937- وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قالَ: إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقالَ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. رواهُ البُخارِيُّ.
ولمُسلمٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: إذا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مَا يُؤْخَذُ من الحَديثِ:
1- مَعْنَى الحديثِ أَنَّ الرجُلَ إذا قَالَ لزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. فلَيْسَ التحريمُ بطَلاقٍ، وإِنَّما يَكُونُ يَمِيناً، فيهِ كَفَّارَةُ اليَمينِ، كما قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1ـ 2] أي: شَرَعَ اللهُ لَكُمْ تَحْلِيلَ أَيْمانِكُم بأداءِ الكَفَّارَةِ المذكورةِ في سورةِ المَائِدَةِ.
2- فالحديثُ يَدُلُّ على أنَّ مَن حَرَّمَ شيئاً قدْ أحَلَّهُ اللهُ لَهُ، فإنَّه لا يَكُونُ حَرَاماً، فإنَّ حِلَّ الأُمورِ وحُرْمَتَها بيَدِ اللهِ تعالى؛ ولذا قالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]؛ فإنَّه لا فَرْقَ بينَ مَن أَبَاحَ ما حَرَّمَ اللهُ، وبَيْنَ مَن حَرَّمَ ما أحَلَّ اللهُ، فكُلُّه افتئاتٌ على اللهِ في أحكامِه.
3- أَثَرُ ابنِ عَبَّاسٍ صريحٌ في أنَّ الرجُلَ إذا حَرَّمَ زَوْجَتَه، يَصِيرُ تَحْرِيمُه يَمِيناً، تُحِلُّها كَفَّارَةُ اليَمِينِ المذكورةُ في سُورةِ المائدةِ.
وفي مثلِ هذا اليَمينِ الواجِبُ على الحالِفِ أَنْ يَأْتِيَ ما حَرَّمَ وحَلَفَ عليه، ويُكَفِّرَ عن يَمينِه؛ لِمَا جاءَ في الصَّحِيحَيْنِ، مِن حديثِ عبدِ الرحْمنِ بنِ سَمُرَةَ، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)).
4- شَارِحُ هذا الكتابِ صَحَّحَ القولَ بأنَّ تحريمَ الزوجةِ أو غيرِها من المُباحاتِ لَغْوٌ، لا حُكْمَ له في شيءٍ مِن الأشياءِ، والحُجَّةُ على ذلك: أنَّ التحريمَ والتحليلَ إلى اللهِ تعالى، قالَ تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]. وقالَ لنبيِّه صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1]. فلا فَرْقَ بينَ تحليلِ الحرامِ، وتحريمِ الحلالِ، فَلَمَّا كانَ الأولُ بَاطِلاً، فَلْيَكُنِ الثاني بَاطِلاً، ونَظَرْنَا إلى ما سِوَى هذا القولِ، فوَجَدْنا أقوالاً مُضْطَرِبَةً، لا بُرْهانَ عليها مِن اللهِ، وهذا القولُ يَدُلُّ عليه حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ، أمَّا الكَفَّارَةُ فهي لليَمينِ، لا لمُجَرَّدِ التحريمِ.
* خلافُ العُلماءِ:
اخْتَلَفَ العلماءُ في الرجُلِ يَقولُ لزَوْجتِه: أنتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. إلى ثَمانِيَةَ عَشَرَ قَوْلاً، وأقْرَبُ هذهِ الأقوالِ، أقوالٌ ثلاثةٌ:
أحدُها: أنها يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ، وهذا مَذْهَبُ الأئمةِ الثلاثةِ: أبي حنيفةَ ومالِكٍ والشافعِيِّ، والأَوْزَاعِيِّ، وبهِ قالَ أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وابنُ مَسْعودٍ، وابنُ عَبَّاسٍ، وعَائِشَةُ.
الثاني: أنَّه حَسَبَ نِيَّةِ المُتَكَلِّمِ مِن طلاقٍ، أو ظِهارٍ، أو يَمِينٍ، وهذا قولٌ لأبي حنيفةَ، ورِوايةٌ عن أحمدَ، واختارَهُ جماعةٌ من الحَنابِلَةِ.
الثالثُ: أنَّه ظِهارٌ، فيه كَفَّارَةُ الظِّهارِ، وهذا هو المَشْهورُ من مَذْهَبِ أحمدَ، وإسحاقَ، وجماعةٍ مِن التابِعِينَ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: وسَبَبُ الاختلافِ أنَّه لَيْسَ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ نصٌّ يُعْتَمَدُ عليه، فتَجاذَبَها العلماءُ لذلك.
قالَ ابْنُ القَيِّمِ فِي مَأْخَذِ أصحابِ هذهِ الأقوالِ: فمَأْخَذُ مَن قالَ: إنَّها يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ: قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم: 1]. ثُمَّ قالَ: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2], وأَثَرُ ابنِ عَبَّاسٍ الذي مَعَنا.
قالَ صاحِبُ (الشَّرْحِ الكَبِيرِ): وهذا القولُ أقْرَبُ الأقوالِ، وأرْجَحُها.
ومَأْخَذُ القولِ الثاني: هو أنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لإيقاعِ الطلاقِ خَاصَّةً، بل هو مُحْتَمِلٌ للطلاقِ، والظِّهارِ، والإيلاءِ، فإذا صَرَفَه إلى أحدِها بالنِّيَّةِ، فقَدِ اسْتَعْمَلَهُ فيما هو صَالِحٌ له، فيُصْرَفُ إلى ما أَرَادَهُ، ولا يَتَجاوَزُ به، ولا يُقَصِّرُ عَنْهُ.
أمَّا مَأْخَذُ القولِ الثالثِ: فهو أنَّ اللَّفْظَ موضوعٌ للتحريمِ، والعبدُ لَيْسَ له التحريمُ والتحليلُ، وإنما إليهِ إنشاءُ الأسبابِ التي يَتَرتَّبُ عليها ذلك، فإذا حَرَّمَ ما أحَلَّ اللهُ له، فقَدْ قَالَ القولَ المُنْكَرَ والزورَ، فيَكُونُ كقولِه: أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. بل هذا أَوْلَى أنْ يَكُونَ ظِهاراً؛ لأنَّه إذا شَبَّهَها بمَن تَحْرُمُ عليهِ، دَلَّ على التحريمِ باللُّزومِ، فإذا صَرَّحَ بتحريمِها، فَقَدْ صَرَّحَ بمُوجِبِ التشبيهِ في لَفْظِ الظِّهارِ، فهو أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظِهاراً.