فذكر أولاً صفة الوجه لله تبارك وتعالى, واستشهد لها بآية من القرآن , وهي قوله تعالى : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن:27) , وقد وردت صفة الوجه في آيات كثيرة كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه) (القصص: من الآية88) وأيضاً ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فقد ورد في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه قول الله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) (الأنعام: من الآية65) قال: (( أعوذ بوجهك )) (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) (الأنعام: من الآية65) قال :((أعوذ بوجهك )) فلما نزلت :( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) (الأنعام: من الآية65) قال : (( هاتان أهون )) (1) .
فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بوجه الله تعالى , كما ورد في الحديث المتفق عليه , عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه , حين زاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض, وجرى بينهما ما جرى , قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها))(2) .
المهم أن الأدلة من كتاب الله , ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, دلت على أن الله سبحانه وتعالى له صفة الوجه, وصفة الوجه نثبتها لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته, لا نتأولها ولا نعطلها, ولا نشبهها, ولا نكيفها , وإنما نثبتها كما أثبتها السلف الصالح رحمهم الله تعالى .
وصفة الوجه لله سبحانه وتعالى ثابتة نقف عندها, لأنها نموذج لبقية الصفات, فنحن نثبتها ولا نتأولها , والذين انحرفوا في هذا الباب تأولوا هذه الصفة قائلين : إن وجهه هو ذاته, وقالوا في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (القصص: من الآية88): يعني إلا ذاته, وهذا تأويل باطل ؛ لأننا نقول : دلالة الوجه على الذات لا شك فيها , ودلالة الصفة على الموصوف لا شك فيها, لكن أن يقال : إن معنى صفة الوجه لله سبحانه وتعالى هو ذاته , ولا تدل على أن لله وجهاً يليق بجلاله وعظمته , فنقول : هذا هو التأويل الباطل الذي لا دليل عليه, بل وردت نصوص تدل على إثبات هذه الصفة لله ويمتنع تأويلها
بالذات كما فعل هؤلاء, فيجب إثبات هذه الصفة لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته, وهذا هو منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى , يثبتون , ولا يتأولون , ولا يكيفيون, ولا يمثلون, فيثبتون هذه الصفة ؛ لأن الله أخبرنا بها وهو أعلم بنفسه, ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا بها , وهو أعلم بربه, ونقلها أصحابه من بعده, ومن ثم فنحن نسير على منهاجهم خاصة وأن سلف الأمة أجمعوا على ذلك .
وقد يقول قائل في قول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة: من الآية115), إن بعض المفسرين من السلف قال: أي قبلة الله, وظن هؤلاء أن هذا القول الوارد تأويل لهذه الصفة, واحتجوا بذلك على التأويل .
ولما ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى العقيدة الواسطية, وهي عقيدة جامعة لمسائل عظيمة, وخالفه من خالفه من أهل الكلام, قال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية: أنا أمهلكم ثلاث سنوات , فإن اتيتموني بكلمة واحدة في العقيدة الواسطية تخاف كلام السلف رحمهم الله تعالى , فإنني اعترف لكم بأنني مخطئ, فبحث المخالفون لـه, ودعوه إلى مناظرة حول الواسطية , في قصة ومحنة طويلة جرت لـه رحمه الله تعالى , ولكن الشاهد فيما يتعلق بهذه المناظرة ما نحن بصدده وهو إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى .
يقول رحمه الله تعالى في مناظرته في الواسطية : فلما جلسنا - أي جلس الشيخ مع مخالفيه من أهل الكلام , وغالبهم أشعرية رحمهم الله جميعاً - قالوا لي وكانوا فرحين : لقد وجدنا عن السلف تأويلاً .
قال : فانقدح في ذهني ما أرادوه فقلت : لعلكم تقصدون قـول الله تعــالى :( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) قالوا : نعم نقصد هذه الآية فإن بعض السلف قالوا : فثم قبلة الله . فقال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية : هذه الآية ليست من الصفات, وما فسروه به بقولهم فثم قبلة الله حق؛ لأن الآية جاءت في سياق بيان القبلة : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فأنما تولوا : أي أينما تتجهون بوجوهكم مطيعين لأمره وتعبدون الله سبحانه وتعالى مخلصين في صلاتكم, فثم قبلة الله سبحانه وتعالى .(3)
ولا شك أن سياق الآية دال على هذا, لكن يبقى في الكلام بقية ألا وهي أن شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر من كتبه احتج بهذه الآية وأثبت منها صفة الوجه لله تبارك وتعالى فكيف ذلك ؟
نقول : الاحتجاج بهذه الآية على إثبات صفة الوجه لله صحيح لأن هذه الآية وإن سيقت مساق بيان القبلة , إلا أنه لا يعبر فيها بنسبة الصفة إلى الله إلا ما صح أن يكون صفة لله . وعليه فقوله تعالى :( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه) . سياقها ومعناها يدل على القبلة , لكن لما قال :(وجه الله ) دل هذا على أن الله سبحانه وتعالى له وجه يليق بجلاله وعظمته .
ولهذا اختلف السلف رحمهم الله تعالى في بعض الصفات مثل صفة
(( الجنب )) الواردة في قوله تعالى :( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه) (الزمر: من الآية56) فبعض السلف قال : نأخذ منها إثبات صفة الجنب لله , وبعضهم قال :سياق الآية يدل على أن المعنى : على ما فرطت في حق الله وطاعته, ولم تأت هذه الآية لبيان الصفة, وكلا القولين فيه حق؛ لأن الذين قالوا نثبت منها الصفة قالوا : نعم نحن معكم أن سياق الآية يدل على أن معناها ما فرطت في حق الله وطاعة الله , وهذا واضح الدلالة جداً, ولو أراد إنسان أن يشرح هذه الآية وقيل له : ما معنى قول تلك النفس في قول الله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه) لفسرها بانها تتحسر على ما فرطت في الإيمان بالله , وطاعة الله, من الصلاة , والعبادة وغير ذلك, ويكون تفسيره صحيحاً .
لكن من قال إنه يؤخذ منها صفات . قال : إنه لا يأتي التعبير بالنسبة لله سبحانه وتعالى إلا بما يصحُّ أن يوصف الله به, ومن ثم قال : ( على ما فرطت في جنب الله ) تدل على المعنى الذي دل عليه سياق الآية, وأيضاً نستفيد منه أن لله جنباً يليق بجلاله وعظمته , ولا فرق بين الجنب , والساق , والقدم, والرجل , والوجه, واليدين , والعين, وهذه الصفات دلت عليها أدلة صريحة صحيحة, بعضها في كتاب الله وبعضها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________________________
(1) أخرجه البخاري رقم (7313) كتاب الاعتصام .
(2) أخرجه البخاري رقم (5668) كتاب المرضى ومسلم رقم (1628) كتاب الوصية .
(3) وهذا يشمل استقبال الكعبة بعد أن كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس كما يشمل صلاة النافلة في السفر على الراحلة فإن القبلة حيثما توجه العبد كما يشمل من اشتبهت عليه القبلة فيتحرى ويصلي فصلاته صحيح ولو تبين له انه مخطئ او المريض المعذور الذي لا يستطع الانحراف إلى القبلة فصلاته بحسب حاله فأينما توجه هؤلاء فثم قبلة الله انظر تفسير ابن كثير وابن سعدي لهذه الآية .