(1) وهذا واضحٌ في مَذْهَبِه رَحِمَهُ اللَّهُ، وأنَّه على طريقِ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ؛ لأنَّ إنكارَ كونِ العرشِ في السماءِ إنكارٌ لوجودِ اللَّهِ في السماءِ، واللَّهُ يقولُ: {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}. فمَن أنْكَرَ أنَّ اللَّهَ في السماءِ، أو أنَّ اللَّهَ فوقَ العرشِ فقدْ كَفَرَ، كما قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهذا إجماعُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، وأنَّ الواجبَ على أهلِ الإسلامِ الإيمانُ بأنَّ اللَّهَ في السماءِ فوقَ العرشِ، وعِلْمَه في كلِّ مكانٍ سبحانه وتعالى، لا تَخْفَى عليه خافيةٌ.
وكذلك قولُه: إنَّ الفقهَ الأكبرَ مِن علومِ العقائدِ. لأنَّ الفروعَ تابعةٌ للعقيدةِ، فعِلْمُ البيعِ والشراءِ والإجارَةِ والنِّكَاحِ والطلاقِ، هذه مِن الفروعِ تابعةٌ للعقيدةِ والإيمانِ، فالفقهُ الأكبرُ هو العلومُ المُتَعَلِّقَةُ بتوحيدِ اللَّهِ والإيمانِ به سبحانه وتعالى، والإيمانِ بما أخْبَرَ به عن نفسِه مِن صفاتِه وأسمائِه، والإيمانِ بملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخرِ، وبالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّهِ.
فالواجبُ على كلِّ مؤمنٍ أنْ يَعْرِفَ هذه الأمورَ، وأنْ يَعْتَقِدَها كما قالَه السلفُ الصالِحُ، وأنْ يَسِيرَ عليها مُؤْمِناً بأنَّ اللَّهَ في السماءِ فوقَ العرشِ، وعِلْمَه في كلِّ مكانٍ، وأنه سبحانه ذُو الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلَى، لا شَبِيهَ له ولا كُفْءَ له، ولا نِدَّ له، ولا يُقَاسُ بخلقِه سبحانه وتعالى، وأنَّ الواجبَ إثباتُ أسمائِه وصفاتِه على الوجهِ اللائقِ به، مِن غيرِ تحريفٍ , ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ , ولا تمثيلٍ.
ولهذا أنْكَرَ أبو حَنِيفَةَ على هؤلاءِ الَّذِين يَخْرُجُونَ على السلطانِ، ويقولُ: إنهم يُفْسِدُونَ أكثرَ مما يُصْلِحُونَ، فالواجبُ عليهم إنكارُ المُنْكَرِ والدعوةُ إلى الخيرِ، لكن بغيرِ السِّلاَحِ.
أمَّا الخُرُوجُ بالسلاحِ لقتلِ المسلمينَ، ولقتلِ أولياءِ الأمورِ بزَعْمِهِم أنَّهم يُنْكِرُونَ المُنْكَرَ، فهذا عَمَلُ الخوارِجِ، وعَمَلُ المُعْتَزِلَةِ الذي أفْسَدُوا فيه أكثرَ مما أَصْلَحُوا، وفَعَلُوا خِلافَ ما أَمَرَ به النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْ الأَمِيرِ شَيْئاً فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهُ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَداً مِنْ طَاعَةٍ)).
ولَمَّا قالَ: ((إِنَّهُ يَلِي عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ)). قال: أفلا نُقَاتِلُهُم؟ قال: ((لاَ، أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)).
ولكنْ هؤلاءِ الذين أيضاً يُقاتَلُونَ لا يَجُوزُ الخروجُ عليهم إلا على بَصيرةٍ، وعلى علمٍ، وعلى قُدرةٍ أنَّهم يُزِيلُونَ المنكرَ، أما هؤلاءِ الجَهَلَةُ الذين يُرِيدُونَ الخروجَ بزَعْمِهِم فيَقْتُلُونَ النَّاسَ , ويُؤْذُونَهُم , ويَقْتُلُونَ المسلمينَ على غيرِ بَصيرةٍ، هؤلاءِ ليسَ لهم خُرُوجٌ، إنَّما الخروجُ على مَن قَدَرَ على ذلك، ورَأَى كُفْراً بَوَاحاً على قومٍ ما أقاموا الصلاةَ , أو أَظْهَرُوا كفراً بَوَاحاً غيرَ ذلك، بشرطِ أنْ يكونَ ذلك القيامُ يَحْصُلُ به المقصودُ , ولا يَحْصُلُ به ما هو أنْكَرُ منه. نَسْأَلُ اللَّهَ العافِيَةَ.
(2) معنى بائِنٍ، يعني: مُنْفَصِلٍ مِن خَلْقِه، يعني: فوقَ العرشِ , فوقَ جميعِ الخَلْقِ، سبحانه وتعالى.
(3) يعني: أنَّه معَهم بعلمِه واطِّلاعِه عليهم، وهو فوقَ العرشِ سبحانه وتعالى، لا تَخْفَى عليه خافيةٌ جلَّ وعلا، ولهذا بَدَأَ الآيةَ بالعلمِ وخَتَمَها بالعلمِ.
(4) وهذا الذي قاله مُحَمَّدُ بنُ الحسنِ هو مذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، وهو إجماعُ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ، وهو إمرارُ آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها كما جاءَتْ مِن غيرِ تأويلٍ، بل يُمِرُّونها كما جاءَتْ معَ الإيمانِ بها، واعتقادِ أنَّها حقٌّ، ولا تُفَسَّرُ بتفسيرِ الجَهْمِيَّةِ، وهو تأويلُها لها وسَلْبُها ونَفْيُها أو تَكْييفُها، كلُّ هذا باطلٌ، بل تُمَرُّ كما جاءَتْ، معَ الإيمانِ بأنَّها حقٌّ، وأنَّها صفاتٌ للهِ لائقةٌ به، وأنَّها صفاتُ كمالٍ، ليسَ فيها نقصٌ وليسَ فيها تشبيهٌ للهِ بخلقِه، فيَقْرَؤُونَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}, {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}، ((يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ كِلاَهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ))، ((إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ)) إلى غيرِ هذا، فيُمِرُّونها كما جاءَتْ؛ صفةُ الرحمةِ، صفةُ الغضبِ، صفةُ الرضا، اليَدُ، الوجهُ... إلى غيرِ هذا.
ويَعْلَمُونَ أنَّها حقٌّ، وأنَّها صفاتٌ لائقةٌ باللَّهِ، ثابتةٌ للهِ على الوجهِ اللائقِ به سبحانه وتعالى، كما يقولُ جلَّ وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، هكذا أهلُ السنَّةِ والجماعةِ، يُمِرُّونَهَا معَ الإيمانِ بها، وأنَّها حقٌّ، أما تأويلُ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ والأشاعرةِ وغيرِهم، فهذا كلُّه لا يَصْلُحُ، كلُّه باطلٌ.