بسم الله الرحمن الرحيم
بحث مسألة إعراب (إن هذان لساحران ).
في هذه المسألة قراءات مختلفة وعلى كل قراءة هناك توجيهات للإعراب.
أولاً قراءة تخفيف إن:
أولا:قراءة تخفيف " إنْ".
هذه القراءة إشكالها قليل من جهة الإعراب ،وهي موافقة لرسم المصحف ، وهي قراءة عاصم ، فـــ«إن» هي عن سيبويه المخففة من الثقيلة ويرتفع بعدها الاسم ، واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة ، وبهذا قال الخليل و الزجاج ، وذكره الطبري ومكي بن أبي طالب والزمخشري وأبو حيان، والسمين الحلبي وابن عاشور.
وعلى رأي البصريين، فمعناها: ما هذان إِلا ساحران، كقوله تعالى: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي: ما نظنك إِلا من الكاذبين، وأنشدوا في ذلك:ثكلتْك أمُّك إِن قتلتَ لَمُسْلِماً... حَلّت عَليه عُقوبة المُتَعمِّدِ أي: ما قتلت إِلا مسلماً.
والكوفيين ، يزعمون أن إن نافية واللام بمعنى إلاّ، قال الزجاج: ويشهد لهذه القراءة، ما روي عن أبيّ بن كعبٍ أنه قرأ «ما هذان إِلا ساحران» ، وروي عنه، «إن هذان لساحران» بالتخفيف، ورويت عن الخليل «إِنْ هذان» بالتخفيف ،والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل.
قال السمين : عنها أنها أوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا «إنْ» المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر.
ف «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ.
قال مكي ابن أبي طالب:
فَأَما من خفف إِن فَهِيَ قِرَاءَة حَسَنَة لِأَنَّهُ أصلح الاعراب وَلم يُخَالف الْخط لَكِن دُخُول اللَّام فِي الْخَبَر يَعْتَرِضهُ على مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ لِأَنَّهُ يقدر أَنَّهَا المخففة من الثَّقِيلَة ارْتَفع مَا بعْدهَا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر لنَقص بنائها فَرجع مَا بعْدهَا الى أَصله وَاللَّام لَا تدخل فِي خبر ابْتِدَاء أَتَى على أصلة إِلَّا فِي شعر على مَا ذكرنَا وَأما على مَذْهَب الْكُوفِيّين فَهُوَ من أحسن شَيْء لأَنهم يقدرُونَ إِن الْخَفِيفَة بِمَعْنى مَا وَاللَّام بِمَعْنى إِلَّا فتقدير الْكَلَام مَا هَذَانِ إِلَّا ساحران فَلَا خلل فِي هَذَا التَّقْدِير إِلَّا مَا ادعوهُ أَن اللَّام تَأتي بِمَعْنى إِلَّا.
ثانياً :قراءة تشديد"إنَّ" وإثبات الألف في " هذان"
وهي قراءة الأكثرين واختلف في إعرابها أهل اللغة على أقوال:
القول الأول:هي لغة كنانة وبني الحارث بن كعب وغيرهم ممن جاورهم من قبائل العرب ، يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف.
وبهذا القول قال:ابن عباس، وابن الأنباري ، والفراء ، والزجاج ، والأخفش ،والنحاس واستحسنه ، وأبو الخطاب والكسائي وأبو زيد الأنصاري ، وذكره الطبري ورجحه، وذكره الأزهري أبو منصور، ،وذكره الثعلبي واستحسنه، والمواردي، والبغوي، وابن عطية ، والزمخشري ،والقرطبي ، والزبيدي وابن عاشور .
أما قول ابن عباس:
فقد ذكره ابن الجوزي في زاد المسير عن عطاء عن ابن عباس.
واستشهدوا لهذا القول بشواهد من لغة العرب منها:
فأطرق إطراق الشّجاع ولو يرى = مساغًا لناباه الشّجاع لصّمما
وحكي رجل منهم أيضًا: هذا خطّ يدا أخي أعرفه.
وقولَه: - إنَّ أباها وأبا أباها... قد بَلَغا في المجدِ غايتاها أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد.
توجيه هذا القول:
قال أبو جعفر النحاس في كتابه إعراب القرآن: وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية ; إذ كانت هذه اللغة معروفة , وقد حكاها من يرتضى بعلمه وأمانته ; منهم أبو زيد الأنصاري وهو الذي يقول : إذا قال سيبويه حدثني من أثق به فإنما يعنيني ; وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة , والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحارث بن كعب .
وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة .
المهدوي : وحكى غيره أنها لغة لخثعم ،(قال النحاس : وكذلك " إن هذان " ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذا كان الأئمة قد رووها .
الاعتراض عليه:
قال الماوردي :لا يجوز أن يحمل القرآن على ما اعتل من اللغات ويعدل به عن أفصحها وأصحها .
قال ابن تيمية : بنو الحارث بن كعب هم أهل نجران، ولا ريب أن القرآن لم ينزل بهذه اللغة، بل المثني من الأسماء المبنية في جميع القرآن هو بالياء في النصب والجر كما تقدمت شواهده.
وقد ثبت في الصحيح عن عثمان أنه قال: إن القرآن نزل بلغة قريش، وقال للرهط القرشيين الذين كتبوا المصحف هم وزيد: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ فإن القرآن نزل بلغتهم، ولم يختلفوا إلا في حرف، وهو (التابوت) فرفعوه إلى عثمان، فأمر أن يكتب بلغة قريش .رواه البخاري في صحيحة.
وأما كنانة: فهم جيران قريش، والناقل عنهم ثقة، ولكن الذي ينقل ينقل ما سمع، وقد يكون سمع ذلك في الأسماء المبهمة المبنية، فظن أنهم يقولون ذلك في سائر الأسماء؛ بخلاف من سمع (بين أذناه)، و(لناباه) فإن هذا صريح في الأسماء التي ليست مبهمة.
وحينئذ، فالذي يجب أن يقال: إنه لم يثبت أنه لغة قريش، بل ولا لغة سائر العرب: أنهم ينطقون في الأسماء المبهمة إذا ثنيت بالياء، وإنما قال ذلك من قاله من النحاة قياساً، جعلوا باب التثنية في الأسماء المبهمة كما هو في سائر الأسماء، و إلا فليس في القرآن شاهد يدل على ما قالوه، وليس في القرآن اسم مبهم مبني في موضع نصب أو خفض إلا هذا، ولفظه: {هَذَانِ}، فهذا . نقل ثابت متواتر لفظاً ورسماً.أهـ
القول الثاني:(إنَّ) المشددة بهذا الموضع بمعنى ( نعم) و " لساحرن " خبر مبتدأ محذوف واللام داخلة على الجملة تقديره: لهما ساحران؟
قاله : الخليل بن أحمد ، والكسائي ، واختار هذا القول المبرد وإسماعيل بن إسحاق القاضي والزجاج وعلي بن سليمان، ومحمد بن يزيد، وذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى عن بشر بن هلال ، وذكره الطبري والبغوي وابن عطية والمواردي ، ومكي بن أبي طالب وابن الجوزي وغيرهم من أهل التفسير.
واستدلوا:
بما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في خطبته: «إن الحمد لله» فرفع الحمد ، وقال ابن الزبير إن وراكبها حين قال له الرجل فأبعد الله ناقة حملتني إليك.
وقال عبد الله بن قيس الرقيات :
بكى العواذل في الصبا ... ح يلمنني وألومُهُنّة
ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أي: فقلت: نَعَمْ.
اعترض على هذا القولبعض النحاة منهم ابن الحاجب والعبكري والنحاس والسمين الحلبي وغيرهم.
اُعترض على هذا القول من وجهين:
الأول: عدمُ ثبوتِ «إنَّ» بمعنى نعم، قال ابن الحاجب في "الأمالي": "إنْ" بمعنى "نعم": شاذ.
وما ورد من استشهادات مُؤَوَّلٌة: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك.
وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر «إنَّ»للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان.
والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب «إنَّ» المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه: - أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ... تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ وقد يُجاب عنه: بأنَّ «لَساحِران» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه ، تقديرُه: لهما ساحران.
لذلك قال الزجاج: والذي عندي، وكنتُ عرضتُه على عالمنا محمد بن يزيد، وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد، فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا، وهو أن «إِنَّ» قد وقعت موقع «نعم» ، والمعنى: نعم هذان لهما الساحران.
ولكن قال المهدوي : وأنكره أبو علي وأبو الفتح بن جني .
قال أبو الفتح : " هما " المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عرف , وإذا كان معروفا فقد استغني بمعرفته عن تأكيده باللام , ويقبح أن تحذف المؤكَد وتترك المؤكِد.
القول الثالث:المعنى : (إنه هذان لساحران)، أيفي « إن » هاء مضمرة.
حكاه الزجاج ، وابن الأنباري ، والنحاس وانتقده ، وذكره مكي بن أبي طالب ، وذكره المواردي ، والبغوي، وابن عطية ، والقرطبي .
قال أبو إسحاق : النحويون القدماء يقولون الهاء هاهنا مضمرة، والمعنى: إنه هذان لساحران؛ قال ابن الأنباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب «إن» و«هذان» خبر «إن» و«ساحران» يرفعها «هما» المضمر (والتقدير) إنه هذان لهما ساحران. والأشبه عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم «إن» و«هذان» رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء.
الاعتراض على هذا القول:
وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ " إن " ، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ " إنَّ " فعلاً كقولِه:
3299ـ إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماًيَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ
والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ.
وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك.
القول الرابع :الألف في «هذان» دعامة وليست لام الفعل، وليست بمجلوبة للتثنية .قاله الفراء.
والمقصود أنها ألف «هذا» ، فزاد عليها نوناً ولم تتغير، والنون فرَّقتْ بين الواحد والتثنية، كما فرقت نون «الذين» بين الواحد والجمع .
فكما قلت " الذي" ثم زدت عليه نوناً ولم تغيره ، وقلت الذين في الرفع والنصب والجر، أيضاً هذان مثله في الرفع والنصب والجر لا تتغير.
القول الخامس: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو «ها» التي قبل «ذان» والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران.
ذكره السمين الحلبي واعترض عليه ، وابن حيان ورده.
وهذا قول مردود من وجهين:
أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ «إنها» فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى: { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «إنَّ» متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً، وهو واضح.
الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ.
وقد يُجاب عنه بما قاله الزجاح كما تقدَّم.
القول السادس: أشبّهت الألف في قولك: هذان بالألف في يفعلان، فلم تتغير.
هذا القول ذكره أبوجعفر النحاس ، حكاه مكي بن أبي طالب عن الكوفيين ، والقرطبي عن الكوفيين.
القول السابع: أن هذا غلط من الكاتب أي هو ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب.
روي عن عائشة رضي الله عنها ،وعثمان رضي لله عنهم ، وذكره الفراء ، وابن قتيبة ، وذكره الزجاج ، وذكره الثعلبي ومكي بن أبي طالب ، والسمين الحلبي ، القرطبي.
استدلوا لهذا القول بالآتي:
1- ما رواه ابن أبي داوود في كتابه المصاحف قال : حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ لَحْنِ الْقُرْآنِ، {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] ، وَعَنْ قَوْلِهِ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النساء: 162] وَعَنْ قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} فَقَالَتْ: «يَا ابْنَ أُخْتِي، هَذَا عَمَلُ الْكُتَّابِ أَخْطَئُوا فِي الْكِتَابِ» ( المصاحف لابن أبي داوود 1/129)
2- ما رواه ابن أبي داوود في كتابه المصاحف قال : قال:حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ دَاوُدَ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فُطَيْمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فِي الْقُرْآنِ لَحَنٌ وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا» (المصاحف لابن أبي داوود 1/122)
بالنسبة لحديث عائشة :
مما لا شك فيه أن هذا الحديث منكر المتن حيث يبعد أن يصدر عن عائشة ذلك وهي تعلم أن الأصل في القراءة الرواية مشافهة، وتعلم أن المصاحف كتبت بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم ويستحيل تواطئهم على اللحن والخطأ ، ولذلك لابد أن يكون في هذا الإسناد علة خفية لأن ظاهره الصحة حيث لم ينفرد به أبو معاوية بن حازم الضرير كما قال البعض ، لأن البعض أعله بانفراده وهو غير صحيح حيث رواه أيضاً علي بن مسهر فقد جاء هذا الأثر من طريق آخر : رواه عمر بن شبّة من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن: إن هذان لساحران، وقوله: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} ، {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}، وأشباه ذلك فقالت: «أي بني إنَّ الكتاب يخطئون»
هذا الأثر إسناده في ظاهره صحيح، فقد رواه عن هشام بن عروة رجلان هما: أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، وعلي بن مسهر؛ فبرئت عهدة أبي معاوية من التفرّد به كما أعلّه به بعضهم، وإن كان أبو معاوية قد انتقد بسبب اضطراب بعض حديثه، لكنّه قد توبع في هذا الأثر، وتابَعَه ثقة ثبت وهو علي بن مسهر.
فنظرنا في الذين رووا هذا الحديث عن هشام فإذا هما عراقيّان، وحديث العراقيين عن هشام بن عروة متكلّم فيه.
فقد ذكر الذهبي عن عبد الرحمن بن خراش أنه قال: (بلغني أن مالكا نقم على هشام بن عروة حديثه لأهل العراق، وكان لا يرضاه).
والمقصود أنّ هذا الحديث مما أخطأ فيه هشام بن عروة؛ فرواه عن أبيه من غير ذكر الواسطة.
وهذه العلّة مع نكارة المتن كافية في ردّه( من دورة جمع القرآن التي درسناها سابقا).
وعلى فرض صحة الحديث فالجواب عنه أن تخطئة عائشة للكتاب هو اجتهاد منها رضي الله عنها إذ تركوا القراءة التي كانت تقرأ بها وتعرفها واختاروا غيرها، وقولهم مقدم على قولها في ذلك، لكثرتهم واجتماعهم وشدّة عنايتهم بالقراءة والإقراء، وقول المثبت مقدَّم على قول النافي لما معه من زيادة علم. والعمدة في القراءة على الرواية، وما كان أؤلئك القراء ليقرؤوا إلا على ما ثبت لديهم صحة القراءة به رواية، وإن كان غيرها المختار.
أما أثر عثمان:
فهذا الخبر ضعيف جدًا من جهة الإسناد ولا يصح عن عثمان رضي الله عنه وقد أعله المحدثون بجميع طرقه عدة علل.
وفيه إشكال أيضًا من جهة المتن وذلك من وجوه:
- أنه مناف لمكانة عثمان رضي الله عنه في الإسلام وحرصه في بذل النصيحة للأمة إذ كيف يؤخر شيئا من هذا ويتركه ليصلحه غيره مع معرفته به.
- وأيضًا فإن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا على صحة ما كتب بين اللوحين، ولا يمكن أن يجتمعوا على غلط.
- وكذلك يمتنع التسليم بهذا مع تعدد المصاحف، وإجماع الصحابة عليها، ووجود الحفاظ وكثرتهم.
وعلى افتراض صحة هذه الرواية عن عثمان فقد وجهها بعض أهل العلم توجيهات عدة منها:
- أن المراد باللحن ما يمكن أن يقع من الخطأ عند النطق بظاهر رسم الكلمات التي كتبت على غير ما تنطق به، وممن قال بذلك الإمام ابن المنادي والإمام أبوعمرو الداني
- أن ذلك لو قدر صحته –مع أنه غير صحيح- فإنما يكون في نسخة احدة فقط أما تعدده في جملة من المصاحف فقد تقدم خطؤه.قاله به شيخ الإسلام.
كما قال الزجاج في قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ}: قول من قال: إنه خطأ بعيد جداً، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والقدوة، فكيف يتركون شيئاً يصلحه غيرهم، فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم.
وقال ابن الأنباري: حديث عثمان لا يصح؛ لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا ليصلحه من بعده. ذكره ابن الجوزي وابن تيمية
وذكر عبد الرزاق المهدي محقق تفسير زادالمسير أن في رواية أبي معاوية عن هشام اضطراب إلى عائشة .قال : ويحمل هذا على اجتهاد عائشة رضي الله عنها والجمهور على خلاف ذلك وهذا إن ثبت عنها.
وذكر تخريج الرويات عن عثمان ثم قال : وهذه الروايات جميعا واهية لا تقوم بها حجة .
-----
الدراسة والترجيح:
وبعد دراسة الأقوال السابقة والمآخذ عليها تبين لي أن القول الرابع قول الفراء وهو أن" هذان" مبني لا يتغير في رفع ولا نصب ولا جر لم يتعرض لنقد، وكذلك القول السادس ، وهو أن الألف شبهت ألف فعلان .وهما القولان اللذان رجحهما ابن تيمية رحمه الله بعد أن بين أن سبب الإشكال في إعراب (إن هذان لساحران) : أن الاسم المثني يعرب في حال النصب والخفض بالياء، وفي حال الرفع بالألف، وهذا متواتر من لغة العرب ولغة القرآن ، فظن النحاة أن الأسماء المبهمة المبنية مثل هذين واللذين تجري هذا المجري، وأن المبني في حال الرفع يكون بالألف، ومن هنا نشأ الإشكال.فبين غلط ذلك بالنقل فذكر شواهد على ذلك من القرآن وأنه وصل إلينا متواترا لفظا وخطا . ثم أثبته قياسا فقال : وأما العقل والقياس فقد تَفَطَّنَ للفرق غير واحد من حُذَّاقِ النحاةِ، فحكي ابن الأنباري وغيره عن الفراء قال: ألف التثنية في (هذان) هي ألف هذا، والنون فرقت بين الواحد والاثنين، كما فرقت بين الواحد والجمع نون الذين، وحكاه المهدوي وغيره عن الفراء. وقال بعض الكوفيين: الألف في هذا مشبهة بألف يفعلان، فلم تغير كما لم تغير.اهـ وهذا هوالقول الرابع والسادس
ومما يرجح هذا :
قال المهدوي: وسأل إسماعيل القاضي ابن كيسان عن هذه المسألة فقال: لما لم يظهر في المبهم إعراب في الواحد ولا في الجمع، جرت التثنية على ذلك مجري الواحد، إذ التثنية يجب ألا تغير، فقال إسماعيل: ما أحسن ما قلت لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يؤنس به.
فقال له ابن كيسان:فليقل القاضي حتى يؤنس به، فتبسم !!
والواقع أن الفراء تقدمه بهذا القول.
وبهذا يتبين والله أعلم : أن إعراب هذان :مبني يلحق مثناه بمفرده وبمجموعه ،لا بمثنى غيره .
قال ابن تيمية: أسماء الإشارة لم تفرق لا في واحده،ولا في جمعه بين حال الرفع والنصب والخفض،فكذلك في تثنيته، بل قالوا:قام هذا وأكرمت هذا، ومررت بهذا، وكذلك هؤلاء في الجمع، فكذلك المثني، قال هذان، وأكرمت هذان، ومررت بهذان، فهذا هو القياس فيه أن يلحق مثناه بمفرده وبمجموعه، لا يلحق بمثني غيره الذي هو أيضاً معتبر بمفرده ومجموعه.اهـ
ويلي ذلك القول في القوة أنها لغة من لغات العرب في التثنية لأن ذلك قال به ائمة في اللغة.
ثم يلي ذلك القول بأن "إن" تأتي كحرف جواب بمعنى نعم.
والله أعلى وأعلم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أنه لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.
----