دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > الفقه > متون الفقه > زاد المستقنع > كتاب النكاح

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 ربيع الثاني 1432هـ/28-03-2011م, 04:03 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي الشرح الممتع على زاد المستقنع / للشيخ ابن عثيمين رحمه الله

فَصْلٌ
وَعَلَيْهِ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فِي القَسْمِ، لاَ فِي الوَطْءِ.
قوله: «وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم» .
«وعليه» الضمير يعود على الزوج، فعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم، سواء كن اثنتين، أم ثلاثاً، أم أربعاً، ودليل ذلك من القرآن، والسنة، والنظر، أما القرآن فقال الله تعالى: {{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}} [النساء: 19] ، وليس من المعروف أن يقسم لهذه ليلتين، ولتلك ليلة واحدة، فالجور في هذا ظاهر، وأما من السنة فقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» [(299)]، والعياذ بالله، وهذا دليل على تحريم الميل إلى إحداهما، وأما من النظر، فكل منهما زوجة وقد تساوتا في الحق على هذا الرجل، فوجب أن تتساويا في القسم، كالأولاد يجب العدل بينهم في العطية.
وقوله: «بين زوجاته في القسم» ظاهر كلامه سواءٌ كن حرَّات أم إماء؛ لأنه لم يستثنِ، لكن قال بعض العلماء ـ وهو المذهب ـ: إن للحرة مع الأمة ليلتين وللأمة ليلة؛ لأنها على النصف، وفي هذا نظر، والصواب أنه يجب العدل في القسم حتى بين الحرة والأمة.
قوله: «لا في الوطء» فلا يجب أن يساوي بينهن في الوطء؛ لأن الوطء له دوافع من أعظمها المحبة، والمحبة أمرٌ لا يملكه المرء، فقد يكون إذا أتى إلى هذه الزوجة أحب أن يتصل بها، وتلك لا يحب أن يتصل بها، فلا يلزمه أن يساوي بينهن في الوطء، وقد قال الله تعالى: {{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}} [النساء: 129] ، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقسم بين زوجاته ويعدل ويقول: «هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» [(300)] وهذا حق؛ لأنه إذا كان لا يرغب إحداهما، فإنه لا يملك أن يجامعها إلا بمشقة، ثم إن تكلف الإنسان للجماع يلحقه الضرر.
وقال بعض العلماء: بل يجب عليه أن يساوي بينهن في الوطء إذا قدر، وهذا هو الصحيح والعلة تقتضيه؛ لأننا ما دمنا عللنا بأنه لا يجب العدل في الوطء بأن ذلك أمرٌ لا يمكنه العدل فيه، فإذا أمكنه زالت العلة، وبقي الحكم على العدل، وعلى هذا فلو قال إنسان: إنه رجل ليس قوي الشهوة إذا جامع واحدةً في ليلة لا يستطيع أن يجامع الليلة الثانية ـ مثلاً ـ أو يشق عليه ذلك، وقال سأجمع قوتي لهذه دون تلك، فهذا لا يجوز؛ وذلك لأن الإيثار هنا ظاهر، فهو يستطيع أن يعدل، فالمهم أن ما لا يمكنه القسم فيه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وما يمكنه فإنه يجب عليه أن يقسم.
مسألة: هل يجب أن يعدل بين زوجاته في الهبة والعطية؟ يقول الفقهاء رحمهم الله: أما في النفقة الواجبة فواجب، وما عدا ذلك فليس بواجب؛ لأن الواجب هو الإنفاق، وقد قام به، وما عدا ذلك فإنه لا حرج عليه فيه، لكن هذا القول ضعيف.
والصواب أنه يجب أن يعدل بين زوجاته في كل شيء يقدر عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل»[(301)].

وَعِمَادُهُ اللَّيْلُ لِمَنْ مَعَاشُهُ النَّهَارُ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ، وَيَقْسِمُ لِحَائِضٍ، وَنُفَسَاءَ، وَمَرِيضَةٍ، وَمَعِيبَةٍ، وَمَجْنُونَةٍ مَأْمُونَةٍ وَغَيْرِهَا،.........
قوله: «وعماده الليل لمن معاشه النهار والعكس بالعكس» «عماده» أي: عماد القسم الأصل فيه الليل لمن معاشه النهار، وهو غالب الناس، كما قال الله تعالى: {{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا *}{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا *}} [النبأ] ، فغالب الناس معاشهم النهار وسكونهم الليل، فيكون عماد القسم للزوجات الليل، أما النهار فالإنسان يذهب في معيشته، ربما يتردد إلى بيت هذه لأمرٍ يتعلق بمعيشته، وبيعه، وشرائه، ولا يتردد إلى الأخرى، وربما تكون خزائن ماله في بيت واحدةٍ فيحتاج إلى أن يتردد عليها، ولو لم يكن يومها.
وأما من معاشه في الليل دون النهار، فعماد القسم في حقه النهار، كالحارس الذي يحرس ليلاً وفي النهار، يتفرغ لبيته، ولهذا قال: «والعكس بالعكس» .
قوله: «ويقسم لحائض» أي: إذا كان له زوجتان فحاضت إحداهما، يقول المؤلف: إنه يجب أن يقسم لها.
فإن قال: الحائض لا أستمتع بها بكل ما أريد؟
نقول: لكن الإيناس، والاجتماع، وأن لا تَرَى الزوجة الأخرى متفوقة عليها، هذا واجب.
فإن اتفقت الزوجتان على أنه لا يقسم للحائض، فهل هذا جائز أو غير جائز؟ وإذا جاز، فهل لهما الرجوع أو ليس لهما الرجوع؟
لننظر: هل هذا معلوم أو مجهول؟ هذا غير معلوم، قد تحيض هذه خمسة أيام، وهذه تحيض عشرة أيام، وقد تختلف العادة، فهو مجهول، وإذا كان مجهولاً فلا بد أن يؤثر على قلوب الزوجات؛ لأنه إذا صارت هذه حيضها خمسة أيام، والثانية حيضها، أحياناً خمسة أيام، وأحياناً عشرة أيام، وأحياناً ثمانية أيام، وأحياناً ثلاثة عشر يوماً، فيكون هناك شيء في النفوس، حتى وإن رضين في أول الأمر، لكن سوف لا يرضين في النهاية.
فإذا قال: اتفق معكما على أن لا أقسم للحائض ما لم يتجاوز حيضها ثمانية أيام فإنه يجوز؛ لأنه جعل له حداً أعلى، وربما يكون في هذا راحة للجميع.
قوله: «ونفساء» أي: يجب أن يقسم لها؛ لأنه إذا وجب للحائض وجب للنفساء ولا فرق، لكن النفساء يجب أن يُرجَع في هذا إلى العرف، والعرف عندنا أن النفساء لا تبقى في بيت زوجها، بل تكون عند أهلها حتى تطهر، وأيضاً العرف عندنا أنه لا قسم لها، أي: أن الزوج لا يذهب لها ليلة وللأخرى ليلة، ولا يقضي إذا طهرت من النفاس، وعلى هذا فنقول: مقتضى قول الله تعالى: {{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}} [النساء: 19] أن لا قسم للنفساء، أما الحائض فعندنا جرت العادة أنه يقسم لها، وأن الزوج لا يفرِّق، يذهب إلى كل واحدة في ليلتها، سواء كانت طاهراً أم حائضاً.
قوله: «ومريضة» أي: يجب أن يقسم للمريضة، وهذا القول وجيه، بل ربما لو نقول: إنه أوجب من القسم للصحيحة لكان له وجه؛ لأنه لو هجر المريضة فإنه يؤثر فيها، ويزيدها مرضاً.
فإن عافت نفسه هذه المريضة، وقال: أنا لا أطيق، قلنا: إذاً استسمح منها، وطَيِّبْ قلبها؛ لأنه أحياناً يكون المرض لا يطيقه الإنسان وأحياناً يطيقه، فنقول: إذا كانت مريضة مرضاً لا تطيقه أو تخشى من العدوى، فحينئذٍ استأذن منها.
قوله: «ومعيبة» المراد معيبة حدث بها العيب، فإنه يقسم لها، وكذلك إذا كانت معيبة من قبل؛ لأنه هو الذي فرط بعدم اشتراط أن لا يقسم، والعيب قد يكون طارئاً وقد يكون سابقاً.
قوله: «ومجنونة مأمونة وغيرها» أي ويجب ـ أيضاً ـ أن يقسم للمجنونة المأمونة وغير المأمونة، أما إذا كانت مأمونة فالأمر واضح ليس فيه إشكال، لكن إذا كانت غير مأمونة فلا يأمن أنه إذا نام ذهبت إلى المطبخ، وأخذت السكين وذبحته، وهذا وارد، فقول المؤلف ـ رحمه الله ـ: «وغيرها» هذا إشارة إلى أن المسألة فيها خلاف، والصواب أن يقسم للمجنونة بشرط أن تكون مأمونة، فإن لم تكن مأمونة فلا يقسم لها.
لكن هل يرضى الإنسان أن تكون زوجته مجنونة غير مأمونة؟
نقول: أما ابتداءً فلا أظن أحداً يُقدِم على امرأة مجنونة غير مأمونة، لكن قد يحدث هذا الجنون لمدة معينة، فهنا نقول: يقسم لها، وربما إذا قسم لها، وهدأها، وصار يتكلم معها، ربما تستجيب ويزول ما بها من الجنون، كما هو واقع أحياناً.
وقوله: «وغيرها» يعني غيرهن، مثل مَنْ آلى منها، أو ظاهر منها، أو وجد بها مانع، مثل أن تكون صائمة فإنه يقسم لها، يعني حتى من لا يتمتع بها بالوطء، فيجب أن يقسم لها، إلا ما جرى به العرف، أو ما سمحت به، فلو فرض أنه قال لها مثلاً: أنتِ مريضة ويشق علي أن أقسم لك، فهل تسمحين؟ فإذا سمحت فلا حرج؛ لأن الحق لها، ولو كانت امرأة كبيرة في السن، وقال لها: أنا ما أقدر أن أقسم لك، فهل تحبين أن تبقي عندي، وفي عصمتي، وبدون قسم، وإلا فأنا أطلقك؟ فاختارت أن تبقى عنده، فهذا جائز.
فلو قال قائل: إنما اختارت هذا على سبيل الإكراه خوفاً من الطلاق، قلنا: نعم الحق لها، لكن هنا يجوز؛ لأن الإكراه في مسألة الفراق لحقه، فيقول: إذا كانت تريد أن تبقى عند أولادها وفي بيتها فذاك، وإن لم تحب فأنا لا أريد أن يتعلق بذمتي شيء، فأطلقها وأستريح.
ثم ذكر المؤلف مسقطات القسم والنفقة فقال:
«وإن سافرت بلا إذنه، أو بإذنه في حاجتها، أو أبت السفر معه، أو المبيت عنده في فراشه، فلا قسم لها ولا نفقة» ، هذه عدة مسائل:

وَإِنْ سَافَرَتْ بِلاَ إِذْنِهِ، أَوْ بِإِذْنِهِ فِي حَاجَتِهَا، أَوْ أَبَتْ السَّفَرَ مَعَهُ، أَوْ المَبِيتَ عِنْدَهُ فِي فِرَاشِهِ، فَلاَ قَسْمَ لَهَا، وَلاَ نَفَقَةَ،.........
الأولى: قوله: «إن سافرت بلا إذنه» إن سافرت بلا إذنه فليس لها قسم، وليس لها نفقة؛ لأنها عاصية وناشز، وفوتت عليه الاستمتاع، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه» [(302)]، فكيف بمن تسافر؟!
فإذا قال قائل: قوله: «لا قسم لها» هذا تحصيل حاصل؛ لأنها إذا كانت مسافرة فكيف يقسم؟ نقول: أي: لا يلزمه القضاء إذا رجعت.
الثانية: قوله: «أو بإذنه في حاجتها» إذا سافرت بإذنه فإما أن يكون في حاجته، وإما أن يكون في حاجتها، فإن كان في حاجته فلها النفقة ولها القسم، مثلاً له أم في المستشفى في بلد آخر، وسافرت بإذنه، فالحاجة له هو، ففي هذه الحال نقول: لها النفقة؛ لأن ذلك لحاجته، وجزاها الله خيراً أن ذهبت.
وأما إذا سافرت بإذنه لحاجتها، قالت له مثلاً: إني أريد أن أزور أقاربي أو ما أشبه ذلك، فأذن لها، يقول المؤلف: ليس لها قسم، وليس لها نفقة، أما كونها ليس لها قسم فلا شك في ذلك؛ لأنها اختارت ذلك بسفرها، وأما أنه لا نفقة لها؛ لأن النفقة في مقابلة الاستمتاع، وهذا فيه نظر؛ لأن المرأة لم تمنع زوجها من نفسها إلا بعد أن أذن، فإذا أذن والحق له فإن حقها لا يسقط، فلها أن تطالبه بالنفقة، ولكن لا يجب عليه من النفقة إلا مقدار نفقة الحضر؛ لأنها إذا سافرت تحتاج إلى أجرة للذهاب وأجرة للإياب، وربما تكون البلد الثانية المؤنة فيها أشد، والسعر فيها أغلى، فلا يلزمه إلا مقدار نفقة الإقامة، إلا إذا أذن بذلك ورضي، وقال: أنا آذن لك، والنفقة عليَّ، فهنا لا إشكال في إنها تجب عليه.
الثالثة: قوله: «أو أبت السفر معه» : قال مثلاً: سنذهب إلى مكة لأداء العمرة فأبت، أو سنذهب إلى الرياض لمتابعة معاملة ـ مثلاً ـ فأبت، أو نذهب لزيارة صديق أو قريب فأبت، فليس لها قسم ولا نفقة، إلا إن كانت قد اشترطت عند العقد ألا يسافر بها، فإن لها النفقة، ولها أن تطالبه بالقسم أيضاً، ويحتمل ـ أيضاً ـ ألا تطالبه بالقسم؛ لأن من ضرورة سفره ألا يقسم لها، وهي إذا طالبته بالقسم، فإن ذلك ضرر على الزوجات الأخرى.
الرابعة: قوله: «أو المبيت عنده في فراشه» : أي: إذا دعاها إلى فراشه وأبت، فإنها تسقط نفقتها، ويسقط حقها من القسم؛ لأنها منعت زوجها من حقٍ يلزمها، فسقط حقها وهي آثمة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح» [(303)]، وفي هذه الحال له أن يعاملها معاملة أخرى أشد من هذا، وهي أن يعظها، ويهجرها، ويضربها لقوله تعالى: {{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}} [النساء: 34] .
إذاً المرأة إذا منعت حق الزوج سقطت نفقتها، فإذا منع نفقتها، فهل يسقط حقه؟ نعم {{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}} [النحل: 126] ، فإذا كان الزوج يمنع زوجته من النفقة فلها أن تمنع نفسها منه، ولها أن تأخذ من ماله بدون علمه، وإذا كان يسيء معاملتها فلها أن تسيء معاملته لقوله تعالى: {{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}} [البقرة: 194] .

وَمَنْ وَهَبَتْ قَسْمَهَا لِضَرَّتِهَا بِإِذْنِهِ أَوْ لَهُ فَجَعَلَهُ لأُخْرَى جَازَ، فَإِنْ رَجَعَتْ قَسَمَ لَهَا مُسْتَقْبَلاً،..........
قوله: «ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أو له فجعله لأخرى جاز» ، أي: إذا وهبت قسمها لضرتها بإذنه فلا حرج، بأن قالت: هل تأذن لي أن أجعل قسمي لفلانة؟ فإذا قال: نعم، ووافق فلا مانع، وإن أبى فله ذلك، أو قالت: وهبت يومي لك، يعني تتصرف فيه كما شئت، فجعله هو لإحدى زوجاته جاز.
والفرق بين الصورتين: أنه في الصورة الأولى هي التي عينت المرأة، قالت: وهبت قسمي لفلانة، كما فعلت سودة ـ رضي الله عنها ـ لما خافت أن يطلقها النبي صلّى الله عليه وسلّم لكبر سنها وهبت قسمها لعائشة ـ رضي الله عنها ـ[(304)]، واختارت سودةُ عائشةَ ـ رضي الله عنها ـ؛ لأنها أحب نسائه إليه، فأرادت أن تهبه لمن يحب ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وهذا من فقهها وشفقتها على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أما كونه من فقهها فلأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لو طلقها لم تبقَ من أمهات المؤمنين، ولم تكن زوجة له في الآخرة، وأما كونه شفقة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلأنها وهبته لأحب نسائه إليه.
أما الصورة الثانية فتهب القسم للزوج، والزوج هو الذي يعين من شاء.
فإن قال قائل: لماذا لا تقولون: إذا وهبت قسمها للزوج سقط حقها، وبقي حق الزوجات؟ فمثلاً إذا كانت هي الرابعة ووهبت قسمها للزوج يجب عليه القسم ثلاث ليالٍ؛ لأنه ليس له أن يخص به إحدى الزوجات الباقيات؛ لأنه إذا خص به إحدى الزوجات الباقيات فمعناه أنه مال إليها، فنقول: إذا وهبت قسمها للزوج، فالذي ينبغي أن يسقط حقها، وكأن الزوج ليس له إلا الثلاث الباقيات، وبهذا يكون العدل بين بقية الزوجات، إلا أن يخيرهن، فيقول: هل تخترن أن نسقط حقها، ويكون القسم بينكن، أو تخترن أن نضرب القرعة فمن خرجت لها القرعة، فيوم تلك لها؟ فإذا اخترن ذلك فلا حرج، وعلى هذا فنقول: إذا اخترن القرعة فلا حرج، وإلا فإن المتوجه أنها إذا وهبت قسمها له سقط حقها، وبقي القسم بين الموجودات الباقيات، أما المؤلف فيرى أنها إذا وهبت قسمها له فإنه يضعه حيث شاء.
قوله: «فإن رجعت قسم لها مستقبلاً» يعني بعد أن وهبت القسم له، أو لزوجةٍ أخرى فإن لها أن ترجع، ويقسم لها في المستقبل، ولا يقضي ما مضى، وهذا فائدة قوله «مستقبلاً» ، فإن قال قائل: أليست الهبة تلزم بالقبض؟
قلنا: بلى، لكنهم قالوا: هنا ما حصل القبض؛ لأن الأيام تتجدد يوماً بعد يوم، ولهذا قلنا: إنه يقسم لها مستقبلاً ولا ترجع فيما مضى، لأن الذي فات قد قبض، والهبة بعد قبضها لا رجوع فيها، أما ما يستقبل فإنه لم يأتِ بعد فلها أن ترجع فيه.
وهذا التعليل لما قاله المؤلف صحيح، لكن ينبغي أن يكون هذا مشروطاً بما إذا لم يكن هناك صلح، فإن كان هناك صلح فينبغي أن لا تملك الرجوع، لقوله تعالى: {{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا}} [النساء: 128] والصلح لازم، وكيف الصلح؟ كأن تشعر من هذا الرجل أنه سيطلقها وخافت، فقالت له: أنا أتفق معك على أن أجعل يومي لفلانة، وتبقيني في حِبالك، فوافق على هذا الصلح، فصارت المسألة معاقدة، فإذا كانت معاقدة فإنه يجب أن تبقى وأن تلزم، وإلا فلا فائدة من الصلح، وهذا الذي اختاره ابن القيم ـ رحمه الله ـ.

وَلاَ قَسْمَ لإِمَائِهِ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلاَدِهِ، بَلْ يَطَأُ مَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِكْراً أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً ثُمَّ دَارَ، وَثَيِّباً ثَلاثاً، وَإِنْ أَحَبَّتْ سَبْعَاً فَعَلَ وَقَضَى مِثْلَهُنَّ لِلْبَوَاقِي.
قوله: «ولا قسم لإمائه» أي: لا قسم واجب لإمائه، فإذا كان عند الإنسان أكثر من أمة فلا يجب عليه القسم بينهن، مثلاً عنده خمس عبدات أو عشر، فلا يجب عليه أن يقسم بينهن لقوله تعالى: {{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}} [النساء: 3] ، فدل هذا على أن ملك اليمين لا يجب فيه العدل، ولو وجب عليه القسم لإمائه لم يكن بينهن وبين النساء فرق.
قوله: «وأمهات أولاده» كذلك أمهات أولاده لا يجب عليه القسم بينهن.
قوله: «بل يطأ من شاء متى شاء» أي من الإماء و «من» يعود على العين و «متى» يعود على الزمن، يعني يطأ من شاء منهن، هذه، أو هذه، أو هذه متى شاء، ليلاً، أو نهاراً، أو في كل الأوقات، ويصح أن نقول: كيف شاء، ما لم يطأ في الدبر، ونقول: حيث شاء.
قوله: «وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار وثيباً ثلاثاً» هذا قسم الابتداء، فإذا تزوج بكراً فإنه يقيم عندها سبعاً، يعني سبع ليال؛ لأن الليالي هي العمدة، ولهذا ما قال: «سبعة» بل قال: «سبعاً» ؛ لأن عماد القسم الليل، ثم يرجع إلى زوجاته، فيكون في الليلة الثامنة عند الزوجة الأولى.
والدليل حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم»[(305)]، أما التعليل:
أولاً: أن رغبة الرجل في البكر أكثر من رغبته في الثيب، فأعطاه الشارع مهلة حتى تطيب نفسه.
ثانياً: أن البكر أشد حياء من الثيب، فجُعلت هذه المدة لأجل أن تطمئن وتزول وحشتها وتألف الزوج، وهذا من حكمة الشرع.
ويلحق بالبكر من زالت بكارتها بغير الجماع، كسقوط ونحوه.
أما الثيب فلأنها قد ألفت الرجال فلا تحتاج لزيادة عدد الأيام لإيناسها، ولهذا جعل الشارع لها ثلاثة أيام، ولهذا قال المؤلف: «وثيباً ثلاثاً» .
قوله: «وإن أحبت» يعني الثيب.
قوله: «سبعاً فعل وقضى مثلهن للبواقي» أي: إن أحبت أن يكمل لها سبعة أيام فعل، ولكن يقضي مثلهن للبواقي، وذلك لأنه لما طلبت الزيادة لغى حقها من الإيثار، فقد أثرت في الأول بثلاثة أيام، فلما طلبت الزيادة وأعطيت ما طلبت يلغى الإيثار، ويقسم للبواقي سبعاً سبعاً؛ لأن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ لما مكث عندها النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام، وأراد أن يقسم لنسائه قال لها: «إنه ليس بك هوانٌ على أهلك، إن شئت سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبعت لنسائي» [(306)].
فخيرها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين أن تبقى على ثلاثة أيام وهو لها خاصة، أو أن يسبع لها، وحينئذٍ يسبع للبواقي، وفي الغالب أن المرأة ستختار الثلاث؛ لأنه إذا اختارت الثلاث بعد ثلاثة أيام سيرجع لها، لكن إذا اختارت السبعة يرجع لها بعد واحد وعشرين يوماً، اللهم إلا إذا كانت متحرية أن عادتها تأتيها في هذه المدة، فهنا ربما تختار التسبيع، والحكمة ـ والله أعلم ـ من كونها سبعة أيام أن تدور عليها أيام الأسبوع كلها، ونظير ذلك العقيقة شرعت في اليوم السابع؛ لأنها في اليوم السابع تكون أيام الأسبوع قد أتت على هذا الطفل.



[299] أخرجه أحمد (2/347)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في القسم بين النساء (2133)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141)؛ والنسائي في النكاح/ باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض (7/63)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب القسمة بين النساء (1969) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، قال الحافظ في البلوغ (978): «سنده صحيح».
[300] أخرجه أحمد (6/144)؛ وأبو داود في النكاح/ باب القسم بين النساء (2134)؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1140)؛ والنسائي في النكاح/ باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض (7/63، 64)؛ وابن ماجه في النكاح/ باب القسمة بين النساء (1971) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وصححه ابن حبان (4205)؛ والحاكم (2/187) وانظر: التلخيص (1466)؛ والإرواء (2018).
[301] سبق تخريجه ص(192).
[302] سبق تخريجه ص(424).
[303] سبق تخريجه ص(387).
[304] أخرجه البخاري في الهبة/ باب هبة المرأة لغير زوجها... (2593) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
[305] أخرجه البخاري في النكاح/ باب إذا تزوج الثيب على البكر (5214)؛ ومسلم في النكاح/ باب قدر ما تستحق البكر والثيب من إقامة... (1461) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
[306] أخرجه مسلم في النكاح/ باب قدر ما تستحق البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف (1460) عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
في, فصل

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:34 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir