دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دروس التفسير لبرنامج إعداد المفسّر > دروس تفسير سورة النساء

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10 ربيع الأول 1440هـ/18-11-2018م, 10:07 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تفسير سورة النساء [ من الآية (105) إلى الآية (109) ]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)}

تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا (105)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيما (105)
أي بالحق الذي أعلمكه اللّه عزّ وجلّ.
وقوله: (ولا تكن للخائنين خصيما):
أي لا تكن مخاصما ولا دافعا عن خائن.
ويروى أن رجلا من الأنصار كان يقال له أبو طعمة أو طعمة سرق درعا وجعله في غرارة دقيق، وكان فيها خرق، فانتثر الدقيق من مكان سرقته إلى منزله فظنّ به أنه سارق الدرع وحيص في أمره، فمضى بالدرع إلى رجل من اليهود فأودعها إياه ثم صار إلى قومه فأعلمه أنه لما اتهم بالدرع اتبع أثرها فعلم أنها عند اليهودي، وأن اليهودي سارقها، فجاء قومه أي طعمة أو طعمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه أن يعذره عند الناس، وأعلموه أن اليهودي صاحب الدرع، وكان بعضهم قد علم أن أبا طعمة قد رمى اليهودي وهو بريء من الدرع، فهمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعذره، فأوحى اللّه إليه وعرفه قصته أي طعمة وأعلمه أنه خائن، ونهاه أن يحتج له، وأمره بالاستغفار مما هم به، وأن يحكم بما أنزل اللّه في كتابه، فقال:
(ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانا أثيما (107)
يعني أبا طعمة ومن عاونه من قومه، وهم يعلمون أنه سارق.
ويروى أن أبا طعمة هذا هرب إلى مكة وارتد عن الإسلام، وأنه نقب حائطا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله). [معاني القرآن: 2/101]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً (105) واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفوراً رحيماً (106) ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّاناً أثيماً (107)
في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بني أبيرق بسرعة، وقوله تعالى: بما أراك اللّه معناه: على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة، وقوله تعالى: ولا تكن للخائنين خصيماً، واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفوراً رحيماً سببها باتفاق من المتأولين أمر بني أبيرق، وكانوا إخوة، بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينحل الشعر غيره، فكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث، فقال شعرا يتصل فيه، فمنه قوله:
أفكلما قال الرجال قصيدة = نحلت وقالوا: ابن الأبيرق قالها
قال قتادة بن النعمان: وكان بنو أبيرق أهل فاقة، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من دومك الشام فجعله في مشربة له، وفي المشربة درعان له وسيفان، فعدي على المشربة من الميل فنقبت وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا بن أخي، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فقال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نراه إلا على بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا: «ونحن نسأل» والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فسمع ذلك لبيد فاخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فو الله ما أنت بصاحبنا فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي: يا بن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بهذه القصة، فأتيته عليه السلام فقصصتها عليه، فقال: انظر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على بينة، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، قال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة عن غير بينة، قال: فرجعت وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي ولم أكلمه، فأتيت عمي فقال: ما صنعت؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ الآيات. فالخائنون بنو أبيرق، والبريء المرمي لبيد بن سهل، والطائفة التي همت: أسير وأصحابه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال قتادة وغير واحد من المتأولين: هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق، ويقال فيه: طعيمة، وقال السدي: القصة في طعمة بن أبيرق لكن بأن استودعه يهودي درعا فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليل الأنصاري، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح، وأبو مليل هو البريء المشار إليه، وقال عكرمة: سرق طعمة بن أبيرق درعا من مشربة ورمى بسرقتها رجلا من اليهود يقال له: زيد بن السمين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وجملة هذا يستدير على أن قوم طعمة أتوا النبي وكلموه في أن يذب عن طعمة ويرفع الدعوى عنه، ودفعوا هم عنه ومنهم من يعلم أنه سرق، فكانت هذه معصية من مؤمنيهم، وخلق مقصود من منافقيهم فعصم الله رسوله من ذلك، ونبه على مقاله لقتادة بن النعمان بقوله: ولا تكن للخائنين خصيماً
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وطعمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد وهرب إلى مكة، ونزل على سلافة فرماها حسان بن ثابت بشعر، فأخذت رحل طعمة ورمت به في الأبطح وقالت:
اخرج عنا، أهديت إليّ شعر حسان، فروي: أنه نزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده، وروي أنه نقب حائط بيت ليسرقه فانهدم الحائط عليه فقتله، وروي: أنه اتبع قوما من العرب فسرقهم فقتلوه). [المحرر الوجيز: 3/15-18]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا (105) واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا (106) ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا (107) يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطًا (108) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109)}
يقول تعالى مخاطبًا لرسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ} أي: هو حقٌّ من اللّه، وهو يتضمّن الحقّ في خبره وطلبه.
وقوله: {لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه} احتجّ به من ذهب من علماء الأصول إلى أنّه كان، عليه السّلام، له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصّحيحين من رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أمّ سلمة، عن أمّ سلمة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سمع حلبة خصمٍ بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: "ألا إنّما أنا بشرٌ، وإنّما أقضي بنحوٍ ممّا أسمع، ولعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجّته من بعضٍ، فأقضي له، فمن قضيت له بحقّ مسلمٍ فإنّما هي قطعةٌ من نارٍ فليحملها أو ليذرها".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا أسامة بن زيدٍ، عن عبد اللّه بن رافعٍ، عن أمّ سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مواريث بينهما قد درست، ليس عندهما بيّنةٌ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّكم تختصمون إليّ، وإنّما أنا بشرٌ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعضٍ، وإنّما أقضي بينكم على نحوٍ ممّا أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة". فبكى الرّجلان وقال كلٌّ منهما: حقّي لأخي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أمّا إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثمّ توخّيا الحقّ، ثمّ استهما، ثمّ ليحلل كلّ واحدٍ منكما صاحبه".
وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيدٍ، به. وزاد: "إنّي إنّما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل عليّ فيه".
وقد روى ابن مردويه، من طريق العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: إنّ نفرًا من الأنصار غزوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بعض غزواته، فسرقت درعٌ لأحدهم، فأظنّ بها رجلٌ من الأنصار، فأتى صاحب الدّرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلمّا رأى السّارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجلٍ بريءٍ، وقال لنفرٍ من عشيرته: إنّي غيّبت الدّرع وألقيتها في بيت فلانٍ، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلًا فقالوا: يا نبيّ اللّه، إنّ صاحبنا بريءٌ. وإنّ صاحب الدّرع فلانٌ، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رءوس النّاس وجادل عنه. فإنّه إلّا يعصمه اللّه بك يهلك، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فبرأه وعذره على رءوس النّاس، فأنزل اللّه: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا} [يقول: احكم بما أنزل اللّه إليك في الكتاب] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/404-405]

تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (106)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: واستغفر اللّه ذهب الطبري إلى أن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ليس بذنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر، وهو يعتقد براءتهم، والمعنى: استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في الباطل، لا أن تكون ذا جدال عنهم، فهذا حدك، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب). [المحرر الوجيز: 3/18]

تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم} لفظ عام يندرج طيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم، وقوله تعالى: إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّاناً أثيماً
رفق وإبقاء، فإن الخوان: هو الذي تتكرر منه الخيانة، والأثيم: هو الذي يقصدها، فيخرج من هذا الشديد الساقط مرة واحدة ونحو ذلك مما يجيء من الخيانة بغير قصد أو على غفلة. واختيان الأنفس: هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة). [المحرر الوجيز: 3/18]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا. ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم [إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا]} ثمّ قال للّذين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مستخفين بالكذب: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه [وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطًا. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا]} يعني: الّذين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثمّ قال: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه [ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا]} يعني: الّذين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مستخفين بالكذب، ثمّ قال: {ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا} يعني: السّارق والّذين جادلوا عن السّارق. وهذا سياقٌ غريبٌ وكذا ذكر مجاهدٌ، وعكرمة، وقتادة، والسّدّيّ، وابن زيدٍ وغيرهم في هذه الآية أنّها أنزلت في سارق بني أبيرقٍ على اختلاف سياقاتهم، وهي متقاربةٌ.
وقد روى هذه القصّة محمّد بن إسحاق مطوّلةً، فقال أبو عيسى التّرمذيّ عند تفسير هذه الآية من جامعه، وابن جريرٍ في تفسيره:
حدّثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيبٍ أبو مسلمٍ الحرّاني، حدّثنا محمّد بن سلمة الحرّاني، حدّثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النّعمان، رضي اللّه عنه، قال: كان أهل بيتٍ منّا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبشيرٌ ومبشّر، وكان بشير رجلًا منافقًا، يقول الشّعر يهجو به أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ ينحله بعض العرب، ثمّ يقول: قال فلانٌ كذا وكذا، وقال فلانٌ كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك الشّعر قالوا: واللّه ما يقول هذا الشّعر إلّا هذا الخبيث؟ -أو كما قال الرّجل -وقالوا ابن الأبيرق قالها. قالوا: وكانوا أهل بيت حاجةٍ وفاقةٍ في الجاهليّة والإسلام، وكان النّاس إنّما طعامهم بالمدينة التّمر والشّعير، وكان الرّجل إذا كان له يسارٌ فقدمت ضافطةٌ من الشّام من الدّرمك ابتاع الرّجل منها فخصّ بها نفسه، وأمّا العيال فإنّما طعامهم التّمر والشّعير، فقدمت ضافطة من الشّام، فابتاع عمّي رفاعة بن زيدٍ حملًا من الدّرمك فحطّه في مشربة له، وفي المشربة سلاحٌ: درعٌ وسيفٌ، فعدى عليه من تحت البيت، فنقّبت المشربة وأخذ الطّعام والسّلاح. فلمّا أصبح أتاني عمّي رفاعة فقال: يا ابن أخي، إنّه قد عدي علينا في ليلتنا هذه. فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا. قال: فتجسّسنا في الدّار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه اللّيلة، ولا نرى فيما نرى إلّا على بعض طعامكم.
قال: وكان بنو أبيرقٍ قالوا -ونحن نسأل في الدّار -: واللّه ما نرى صاحبكم إلّا لبيد بن سهلٍ رجلًا منّا له صلاحٌ وإسلامٌ. فلمّا سمع لبيدٌ اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟ واللّه ليخالطنّكم هذا السّيف، أو لتبيّننّ هذه السّرقة. قالوا: إليك عنّا أيّها الرّجل، فما أنت بصاحبها. فسألنا في الدّار حتّى لم نشكّ أنّهم أصحابها.
فقال لي عمّي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: إنّ أهل بيتٍ منّا أهّل جفاءٍ عمدوا إلى عمّي رفاعة بن زيدٍ، فنقبوا مشربةً له، وأخذوا سلاحه وطعامه. فليردوا علينا سلاحنا، فأمّا الطّعام فلا حاجة لنا فيه. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم "سآمر في ذلك".
فلمّا سمع بنو أبيرق أتوا رجلًا منهم يقال له: أسير بن عمرو فكلّموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناسٌ من أهل الدّار فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ قتادة بن النّعمان وعمّه عمدا إلى أهل بيتٍ منّا أهل إسلامٍ وصلاحٍ، يرمونهم بالسّرقة من غير بيّنةٍ ولا ثبتٍ. قال قتادة: فأتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فكلّمته، فقال: "عمدت إلى أهل بيتٍ ذكر منهم إسلامٌ وصلاحٌ، ترميهم بالسّرقة على غير ثبت ولا بيّنةٍ؟ ؟
قال: فرجعت ولوددت أنّي خرجت من بعض مالي، ولم أكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك، فأتاني عمّي رفاعة فقال: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: اللّه المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا} بني أبيرقٍ {واستغفر اللّه} ممّا قلت لقتادة {إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا. ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم [إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا. يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم]} إلى قوله: {رحيمًا} أي: لو استغفروا اللّه لغفر لهم {ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه} إلى قوله: {إثمًا مبينًا} قولهم للبيدٍ: {ولولا فضل الله عليك ورحمته} إلى قوله: {فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا}
فلمّا نزل القرآن أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالسّلاح فردّه إلى رفاعة.
فقال قتادة: لمّا أتيت عمّي بالسّلاح وكان شيخًا، قد عشا أو عسا -الشّكّ من أبي عيسى -في الجاهليّة وكنت أرى إسلامه مدخولًا فلمّا أتيته بالسّلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل اللّه. فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحًا، فلمّا نزل القرآن لحق بشيرٌ بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل اللّه تعالى: {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا. إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه فقد ضلّ ضلالا بعيدًا} فلمّا نزل على سلافة رماها حسّان بن ثابتٍ بأبياتٍ من شعره، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثمّ خرجت به فرمت به في الأبطح، ثمّ قالت: أهديت لي شعر حسّان؟ ما كنت تأتيني بخيرٍ.
لفظ التّرمذيّ، ثمّ قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ غريبٌ لا نعلم أحدًا أسنده غير محمّد بن سلمة الحرّانيّ: وروى يونس بن بكير وغير واحدٍ، عن محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلًا لم يذكروا فيه عن أبيه عن جدّه.
ورواه ابن حاتمٍ عن هاشم بن القاسم الحرّانيّ، عن محمّد بن سلمة، به ببعضه.
ورواه ابن المنذر في تفسيره: حدّثنا محمّد بن إسماعيل -يعني الصّائغ -حدّثنا الحسن بن أحمد ابن أبي شعيبٍ الحرّانيّ، حدّثنا محمّد بن سلمة -فذكره بطوله.
ورواه أبو الشّيخ الأصبهانيّ في تفسيره عن محمّد بن العبّاس بن أيّوب والحسن بن يعقوب، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، عن محمد بن سلمة، به. ثمّ قال في آخره: قال محمّد بن سلمة: سمع منّي هذا الحديث يحيى بن معينٍ، وأحمد بن حنبلٍ، وإسحاق بن إسرائيل.
وقد روى الحاكم أبو عبد اللّه النّيسابوريّ هذا الحديث في كتابه "المستدرك" عن أبي العبّاس الأصمّ، عن أحمد بن عبد الجبّار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن محمّد بن إسحاق -بمعناه أتمّ منه، وفيه الشّعر، ثمّ قال: وهذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرجاه). [تفسير القرآن العظيم: 2/405-407]


تفسير قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: (يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطا (108)
(إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول)
كل ما فكّر فيه أو خيض فيه بليل فقد بيّت.
يعني به هذا السارق، والذي بيّت من القوم أن قال: أرمي اليهودي بأنه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني لأني على ديني، ولا تقبل يمين اليهودي. فهذا ما بيّت من القول واللّه أعلم). [معاني القرآن: 2/101-102]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطاً (108) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً (109) ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً (110)
الضمير في يستخفون
للصنف المرتكب للمعاصي مستسرين بذلك عن الناس مباهتين لهم، واندرج في طي هذا العموم، ودخل تحت هذه الأنحاء أهل الخيانة في النازلة المذكورة، وأهل التعصب لهم والتدبير في خدع النبي صلى الله عليه وسلم والتلبس عليه، ويحتمل أن يكون الضمير لأهل هذه النازلة، ويدخل في معنى هذا التوبيخ كل من فعل نحو فعلهم، ومعنى وهو معهم
بالإحاطة والعلم والقدرة، ويبيّتون
يدبرون ليلا، انطلقت العبارة على كل استسرار بهذا، إذ الليل مظنة الاستتار والاختفاء، قال الطبري: وزعم بعض الطائيين: أن التبييت في لغتهم التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جوين الطائي: [المتقارب]
وبيّت قولي عند الملي = ك قاتلك الله عبدا كنودا
وقال أبو زيد يبيّتون
معناه: يؤلفون، ويحتمل أن تكون اللفظة مأخوذة من البيت، أي: يستسرون في تدبيرهم بالجدرات). [المحرر الوجيز: 3/19]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه [وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول]} الآية، هذا إنكارٌ على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من النّاس لئلّا ينكروا عليهم، ويجاهرون اللّه بها لأنّه مطّلعٌ على سرائرهم وعالمٌ بما في ضمائرهم؛ ولهذا قال: {وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطًا} تهديدٌ لهم ووعيدٌ). [تفسير القرآن العظيم: 2/407]

تفسير قوله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109)
يعني به من احتج عن هذا السارق.
(فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة).
أي في اليوم الذي يؤخذ فيه بالحقائق، وأمر الدّنيا يقوم بالشهادات في الحقوق.
وجائز أن تكون الشهادة غير حقيقة، فكأنّه - واللّه أعلم - قيل لهم إن يقم الجدال في الدنيا والتغييب عن أمر هذا السارق، فيوم القيامة لا ينفع فيه جدال ولا شهادة.
ومعنى قوله " ها أنتم " ها للتنبيه، وأعيدت في أولاء. والمعنى – واللّه اعلم - ها أنتم الذين جادلتم، لأن " هؤلاء " و " هذا " يكونان في الإشارة للمخاطبين بمنزلة الذين، نحو قول الشاعر:
وهذا تحملين طليق
أي والذي تحملينه طليق.
وأصل المجادلة والجدال في اللغة شدة المخاصمة، والجدل شدة القتل، ورجل مجدول، أي كأنّه قد قتل، والأجدل الصقر، يقال له أجدل لأنه من أشد الطيور قوة). [معاني القرآن: 2/102]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ها أنتم هؤلاء
قد تقدمت وجوه القراءات فيه في سورة آل عمران، والخطاب بهذه الآية للقوم الذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي، ويندرج طي هذا العموم أهل النازلة، ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل التعصب في هذه النازلة وهو الأظهر عندي بحكم التأكيد ب هؤلاء، وهي إشارة إلى حاضرين، وقد تقدم إعراب مثل هذه الآية في سورة آل عمران، «والمجادلة»: المدافعة بالقول وهي من فتل الكلام وليه، إذ الجدل الفتل، وقوله تعالى: فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة
وعيد محض، أي إن الله يعلم حقيقة الأمر فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره، كما فعلتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو بشر يقضي على نحو ما يسمع). [المحرر الوجيز: 3/19-20]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا [فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا]} أي: هب أنّ هؤلاء انتصروا في الدّنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظّاهر -وهم متعبدون بذلك -فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي اللّه، عزّ وجلّ، الّذي يعلم السّرّ وأخفى؟ ومن ذا الّذي يتوكّل لهم يومئذٍ في ترويج دعواهم؟ أي: لا أحد يكون يومئذٍ لهم وكيلًا ولهذا قال: {أم من يكون عليهم وكيلا} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/407-408]


* للاستزادة ينظر: هنا

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, سورة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:53 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir