إذا الأَمْعَزُ الصَّوَّانُ لاقَى مَنَاسِمِي = تَطايَرَ مِنه قادِحٌ ومُفَلَّلُ
الأَمْعَزُ المكانُ الصُّلْبُ الكثيرُ الْحَصَى، والصَّوَّانُ الحجارةُ الْمُلْسُ، والْمَنْسِمُ في الأصْلِ خُفُّ البَعيرِ، والقادِحُ الذي تَخرجُ معه النارُ، والمعنى أنَّ سَيْرِي سَريعٌ، فإذا لاقَتْ مَناسِمِي حِجارةً تَطايَرَ منها نارٌ، والْمُفَلَّلُ المكَسَّرُ، ومُرادُه أنَّ النارَ تَخرجُ منه مع تَكَسُّرِه, وذلك أبْلَغُ في قُوَّةِ مَنَاسِمِه وَحِدَّةِ سَيْرِه.
الأمعَزُ فاعلُ فِعْلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُه الفعْلُ بعدَه وهو لاقَى.
وإنما كان كذلك لأنَّ إذا فيها معنى الشرْطِ، والشرْطُ يَتقاضَى الفِعْلَ، فذلك الفعلُ هو الرافعُ للاسمِ الواقعِ بعدَ أَداةِ الشرْطِ، ومِن هذا النَّمَطِ ارتفاعُ الاسمِ في مِثلِ قولِه تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} {وَإِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} وقيلَ: إنه مرفوعٌ على أنه مُبتدأٌ، وهذا القولُ ليس بسَديدٍ؛ لأنَّ الشرْطَ لا معنى له في الاسمِ، فهو متقاضٌ للفعْلِ، ولذلك جاءَ الفعْلُ بعدَ الاسمِ مَجزوماً في قولِ عَدِيٍّ:
ومَتَى واغلٌ أَتَوْهُ يُحَيُّوهُ = ويَعْطِفُ عليه كأسُ الساقِي
وإذا مَنصوبةُ الْمَوْضِعِ بتَطايَرَ، وموضعُ الأمعَزِ وفِعْلِه جَرٌّ بإضافةِ إذا إليه، تقديرُه وقتَ ملاقاةِ الأَمْعَزِ، ولاقَى الظاهرُ لا مَوْضِعَ له لأنه مُفَسِّرٌ، والأمْعَزُ مِن الصفاتِ الغالبةِ، جرَى مَجْرَى الأسماءِ فيُجْمَعُ على أَماعِزَ، مثلُ أفْضَلَ وأفاضِلَ، ولو تَمَحَّضَتْ صفةٌ لم تُجمَعْ على هذا المثالِ، بل كنتَ تقولُ: أمْعَزُ ومُعُزٌ، مثلُ أحمرَ وحُمْرٍ، ومُؤَنَّثُهُ مَعزاءُ، والصَّوَّانُ صِفةُ الأَمْعَزِ. وإنما يَصِحُّ ذلك بتقديرِ حذْفِ مضافٍ، أيْ الأمعَزُ ذو الصَّوَّانِ، هذا التقديرُ لا يَصِحُّ أنْ يكونَ الصوَّانُ صِفةً للأمْعَزِ؛ لأنَّ الأَمْعَزَ الأرضُ، والصَّوَّانَ الحجارةُ، وهما غَيْرَانِ، والصفةُ هي الموصوفُ في المعنى، ويَجوزُ أنْ يكونَ الصوَّانُ نفْسُه صفةَ الأمعَزِ؛ لأنَّ الأمعَزَ لَمَّا لازَمَتْهُ الحجارةُ وكَثُرَتْ فيه، ولا يكونُ أمْعَزَ بدونِها, جازَ أنْ يُعَبَّرَ بالأمْعَزِ عن الصَّوَّانِ كما إذا كَثُرَ فعْلٌ مِن شخصٍ، صَحَّ أنْ يُوصَفَ به، فإذا أَكْثَرَ نومَه، قلتَ: زيدٌ نَوْمٌ، وزيدٌ إقبالٌ وإدبارٌ، إذا كَثُرَ منه الذهابُ والرجوعُ، و"منه" يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ مَفعولاً لتَطايَرَ، ويَجوزُ أنْ يكونَ صفةً لقادحٍ، قُدِّمَ فصارَ حالاً، ومِن للتبعيضِ، وعلى الأوَّلِ تكونُ لابتداءِ الغايةِ.
أُدِيمُ مِطالَ الجوعِ حتى أُمِيتَه = وَأَضْرِبُ عَنْهُ الذكْرَ صَفْحًا فأَذْهَلُ
الْمِطَالُ مَأخوذٌ مِن الْمُمَاطَلَةِ، وهي امتدادُ الْمُدَّةِ، وكلُّ ممدودٍ مَمطولٌ، يقالُ: مَطَلْتُ الحديدةَ إذا ضَرَبْتَهَا، ومَدَدْتُهَا لتَطُولَ، وضَرَبْتُ عن الشيءِ صَفْحاً، إذا أَعْرَضْتَ عنه وتَركتَه، وذَهَلَ عن الشيءِ نَسِيَهُ وغَفَلَ عنه، والصفْحُ الإعراضُ أيضاً.
أُدِيمُ مُستأنَفٌ لا مَوْضِعَ له، ويَجوزُ أنْ تَجعلَه خبرَ مُبتدأٍ محذوفٍ أيْ: أنا أُديمُ، و"حتى" يَجوزُ أنْ تكونَ بمعنى إلى أَنْ.
وقبلُ، فلْنُبَيِّنْ حقيقتَها في الأصْلِ.
أمَّا حتى فالظاهِرُ مِن حالَتِها معنى الغايةِ، كإلى التي هي حَرْفُ جَرٍّ، مقابِلَةً لـ "مِن" التي لابتداءِ الغايةِ، وحتى محمولةٌ على إلى، ولذلك جَرَّتْ، وذلك في الكتابِ العزيزِ: {سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ثم إنَّ حتى خَرجتْ إلى أبوابٍ أُخَرَ عن هذا الأَصْلِ: مِن عَطْفٍ وابتداءٍ, فلم تَتمكَّنْ في الْجَرِّ تَمَكُّنَ "إلى", فكانتْ إلى أَقْعَدَ منها في هذا البابِ، ودليلُ ذلك أنَّك تقولُ: جِئتُ إلى زيدٍ، وإليه، وإليك، وإليهما، ونظائرُه، واقتَصَرْتَ في حتى على: حتى زَيدٍ، ولم تَقُلْ حتَّاهُ، ولا حَتَّاكَ، ولا حَتَّاهُما، ولذلك اختلَفُوا في المجرورِ بعدَها، هل الجارُّ له حتى نفْسُها، أو نِيابةً عن إلى؟ وقيلَ: بإضمارِ إلى بعدَها وإنْ لم يَظهَرْ لفْظُها، والصحيحُ القولُ الأوَّلُ، فإذا وَقَعَ الفعْلُ بعدَها وكان منصوباً رُوعِيَ تقديرُ أنْ بعدَ حتى، ليكونَ النصبُ بأنْ؛ لأنَّ العِلْمَ حاصلٌ بأَنَّ، ما كان جارًّا للاسمِ لا يكونُ ناصباً للفعْلِ، فما بعدَ حتى مِن أنْ الْمُقَدَّرَةِ ومَعمولِها في مَوْضِعِ جَرٍّ بحتى، وحتى ومَعمولُها في موضِعِ نَصْبٍ بالفعْلِ قَبْلَها، أو ما يقومُ مقامَ الفعْلِ، ولا تُنْقَلُ إذا عمِلَتْ في الفعْلِ، إلا أنْ تكونَ بمعنى إلى أنْ، أو كي، أو هما. فمِن الأوَّلِ قولُه تعالى: {لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ} أيْ: إلى أنْ. فعَدَمُ الإيمانِ منهم مُمتَدٌّ إلى غايةِ الإتيانِ بالقُربانِ.
ومِثالُ الثاني: أَطِعِ اللهَ حتى يُدخِلَكَ الجنَّةَ، أيْ كي؛ لأنَّ الطاعةَ سببٌ لدُخولِ الجنَّةِ، لا أنَّ الدخولَ غايةٌ للطاعةِ، ومِثالُ الثالثِ: لأَلْزَمَنَّهُ حتى يُعطِيَنِي حَقِّي. يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ لُزومُه له سبباً للإعطاءِ، فيكونُ المعنى كي، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ الإعطاءُ غايةً للزومِ، فتكونُ بمعنى إلى أنْ، ومنه قولُه تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} .
وأُديمُ هو العاملُ في حتى على كلِّ حالٍ، ويَجوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِمِطالٍ، أي أَمْطُلُه لهذا المعنى، وأُمِيتُه نُصِبَ بحتى، أو بأنْ الْمُضْمَرَةِ، وأَضْرِبُ معطوفٌ على أُديمُ، ويَبْعُدُ عطْفُه على أُمِيتُه؛ لأنه يَلزَمُ منه أنْ يكونَ مُخْبِراً عن شيءٍ واحدٍ، وهو أُديمُ، وإذا كان عطْفاً على أُديمُ، كان مُخْبِراً بالأَمْرَيْنِ، فيكونُ أقْعَدَ في المعنى، أيْ: أُديمُ وأَضْرِبُ، والذكْرُ مفعولُ أضْرِبُ، وصَفْحاً مَصدرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مُعْرِضاً، ويَجوزُ أنْ يكونَ مَصدراً مِن أَضْرِبُ؛ لأنَّ "أضْرِبُ" بمعنى أُعْرِضُ، وصَفْحاً بمعنى الإعراضِ.
وأَسْتَفُّ تُرْبَ الأرضِ كَيْلا يَرَى له = عَلَيَّ مِن الطَّوْلِ امْرُؤٌ مُتَطَوِّلُ
الطَّوْلُ الْمَنُّ، يُقالُ طالَ عليه وتَطَوَّلَ إذا امْتَنَّ، وكي حرْفٌ معناه الغَرَضُ، وهو ناصِبٌ بنَفْسِه، ولا تُضْمَرُ بعدَه أنْ إذا دَخلتْ عليه اللامُ، كقولِه تعالى: {لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} كما تَدخلُ اللامُ على أنْ، وذلك لأنَّ حرْفَ الجرِّ لا يَدخُلُ على مِثْلِه، فإذا كانت نفْسُها بمعنى أنْ، وأنْ وما بعدَها في تقديرِ الْمَصْدَرِ, كانت اللامُ داخلةً على الاسمِ، فإنْ لم تَدخُلْ اللامُ على كَيْ، وأُعْمِلَتْ في الفعْلِ، وَجَبَ إضمارُ أنْ بعدَها، لتكونَ كي تَقديراً داخلةً على الاسمِ. كقولِك: كي مَهْ؟ ومعناه لِمَهْ؟ والأصلُ لِمَا؟ وما استفهامٌ وإنما حُذِفَتِ الأَلِفُ وثَبَتَتِ الهاءُ، لبيانِ الحركةِ ولو كانتْ كي بمعنى أنْ، لم تَدخُلْ على الاسمِ، فإذا دَخلتْ هذه على الفعْلِ، أُضمِرَتْ بعدَها أنْ؛ ليَصِحَّ عمَلُها في الفعْلِ، ودخولُها عليه، ودخولُ لا عليها لا يُبْطِلُ عمَلَها لأنها مؤَكِّدَةٌ كما تَدخلُ لا على أنْ، ويَرى منصوبٌ بكَي، وعلى الألِفِ فَتحةٌ مقَدَّرَةٌ، والهاءُ في له ضميرُ "امْرُؤٌ", وجازَ الإضمارُ قبلَ الذكْرِ؛ لأنَّ النيَّةَ به التأخيرُ، والتقديرُ: كي لا يَرَى امرؤٌ له عليَّ مِنَّةً، ومِن الطَّوْلِ صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ، تقديرُه شيئاً مِن الطَّوْلِ.
وعندَ الأَخْفَشِ مِن زائدةٌ، لأنه يرى زيادتَها في الْمُوجِبِ، ويكونُ التقديرُ: لئلا يَرَى عليَّ امرؤٌ طَوْلاً.
والْحَقُّ أنَّ مِن لا تَجوزُ زيادتُها في الموجِبِ لأنها حرْفٌ, والأصلُ في الحروفِ إفادتُها في المعاني التي وُضِعَتْ لها نِيابةً عن الأسماءِ والأفعالِ، ألاَ تَرَى أنك إذا قُلتَ: أزيدٌ عندَك؟ كانَ التقديرُ: أَسْتَفْهِمُ. والغرَضُ إنما هو الاختصارُ، وما وُضِعَ للاختصارِ فالحكْمةُ تَأْبَى مَجيئَه زائدًا, إذ هو عكْسُ المقصودِ، والموْضِعُ الذي جاءَ فيه زَائداً كان لمعنًى مِن تأكيدٍ وغيرِه، ولا يَصِحُّ ذلك المعنى هنا، ألاَ تَرَى أنك لو قُلتَ: رأيتُ مِن رجلٍ، لم تُفِدْ شيئاً بِمِن، ولو قلتَ: ما رأيتُ مِن رجلٍ، كان دخولُها مفيداً، وقولُه تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} ونظائرُه, فمِن فيه للتبعيضِ؛ لأنَّ إخفاءَ الصدَقَةِ لا يُكَفِّرُ كلَّ السيِّئاتِ، واللامُ معمولةٌ ليَرَى، وكذلك عليَّ، ويَجوزُ أنْ تكونَ صِفةً لِمَوْضِعِ مِن الطَّوْلِ؛ لأنَّ تقديرَه مِنَّةٌ، ومِنَّةٌ نَكِرَةٌ قُدِّمَ عليها فصارَ حالاً، ولا يَجوزُ أنْ يكونَ مِن صفةِ الطوْلِ، وإنما امتَنَعَ لِمَا فيه مِن تقديمِ الصِّلَةِ على الموصولِ فيَجِبُ تقديرُ مِثلِ الموصولِ، فيَعْمَلُ في عليَّ، وتقديرُه: كيلا يَتطوَّلَ عليَّ متَطَوِّلٌ.
ولولا اجتنابُ الذامِ لم يُلْفَ مَشْرَبٌ = يُعاشُ به إلا لَدَيَّ ومَأْكَلُ
الذامُ العَيْبُ، يُهمَزُ ولا يُهمَزُ، يقالُ: ذَأَمَه يَذْأَمُهُ، إذا عابَه وحَقَرَهُ, مثلَ ذَأَبَهُ, فهو مَذؤومٌ، قالَ أوْسُ بنُ حَجَرٍ:
فإنْ كنتَ لا تَدعو إلى غيرِ نافِعٍ = فذَرْنِي وأَكْرِمْ مَن بَدَا لك واذْأَمِ
"لو" تَقعُ في الكلامِ على أوْجُهٍ.
منها أنْ يَمتنعَ بها الشيءُ لامتناعِ غيرِه، والثاني أنْ تكونَ مُضَمَّنَةً معنى "إنْ" الشرطيَّةِ، ومنه قولُه عَزَّ مِن قائلٍ: {وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} المعنى: ولو أَعْجَبَتْكُمْ فالمؤمنةُ خيرٌ منها.
ومِنها أنْ تكونَ بمعنى "أنْ" الناصبةِ للفعْلِ، ومنه قولُه تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} وليستِ التي للامتناعِ، لأنها تَفتقِرُ إلى جوابٍ، ولا جَوابَ لها هنا، ومما يُؤَيِّدُ مَجيئَها بمعنى "أنْ" الناصبةِ، أنها قد وَقعتْ بكُلِّها مصَرَّحاً بها، في قولِه تعالى {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ} ولا يُقالُ: لو كانتْ بمعنى الشرطيَّةِ والناصبةِ للفعْلِ، لَجَزَمَتْ وَنَصبتْ لأنه يُقالُ: "لو" لا اختصاصَ لها, فجَرَتْ مَجْرَى حتى في الأفعالِ، وقِسْمُها الأوَّلُ تَقعُ فيه على أنواعٍ:
أحدُها: أنْ تَدخُلَ على كلامٍ ليسَ فيه نَفْيٌ، كقولِك: لو جِئْتَنِي لأَكْرَمْتُكَ، فههنا امتنَعَ الإكرامُ لامتناعِ المجيءِ.
والثاني: أنْ يَتعقَّبَها نفيٌ، ويكونَ الجوابُ نَفْياً، كقولِك: لو لم يَقُمْ زيدٌ لم يَقمْ عمرٌو، والمعنى أنَّ قِيامَ عمرٍو إنما كان لقيامِ زيدٍ، وإنما ههنا انقلَبَ النفيُ إِثباتاً.
والثالثُ: أنْ يَخْتَصَّ النفيُ بما دَخلتْ عليه، ويَخلُو عنه جوابُها، كقولِك: لو لم تَعْصَ اللهَ أدْخَلَكَ الجنَّةَ، فالعِصيانُ مَوجودٌ، والدخولُ مُنتَفٍ، ولولا امتناعُ الدخولِ لزالَ النفيُ وبَقِيَ الإيجابُ بحالِه.
والرابعُ: أنْ يَختَصَّ النفيُ بالجوابِ دونَ ما دَخلتْ عليه كقولِك: لو أَكْرَمَكَ لم تُهِنْهُ.
والخامسُ: أنْ تكونَ للمبالَغَةِ فلا تُنْتِجُ شيئاً مِن الوجوهِ الأُوَلِ، وذلك كما رُوِيَ عن عمرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: نِعْمَ العبدُ صُهيبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِهِ، فمَع خوفِه بطريقِ الأَوْلَى ألا يَعْصِيَهُ. ولو لم يُرِدِ المبالَغَةَ لكانَ المعنى: أنْ يَعصيَ اللهَ لأنه يَخافُه، وإذا ثَبَتَ أنَّ مَعناها عندَهم امتناعُ الشيءِ لامتناعِ غيرِه، والامتناعُ ليس بأصْلٍ في الأفعالِ، ولكنه شرْطٌ في وُجودِه امتناعُ غيرِه، وبابُ الشرْطِ الفعْلُ, فلهذا كانَ الحرْفُ مِن الحروفِ المقصورةِ في الأصْلِ على دُخولِها على الفعْلِ، غيرَ أنه وإنِ اختَصَّ بالدخولِ على الفعلِ لا يَجْزِمُه لِمَا تَقدَّمَ، وأيضاً فإنَّ ما يَقعُ بعدَه مِن الأفعالِ الماضيةِ, ليس معناها الاستقبالَ, فإنْ وَقَعَ بعدَها اسمٌ وبعدَه فعْلٌ كانَ مَحمولاً على فِعلٍ قَبلَه يُفسِّرُه الظاهرُ، وذلك لِمَا ذكَرْنا مِن اقتضائِها الفعلَ دونَ الاسمِ، وبهذا يَتحقَّقُ شَبَهُها بأداةِ الشرْطِ.
وحكْمُها في هذا حكْمُ قولِه عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} وقولِه تعالى: {لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} فأَنتمْ فاعلٌ لفعْلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُه تَمْلِكُونَ، وهذا الضميرُ كان متَّصِلاً بها، فلَمَّا أُضْمِرَتْ فُصِلَ عنها، وأَجْرُوه مَجْرَى الأسماءِ الظاهرةِ، وفي كلامِهم: (لو ذاتُ سِوارٍ لطَمَتْنِي) أي: لو لَطَمَتْنِي ذاتُ سِوارٍ.
فإذا أَدْخَلْتَ عليها لا كانَ الاسمُ الذي بعدَها مَرفوعاً بالابتداءِ، وخبرُه مَحذوفٌ لا يَجوزُ إظهارُه لطولِ الكلامِ بلولا وبالاسمِ المرفوعِ بعدَها، وبجوابِ لولا الذي لا يَتِمُّ مَعناها إلا به، والكلامُ عندَ طولِه يَسوغُ فيه الحذْفُ، وإثباتُ المحذوفِ جائزٌ، فإنْ طالَ جِدًّا، وكانَ الطولُ لازماً لَزِمَ الحذْفُ، ومثالُه ما ذُكِرَ في هذا البيتِ، والتقديرُ: ولولا اجتنابُ الذامِ مَوجودٌ، فمَوجودٌ هو الخبرُ.
وليس قولُك: (لم يُلْفَ مَشْرَبٌ) خبرَ الاجتنابِ؛ لأنَّ المعنى ليس عليه، ولو كانَ خبراً لكان له فيه ذِكْرٌ مُظْهَرٌ أو مُقَدَّرٌ. وفي تَعَرِّيهِ مِن ذلك دليلٌ على أنه ليس بخبرِ المبتدأِ، ولا بُدَّ للمبتدأِ مِن خَبَرٍ، وهذا ليس بخبرٍ، فتَعَيَّنَ أنْ يكونَ مَحذوفاً أيضاً للعلْمِ به، وهذا يَمتنِعُ بها الشيءُ لوجودِ غيرِه؛ لأن لو معناها: امتناعُ الشيءِ لامتناعِ غيرِه، وامتناعُ وجودِ الشيءِ انتَفَى بلا الداخلةِ على لو نافيةِ الامتناعِ، فكانتْ لولا دالَّةً لذلك على امتناعِ الشيءِ لوُجودِ غيرِه.
وقالَ ابنُ كَيْسَانَ: يَرتفِعُ الاسمُ الذي بعدَ لَوْلاَ بأنه فاعلُ لولا، كارتفاعِ الفاعلِ بفِعْلِه، وقيلَ يَرتفِعُ بفعْلٍ محذوفٍ، تقديرُه: لولا وُجِدَ اجتنابُ الذامِ. هذه مسألةٌ تَحتمِلُ كلاماً طويلاً ليس هذا مَوْضِعَه.
واجتنابُ مَصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ، ولم حَرْفٌ يَجْزِمُ الفعلَ المضارِعَ، وإنما عَمِلَتْ في الفعلِ لاختصاصِها به، وجَزَمَتْ لأنَّ الفعْلَ ثقيلٌ في نفْسِه، ولم ناقِلةٌ له مِن زَمنٍ إلى غيرِه، فيَزيدُ ثِقَلُهُ بذلك، فناسَبَ أنْ تَعمَلَ الحذفُ، ولأنها أَشْبَهَتْ "إنْ" الشرطيَّةَ في النقْلِ، فعَمِلَتْ عمَلَها، ويُعاشُ به صِفةٌ لِمَشْرَبٍ، أيْ مَشْرَبٍ مُعاشٍ به, ولَدَيَّ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أيْ إلا هو لَدَيَّ، فحُذِفَ المبتدأُ للعلْمِ به، ومأكَلُ قالَ بعضُهم: هو معطوفٌ على هو الْمُقَدَّرَةِ بعدَ إلا، ويَجوزُ أنْ يكونَ مَعطوفاً على مَشْرَبٍ.
ولكنَّ نَفْساً مُرَّةً لا تُقيمِ بي = على الذامِ إلاَّ رَيْثَما أَتَحَوَّلُ
لكنَّ حرْفٌ معناه الاستدراكُ، وكذلك هو هنا؛ لأنه ذَكَرَ بعضَ صِفاتِه، ثم استَدْرَكَ فأضافَ إليها شيئاً آخَرَ، ومِثلُه قولُه سبحانَه وتعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} ثم قالَ سُبحانَه: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} فلم يَضْرِبْ عما وَصَفَهم به، بل أضافَ إليه صِفةً أخرى، و"مُرَّةً" صِفةٌ لـ "نَفساً" وخبرُ لكنَّ محذوفٌ تقديرُه لي، وحُذِفَ لأنه معلومٌ، ولا تُقيمُ يَجوزُ أنْ يكونَ صِفةً لـ "نَفْسًا" أيْ أَبِيَّةً، ويَجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِن "نَفْساً"؛ لكَوْنِها موصوفةً، ويَجوزُ أنْ يكونَ خبرَ لكنَّ، و"بي" يَجوزُ أنْ يكونَ حالاً أيْ: لا تُقيمُ مُصاحِبَةً، وريثما بمعنى قَدْرَمَا، ومعنى الرَّيْثُ الإبطاءُ، وهو منصوبٌ بـ "تُقِيمُ" وما مَصدريَّةٌ، أيْ: إلا قَدْرَ تَحَوُّلِي.
وأَطْوِي على الْخُمْصِ الحوايَا كما انْطَوَتْ = خُيوطةُ مارِيٍّ تُغارُ وتُفْتَلُ
الْخُمْصُ بالضمِّ ضُمورُ البطْنِ، ورَجُلٌ خَمصانُ الْحَشَا أيْ ضامرُ البطْنِ، والجمْعُ خِمَاصٌ، والْخَمْصُ بالفتْحِ الجوعُ. والْخَمْصَةُ الْجَوْعَةُ، يقالُ: (ليس للبَطِنَةِ خيرٌ مِن خَمْصَةٍ تَتْبَعُها} والْحَوايا جَمْعُ حَوِيَّةٍ، وهي الأمعاءُ، والْخُيوطةُ السلوكُ، وهي الْخُيوطُ، ومَارِيٌّ اسمُ رجُلٍ، وقيلَ اسمُ الفاتلِ, وتُغارُ تُحكَمُ, وحَبْلٌ مُغارٌ, أيْ: مُحكَمُ الفَتْلِ، وحَبلٌ شديدُ الغارةِ، أيْ مُحْكَمُ الفتْلِ.
وأَطْوِي مَعطوفٌ على أَسْتَفُّ، والحوايَا مفعولُ أَطْوِي، وعلى الْخُمْصِ، يَجوزُ أنْ يكونَ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ جائعاً، والكافُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ محذوفٍ، أيْ طَيًّا كانطواءِ خُيوطةِ الْمَارِيِّ، وما مَصدريَّةٌ، والتقديرُ: أَطْوِي فتَنطوِي مِثلَ انطواءِ خُيوطةِ مَارِيٍّ، والتاءُ مِن "خُيوطة" دالَّةٌ على كثرةِ الجمْعِ، كقولِهم: حِجارٌ وحِجارةٌ، وأمَّا "تَغارُ" فحالٌ مِن "خُيوطةُ"، أي: مُحكمَةً، إنْ كانَ مَارِيٌّ اسمَ رجُلٍ، وصِفةٌ لخُيوطةٍ، إنْ كان ماريُّ اسماً لفاتِلٍ، أيَّ فاتلٍ كانَ، وتُفْتَلُ معطوفٌ على "تَغارُ".