ سيّما هؤلاء القوم الّذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السّجود، ولم يخصّ ذلك على وقت دون وقتٍ وإذ كان ذلك كذلك، فذلك على كلّ الأوقات، فكان سيماهم الّذي كانوا يعرفون به في الدّنيا آثار الإسلام، وذلك خشوعه وهديه وسمته، وآثار عناء فرائضه وتطوّعه، وفي الآخرة ما أخبر أنّهم يعرفون به، وذلك الغرّة في الوجه والتّحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السّجود".

وبالنظر في أصل معنى السيما لغة فهو الأثر كما قال الأصفهاني في مفرداته: "وسم: الوسم التأثير، والسمة: الأثر. يقال: وسمت الشيء وسما: إذا أثرت فيه بسمة؛ قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود}، وقال: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ}، وقال تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}، أي: نعلمه بعلامة يعرف بها. وتوسمت: تعرفت بالسمة، ويقال ذلك إذا طلبت الوسمي، وفلان وسيم الوجه: حسنه، وهو ذو وسامة عبارة عن الجمال، وفلانة ذات ميسم: إذا كان عليها أثر الجمال، وفلان موسوم بالخير، وقوم وسام، وموسم الحاج: معلمهم الذي يجتمعون فيه".

أما اختلاف العلماء في التعبير عن معنى السيما فهي معاني متقاربة، وأشهرها ثلاثة معاني كالآتي:
1. العلامة: ذكره ابن المبارك ومكي بن أبي طالب وابن جرير، واستشهد أَبُو عُبَيْد القَاسِم بن سَلاَّم بقول الشاعر:
غلام رماه الله بالخير مقبلاً = له سيمياء لا تشق على البصر
أي يفرح به من ينظر إليه
ومنه قوله عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} وقوله تعالى: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}، وقوله عز وجل: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ}
2. السحنة: ذكره البخاري، ونقل ابن حجر عن عياض قوله: وهو الصّواب عند أهل اللّغة وهو لين البشرة والنّعمة، وقال ابن الأثير: السحنة بشرة الوجه وهيأته وحاله.
3. الهيئة: ذكره ابن حجر والسندي في حاشيته على البخاري.

بيّن أثر دلالة الإعراب على المفردات التالية:
(1) سبيل في قول الله تعالى: {ولتستبين سبيل المجرمين}

في قول الله تعالى: {ولتستبين سبيل المجرمين} أربعة أوجه للقراءة، وهي كالتالي:
1. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم (وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) بالياء ورفع لام السَّبِيل: بجعل (السبيل) فاعلا مرفوعا (على أنّ الفعل للسّبيل)، وتذكيره وهي لغة بني تميم وأهل نجد.

2. وقرأ نافع بالتاء ونصب لام السَّبِيل: بجعل المخاطب فاعلا (التَّاء عَلامَة خطاب واستقبال)، ونصب السبيل لأنّه مفعول، تقديره: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين (فأضمر اسْم النَّبِي فِي الْفِعْل)، كما قال ابن جرير: "كان ابن زيدٍ يتأوّل ذلك: ولتستبين أنت يا محمّد سبيل المجرمين الّذين سألوك طرد النّفر الّذين سألوه طردهم عنه من أصحابه".

3. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم بالتاء ورفع لام السَّبِيل: بجعل السبيل فاعلة (على أنّ القصد للسّبيل)، وتأنيثها وهي لغة أهل الحجاز، فالتَّاء عَلامَة تَأْنِيث واستقبال وَلَا ضمير فِي الْفِعْل كما حكى سِيبَوَيْهٍ استبان الشَّيْء واستبنته أَنا، فيكون المعنى: وكذلك نفصّل الآيات ولتتّضح لك وللمؤمنين طريق المجرمين.

4. وروي في الشاذ: (وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلَ) بالياء وفتح اللام، على تقدير: وليستبين السائل سبيل (فأضمر اسْم النَّبِي فِي الْفِعْل وَهُوَ الْفَاعِل وَنصب السَّبِيل لِأَنَّهُ مفعول بِه)

- فمن رفع السبيل وهو الوجه الأول والثالث فالمعنى واحد والتقدير: ولتستبين سبيل المجرمين فصّلناها، وإنّما الاختلاف بينهم في تذكير السّبيل وتأنيثها، وهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار، ولغتان مشهورتان من لغات العرب، فالسَّبِيل يذكر ويؤنّث والتأنيث أكثر.
فالتذكير كما قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}.
والتأنيث كما في قوله تعالى: {قُلْ هذه سبيلي}، وقول الشاعر:
خَلِّ السبيل لمَنْ يبني المنار بها

- ومن قرأ السّبيل بالنّصب (وهو الوجه الثاني والرابع): فإنّما جعل تبيين ذلك محصورًا على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فالمعنى: ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين.
وقد اختار ابن جرير قراءة الرفع بقوله: "لأنّ اللّه تعالى ذكره فصّل آياته في كتابه وتنزيله، ليتبيّن الحقّ بها من الباطل جميع من خوطب بها، لا بعضٌ دون بعض".
والوجهان معتبران (الرفع والنصب) -ولا حاجة للترجيح بينهما- كما هو قول الزجاج: "أن جميع ما يخاطب به المؤمنون يخاطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- فكأنّه قال ولتستبينوا المجرمين، أي: لتزدادوا استبانة لها".

(2) سبيلاً في قول الله تعالى: {فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً}
في نصب سبيلا وجهان:
الأول: أنه مفعول به، فيكون تبغوا بمعنى الطلب، من قولهم: بَغَيْت الْأَمْر أي طلبته، وقول القائل: بغيت الضّالّة: إذا التمستها، ومنه قول الشّاعر في صفة الموت:
بغاك وما تبغيه حتّى وجدته = كأنّك قد واعدته أمس موعدا.
بمعنى: طلبك وما تطلبه.
فعلى هذا يكون تبغوا متعديًا، وتكون عليهن متعلق بـ "تبغوا"، مِن نَعْت السَّبِيل، فَيَكُون حَالًا لِتَقَدُّمِه عَلَيْه
وهذا المعنى ذكره ابن جرير عن بعض السلف وابن أبي حاتم عن ابن عباس والفراء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج والنحاس.

والثاني: أنه على إسقاط الخافض، أي: بسبيل، على أن «تبغوا» من البغي الذي هو الظلم، والمعنى: لا تظلموا بسبيل ما عليهن، فعلى هذا يكون الفعل لازما غير متعل، ومنه قوله تعالى: {فبغى عَلَيْهِمْ}، ويتعلق "عليهن" بمحذوف على أنه حال من (سبيلا) لأنه في الأصل صفة النكرة قُدِّم عليها.
وهذا المعنى ذكره ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان وابن عطية وهو ظاهر كلام ابن كثير.

(3) مرجع الضمير في "جعلناه" في قول الله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا}

ذكر المفسرون في ذلك قولين:
الأول: أنه عائد إلى الكتاب وهو القرآن، رواه ابن جرير عن السدي، ولم يذكر ابن عطية وابن كثير غيره.
الثاني: أنه عائد إلى الإيمان والكتاب، ذكره الفراء والسمين.
قال الفَرَّاء: "قال بعضهم: أراد القرآن والإيمان، وجاز أن يقول: جعلناه لاثنين؛ لأن الفعل في كثرة أسمائه يضبطه الفعل، ألا ترى أنك تقول: إقبالك وإدبارك يغمني، وهما اثنان فهذا من ذلك".
وقال السَّمين: "«جَعَلْنَاه» الضميرُ يعودُ: إمَّا ل «رُوْحاً» وإمَّا ل «الكتاب» وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو كقولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}".

ولا تعارض بين القولين كما قال الزَّجَّاج: "لأن المعنى: ولكن جعلنا الكتاب نورا، وهو دليل على الإيمان"، وقال النحاس: "وأولاَهما أن يكون للكتاب ويعطف الايمان عليه ويكون بغير حذف".

(4) مرجع الضمير في "به" في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}

ذكر الواحدي في البسيط وابن عطية في تفسيره في ذلك ثلاثة أقوال، هي:
الأول: عائد إلى الكتمان، ويقاربه قول ابن جرير: "ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا".
الثاني: عائد إلى الكتاب.
الثالث: عائد إلى "ما" الموصولة، ووجهه ابن عطية بقوله: "وهو جزء من الكتاب، فيه أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه وقع الكتم لا في جميع الكتاب"، فيكون هذا القول على حذف مضاف، والمعنى: يشترون بكتم ما أنزل، وهو أظهر الأقوال لما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه كتموا اسم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وقال ابن كثير: "كتموا صفة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم في كتبهم التي بأيديهم، ممّا تشهد له بالرّسالة والنّبوّة".


استخرج دلالات الصيغة الصرفية مما يأتي:
1: "مزيد" في قوله تعالى: {يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد}

مزيد إما أن يكون:
- مصدر ميمي وهو الزيادة، كالمجيد.
- ويجوز أن يكون اسم مفعول من زاد مثل المبيع، أي هل بقي أحد تزيد به أو أي من شيء تزيدونه أحرقه أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد.
وهو معنى صحيح لما دلت عليه الأحاديث المرفوعة.

2: "مُنزل" في قول الله تعالى: {وقل رب أنزلنا مُنزلا مباركاً وأنت خير المنزلين}

- قرأ الجمهور {مُنزلاً} بضم الميم وفتح الزاي:
فيحتمل أن يكون:
1. اسم مصدر وهو الإِنزال والنزول، أي إنزالا.
2. أو اسم مكان للنزول والإِنزال، أي موضع إنزال.
كقوله {ليدخلهم مدخلاً يرضونه}.

3. وذكر ابن عاشور احتمالا ثالثا: أنه اسم مفعول من أنزله على حذف المجرور، أي مُنزَلا فيه.

- وقرأ أبو بكر عن عاصم: بفتح الميم وكسر الزاي أي مكان نزول.

قال النحاس: "منزل وإنزال واحد والمنزل موضع النزول والمنزل بمعنى النزول كما تقول جلس مجلسا والمجلس الموضع الذي يجلس فيه".
وقال المبرد: "واعلم أن المصدر واسم المكان والزمان بزيادة الميم في أوائلها يكون لفظها لفظ المفعول إذا جاوزت الثلاثة من الفِعْل. وذلك؛ لأنها مفعولات. وذلك نحو قوله: {وقل ربي أنزلني منزلا مباركا}، {وبسم الله مجراها ومرساها}، وما أشبه ذلك".


أ

أحسنت بارك الله فيك ونفع بك.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المجلس, الثالث

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:09 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir