دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > عمدة الأحكام > كتاب الصلاة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 6 ذو القعدة 1429هـ/4-11-2008م, 08:58 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي باب جامع

بَابٌ جَامِعٌ

عن أبِي قتادةَ بنِ رِبْعِيٍّ الأنصارِيِّ، رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ)).
عن زيدِ بنِ أَرْقَمَ قالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاةِ، يُكلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ، وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ في الصَّلاةِ، حتَّى نَزَلَتْ: { وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ } فأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلاَمِ.
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، وأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ، عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّهُ قالَ: ((إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ، فإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ منْ فَيْحِ جَهَنَّمَ)).
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((مَن نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ كَفَّارَةَ لهَا إِلاَّ ذَلِكَ، {وأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} )).
ولِمسلمٍ: ((مَن نَسِيَ صَلاَةً أَو نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا)).
عن جابرِ بنِِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ كانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عِشَاءَ الآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلكَ الصَّلاَةَ.
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَع رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فإذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهتَهُ من الأَرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ.
عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((لاَ يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ)).
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّهُ قالَ: ((مَن أَكَلَ ثُومًا أَو بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَو لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ))، وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِن بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ؟ فأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِن الْبُقُولِ، فقالَ: قَرِّبُوهَا)) - إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ - فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قالَ: ((كُلْ، فإِنِّي أُنَاجِي مَن لاَ تُنَاجِي)).
عن جابرٍ عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ: ((مَن أَكَلَ الْبَصَلَ، وَ الثُّومَ، وَ الْكُرَّاثَ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فإنَّ الملائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).


  #2  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 09:07 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الأول: تصحيح الرواية)

حديثُ زيدِ بنِ أَرْقَمَ (( فأُمِرْنا بالسكوتِ ونُهينا عن الكلامِ )) .
لم يَقُل البخاريُّ ونُهينا عن الكلامِ وإنما هي من أفرادِ مسلِمٍ .

  #3  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 09:10 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الثاني: التصحيح اللغوي)

قولُه في حديثِ زيدِ بنِ أرْقَمَ حتى نزَلَتْ { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فيه إشكالٌ .
فإن زيدَ بنَ أرْقَمَ أَنصاريٌّ والآيةُ مَدنيَّةٌ وتحريمُ الكلامِ كان بمكَّةَ قبلَ الهجرةِ بدليلِ حديثِ ابنِ مسعودٍ لما قَدِمَ من الحبشةَ وسلَّمَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاةِ فلَمْ يَرُدَّ عليه وقالَ له بعدُ (( إِنَّ اللهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ)) فقالَ بعضُهم : يَحتمِلُ أن يكونَ زيدٌ ومن تكلَّمَ معه لم يَبلُغْهم نهيُ النبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمخلِّصُ منه دَعْوى النسخِ مرتين .
وقالَ القاضي أبو الطيِّبِ : تَقدَّمَ حديثُ ابنِ مسعودٍ لأنه حَكَى فيه لفظَ النبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزيدٌ لم يَحْكِهِ .
وحُكِيَ عن ابنِ سُرَيْجٍ أنه حَمَلَ حديثَ ابنِ مسعودٍ على الكلامِ الذي لا يَتعلَّقُ بمصلحةِ الصلاةِ .
وحديثَ زيدٍ على ما يَتعلَّقُ بهما وضَعَّفَه لقولِه : يُكلِّمُ أحدُنا صاحبَه ويأمُرُ بالحاجةِ وهذا لا يَتعلَّقُ بمصلحةِ الصلاةِ .
قولُه : فأَبْرِدُوا هو بقطْعِ الهمزةِ وكسْرِ الراءِ .
أما قولُه : الحُمَّى من فَيْحِ جهنَّمَ فأبْرِدُوها بالماءِ فهو بوصْلِ الهمزةِ وضَمِّ الراءِ والماضي بَرَدَ وهو متَعدٍّ يُقالُ : بَرَّدَ الماءُ حرارةَ جَوْفِي ولم يَذكُرْه أبو البقاءِ في (مُشْكِلِ إعرابِ الحديثِ) وغيرِه وأجازَ بعضُ أهلِ اللغةِ فيه فتْحَ الهمزةِ وكسْرَ الراءِ والماضي أَبْرَدَ وحكاها الجَوْهَرِيُّ وهي لغةٌ رديئةٌ .
قولُه :من فَيْحِ جهنَّمَ قالَ الحافظُ جمالُ الدينِ الْمَزِّيُّ: من هنا للجِنْسِ لا للتبعيضِ أي من جِنسِ فَيْحِ جَهنَّمَ .
قالَ : ومِثلُه وهو مِثلُ ما رُوِيَ عن عائشةَ بإسنادٍ جيِّدٍ ثابتٍ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ صَرِيرَ الْكَوْثَرِ فَلْيَجْعَلْ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ أي من أرادَ أن يَسمَعَ مِثلَ صريرِ الكوثَرِ .
قولُه : {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } إن قيلَ: ما مناسَبةُ تلاوةِ الآيةِ بعدَ ذلك قيلَ: فيه وجهان .

أحدُهما : أن قولَه : فلْيُصَلِّهَا يعني ليَخْرُجَ عن العُهدةِ ولا يَضُرُّ خروجُها عن وقتِها لقولِه :{ أَقِمِ الصَّلَاةِ لِذِكْرِي } فإنه غيرُ مُقيَّدٍ بزمانٍ .

والثاني : أن المعنى لذكْرِك إياي ومن ذكَرَ الصلاةَ ذكَرَ اللهَ تعالى والمعنى أقِمِ الصلاةَ عندَ ذِكرِك إياي فذكْرُك للصلاةِ ذكْرٌ لي .
قولُه : لا يُصَلِّ أحدُكم هو بحذْفِ الياءِ لأنه نَهْيٌ .
قولُه : عِشاءَ الآخِرةِ في هذا ما في قولِهم : صلاةُ الأُولى من إضافةِ الصفةِ للموصوفِ وأنه مؤَوَّلٌ بصلاةِ الساعةِ الأُولَى .
قولُه : وأتي بقِدْرٍ قيلَ : إن لفظَ القِدْرِ تصحيفٌ والصوابُ ببَدْرٍ بالباءِ الموحَّدةِ والبَدرُ الطبَقُ ووُردُ ذلك مفَسَّراً في روايةٍ أُخرى قالَ الخطابيُّ : سُمِّيَ بَدْراً لاستدارتِه ومنه سُمِّيَ القمرُ عندَ اتِّساقِه ومما استُبْعِدَ به لفظُ القِدرِ إشعارُها بالطبْخِ وقد وَرَدَ الإذنُ بأكلِها مطبوخةً بل ربما يُدَّعَى أن ظاهِرَ كونِها في الطبَقِ أن تكونَ نيَّةَ خَضِرَاتٌ بمعنى غِضَاتٍ يقالُ : بَقْلَةٌ خَضِرَةٌ قالَ اللهُ تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } .
قولُه : فلا يَقْرَبَنَّ مسجدَنا هو بفتْحِ الراءِ قالَ القاضي أبو بكرِ بنُ العربيِّ يقول : سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : إذا قيلَ : لا يقرب بفتْحِ الراءِ كان معناه لا تَتلبَّسْ بالفعْلِ وإن كان بضمِّ الراءِ كان معناه لا تَدْنُ منه .


  #4  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 09:12 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي خلاصة الكلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابُ تَحِيَّةِ المسجدِ

الْحَدِيثُ السابعُ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ أبِي قتادةَ- بنِ رِبْعِيٍّ- الأنصارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ تَحِيَّةِ المسجدِ لداخلِ المسجدِ، أيَّ وَقْتٍ، ولوْ وَقْتَ نَهْيٍ لعمومِ الحديثِ؛ ولأنَّها منْ ذواتِ الأسبابِ التي ليسَ لها نَهْيٌ على الصحيحِ منْ أقوالِ العلماءِ.
الثَّانِيَةُ: قَيَّدَ العلماءُ المسجدَ الحرامَ بأنَّ تَحِيَّتَهُ الطوافُ.

بابُ النَّهْيِ عن الكلامِ في الصلاةِ

الْحَدِيثُ الثامنُ بَعْدَ الْمِائَةِ
عَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ في الصَّلَاةِ, يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وهو إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ, حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238] فَأُمِرْنَا بالسُّكُوتِ, ونُهِينَا عَنِ الكَلَامِ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: كانَ الكلامُ في الصلاةِ مُبَاحًا، ثمَّ صارَ مُحَرَّمًا مُفْسِدًا للصلاةِ.
الثَّانِيَةُ: أنَّ القنوتَ في الآيةِ يُرَادُ بهِ السكوتُ.
الثَّالِثَةُ: أنْ يُطْلَبَ مِن المُصَلِّي الإقبالُ على اللَّهِ تَعَالَى.


بابُ الإبرادِ في الظهرِ منْ شِدَّةِ الحَرِّ

الْحَدِيثُ التاسعُ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، وأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمْ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ؛ فإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ منْ فَيْحِ جَهَنَّمَ)).

المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (فَأَبْرِدُوا). أي: ادْخُلُوا في وقتِ البَرَادِ، كَأَنْجَدَ لِمَنْ دَخَلَ نَجْدَ.
قَوْلُهُ: (مِنْ فَيْحِ). انْتِشَارِ حَرِّهَا وَغَلَيَانِهَا، و(منْ) لبيانِ الجنسِ لا للتَّبْعِيضِ، أيْ: منْ جنسِ فَيْحِ جَهَنَّمَ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: اسْتِحْبَابُ تَأْخِيرِ صلاةِ الظهرِ في شدَّةِ الحرِّ إلى أنْ تَنْكَسِرَ الحرارةُ، سواءٌ كُنْتَ مُنْفَرِدًا أوْ في جماعةٍ طَلَبًا لراحةِ المُصَلِّينَ.
الثَّانِيَةُ: أنَّهُ يُشْرَعُ للمُصَلِّي أنْ يُؤَدِّيَ الصلاةَ بَعِيدًا عنْ كلِّ مُشْغِلٍ وَمُلْهٍ.
***
الْحَدِيثُ العاشرُ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَع رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فإذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهتَهُ في الأَرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أنَّ صلاةَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابِهِ الظهرَ في أيامِ الحـرِّ بعدَ انكسارِ حرارةِ الشمسِ وَتَبْقَى آثارُهَا في الأرضِ.
الثَّانِيَةُ: جوازُ السجودِ على حائلٍ إذا كانَ مُنْفَصِلًا عن المُصَلَّى.


بابُ قضاءِ الصلاةِ الفائتةِ وتَعْجِيلِهَا

الْحَدِيثُ الحاديَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لهَا إِلَّا ذَلِكَ، {وأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي})).
ولِمسلمٍ: ((مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَو نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: وُجُوبُ قضاءِ الصلاةِ على الناسِي والنائمِ عندَ ذِكْرِهَا.
الثَّانِيَةُ: وُجُوبُ المبادرةِ إلى فِعْلِهَا؛ لأنَّ تَأْخِيرَهَا بعدَ تَذَكُّرِهَا تَفْرِيطٌ فيها.
الثَّالِثَةُ: عَدَمُ الإثمِ على مَنْ أَخَّرَهَا لِعُذْرٍ منْ نِسْيَانٍ ونومٍ إذا لم تَكُنْ عَادَتُهُ النومَ عنها.
الرَّابِعَةُ: الكَفَّارَةُ ليستْ عنْ ذنبٍ ارْتُكِبَ، وإنَّمَا مَعْنَاهُ أنَّهُ عنْ تَأْخِيرِهَا فِعْلَ غَيْرِهَا منْ صدقةٍ وعتقٍ.

بابُ جوازِ إمامةِ المُتَنَفِّلِ بالمُفْتَرِضِ

الْحَدِيثُ الثانيَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ كانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشَاءَ الآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلكَ الصَّلَاةَ.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: جَوَازُ إمامةِ المُتَنَفِّلِ بالمُفْتَرِضِ، كما تَجُوزُ إمامةُ المُفْتَرِضِ بالمُتَنَفِّلِ بطريقِ الأَوْلَى.
الثَّانِيَةُ: جوازُ إعادةِ الصلاةِ المكتوبةِ لا سِيَّمَا معَ المصلحةِ.


بابُ حُكْمِ سَتْرِ أحدِ العاتِقَيْنِ في الصلاةِ

الْحَدِيثُ الثالثَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: النَّهْيُ عن الصلاةِ بدونِ سَتْرِ العاتِقِ، وَحَمَلَهُ الجمهورُ على الكراهةِ، فَيُسْتَحَبُّ سَتْرُهُمَا أوْ أَحَدِهِمَا.

بابُ ما جاءَ في الثُّومِ والبصلِ ونحوِهِمَا

الْحَدِيثُ الرابعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَو بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَليَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ))، وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خُضْرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ؟ فأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِن الْبُقُولِ، فقالَ: قَرِّبُوهَا))- إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ- فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قالَ: ((كُلْ؛ فإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي)).
***

الْحَدِيثُ الخامسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ
عنْ جابرٍ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، وَ الثُّومَ، وَ الْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فإنَّ الملائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).

فِيهِمَا مَسَائِلُ:
الأُولَى: النَّهْيُ عنْ إِتْيَانِ المساجدِ لِمَنْ أَكَلَ ثُومًا أوْ بَصَلًا أوْ نحوَهُمَا منْ كلِّ ذي رائحةٍ كريهةٍ.
الثَّانِيَةُ: كراهةُ أكلِ ذي الرائحةِ الكريهةِ لِمَنْ عَلَيْهِ حضورُ الصلاةِ في المسجدِ.
الثَّالِثَةُ: حِكْمَةُ النهيِ أَذِيَّةُ المُصَلِّينَ والملائكةِ، فَيُلْحَقُ بهِ النَّهْيُ عنْ كلِّ أَذًى.


  #5  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 09:17 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تيسير العلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابٌ جامعٌ

ذكرَ المؤلفُ في هذا البابِ أنواعاً من أعمالِ الصَّلاةِ، فرأيتُ أنْ أجعلَ كلَّ نوعٍ تحتَ بابٍ يُبيِّنُ مقصودَها، ويشيرُ إلى المعنَى المرادِ منها.
ولذا فإنِّي قدَّمتُ حديثَ أنسٍ في السجودِ على الثوبِ من الحَرِّ، ليكونَ مع حديثِ أبي هريرةَ:" إذا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ…إلخ " لتناسِبُهما، مع أنَّ المؤلِّفَ فصلَ بينهما بحديثينِ غيرِ مناسبينِ لهما.

بابُ تحيةِ المسجدِ
الحديثُ السابعُ بعدَ المائةِ
107- عن أبي قتادةَ الحارثِ بنِ رِبْعِيٍّ الأنصاريِّ، رضيَ اللَّهُ عنهُما قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ:" إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ المَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حتى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ " .

(107) المعنَى الإجماليُّ:
دخلَ سُليكٌ الْغَطفَانِيُّ المسجدَ النَّبِويَّ، يومَ الجمعةِ، والنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخطبُ فجلسَ.
فأمَرهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَقُومَ ويأتيَ برَكْعَتَيْنِ. ثم أخْبَره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ للمَساجدِ حُرمةً وتَقديراً، فإنَّ لهَا علَى دَاخلِهَا تَحيةً، وهي أنْ لا يجلسَ حتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. ولذا فإنَّه لم يُعذرْ، ولا هذا الذي جلسَ لِسماعِ خُطبةِ الجمعةِ مِنْ لسانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
اختلفَ الْعُلَمَاءُ في جوازِ فِعلِ الصَّلَوَاتِ ذواتِ الأسبابِ كـ (تَحيَّةِ المسجِدِ) أو (صَلاَةِ الكُسوفِ) و(الجنازةِ) و(قضاءِ الفائِتةِ)في أوقاتِ النَّهْيِ.
فذهبَ الحنفيَّةُ والمالكيَّةُ والْحَنَابِلةُ إلَى المنعِ مِنْ ذلك لأحاديثِ النَّهْيِ.
كحَدِيثِ:" لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ولا صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ ".
وحَدِيثِ:" ثَلاَثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَنْهَانَا أنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ".
وَذَهَبَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إلَى جَوَازِ ذلك بِلاَ كَرَاهِيَةٍ، وهُوَ رِوَايةٌ عَنِ الإمامِ أحمدَ، اخْتارهَا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ مُسْتَدِلِّينَ بهذا الْحَدِيثِ الذي مَعنَا وأَمثَالِهِ، كحَدِيثِ:" مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أو نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ ".
وحَدِيثِ: " إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آياتِ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا ".
وكُلٌّ مِنْ أدلَّةِ الطَّرفينِ عامٌّ مِنْ وجِهٍ، وخَاصٍّ مِنْ وجْهٍ آخَرَ، إلا أنَّ في إباحةِ الصَّلَوَاتِ ذواتِ الأسبابِ في هذِهِ الأوقاتِ إعْمالاً للأدلَّةِ كُلِّهَا، فَيُحملُ كُلٌّ منهَا علَى مَحمَلٍ، وإنَّ في تلكِ الإباحةِ تَكْثِيراً للعبادةِ التي لهَا سَندٌ قَوِيٌّ مِنَ الشرعِ.
وقد تقدَّمَ هذا الخلافُ في حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رقم(52). ولكِنَّا نَزيدُه هنا وُضوحاً مِنْ كَلاَمِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ فقدْ ذَكَر أَنه كانَ مُتوقِّفاً في الصَّلَوَاتِ ذواتِ الأسبابِ لِبعضِ الأدلَّةِ التي احْتَجَّ بِهِ المَانِعونَ، وبعدَ البحثِ وُجِدَ أنهما إمَّا ضَعيفةٌ أو غَيْرُ دَالَّةٍ، كقولِه:" إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ " فإنَّه عامٌّ لا خصوصَ فِيهِ، وأحاديثُ النَّهْيِ كلُّهَا مَخصوصةٌ، فوجبَ تَقديمُ العامِّ الذي لا خصوصَ فِيهِ؛ لأنَّه حُجَّةٌ باتِّفاقِ السلفِ، وقَدْ ثَبت أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَ بصَلاَةِ تحيَّةِ المسجدِ للدَّاخلِ عندَ الخُطبةِ، وأما حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ في الصَّحِيحَينِ :" لاَ تَتَحَرَّوْا لِصَلاَتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ ولا غُرُوبَهَا " وهذا إنَّما يكونُ في التَّطوُّعِ الْمُطْلَقِ، وقد ثَبَتَ جوازُ بعضِ ذواتِ الأسبابِ بالنَّصِّ كَركعتَيِ الطوافِ والصَّلاَةِ المُعادةِ مع إمامِ الحَيِّ، وبَعضُهَا بالنَّصِّ والإجماعِ كالجنازةِ بعدَ العصرِ، وإذا نُظِر في مُقتضَى الجوازِ لم تُوجدْ لَهُ عِلَّةٌ إلا كونَ الصَّلاَةِ ذاتَ سببٍ. وقد استقرَّ الشرْعُ علَى أنَّ الصَّلاَةَ تُفعلُ حَسبَ الإمكانِ عندَ خَشيةِ فواتِ الوَقْتِ، وإنْ أمكنَ فِعلُهَا بعدَ الوَقْتِ علَى وجْهِ الكمالِ. وكذلك صلواتُ التطوُّعِ ذواتُ الأسبابِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
مشروعيَّةُ تحيَّةِ المَسجدِ لِدَاخلِه، وذهبَ إلَى وجوبِهَا الظاهريَّةُ، لظاهرِ هذا الْحَدِيثِ. والْجُمْهُورُ ذَهبوا إلَى استحبابِهَا.
أنَّها مشروعةٌ لدَاخلِ المسجدِ في كُلِّ وَقْتٍ، ولو كانَ وَقْتَ نَهْيٍ لعُمومِ الْحَدِيثِ.
وقد تقدَّمَ الخلافُ فيهَا وفي غيرِها مِنْ ذواتِ الأسبابِ.
استحبابُ الوضوءِ لداخلِ المسجدِ، لئلا تَفوتَه هذهِ الصَّلاَةُ المأمورِ بهَا.
قيَّدَ الْعُلَمَاءُ المسجدَ الحرامَ بأنَّ تحِيَّتَه الطَّوافُ. لكن مَنْ لَمْ يُرِدِ الطوافَ أو يَشُقُّ عَلَيْهِ، فلا يَنبغِي أنْ يدعَ الصَّلاَةَ، بل يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.


بابُ النهيِ عن الكلامِ في الصَّلاةِ
الحديثُ الثامنُ بعدَ المائةِ
108- عن زيدِ بنِ أَرْقَمَ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ:" كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ، يُكلِّمْ الرَّجُلُ مِنَّا صَاحِبَهُ، وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ في الصَّلاَةِ، حتى نَزَلَتْ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأُمِرْنَا بِالسُّكَوتِ، وَنُهِينَا عَن الْكلامِ " .

(108) غريبُ الْحَدِيث:
" قَانِتينَ ": للقُنوتِ عِدَّةُ معانٍ، منهَا: الطاعةُ، والخشوعُ، والدُّعَاءُ وطولُ القيامِ والسكوتُ، وهو الْمُرَادُ هنا، فقد فَهِم مِنْهُ الصَّحَابَةُ نَهْيَهُم عَنِ الكلامِ في الصَّلاَةِ وأمَرَهم بالسكوتِ. واللامُ في قولِهِ " عَنِ الكلامِ " للعَهْدِ إذْ يُقصدُ بهَا الكلامُ الذي كانوا يتَحدَّثون بِهِ.

المعنَى الإجماليُّ:
ذكَرَ زيدُ بنُ أرقمَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أنَّ الْمُسْلِمِينَ كانوا في بَدْءِ أمْرِهم يتكلَّمون في الصَّلاَةِ بقدرِ حاجَتِهم إلَى الكلامِ، فقد كانَ أحدُهم يُكلِّمُ صَاحِبَه بجانِبِه في حاجتِهِ، وكان علَى مَسمَعٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يُنكرْ عليهم.
ولمَّا كانَ في الصَّلاَةِ شُغلٌ بمناجاةِ اللَّهِ عَنِ الكلامِ مع المَخْلوقينَ، أمَرَهُم اللَّهُ تباركَ وتَعَالَى بالمحافظةِ علَى الصَّلاَةِ وأمَرهم بالسكوتِ ونَهاهُم عَنِ الكلامِ، فأنزلَ اللَّهُ تَعَالَى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطى وَقُومُواْ للِّهِ قَانِتِينَ) سورةُ البقرةِ، آيةُ 238.
فعرفَ الصَّحَابَةُ منهَا نَهيَهُم عَنِ الكلامِ في الصَّلاَةِ فانْتَهَوْا، رَضِي اللَّهُ عَنْهُم.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
أجمع الْعُلَمَاءُ علَى بطلانِ صَلاَةِ مَنْ تَكلَّم فيهَا عامداً لغيرِ مَصلحتِهَا، عَالِماً بالتحريمِ. واخْْتَلَفُوا في الساهِي، والجاهلِ، والمُكرَهِ، والنائمِ، والمُحذِّرِ للضريرِ، والمُتكلِّمِ لِمصلحَتِهَا.
فذهبَ الْحَنَابِلةُ إلَى بُطلانِ الصَّلاَةِ في كُلِّ هذا، عملاً بهذا الْحَدِيثِ الذي معنا، وحَدِيثِ " كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ في الصَّلاَةِ فَتَرُدَّ عَلَيْنَا، قَالَ: "إنَّ في الصَّلاَةِ لَشُغْلًا " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ـ وغيرِهما مِنَ الأدلَّةِ , وذهبَ الإمامانِ: مالكٌ والشَّافعيُّ إلَى صحَّةِ صَلاَةِ المتكَلِّمِ جَاهلاً، أو ناسياً أنَّه في الصَّلاَةِ، أو ظَاناًّ أنَّ صَلاَتَه تَمَّت فَسلَّم وتَكلَّم، سواءٌ كانَ الكلامُ في شأنِ الصَّلاَةِ، أو لم يَكُن في شَأْنِهَا، وَسَواءٌ كانَ المُتَكَلِّمُ إماماً أو مأموماً، فإنَّ الصَّلاَةَ صحيحةٌ تَامَّةٌ، يُبنَى آخرُهَا علَى أوَّلِهَا.
وما ذهبَ إِلَيْهِ الإمامانِ: مالكٌ، والشَّافعيُّ، مِنْ عدمِ قَطْعِ الصَّلاَةِ بكلامِ الجاهلِ، والسَّاهِي، والمُحذِّرِ، والمتكَلِّمِ لِمصلحَتِهَا بعدَ السلامِ قبلَ إتمامِهَا، ذهبَ إِلَيْهِ ـ أيضاً ـ الإمامُ أحمدُ في رواياتٍ قَويَّةٍ صحيحةٍ عَنْهُ، وهو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ.
وأدلَّةُ ذلك قويةٌ واضحةٌ.
منهَا: حَدِيثُ ذي اليدينِ , وكلامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذي اليدينِ وأبي بكرٍ وعُمَرَ؛ وسَرَعانِ الناسِ الذين خرجُوا مِنَ المسجدِ، يُردِّدون بينهم قَصُرَتِ الصَّلاَةُ.
وما رواه مُسْلِمٌ عَنْ معاويةَ بْنِ الحكمِ: " بَيْنَمَا أَنَا أُصلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ عَطَسَ رجلٌ مِنَ القومِ، فقلتُ: يَرحمُكَ اللَّهُ فَرَمَاني القومُ بأبصارِهمْ، فقلتُ، وَاثَكْلاَهُ، ما شَأنُكُمْ تَنظرونَ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِِيهِمْ علَى أَفْخَاذِهِم فَمَا رَأيتُهم يُصَمِّتُونِي لكِنِّي سَكتُّ فلما صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. قَالَ:(( إنَّ هذهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ )) فلم يَأمُرْه بالإعادةِ.
وحَدِيثُ: (( عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ )) إلَى غيرِ ذلك مِنَ الأدلَّةِ الصَّريحةِ الصحيحةِ.
وحَدِيثُ البابِ ونحوُه، محمولٌ علَى العامدِ العالمِ بالتحريمِ. واختلفَ الْعُلَمَاءُ في النفخِ والنَّحنَحةِ، والتَّأوُّهِ، والأنينِ، والانتحابِ ونحوِ ذلك.
فذهبَ بعضُهم ـ وهو المشهورُ مِنْ مذهبِ الْحَنَابِلةِ والشَّافعيَّةِ ـ إلَى أنَّه يُبطِلُ الصَّلاَةَ إذا انْتظمَ مِنْهُ حَرفانِ.
فإِنْ لَمْ يَنتظمْ مِنْهُ حرفانِ، أو كانَ الانتحابُ مِنْ خشيةِ اللَّهِ، أو التَّنحنحُ لحاجةٍ، فمذْهَبُ الْحَنَابِلةِ أنَّه لا يُبطلُ الصَّلاَةَ واختارَ الشيخُ تقيُّ الدينِ عدمَ الإبطالِ بهذهِ الأشياءِ، ولو بانَ منهَا حرفانِ؛ لأنَّهَا ليستْ مِنْ جنسِ الكلامِ، فلا يُمكنُ قِياسُهَا علَى الكلامِ.
وحُكِيَ عدمُ البطلانِ روايةً عَنِ الإمامينِ: مالكٍ وأحمدَ. مُسْتَدِلِّينَ بحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: " كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مَدْخَلاَنِ باللَّيْلِ والنَّهَارِ. فإذا دخلْتُ عَلَيْهِ وهو يُصَلِّي تَنَحْنَحَ " رواه أحمدُ، وابنُ ماجَهْ.
وقد نَفخَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صَلاَةِ الكسوفِ. وقالَ مُهَنَّا: رَأَيْتُ أبا عَبْدِ اللَّهِ يَتنحنحُ في الصَّلاَةِ.
وهذهِ الأشياءُ ليست كَلاَماً، ولا تُنافي الصَّلاَةَ. ذكَرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ أنَّ هذا المَبحثَ يَنقسمُ إلَى ثلاثةِ أقسامٍ: فهناك الكلماتُ التي تدلُّ علَى معنًى فيهَا مِثلُ: "يدٍ" و"فَمٍ" وغيرِ ذلكَ , وهناك كلِماتٌ تدلُّ علَى معنًى في غيرِهَا مثلِ: عَنْ ومَنْ وفي وما هو بِسبيلِهَا.
وهذان النوعانِ مِنَ الكلامِ يَدلاَّنِ علَى معنًى بالوضعِ , وَقد أجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَََى إفسادِ هَذا القَسْمِ للصَّلاَة إََِنَْ لَمْ يكنْ لَهُ عذرٌ شرعيٌّ. أمَّا القِسمُ الثاني في الكلامِ فهو ما لَهُ معنًى بالطَّبعِ كالتأوُّهِ والبُكاءِ والأنينِ , والأظهرُ أنَّه لا يُبطِلُ الصَّلاَةَ؛ لأنَّه ليس كَلاَماً في اللغةِ التيِ خاطَبنا بهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أمَّا القسمُ الثالثُ وهو النحنحةُ فقد وَردَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: " كُنتُ إذا دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهْوَ يُصَلِّي تَنحنحَ لِي " ونُقِل عَنِ الإمامِ أحمدَ رِوايتانِ فِيهِ إحدَاهما الإبطالُ، واختيارُ الشيخِ تقيِّ الدينِ عدمُ الإبطالِ بحالٍ.
قَالَ شيخُ الإسلامِ في الاختياراتِ: والأظهرُ أنَّ الصَّلاَةَ تَبطُلُ بالقهقَهةِ إذا كانَ فيهَا أصواتٌ عالِيةٌ تُنافي الخشوعَ الواجبَ في الصَّلاَةِ ,
وفيهَا مِنَ الاستخفافِ والتلاعُبِ ما يُناقضُ المقصودَ مِنَ الصَّلاَةِ. فَأُبطِلت لذلك، لا لكونِهَا كَلاَماً ,
قَالَ ابْنُ المنذرِ: أجمَعوا علَى أنَّ الضحِكَ يُفسدُ الصَّلاَةَ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
كانَ الكلامُ في الصَّلاَةِ أَوَّلَ الإسلامِ مُباحاً بقدرِ الحاجةِ إِلَيْهِ.
تحريمُ الكلامِ في الصَّلاَةِ بعدَ نزولِ قولِه تَعَالَى: (وَقُومُواْ للِّهِ قَانِتِينَ) مِنَ العامدِ، وهو الذي يَعلمُ أنَّه في صَلاَةٍ، وأنَّ الكلامَ فيهَا مُحرَّمٌ.
أنَّ الكلامَ ـ مع حُرمتِهِ ـ مُفسِدٌ للصَّلاَةِ؛ لأنَّ النَّهْيَ يَقتضِي الفسادَ.
أنَّ القُنوتَ المذكورَ في هذِهِ الآيةِ، مُرادٌ بِهِ السكوتُ، كما فَهِمه الصَّحَابَةُ، وعملوا بُمقتضاه في زمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أنَّ المعنىَ الذي حُرِّم مِنْ أجلِهِ الكلامُ، هو طلبُ الإقبالِ علَى اللَّهِ في هذِهِ العبادةِ، والتلذُّذُ بمناجاتِه فَلْيُحْرصْ علَى هذا المعنَى السَّامي.
صراحةُ النسخِ في مثلِ هذا الْحَدِيثِ الذي جَمع بينَ الناسخِ والمنسوخِ.


بابُ الإبرادِ في الظُّهرِ من شدَّةِ الحَرِّ
الحديثُ التاسعُ بعدَ المائةِ
109- عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، وأبي هريرةَ رضيَ اللَّهُ عنهُمْ، عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قالَ: (( إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأبْرِدُوا عَن الصَّلاَةِ، فإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ منْ فَيْحِ جَهَنَّمَ )) .

(109) غريبُ الْحَدِيثِ:
" أَبْرِدُوا " –يُقالُ: أَبْرَدَ إذا دخَلَ في وَقْتِ البردِ كـ" أَنْجَد لمَنْ دَخَل " نَجْداً و " أتْهَمَ " لمَن دخلَ تِهامةَ.
" مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ " انتشارُ حرِّهَا وغَليانُهَا، و " مِنْ " هنا للجنسِ لا للتبعِيضِ أي: مِنْ جنسِ فيحِ جهنَّمَ.
قَالَ المِزِّيُّ: وهو مِثلُ ما رُوِي عَنْ عَائِشَةَ بإسنادٍ جيِّدٍ: " مَنْ أَرَادَ أنْ يَسْمَعَ خَرِيرَ الْكَوْثَرِ، فَلْيَجْعَلْ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ " أي: مَنْ أرادَ أنْ يسمعَ مثلَ خريرِ الكوثرِ.

المعنَى الإجماليُّ:
رَوحُ الصَّلاَةِ ولُبُّهَا، الخشوعُ وإحضارُ القلبِ فيهَا؛
لذا نُدِبَ للمُصلِّي أنْ يدخلَ فيهَا، وقد فَرغَ مِنَ الأعمالِ الشاغِلةِ عنهَا. وعَملَ الوسائلَ المُعِينَةَ علَى الاستحضارِ فيها؛
ولذلك فضَّلَ الشَّارِعُ أنْ يُؤخِّرَ صَلاَةَ الظُّهْرِ عندَ اشتدادِ الحَرِّ إلَى وَقْتِ البَرْدِ لئلا يَشغلَه الحَرُّ و الغَمُّ، عَنِ الخشوعِ مع ما فَى ذاك مِنَ التسهيلِ والتَّيسيرِ فَى حقِّ الذين يَخرجونَ يُؤدُّونهَا فَى المساجدِ تَحت وَهجِ الشَّمسِ لهذهِ المعانِي الجَلِيلةِ شُرِعَ تأخيرُ هذهِ الصَّلاَةِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا وصارَ هذا الْحَدِيثُ مُخصِّصاً للأحاديثِ الواردةِ فَى فضلِ أَوَّلِ الوَقْتِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1-استحبابُ تأخيرِ صَلاَةِ الظُّهْرِ في شدَّةِ الحرِّ إلَى أنْ يَبردَ الوَقْتُ. وتَنكسرَ الحرارةُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: ليسَ في الإبرادِ في الشريعةِ تحَدِيدٌ، وبيَّنَ الصنعانيُّ أنَّ الأقربَ في الاستدلالِ علَى بيانِ مِقدارِهَا ما أخرجَهُ الشيخانِ مِنْ حَدِيثِ أبي ذرٍّ قَالَ:" كُنَّا في سفرٍ مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ المُؤَذِّنُ أنْ يُؤَذِّنَ للظُّهرِ، فَقَالَ: أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أنْ يُؤَذِّنَ فقالَ لَهُ: أَبْرِدْ حتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ " فهو يُرشدُ إلَى قدْرِ الإبرادِ وأنه ظُهورُ الفيءِ للجُدرانِ ونحوِهَا.
2- أنَّ الحِكمةَ في ذلك، هو طلبُ راحةِ الْمُصَلِّي، ليكونَ أحضرَ لقلْبِه وأبعدَ لَهُ عَنِ القلقِ.
3-أنَّ الحُكمَ يدورُ مع عِلَّتِهِ، فمتَى وُجِد الحَرُّ في بلدٍ، وجِدَت فضيلةُ التأخيرِ ,
وأما البلادُ الباردةُ – فلفَقْدِهَا هذهِ العِلَّةَ – لا يُستحبُّ تأخيرُ الصَّلاَةِ فيهَا.
4- ظاهرُ الْحَدِيثِ، والمفهومُ مِنَ الحكمةِ في هذا التأخيرِ، أنَّ الحُكمَ عامٌّ في حقِّ مَنْ يؤدِّي الصَّلاَةَ جماعةً في المسجدِ، ومَنْ يؤدِّيهَا مُنفرداً في البيتِ؛ لأنهم يَشتركونَ في حصولِ القلقِ مِنَ الحَرِّ.
5- أنَّه يُشرعُ للمصَلِّي أنْ يؤدِّيَ الصَّلاَةَ بعيداً عَنْ كُلِّ شاغلٍ عنهَا ومُلْهٍ فيهَا.

فائدةٌ:
قَالَ شيخُنا عبدُ الرحمنِ بنُ ناصرِ بنِ سَعديٍّ عندَ كَلاَمٍ لَهُ علَى هذا الْحَدِيثِ:
ولا مُنافاةَ بينَ هذا وبينَ الأسبابِ المحسوسةِ، فإنهَا كلَّهَا مِنْ أسبابِ الحرِّ والبردِ كما في الكسوفِ وغيرِه.
فينبغي للإنسانِ أنْ يُثبتَ الأسبابَ الغيبِيَّةَ التي ذَكرَهَا الشَّارِعُ، ويؤمِنَ بهَا ويُثبتَ الأسبابَ المُشاهَدَةَ المحسوسةَ. فَمَن كَذَّب أحدَهما، فقد أخْطَأ.
***
الحديثُ العاشرُ بعدَ المائةِ
110- عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ:" كُنَّا نُصَلِّي مَع رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فإذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهتَهُ مِنَ الأَرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ " .
(110) المعنَى الإجماليُّ:
كانتْ عادةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُصَلِّيَ بأصحابِهِ صَلاَةَ الظُّهْرِ مِنْ أيَّامِ الحرِّ، وحرارةُ الأرضِ ما تزالُ باقِيةً، مما يَحملُ المصلِّينَ علَى أنَّهم إذا لم يَستطيعوا أنْ يُمكِّنوا جِباهَهم في الأرضِ بَسَطوا ثِيابَهم، فسجَدُوا عليهَا، لِتقِيهم حرَّ الأرضِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1- أنَّ وَقْتَ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابِه الظُّهْرَ في أيامِ الحرِّ، وهو بعدَ انكسارِ حرارةِ الشَّمْسِ وبقاءِ آثارِهَا في الأرضِ.
2-جوازُ السُّجُودِ علَى حائلٍ مِنْ ثوبٍ وغيرِه عندَ الحاجةِ إِلَيْهِ، مِنْ حَرٍّ، وبرْدٍ، وشَوكٍ، ونحوِ ذلك.
وبعضُ الْعُلَمَاءِ فَصَّل في السُّجُودِ علَى الحائلِ فقال: إنْ كانَ مُنفصِلًا عَنِ الْمُصَلِّي كالسجادةِ ونحوِهَا جازَ ولو بلا حاجةٍ، بلا كراهةٍ، وإنْ كانَ مُتصِلًا بِهِ كطرفِ ثوبِه فيُكرهُ إلا مع الحاجةِ.

التوفيقُ بينَ الحَدِيثينِ:
ظاهرُ هذين الحَدِيثَينِ المُتقدِّمينِ التَّعارضُ، ولذا حاولَ الْعُلَمَاءُ التوفيقَ بينهما وأحْسنُ ما قِيلَ في ذلك ما ذهبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أنَّ الأفضلَ في شدَّةِ الحرِّ الإبرادَ كما في حَدِيثِ أنسٍ: أنَّهم كانوا يُبْرِدون بالصَّلاَةِ، ولكنْ حرارةُ الأرضِ باقيةٌ؛ لأنَّ بَرْدَهَا يتأخَّرُ في شدَّةِ الحرِّ كَثِيراً فيحتاجونَ إلَى السُّجُودِ علَى حائلٍ.
وليس الْمُرَادُ بالإبرادِ المطلوبِ أنْ تَبْرَدَ الأرضُ، بل الْمُرَادُ أنْ تَنكسرَ حِدَّةُ حرارةِ الشمسِ وتبرُدُ الأجسامُ.

بابُ قضاءِ الصَّلاةِ الفائِتةِ وتعجِيلِهَا
الحديثُ الحادي عشرَ بعدَ المائةِ
111- عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: (( مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ كَفَّارَةَ لهَا إِلا ذَلِكَ ))، وَتَلاَ قولَهُ تعالى: (وأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي).
ولمسلمٍ (( مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا )) .

(111) المعنَى الإجماليُّ:
الصَّلاَةُ لهَا وَقْتٌ محدَّدٌ في أوَّلِهِ وآخِرِه، لا يجوزُ تقديمُ الصَّلاَةِ قبلَه، كما لا يجوزُ تَأخيرُهَا عَنْهُ في حقِّ العامدِ،
فإذا نامَ عَنِ الصَّلاَةِ، أو نَسِيهَا حتَّى خرجَ وَقْتُهَا، فقد سقطَ عَنْهُ الإثمُ لعُذرِه ,
وعليهِ أنْ يُبادِرَ إلَى قَضائِهَا عندَ ذِكْرِهِ لهَا , ولا يجوزُ تأخيرُهَا , فإنَّ كفَّارةَ ما وقع لهَا مِنَ التأخيرِ المُبادرةُ في قضائِهَا؛ ولذا قَالَ تَعَالَى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي) سورةُ طه، آية14.
فتلاوةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذهِ الآيةَ عندَ ذكرِ هذا الحُكمِ، يُفيدُ أنَّ الْمُرَادَ مِنْ معناهَا أنْ تُقامَ الصَّلاَةُ عندَ تَذكُّرِهَا.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
اختلفَ الْعُلَمَاءُ: هلْ تَجبُ المُبادرةُ إلَى فِعلِهَا عندَ ذِكْرِهَا، أو يجوزُ تأخيرُها؟
ذهبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إلَى وجوبِ المُبادرةِ ومنهم الأَئِمَّةُ الثلاثةُ: أبو حنيفةَ، ومالكٌ، وأحمدُ، وأتْباعُهم.
وذهبَ الشَّافعيُّ إلَى استحبابِ قَضائِهَا علَى الفورِ ويجوزُ تأخيرُهَا. واستدلَّ الشَّافعيُّ بأنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ نَامَ هو وأصحابُه ـ لم يُصلُّوهَا في المكانِ الذي نامُوا فِيهِ، بل أَمرَهم، فَاقْتَادوا رواحِلَهم إلَى مكانٍ آخرَ، فصَلَّى فِيهِ، ولو كانَ القضاءُ واجباً علَى الفوْرِ، لصَلَّوْه في مكانِهم.
واحتج الْجُمْهُورُ بحَدِيثِ البابِ، حيث رَتَّب الصَّلاَةَ علَى الذِّكْرِ.
وأجابُوا عَنِ استدلالِ الشَّافعيِّ بأنه ليس معنَى الفوريَّةِ عدمَ التأخرِ قليلاً لبعضِ الأغراضِ التي تُكمِّلُ الصَّلاَةَ وتُزكِّيهَا، فإنَّه يجوزُ التأخيرُ اليسيرُ لانتظارِ الْجَمَاعةِ، أو تِكثيرِهَا ونحوِ ذلك.
هذا وقد أطالَ في هذا " ابنُ القيِّمِ " رحمه اللَّهُ في كتابِ " الصَّلاَةِ " وفنَّد الرَّأْيَ القائلَ بجوازِ التأخيرِ. واخْْتَلَفُوا في تارِكهَا عَمداً حتَّى خَرجَ وَقْتُهَا: هلْ يَقضيهَا أو لا؟
وسأُلَخِّصُ هذا الموضوعَ مِنْ كَلاَمِ "ابنِ القيِّمِ " في كتابِ " الصَّلاَةِ " فقد أطالَ الكلامَ فِيهِ:
قد اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ علَى حصولِ الإثمِ العظيمِ الذي يلْحقُ مَنْ أخَّرهَا لغيرِ عُذرٍ حتَّى خَرجَ وَقْتُهَا ,
ولكن ذهبَ الأَئِمَّةُ الأربعةُ إلَى وجوبِ القضاءِ عَلَيْهِ مع استحقاقِهِ العقوبةَ إلا أنْ يعفوَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقالت طائفةٌ مِنَ السلفِ والخلَفِ: مَنْ تَعمَّدَ تأخيرَ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ غيرِ عُذرٍ، فلا سبيلَ لَهُ إلَى قضائِهَا أبداً، ولا يُقبلُ مِنْهُ، وعليهِ أنْ يتوبَ توبةً نصوحاً، فيُكثرُ مِنَ الاستغفارِ ونوافلِ الصَّلَوَاتِ.
استدلَّ مُوجِبو القضاءِ، بأنه إذا كانَ القضاءُ واجباً علَى النَّاسي والنائمِ، وهما مَعذورانِ، فإيجابُه علَى غيرِ المعذورِ العاصي مِنْ بابِ أوْلَى ,
وأيضاً، فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى العصرَ بعدَ المغرب ِيومَ الخندقِ هو وأصحابُه، ومعلومٌ أنهم كانوا غيرَ نَائمينَ ولا سَاهينَ، ولو حصلَ السهوُ مِنْ بعضِهم، ما حصلَ منهم جميعاً.
وانتصرَ لوجوبِ القضاءِ أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ.
ومِنَ الذاهِبينَ إلَى عدمِ القضاءِ: الظاهريَّةُ، وشيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ، وابنُ القيِّمِ، وقد أطال في كتابِ "الصَّلاَةِ " في سَوقِ الأدلةِ، ورَدِّ حُججِ المُخالفينَ.
ومِن تلك الأدلَّةِ: المفهومُ مِنْ هذا الْحَدِيثِ، فإنَّ مَنطوقَهُ وجوبُ القضاءِ علَى النائمِ والناسي، ومفهومُه أنَّه لا يَجبُ علَى غيرِهما، وأنَّ أوامرَ الشرعِ علَى قِسمينِ:
مُطلقةٌ. ومُؤقَّتةٌ، كالجمعةِ، ويومِ عرفَةَ.
فمِثلُ هذهِ العباداتِ، لا تُقبلُ إلا في أوقاتِهَا، ومنهَا: الصَّلاَةُ المؤخَّرةُ عَنْ وَقْتِهَا بلا عُذرٍ.
وقولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ " ولو كانَ فِعلهَا بعدَ المغربِ صَحيحاً مُطلقاً، لكان مُدرِكاً، سواءٌ أدركَ رَكعةً أو أَقلَّ مِنْ ركعةٍ، أم لم يُدركْ شيئاً، والمُقاتلونَ أُمِروا بالصَّلاَةِ في شِدَّةِ القتالِ، كلُّ ذلك حِرصاً علَى فِعلهَا في وَقْتِهَا، ولو كانَ هناك رُخصةٌ لأخَّرُوهَا، ليُؤدُّوهَا بشروطِهَا وأركانِهَا، التي لا يُمكِنُ القيامُ بهَا مع قيامِ القِتالِ، مما دلَّ علَى تقديمِ الوَقْتِ علَى جميعِ ما يَجبُ للصَّلاَةِ، وما يُشترطُ فيهَا.
وأما عدمُ قبولِ قَضائهَا مِنَ المُفرِّطِ في تأخيرِهَا بعدَ الوَقْتِ، فليسَ لأنَّه أخَفُّ مِنَ المَعذورينَ، فإنَّ المَعْذُورينَ ليس عليهم لاَئِمَةٌ.
وإنَّما لم تُقبلْ مِنْهُ، عقوبةً لَهُ وتغليظاً عَلَيْهِ. وقَد بسطَ ـ رحمه اللَّهُ ـ القولَ فيهَا، فمَن أرادَ استقْصَاءَ ذلك فَليرجعْ إِلَيْهِ.
وأما كَلاَمُ شيخِ الإسلامِ في الموضوعِ، فقد قَالَ في الاختياراتِ: وتارِكُ الصَّلاَةِ عَمداً، لا يُشرعُ لَهُ قضاؤهَا، ولا تَصِحُّ مِنْهُ، بل يُكثِرُ مِنَ التطوعِ وهو قولُ طائفةٍ مِنَ السلف: كأبي عبدِ الرحمنِ صاحبِ الشَّافعيِّ، وداودَ وأتباعِه، وليس في الأدلَّةِ ما يُخالفُ هذا بل يُوافِقُه. وقد مالَ إلَى هذا القولِ الشيخُ صِدِّيقُ حَسَنٍ في كتابِهِ الرَّوضةِ النَّديَّةِ.
وهذا ما أردْتُ تَلخيصَه في هذِهِ المسألةِ واللَّهُ أَعْلَمُ بالصَّوابِ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ مِنَ الأحكامِ:
وجوبُ قضاءِ الصَّلاَةِ علَى الناسي والنائمِ عندَ ذِكْرهَا.
وجوبُ المُبادرةِ إلَى فِعْلِهَا؛ لأنَّ تأخيرَهَا بعدَ تَذكُّرِها تفريطٌ فيهَا.
عدمُ الإثمِ عَلَى مَنْ أخَّرهَا لعُذرٍ مِنْ نحوِ نِسيانٍ ونومٍ، ما لَم يُفرِّطْ في ذلك، بأنْ ينامَ بعدَ دخولِ الوَقْتِ، أو أنْ يَعلمَ مِنْ نَفسِهِ عدمَ الانتباهِ في الوَقْتِ فلا يَتَّخذَ لَهُ سبباً يُوقِظُه في وَقْتِهَا.
والكَفَّارةُ المذكورةُ، ليست عَنْ ذنبٍ ارْتُكِب، وإنَّما معنَى هذهِ الكَفَّارةِ أنَّه لا يُجزِيءُ عَنْ تَرْكِهَا فعلُ غيرِهَا، مِنْ إطعامٍ، وعِتقٍ ونحوِ ذلك، فلا بُدَّ مِنَ الإتيانِ بهَا.


بابُ جوازِ إمامةِ المُتنفِّلِ بالمُفترِضِ
الحديثُ الثانيَ عشرَ بعدَ المائةِ
112- عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضيَ اللَّهُ عنهُما " أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ، كانَ يُصَلِّي مَعَ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، ثمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلكَ الصَّلاَةَ ".

(112) المعنَى الإجماليُّ:
كانتْ منازلُ بني سَلَمَةَ، جماعةِ مُعاذِ بن جبلٍ الأنصاريِّ خارجَ المدينةِ.
وكان مُعاذٌ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ شديدَ الرغبةِ في الخيرِ، فكانَ يحرصُ علَى شهودِ الصَّلاَةِ مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بعدَ أنْ يؤدِّيَ الفريضةَ خلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخرجُ إلَى قومِهِ فيُصَلِّي بهم تلك الصَّلاَةَ، فتكونُ نافِلةً بحقِّه، فريضةً بحقِّ قَومِه، وكان ذلك بعلمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيقِرُّه عَلَيْهِ.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
اخْتُلفَ في صحَّةِ إمامَةِ المُتنفِّلِ بالمفْتَرِضِ.
فذهبَ الزُّهرِيُّ، ومالكٌ، والحنفيَّةُ: إلَى عدمِ صحَّةِ ذلك، وهو المشهورُ عَنِ الإمامِ أحمدَ، واختارَه أكثرُ أصحابِه، مُسْتَدِلِّينَ بقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واختلافُ نِيَّةِ المأمومِ عَنْهُ، اختلافٌ عَلَيْهِ.
وذهبَ عطاءٌ، والأوزاعيُّ، والشَّافعيُّ، وأبو ثورٍ، وهو روايةٌ قَويةٌ عَنِ الإمامِ أحمدَ: أنَّهَا تصحُّ، واختارهَا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ مُسْتَدِلِّينَ بحَدِيثِ مُعاذٍ الذي معنا، فإنَّه كانَ يُصَلِّي الفريضةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي مَسجدِهِ، ثم يَخرجُ إلَى قومِهِ فيُصَلِّي بهم.
ومِنَ المعلومِ أنَّ إحدَى صَلاَتَيْه نفلٌ، فلا بد أنْ تَكُونَ الأخيرةُ لوجوهٍ كثيرةٍ.
منهَا: أنَّ الأُولىَ التي بَرئتْ بهَا الذِّمَّةُ، هي صَلاَتُه مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنهَا: أنَّه ما كانَ لِيجعلَ صَلاَتَهُ مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي مسجدهِ هي النَّافِلَةَ، وصَلاَتَه مع قومِهِ في مسجدِهم هي الفريضةَ.
وقد أطالَ ابنُ حزمٍ في نصرِ هذا القولِ، ودحْضِ حُججِ أصحابِ الرأيِ الأَوَّلِ بما ليس عَلَيْهِ مِنْ مزيدٍ.
ومن أدلَّةِ مُصحِّحي صَلاَةِ المفترضِ خَلْفَ المُتنَفِّلِ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " صَلَّى بطائفةٍ مِنْ أصحابِهِ في صَلاَةِ الخوفِ رَكْعَتَيْنِ، ثم سَلَّم، ثم صَلَّى بالطائفةِ الأخرَى رَكْعَتَيْنِ، ثم سَلَّم ". رواه أبو داودَ. وهو في صَلاَتِهِ الثانيةِ مُتنفِّلٌ.
وليس في هذا مُخالفةٌ للإمامِ؛ لأنَّ المُخالفةَ المنهِيَّ عنهَا في الْحَدِيثِ أنْ لا يُقتدَى بِهِ في تنفُّلاتِهِ ورَفْعِه وخَفْضِه، فإنَّه
بعدَ أنْ قَالَ: (( إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ))
قَالَ: (( فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَلاَ تُكَبِّرُوا حتَّى يُكَبِّرَ )).إلخ.
ومِنَ المؤيِّدينَ لهذا القولِ، شيخُنا عبدُ الرحمنِ بنُ ناصرٍ بنِ سَعديٍّ، رحمَه اللَّهُ.

ما يُؤخذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
جوازُ إمامةِ المُتنفِّلِ بالمُفترضِ، وأنه ليس مِنَ المخالفةِ المنهيِّ عنهَا.
جوازُ إمامةِ المفترضِ بالمتنفِّلِ بطريق الأولَى.
جوازُ إعادةِ الصَّلاَةِ المكتوبةِ، لا سيَّما إذ كانَ هناكَ مصلحةٌ، بأنْ يكونَ قَارئاً فيؤمُّ غيرَ قارئٍ، أو يَدخلَ المسجدَ بعدَ أنَّ صَلَّى منفرداً فيجدُ جماعةً فصَلاَتُه معهم تُكملُ نَقصَ صَلاَتِه الأولَى وحدَه.


بابُ حُكْمِ ستْرِ أحدِ العاتقَيْنِ في الصَّلاةِ
الحديثُ الثالثَ عشرَ بعدَ المائةِ
113- عن أبي هريرةَ رضيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ: (( لاَ يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ )) .

(113) المعنَى الإجماليُّ:
المطلوبُ مِنَ الْمُصَلِّي أنْ يكونَ علَى أحسنِ هيئةٍ، فقد قَالَ تَعَالَى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) سورةُ الأعرافِ، آيةُ 31.
ولذا فإنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّ الْمُصَلِّيَ أنَّ لا يُصَلِّيَ وعَاتِقاهُ مكشوفانِ مع وجودِ ما يَستُرهما، أو أحدُهما بِهِ، ونهَى عَنِ الصَّلاَةِ في هذِهِ الحالِ وهو واقفٌ بينَ يديِ اللَّهِ يُناجِيه.

اختلافُ الْعُلَمَاءِ:
ذهبَ الإمامُ أحمدُ في المشهورِ عَنْهُ، إلَى وجوبِ سَتْرِ أحدِ العَاتِقين في الصَّلاَةِ، مع وجوبِ السُّترةِ، أخذاً بظاهرِ هذا الْحَدِيثِ الذي معنا ,
وبعضُ أصحابِه خَصَّ ذلك بالفرضِ دونَ النَّافِلَةِ، فإنْ صَلَّى بلا سُترةٍ لعاتِقَيه أو أحدِهما لم تَصِحَّ صَلاَتُه.
وذهبَ الْجُمْهُورُ ـ ومنهم الأَئِمَّةُ الثلاثةُ ـ إلَى الاستحبابِ، وأنَّ النَّهْيَ في الْحَدِيثِ ليس للتحريمِ، مُسْتَدِلِّينَ بما في الصَّحِيحَينِ عَنْ جابرٍ " وإنْ كانَ ضيِّقاً اتَّزَرَ بِهِ " وحمَلوا النَّهْيَ علَى التنزيِهِ والكراهةِ.

الأحكامُ:
النَّهْيُ عَنِ الصَّلاَةِ بدونِ سترِ العاتقِ. قَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: سترُ العاتقِ لحقِّ الصَّلاَةِ، فيجوزُ لَهُ كشفُ مَنكِبَيه خارجَ الصَّلاَةِ، وحينئذٍ فقد يَسترُ الْمُصَلِّي في الصَّلاَةِ ما يجوزُ إبداؤه في غيرِ الصَّلاَةِ.
استحبابُ سترِهِما أو أحدِهما في الصَّلاَةِ مع وجودِ السُّتْرةِ.
استحبابُ كونِ الْمُصَلِّي علَى هيئةٍ حَسنةٍ.

بابُ ما جاءَ في الثَّوْمِ والبَصَلِ ونحْوِهما
الحديثُ الرابعَ عشرَ بعدَ المائةِ
114- عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضيَ اللَّهُ عنهُما، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قالَ: (( مَنْ أَكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً، فَلْيَعْتَزلْنَا - أَوْ لِيَعْتَزلْ مَسْجِدَنَا - وَلَيْقْعُدْ فِي بَيْتِهِ )).
وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيه خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحاً. فَسَأَلَ؟ فأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فقالَ: " قَرِّبُوها " - إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كانَ معه - فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قالَ: " كُلْ، فإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي " .

(114) غريبُ الْحَدِيثِ:
"قِدرٌ ": هو الوعاءُ الذي يُطبخُ فِيهِ.
"خَضِراتٌ ": واحدَتُه خَضِرةٌ وهي البَقْلةِ الخضراءِ.
"البُقولُ ": جَمعُ بَقْلٍ وهو كلُّ نباتٍ اخضَرَّتْ بِهِ الأرضُ. عَنِ ابْنِ فارسٍ.
" أُناجِي ": قَالَ ابْنُ فارسٍ اللغويُّ: النجْوَى: السِّرُّ بينَ اثنيْنِ. ونَاجَيْتُه: اخْتصَصْتُه بِمُناجَاتي. ويريدُ بذلك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُناجاتَه مع رَبِّهِ، واختصاصَه رَبَّه بذلك.
***

الحديثُ الخامسَ عشرَ بعدَ المائةِ
115- عن جابرٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قالَ: (( مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، أَو الثُّومَ، أَو الْكُرَّاثَ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فإنَّ الملائِكَةَ تَتأذَّى مِمَّا يَتَأذَّى مِنْهُ بَنُو الإنسانِ )) وفى روايةٍ (( بَنُوْ آدَمَ )) (115).

(115) المعنَى الإجماليُّ:
المطلوبُ أنْ يكونَ الْمُصَلِّي علَى أحسنِ رائحةٍ وأطيبِهَا، لا سيَّما إذا كانَ يُريدُ أداءَ صَلاَتِهِ في المجامعِ العامَّةِ.
ولذا أمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ أكلَ ثُوماً أو بصَلًا نِيئَيْن أنْ يَتجَنَّبَ مساجدَ الْمُسْلِمِين، ويُؤدِّي صَلاَتَه في بيتِهِ، حتَّى تذهبَ عَنْهُ الرائحةُ الكريهةُ، التي يتأذَى منهَا المصَلُّونَ والملائكةُ المُقرَّبون.
ولما جِيءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِدْرٍ مِنْ خضراواتٍ وبُقولٍ، فوجَد لهَا ريحاً كريهةً، أمَرَ أنْ تُقرَّبَ إلَى مَنْ حَضر عندَه مِنْ أصحابِهِ، فلما رأَى الحاضرُ كَراهتَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهَا، ظَنَّ أنَّهَا مُحرَّمةٌ، فَتردَّدَ في أَكْلِهَا، فأخبَرَه أنَّهَا ليست بمُحرَّمةٍ، وأنه لم يَكرَهْهَا لأجلِ حُرمتِهَا ,
وأمرَهُ بالأكلِ وأخبَرَه أنَّ المانعَ لَهُ مِنْ أَكْلِهَا أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ اتصالٌ مع ربِّهِ، ومناجاةٌ لا يَصلُ إِلَيْها أحدٌ، فيجبُ أنْ يكونَ علَى أحسنِ حالٍ، لدَى القُربِ مِنْ ربِّهِ، جل وعلا.

الأحكامُ مِنَ الحَدِيثينِ:
النَّهْيُ عَنْ إتيانِ المساجدِ لمَن أكلَ ثُوماً، أو بصَلًا، أو كُرَّاثاً.
يلحقُ بهذهِ الأشياءِ، كلُّ ذي رائحةٍ كريهةٍ تتأذَّى منهَا الملائكةُ أو المُصلُّونَ.
كرائحةِ التَّبغِ الذي يَتعاطاهُ المُدخِّنونَ، فعَلَى مَنْ ابْتُلِيَ بِهِ ألا يَتعاطاهُ عندَ ذهَابِهِ إلَى المسجدِ وأنْ يُنظِّفَ أسنانَهُ وفَمَه حتَّى يَقطعَ رائحَتَهُ أو يخفِّفَهَا.
كراهةُ أكلِ هذهِ الأشياءِ لمَن عَلَيْهِ حضورُ الصَّلاَةِ في المسجدِ، لئلا تَفوتَه الْجَمَاعةُ في المسجدِ، ما لم يَأكلْهَا حِيلةً عَنْ إسقاطِ الحضورِ فَيحرُمُ.
حِكمةُ النَّهْيِ عَنْ إتيانِ المساجدِ، ألا يتأذَّى بهَا الملائكةُ والمُصَلُّونَ.
النَّهْيُ عَنِ الإيذاءِ بكُلِّ وسيلةٍ. وهذهِ وسيلةٌ منصوصٌ عليهَا، فالإلحاقُ بهَا صحيحٌ مَقِيسٌ.
أنَّ الامتناعَ عَنْ أكْلِ الثومِ ونحوِه ليس لتحْريمِه بدليلِ أمرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأكْلِهَا، فامتناعُهُ عَنْ أكْلِهَا لا يدلُّ علَى التحريمِ.

فائدةٌ:
قد استدلَّ بعضُ الْعُلَمَاءِ علَى إباحةِ أكْلِ هذهِ الأشياءِ، بأنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعةِ فَرضُ كفايةٍ ,
ووجْهُ الدلالةِ، أنَّهَا لو كانت فَرضَ عينٍ، لوجَبَ اجتنابُ هذهِ الأشياءِ المانعةِ مِنْ حضورِ الْجَمَاعةِ في المساجدِ.
والحقُّ أنَّه لا وجْهَ لاستدلالِهِم؛ لأنَّ فِعلَ المُباحاتِ، التي يَترتَّبُ عليهَا سقوطُ واجبٍ لا بأسَ بهَا، ما لم يُتَّخذْ حِيلةً لإسقاطِ ذلك الواجبِ، كالسَّفرِ المُباحِ في رمضانَ، فإنَّه يُبِيحُ الفِطرَ في نهارِ رمضانَ، ولا حرَجَ في ذلك ما دامَ أنَّه لم يُسافرْ لِيتوصَّلَ بِهِ إلَى الإفطارِ.


  #6  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 09:20 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي إحكام الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد

بابٌ جـامـعٌ


112 - الحديثُ الأولُ: عَنْ أَبِي قَتادةَ بنِ ربعيٍّ الأنصاريِّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: (( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكمْ المسْجِدَ، فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ)).

الكلامُ عَلَيْهِ مِن وجوهٍ :
أحدُها: فِي حكمِ الرَّكعتينِ عندَ دخولِ المسجدِ. وجمهورُ العلماءِ عَلَى عدمِ الوجوبِ لهمَا، ثُمَّ اختلفُوا، فظاهرُ مذهبِ مالكٍ أَنَّهمَا مِنَ النَّوافلِ، وقيلَ: إنَّهمَا مِنَ السُّننِ، وَهَذَا عَلَى اصطلاحِ المَالِِكِيِّةِ فِي الفرقِ بَيْنَ النوافلِ والسُّننِ والفضائلِ. ونُقلَ عنْ بعضِ النَّاسِ أنهمَا واجبتانِ تمسُّكًا بالنَّهيِ عن الجلوسِ قبلَ الرَّكوعِ. وَعَلَى الرِّوايةِ الأُخرَى - التي وردتْ بصيغةِ الأمرِ - يكونُ التَّمسُّكُ بصيغةِ الأمرِ، وَلاَ شكَّ أنَّ ظاهرَ الأمرِ الوجوبُ، وظاهرَ النَّهيِ التحريمُ , ومَن أزالهُمَا عن الظَّاهرِ فَهُوَ محتاجٌ إِلَى الدَّليلِ، ولعلَّهمْ يفعلونَ فِي هَذَا مَا فعلُوا فِي مسألةِ الوترِ، حَيْثُ استدلُّوا عَلَى عدمِ الوجوبِ فيهِ بقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ عَلَى العبادِ ))، وقولِ السَّائلِ: هلْ عليَّ غيرُهُنَّ؟ قَالَ(( لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوعَ ))، فحملُوا لذلكَ صيغةَ الأمِر عَلَى النَّدبِ، لدلالِة هَذَا الحديثِ عَلَى عدمِ وجوبِ غيرِ الخمسِ، إلاَّ أنَّ هَذَا يُشكلُ عليهمْ بإيجابِهم الصَّلاةَ عَلَى الميَّتِ، تمسُّكًا بصيغةِ الأمرِ.
الوجهُ الثَّانِي: إِذَا دخلَ المسجدَ فِي الأوقاتِ المكرُوهةِ، فهلْ يركعُ أم لاَ؟ اختلفُوا فيهِ، فمذهبُ مالكٍ أنَّه لاَ يركعُ، والمعروفُ مِن مذهبِ الشَّافعيِّ وأصحابِهِ أنَّه يركعُ، لأنَّها صلاةٌ لَهَا سببٌ، وَلاَ يُكرهُ فِي هَذِهِ الأوقاتِ مِن النَّوافلِ إلاَّ مَا لاَ سبَبَ لَهُ، وحُكيَ وجهٌ آخرُ: أنهُ يكرهُ، وطريقةٌ أُخرَى أنَّ محلَّ الخلافِ إِذَا قَصدَ الدخولَ فِي هَذِهِ الأوقاتِ لأجلِ أنْ يصلِّّّيَ فيهَا، أمَّا غيرُ هَذَا الوجهِ فَلاَ، وَأَمَّا مَا حكاهُ القاضِي عياضٌ عنِ الشَّافعيِّ فِي جوازِ صلاتهَا بعدَ العصرِ مَا لمْ تصفرَّ الشَّمسُ، وبعدَ الصُّبحِ مَا لم يُسفرْ، إذْ هيَ عندَهُ مِنَ النَّوافلِ التي لَهَا سببٌ، وإنَّمَا يمنعُ فِي هَذِهِ الأوقاتِ مَا لاَ سببَ لَهُ، ويُقْصدُ ابتداءً، لقولهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَحَرَّوا بصلاتِكمْ طلوعَ الشَّمسِ وَلاَ غُروبَهَا)) انتهى كلامُه. هَذَا لاَ نعرفُه مِن نَقْلِ أصحابِ الشَّافعيِّ عَلَى هَذِهِ الصُّورةِ، وأقربُ الأشياءِ إِلَيْهِ مَا حكيناهُ منْ هَذِهِ الطريقةِ، إلاَّ أنَّهُ لَيْسَ هُوَ إياهُ بعينِه.
وَهَذَا الخلافُ فِي هَذِهِ المسألةِ ينبنِي عَلَى مسألةٍ أصوليَّةٍ مشكلةٍ، وَهُوَ مَا إِذَا تعارضَ نصَّانِ، كلُّ واحدٍ منهمَا بالنِّسبةِ إِلَى الآخرِ عامٌّ مِن وجهٍ، خاصٌّ مِن وجهٍ، ولستُ أعنِي بالنَّصينِ ههنَا مَا لاَ يحتملُ التأويلَ، وتحقيقُ ذَلِكَ أولاً يتوقَّفُ عَلَى تصويرِ المسألةِ، فنقولُ: مدلولُ أحدِ النَّصينِ إنْ لمْ يتناولْ مدلولَ الآخرِ وَلاَ شَيْئًا مِنْهُ، فهمَا مُتَبَايِنَانِ، كلفظةِ ((المشركينَ)) و ((المؤمنينَ)) مثلاً، وإن كَانَ مدلولُ أحدِهمَا يتناولُ كلَّ مدلولِ الآخرِ، فهمَا متساويانِ، كلفظةِ ((الإنسانِ)) و ((البشرِ)) مثلاً، وإنْ كَانَ مدلولُ أحدِهما يتناولُ كلَّ مدلولِ الآخرِ، ويتناولُ غيرَه، فالمتناولُ لَهُ ولغيرِه، عامٌّ من كلِّ وجهٍ بالنِّسبةِ إِلَى الآخرِ، والآخرُ خاصٌّ من كلِّ وجهٍ، وإن كَانَ مدلولُهمَا يجتمعُ فِي صورةٍ، وينفردُ كلُّ واحدٍ منهمَا بصورةٍ أَوْ صورٍ، فكلُّ واحدٍ منهمَا عامٌّ منْ وجهٍ خاصٌّ من وجهٍ.
فَإِذَا تقرَّرَ هَذَا، فقولهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (ِ( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكمْ المسْجِدَ )) إلخ مَعَ قولهِ: (( لاَ صلاةَ بعدَ الصُّبحِ )) مِن هَذَا القبيلِ، فإنَّهمَا يجتمعانِ فِي صورةٍ، وَهُوَ مَا إِذَا دخلَ المسجدَ بعدَ الصُّبحِ أَوْ العصرِ، وينفردانِ أَيْضًا، بأنْ توجدَ الصَّلاةُ فِي هَذَا الوقتِ من غيرِ دخولِ المسجدِ، ودخولُ المسجدِ فِي غيرِ ذَلِكَ الوقتِ، فَإِذَا وقعَ مثلُ هَذَا فالإشكالُ قائمٌ؛ لأنَّ أحدَ الخصمينِ لَوْ قَالَ: لاَ تُكرهُ الصَّلاةُ عندَ دخولِ المسجدِ فِي هَذِهِ الأوقاتِ؛ لأنَّ هَذَا الحديثَ دلَّ عَلَى جوازِها عندَ دخولِ المسجدِ - وَهُوَ خاصٌّ بالنسبةِ إِلَى الحديثِ الأوَّلِ المانعِ من الصَّلاةِ بعدَ الصُّبحِ - فأُخِصَّ قولُه: ((لاَ صلاةَ بعدَ الصُّبحِ)) بقولِه: (( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكمْ المسْجِدَ )) فلخصمِهِ أنْ يقولَ: قولُهُ: (( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكمْ المسْجِدَ)) عامٌّ بالنسبةِ إِلَى الأوقاتِ .
فالحاصلُ أنَّ قولَه، عَلَيْهِ الصلاَةُ والسَّلاَمُ ,: (( إِذَا دَخَلَ أَحَدُكمْ المسْجِدَ )) خاصٌّ بالنسبةِ إِلَى هَذِهِ الصَّلاةِ - أعنِي الصَّلاةَ عندَ دخولِ المسجدِ - عامٌّ بالنِّسبةِ إِلَى هَذِهِ الأوقاتِ .
وقولهُ: ((لاَ صلاةَ بعدَ الصُّبحِ)) خاصٌّ بالنسبةِ إِلَى هَذَا الوقتِ، عامٌّ بالنسبةِ إِلَى الصَّلواتِ، فوقعَ الإِشكالُ مِنْ ههنَا.
وذهبَ بعضُ المُحقِّقينَ فِي هَذَا إِلَى الوقفِ، حَتَّى أتيَ ترجيحٌ خارجٌ بقرينةٍ أَوْ غيرِهَا، فَمَن ادَّعَى أحدَ هذينِ الحُكْمَيْنِ - أعني الجوازَ أَو المنعَ فَعَلَيْهِ إبداءُ أمرٍ زائدٍ عَلَى مجرَّدِ الحديثِ.
الوجهُ الثالثُ: إِذَا دخلَ المسجدَ، بعدَ أن صلَّى ركعتيِ الفجرِ فِي بيتهِ، فهلْ يركعُهما فِي المسجدِ؟ اختلفَ قولُ مالكٍ فيهِ، وظاهرُ الحديثِ يقتضِي الركوعَ، وقيلَ: إنَّ الخلافَ فِي هَذَا مِن جهةِ معارضةِ هَذَا الحديثِ للحديثِ الَّذِي رووهُ منْ قولِه، عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ((لاَ صلاةَ بعدَ الفجرِ إلاَّ ركعتيِ الفجرِ)) وَهَذَا أضعَفُ مِنَ المسألةِ السَّابقةِ، لأنهُ يُحتاجُ فِي هَذَا إِلَى إثباتِ صحَّةِ هَذَا الحديثِ حَتَّى يقعَ التعَّارضُ؛ فإنَّ الحديثينِ الأوَّلينِ فِي المسألةِ الأُولَى صحيحانِ، وبعدَ التَّجاوزِ عنْ هَذِهِ المطالبةِ وتقديرِ تسليمِ صحتِه يعودُ الأمرُ إِلَى مَا ذكرناه مِن تَعَارُضِ أمرينِ، يصيرُ كلُّ واحدٍ منهمَا عامًّا مِن وجهٍ خاصًّا مِن وجهٍ، وَقَدْ ذكرناهُ.
الوجهُ الرَّابعُ: إِذَا دخلَ مُجتازًا، فهلْ يؤمرُ بالرُّكوعِ؟ خفَّفَ ذَلِكَ مالكٌ. وعندِي أنَّ دلالةَ هَذَا الحديثِ لاَ تتناولُ هَذِهِ المسألةَ، فإنَّا إنْ نظرنَا إِلَى صيغةِ النَّهيِ، فالنَّهيُ يتناولُ جلوسًا قبلَ الرُّكوعِ، فَإِذَا لمْ يحصل الجلوسُ أصلاً لم يَفْعَلِ المنهيَّ، وإنْ نظرنَا إِلَى صيغةِ الأمرِ، فالأمرُ توجَّه بركوعٍ قبلَ جلوسِ، فَإِذَا انتفيا معًا لمْ يخالفِ الأمَرَ.
الوجهُ الخامسُ: لفظةُ ((المسجدِ)) تتناولُ كلَّ مسجدٍ، وَقَدْ أخرجوا عَنْهُ المسجدَ الحرامَ، وجعلُوا تحيَّتَهُ الطوافَ، فإنْ كَانَ فِي ذَلِكَ خلافٌ، فلمخالفِهمْ أنْ يستدلَّ بِهَذَا الحديثِ، وإنْ لمْ يكنْ، فالسَّببُ فِي ذَلِكَ النَّظرُ إِلَى المعنَى، وَهُوَ أنَّ المقصودَ، افتتاحُ الدُّخولِ فِي محلِّ العبادةِ بعبادةٍ، وعبادةُ الطَّوافِ تحصِّلُ هَذَا المقصودَ، مَعَ أنَّ غيرَ هَذَا المسجدِ لاَ يشارُكه فيهَا، فاجتمعَ فِي ذَلِكَ تحصيلُ المقصودِ مَعَ الاختصاصِ، وأيضًا فَقَدْ يؤخذُ ذَلِكَ مِن فعلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّتِه، حِيْنَ دخلَ المسجدَ، فابتدأَ بالطوافِ عَلَى مَا يقتضيهِ ظاهرُ الحديثِ، واستمرَّ عَلَيْهِ العملُ، وَذَلِكَ أخصُّ مِن هَذَا العمومِ، وأيضًا فَإِذَا اتَّفقَ أنْ طافَ ومشَى عَلَى السُّنةِ فِي تعقيبِ الطوافِ بركعتيهِ، وجرينَا عَلَى ظاهِر اللفظِ فِي الحديثِ، فَقَدْ وفينَا بمقتضاهُ.
الوجهُ السَّادسُ: إِذَا صلَّى العيدَ فِي المسجدِ، فهلْ يُصلِّي التَّحيةَ عندَ الدُّخولِ فيهِ؟ اختُلفَ فيهِ، والظَّاهرُ فِي لفظِ هَذَا الحديثِ أنَّهُ يُصلِّي، لكنْ جاءَ فِي الحديثِ:أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لمْ يُصَلِّ قبلَها وَلاَ بعدَها . أعنِي: صلاةَ العيدِ، والنبيُّ لم يصلِّ العيدَ فِي المسجدِ، وَلاَ نُقِلَ ذَلِكَ، فَلاَ معارضةَ بَيْنَ الحديثينِ، إلاَّ أنْ يقولَ قائلٌ، ويَفهمَ فاهمٌ أنَّ تركَ الصَّلاةِ قبلَ العيدِ وبعدَها من سُنَّةِ صلاةِ العيدِ مِن حَيْثُ هيَ هيَ وَلَيْسَ لكونِهَا واقعةً فِي الصحراءِ أَثَّر فِي ذَلِكَ الحكمِ، فحينئذٍ يقعُ التَّعارضُ، غيرَ أنَّ ذَلِكَ يتوقَّفُ عَلَى أمرٍ زائدٍ، وقرائنَ تُشعرُ بِذَلِكَ، فإنْ لم يوجدْ فالاتِّبَاعُ أولَى استحبابًا، أعنِي فِي تركِ الرُّكوعِ فِي الصَّحْراءِ، وفعلِه فِي المسجدِ للمسجدِ لاَ للعيدِ.
الوجهُ السَّابعُ: مَن كثُرَ تردُّدِه إِلَى المسجدِ، وتكرَّرَ، هلْ يتكرَّرُ لَهُ الرُّكوعُ مأمورًا بِهِ؟ قَالَ بعضُهم: لاَ، وقاسهُ عَلَى الحطَّابينَ والفكَّاهينَ المتردِّدِينَ إِلَى مكَّةَ فِي سقوطِ الإِحرامِ عنهُمْ إِذَا تكرَّرَ تردُّدُهمْ. والحديثُ يقتضِي تكرُّرَ الرُّكوعِ بتكرُّرِ الدُّخولِ. وقولُ هَذَا القائلِ يتعلَّقُ بمسألةٍ أصوليَّةٍ، وَهُوَ تخصيصُ العمومِ بالقياسِ، وللأصوليينَ فِي ذَلِكَ أقوالٌ متعدِّدةٌ.
***

113 - الحديثُ الثَّانِي:
عَنْ زَيدِ بنِ أَرقمَ، قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صاحِبَهُ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلاَةِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {وقُومُوا للهِ قانِتِينَ} [البقرةِ: 238] فأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، ونُهِينَا عَنِ الْكلامِ.

الكلامُ عَلَيْهِ من وجوهٍ :
الأوَّلُ: هَذَا اللفظُ أحدُ مَا يستدلُّ بِهِ عَلَى النَّاسخِ والمنسوخِ، وَهُوَ ذكرُ الرَّاوي لتقدُّمِ أحدِ الحُكمينِ عَلَى الآخرِ، وَهَذَا لاَ شكَّ فيهِ، وَلَيْسَ كقولِه: هَذَا منسوخٌ من غيرِ بيانِ التَّاريخِ، فإنَّ ذَلِكَ قَدْ ذكرُوا فيهِ أنَّه لاَ يكونُ دليلاً لاحتمالِ أنْ يكونَ الحكمُ بالنَّسخِ عن طريقٍ اجتهاديٍّ مِنْهُ.
الثَّانِي: ((القنوتُ)) يُستعملُ فِي معنَى الطَّاعةِ، وَفِي معنَى الإِقرارِ بالعبودِيَّةِ، والخضوعِ والدعاءِ، وطولِ القيامِ والسُّكوتِ. وَفِي كلامِ بعضِهمْ مَا يُفهمُ مِنْهُ أنهُ موضوعٌ للمشتَرَكِ. قَالَ القاضِي عياضٌ: وقيلَ: أصلُه الدَّوامُ عَلَى الشَّيْءِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا أصلَه، فمُديِمُ الطاعةِ قانِتٌ، وَكَذَلِكَ الدَّاعي والقائمُ فِي الصَّلاةِ، والمُخِلصُ فيهَا، والسَّاكتُ فيهَا كلُّهمْ فاعلونَ للقنوتِ، وَهَذَا إشارةٌ إِلَى مَا ذكرناهُ مِن استعمالهِ فِي معنًى مشتركٍ، وَهَذِهِ طريقةُ طائفةٍ من المتأخِّرينَ مِنْ أهلِ العصرِ وَمَا قاربهُ، يقصدونَ بِهَا دفعَ الاشتراكِ اللفظيِّ والمجازِ عن موضوعِ اللفظِ، وَلاَ بأسَ بِهَا إنْ لمْ يقمْ دليلٌ عَلَى أنَّ اللفظَ حقيقةٌ فِي معنًى معيَّنٍ أَوْ معانٍ، ويستعملُ حَيْثُ لاَ يقومُ دليلٌ عَلَى ذَلِكَ.
الثالثُ: لفظُ الرَّاوِي يُشعرُ بأنَّ المرادَ بالقنوتِ فِي الآيةِ السُّكوتُ، لما دلَّ عَلَيْهِ لفظُ ((حَتَّى)) التَّي للغايةِ، والفاءُ التي تُشعرُ بتعليلِ مَا سبقَ عليهَا لمَا يأتِي بعدَها، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ ((القنوتَ)) فِي الآيةِ الطَّاعةُ، وَفِي كلامِ بعضِهمْ مَا يُشعرُ بحملِه عَلَى الدُّعاءِ المعروفِ، حَتَّى جَعَلَ ذَلِكَ دليلاً عَلَى أنَّ الصَّلاةَ الوُسطَى هيَ الصبحُ، من حَيْثُ قرانُها بالقنوتِ، والأرجحُ فِي هَذَا كلِّه حملُه عَلَى مَا أشعرَ بِهِ كلامُ الرَّاوِي، فإنَّ المشاهدينَ للوحيِ والتنزيلِ يعلَمونَ، بسببِ النُّزولِ والقرائنِ الْمُحْتَفَّةِ بهِ مَا يُرشدُهمْ إِلَى تعيينِ المحتملاتِ، وبيانِ المُجمَلاتِ، فهمْ فِي ذَلِكَ كلِّه كالناقلينَ للفظٍ يدلُّ عَلَى التَّعلَيلِ والتَّسبيبِ، وَقَدْ قالُوا: إنَّ قولَ الصَّحابيِّ فِي الآيةِ: ((نزلتْ فِي كذَا)) يتنزَّلُ منزلةَ المُسندِ.
الرَّابعُ: قَوْلُهُ: فأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ ونهِينَا عَنِ الْكلامِ، يقتضِي أنَّ كلَّ مَا يُسمَّى كلامًا فَهُوَ منهيٌّ عَنْهُ، وَمَا لاَ يُسمَّى كلامًا فدلالةُ الحديثِ قاصرةٌ فِي النَّهيِ عَنْهُ.
وَقَدْ اختلفَ الفقهاءُ فِي أشياءَ: هلْ تُبطلُ الصَّلاةَ أم لاَ؟ كالنفخِ، والتَّنَحْنُحِ بغيرِ علَّةٍ وحاجةٍ، وكالبكاءِ، وَالَّذِي يقتضيهِ القياسُ أنَّ مَا سُمِّيَ كلامًا فَهُوَ داخلٌ تحتَ اللَّفظِ، وَمَا لاَ يُسمَّى كلامًا، فمنْ أراَدَ إِلحَاقَهُ بِهِ كَانَ ذَلِكَ بطريقِ القياسِ، فليُراعَ شرطُهُ فِي مساواةِ الفرعِ للأصلِ، أَوْ زيادتِهِ عَلَيْهِ، واعتبرَ أصحابُ الشَّافعيِّ ظهورَ حرفينِ، وإنْ لمْ يكونَا مُفهَمَيْنِ، فإنَّ أقلَّ الكلامِ حرفانِ.
ولقائِلٍ أنْ يقولَ: لَيْسَ يلزمُ من كونِ الحرفينِ يتألَّفُ منهمَا الكلامُ أنْ يكونَ كلُّ حرفينِ كلامًا، وَإِذَا لمْ يكنْ كلامًا فالإِبطالُ بِهِ لاَ يكونُ بالنَّصِّ، بلْ بالقياسِ عَلَى مَا ذكرنَا، فليراعَ شرطُهُ، اللهمَّ إلاَّ أنْ يُريدَ بالكلامِ كلَّ مركَّبٍ مُفْهِمًا كَانَ أَوْ غير مفهِمٍ، فحينئذٍ يندرجُ المتنازَعُ فيهِ تحتَ اللَّفظِ، إلاَّ أنَّ فيهِ بحثًا.
والأقربُ أنْ ينظرَ إِلَى مواقِع الإِجماعِ والخلافِ، حَيْثُ لاَ يُسمَّى الملفوظُ بِهِ كلامًا، فَمَا أُجمِعَ عَلَى إلحاقهِ بالكلامِ ألحقناهُ بِهِ، وَمَا لمْ يُجمعْ عَلَيْهِ - مَعَ كونِهِ لاَ يُسمَّى كلامًا - فيقوَى فيه عدمُ الإِبطالِ، ومِنْ هَذَا استُبعِدَ القولُ بإلحاقِ النَّفخِ بالكلامِ، ومِن ضعيفِ التَّعليلِ فيهِ قولُ مَنْ علَّلَ البطلانَ بِهِ بأنَّهُ يشبهُ الكلامَ، وَهَذَا ركيكٌ مَعَ ثبوتِ السُّنَّةِ الصَّحيحةِ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفخَ فِي صلاةِ الكسوفِ فِي سجودهِ، وَهَذَا البحثُ كلُّه فِي الاستدلالِ بتحريمِ الكلامِ.
***

114 - الحديثُ الثَّالثُ:
عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، وأبي هريرةَ، رضيَ اللهُ عنهمْ، عنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قَالَ: ((إِذَا اشْتدَّ الْحرُّ فأبرِدُوا بالصَّلاةِ، فإنَّ شدَّةَ الْحرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ )).

الكلامُ عَلَيْهِ من وجوهٍ :
أحدُها: ((الإِبرادُ )) أنْ تؤخَّرَ الصلاةُ عنْ أوَّلِ الوقتِ مقدارَ مَا يظهرُ للحيطانِ ظلٌّ، وَلاَ يحتاجُ إِلَى المشِي فِي الشَّمسِ، هَذَا مَا ذكرهُ بعضُ مصنِّفِي الشَّافعيَّةِ، وعندَ المالكيَّةِ يُؤخَّرُ الظُّهرُ إِلَى أن يَصيرَ الفيءُ أكثرَ مِن ذراعٍ.
الثَّانِي: اختلفَ الفقهاءُ فِي الإِبرادِ بالظُّهرِ فِي شدَّةِ الحرِّ هلْ هُوَ سنَّةٌ أَوْ رُخصةٌ، وعبَّرَ بعضُهمْ بأنْ قَالَ: هل الأفضلُ التَّقديمُ أَوْ الإِبرادُ؟ وبَنْوا عَلَى ذَلِكَ أنَّ منْ صلَّى فِي بيتِه أَوْ مشَى فِي ركِنٍ إِلَى المَسجدِ هلْ يُسنُّ لَهُ الإِبرادُ؟ فإنْ قُلْنَا: إنهُ رُخصةٌ لم يسنَّ، إذ لاَ مشقَّةَ عَلَيْهِ فِي التَّعجيلِ، وإنْ قُلْنَا: إنه سُنَّةٌ أبردَ، والأقربُ أنه سُنَّةٌ، لورود الأمر بِهِ، مَعَ مَا اقترنَ بِهِ من العلةِ، وَهُوَ أنَّ (( شدَّةَ الْحرِّ مِنْ فَيْح جَهَنَّم))، وَذَلِكَ مناسبٌ للتأخيرِ، والأحاديثُ الدالَّةُ عَلَى فضيلةِ التَّعجيلِ عامَّةٌ أَوْ مطلقةٌ، وَهَذَا خاصٌّ، وَلاَ مبالاةَ - مَعَ مَا ذكرناهُ مِن صيغةِ الأمرِ ومناسبةِ العلَّةِ - بقولِ مَن قَالَ: إنَّ التعجيلَ أفضلُ، لأنهُ أكثرُ مشقَّةً، فإنَّ مراتبَ الثَّوابِ إِنَّمَا يُرجعُ فيهَا إِلَى النُّصوصِ، وَقَدْ يترجَّحُ بعضُ العبادةِ الخفيفةِ عَلَى مَا هُوَ أشقُّ مِنْهَا بحسبِ المصالحِ المتعلِّقةِ بِهَا.
الثالثُ: اختلفَ أصحابُ الشَّافعيِّ فِي الإِبرادِ بالجمعةِ، عَلَى وجهينِ، وَقَدْ يؤخذُ مِن الحديثِ الإِبرادُ بِهَا من وجهينِ :
أحدُهما: لفظةُ ((الصَّلاةِ)) فإنها تطلقُ عَلَى الظُّهرِ والجمعةِ.
والثَّاني: التَّعليلُ، فإنه مُستمِرٌّ فيهَا، وَقَدْ وُجِّهَ القولُ بأنهُ لاَ يُبردُ بِهَا، لأنَّ التَّبْكيرَ سُنَّةٌ فيهَا، وجوابُ هَذَا مَا تقدَّمَ، وبأنهُ قَدْ يحصلُ التأذِّي بحرِّ المسجدِ عندَ انتظارِ الإِمامِ.
***

115 - الحديثُ الرَّابعُ:
عنْ أنسِ بنِ مالكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نسِيَ صلاةً فلْيُصلِّها إِذَا ذكَرهَا، لاَ كفَّارةَ لَهَا إلاَّ ذَلِكَ (وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري) [طه: 14])).
ولِمُسْلمٍ: ((مَنْ نسِيَ صلاةً، أَوْ نامَ عَنْهَا، فكفَّارتُها أنْ يُصَلِّيَهَا إِذاَ ذكَرَهَا)).

الكلامُ عَلَيْهِ مِن وجوهٍ:
أحدُها: أنَّه يجبُ قضاءُ الصلاةِ إِذَا فاتتْ بالنَّومِ أَوْ النِّسيانِ، وَهُوَ منطوقُه، وَلاَ خلافَ فيهِ.
الثَّانِي: اللفظُ يقتضِي توجُّهَ الأمرِ بقضائِها عندَ ذكرِها، لأنهُ جعلَ الذِّكرَ ظرفًا للمأمورِ بِهِ، فيتعلَّقُ الأمرُ بالفعلِ فيهِ، وَقَدْ قُسِّمَ الأمرُ فيهِ عندَ بعضِ الفقهاءِ بَيْنَ مَا تُركَ عمدًا، فيجبُ القضاءُ فيهِ عَلَى الفورِ، وقَطعَ بِهِ بَعْضُ مصنِّفي الشَّافعيَّةِ، وبينَ مَا تُركَ بنومٍ أَوْ نسيانٍ، فيُستحبُّ قضاؤهُ عَلَى الفورِ، وَلاَ يجبُ. واستدلَّ عَلَى عدمِ وجوبهِ عَلَى الفورِ فِي هَذِهِ الحالةِ بأنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لمَّا استيقظَ - بعدَ فواتِ الصَّلاةِ بالنَّومِ - أخَّرَ قضاءَها، واقتادُوا رواحلَهُم، حتَّى خرجُوا مِنَ الوادِي، وَذَلِكَ دليلٌ عَلَى جوازِ التَّأخيرِ، وَهَذَا يتوقَّفُ عَلَى أنْ لاَ يكونَ ثَمَّ مانعٌ مِن المُبادرةِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ المانعَ أَنّ الشَّمسَ كانتْ طالعةً، فأخَّرَ القضاءَ حَتَّى تَرتفعَ، بناءً عَلَى مذهبِ مَنْ يَمنعُ القضاءَ فِي هَذَا الوقتِ. وردَ بِذَلِكَ [ بأنَّها كانتْ صُبحَ اليومِ، وأبو حنيفةَ يجيزُها فِي هَذَا الوقتِ] وبأنه جاءَ فِي الحديثِ: ((فَمَا أيقظهُمْ إلاَّ حرُّ الشَّمسِ))، وَذَلِكَ يكونُ بالارتفاعِ، وَقَدْ يُعتقدُ مانعٌ آخرُ، وَهُوَ مَا دلَّ عَلَيْهِ الحديثُ، من أنَّ الوادِي بِهِ شيطانٌ، وأخَّرَ ذَلِكَ للخروجِ عَنْهُ، وَلاَ شكَّ أنَّ هَذَا علةٌ للتَّأخيرِ والخروجِ، كَمَا دلَّ عَلَيْهِ الحديثُ، ولكنْ هلْ يكونُ ذَلِكَ مانعًا، عَلَى تقديرِ أنْ يكونَ الواجبُ المبادرةَ؟ فِي هَذَا نظرٌ، وَلاَ يمتنعُ أن يكونَ مانعًا عَلَى تقديرِ جوازِ التأخيرِ.
الثالثُ: قَدْ يَستدلُّ بِهِ من يقولُ بأنَّ مَن ذَكرَ صلاةً منسيةً - وَهُوَ فِي صلاةٍ - أنْ يقطعَها إِذَا كانتْ واجبةَ التَّرتيبِ مَعَ التي شرعَ فيهَا، ولمْ يقلْ ذَلِكَ المالكيَّةُ مُطْلَقًا، بلْ لهمْ فِي ذَلِكَ تفصيلٌ مذهبيٌّ بَيْنَ الفَذِّ، والإِمامِ، والمأمومِ، وبينَ أنْ يكونَ الذِّكرُ بعدَ ركعةٍ أَوْ لاَ، فَلاَ يستمرُّ الاستدلالُ بِهِ مطلقًا، وَحَيْثُ يُقَالُ بالقطعِ، فوجهُ الدليلِ مِنْهُ أنَّهُ يَقتضِي الأمرَ بالقضاءِ عندَ الذِّكرِ، ومِن ضَرورةِ ذَلِكَ قطعُ مَا هُوَ فِيْهِ، ومَن أرادَ إخراجَ شيءٍ مِن ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أن يُبيِّنَ مانعًا مِنْ إعمالِ اللفظِ فِي الصُّورةِ التي يُخرجُها، وَلاَ يخلُو هَذَا التَّصرُّفُ من نوعِ جدلٍ، واللهُ أعلمُ.
الرَّابعُ: قَوْلهُ، عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلام: ((لاَ كفارةَ لَهَا إلاَّ ذَلِكَ))، يحتملُ أنْ يُرادَ بِهِ نفيُ الكفارةِ الماليةِ، كَمَا وقعَ فِي أمورٍ أُخرَ، فإنهُ لاَ يَكتفِي فيهَا إلاَّ بالإِتيانِ بِهَا، ويحتملُ أنْ َيرادَ بِهِ أنَّه لاَ بدلَ لقضائِهَا، كَمَا تقعُ الأبدالُ فِي بعضِ الكفَّاراتِ، ويحتملُ أنْ يرادَ بِهِ أنهُ لاَ يكفِي فيهَا مجرَّدُ التوبةِ والاستغفارِ، ولابدَّ من الإِتيانِ بِهَا.
الخامسُ: وجوبُ القضاءِ عَلَى العامدِ بالتَّركِ من طريقِ الأَوْلَى، فإنهُ إِذَا لمْ تقعِ المسامحةُ - مَعَ قيامِ العُذرِ بالنَّومِ والنسيانِ - فلأنْ لاَ تقعَ مَعَ عدمِ العُذرِ أولَى.
وحكَى القاضِي عياضٌ عن بعضِ المشايخِ أنَّ قضاءَ العامدِ مستفادٌ مِن قولِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ: ((فليصلِّها إِذَا ذكرها)) لأنهُ بغفلتِه عنهَا وعمدهِ كالنَّاسي، ومتَى ذَكرَ تركهُ لَهَا لزمَه قضاؤُها، وَهَذَا ضعيفٌ، لأنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ: ((فليصلِّها إِذَا ذكرها)) كلامٌ مبنيٌّ عَلَى مَا قبلهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ((مَنْ نامَ عن صلاةٍ أَوْ نسيَها))، والضميرُ فِي قولهِ: ((فليصلِّها إِذَا ذكرها)) عائدٌ إِلَى الصَّلاةِ المنسيةِ، أَوْ التي يقعُ النَّومُ عنهَا، فكيفَ يُحملُ ذَلِكَ عَلَى ضدِّ النَّومِ والنِّسيانِ، وَهُوَ الذِّكرُ واليقظةُ؟ نعمْ لَوْ كَانَ كلامًا مبتدأً، مثلَ أنْ يُقَالَ: مَن ذكرَ صلاةً فليصلِّها إِذَا ذكرَها، لكانَ مَا قِيلَ مُحتملاً، عَلَى تَمَحُّلِ مجازٍ.
وَأَمَّا قولُهُ: ((كالنَّاسي)) إنْ أرادَ بِهِ أنَّه مثلُه فِي الحكمِ فَهُوَ دَعوَى، وَلَوْ صحَّتْ لكانَ ذَلِكَ مستفادًا مِن اللَّفظِ،بل مِنْ القياسِ، أَوْ مِنْ مفهومِ الخِطاب الَّذِي أشرنا إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ مِن الاستنادِ إِلَى قولهِ: ((كفارةٌ لَهَا إلاَّ ذَلِكَ))، والكفارةُ إِنَّمَا تكونُ من الذَّنبِ، والنائمُ والنَّاسِي لاَ ذنبَ لهُمَا، وَإِنَّمَا الذنبُ للعامدِ - لاَ يصحُّ أَيْضًا لأنَّ الكلامَ كلَّه مسوقٌ عَلَى قولهِ: ((مَنْ نامَ عن صلاةٍ أَوْ نسيَها))، والضمائرُ عائدةٌ إليهَا، فَلاَ يجوزُ أنْ يُخرَجَ عن الإِرادةِ، ولا أنْ يُحملَ اللفظُ مَا لاَ يحتملُه، وتأويلُ لفظِ ((الكفارةِ)) هنا أقربُ وأيسرُ مِن أنْ يُقَالَ: إنَّ الكلامَ الدالَّ عَلَى الشَّيءِ مدلولٌ بِهِ عَلَى ضدِّهِ، فإنَّ ذَلِكَ ممتنعٌ، وَلَيْسَ ظهورُ لفظِ ((الكفارةِ)) فِي الإِشعارِ بالذَّنبِ بالظُّهورِ القويِّ الَّذِي يُصادَمُ بِهِ النصُّ الجليُّ، فِي أنَّ المرادَ الصَّلاةُ المنسيةُ، أَوْ التي وقعَ النومُ عنهَا، وَقَدْ وردتْ كفارةُ القتلِ خطأً مَعَ عدمِ الذَّنبِ، وكفارةُ اليمينِ باللهِ مَعَ استحبابِ الْحَنْثِ فِي بعضِ المواضعِ، وجوازِ اليمينِ ابتداءً وَلاَ ذنبَ.
***

116 - الحديثُ الخامسُ:
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ: أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشاءَ الآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلاَةَ.

اختلفَ الفقهاءُ فِي جوازِ اختلافِ نيةِ الإِمامِ والمأمومِ عَلَى مذاهبَ، أوسعِها الجوازُ مطلقًا، فيجوزُ أنْ يَقتديَ المفترضُ بالمتنفِّلِ وعكسُه، والقاضِي بالمُؤدِّي وعكسُه، سواءٌ اتَّفقتِ الصلاتانِ أم لاَ، إلاَّ أنْ تختلفَ الأفعالُ الظاهرةُ، وَهَذَا مذهبُ الشافعيِّ.
الثَّانِي: مقابلُهُ، وَهُوَ أضيقُها، وَهُوَ أنه لاَ يجوزُ اختلافُ النِّياتِ، حَتَّى لاَ يصليَ المتنفِّلُ خلفَ المفترضِ.
والثالثُ: أوسطُها، أنَّه يجوزُ اقتداءُ المتنفِّلِ بالمفترضِ، لاَ عكسُه، وَهَذَا مذهبُ أبي حنيفةَ ومالكٍ، ومَن نقلَ عَنْ مذهبِ مالكٍ مثلَ المذهبِ الثَّانِي، فَلَيْسَ بجيِّدٍ، فليُعلَمْ ذَلِكَ.
وحديثُ معاذٍ: استُدِلَّ بِهِ عَلَى جوازِ اقتداءِ المفترضِ بالمتنفِّلِ.
وحاصلُ مَا يُعتذَرُ بِهِ عَن هَذَا الحديثِ، لمن منعَ ذَلِكَ مِن وجوهٍ:
أحدُها: أَنَّ الاحتجاجَ بِهِ مِن بابِ تركِ الإِنكارِ مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشرطُه علمُه بالواقعةِ، وجازَ أنْ لاَ يكونَ علمَ بِهَا، وأنهُ لَوْ علمَ لأنكرَ.
وأُجيبَ عَلَى ذَلِكَ بأنَّه يَبعُدُ - أَوْ يمتنعُ - فِي العادةِ أنْ لاَ يعلَمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مِن عادةِ معاذٍ، واستدلَّ بعضُهم - أعني المانعينَ - بروايةِ عَمرِو بنِ يحيى المازنيِّ عن معاذِ بنِ رفاعةَ الزَّرقيِّ: أنَّ رجلاً مِن بني سلِمةَ يُقَالُ لَهُ: سُليمٌ، أتى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إنَّا نظلُّ فِي أعمالِنَا، فنأتي حِيْنَ نُمسِي فنُصلِّي، فيأتي معاذُ بنُ جبلٍ، فينادِي بالصلاةِ فَنَأْتِيهُ، فيطوِّل علينَا، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا معاذُ، لاَ تكنْ أَوْ لاَ تكونَنَّ – فَتَّانًا، إمَّا أنْ تصلِّيَ معِي، وَإمَّا أنْ تُخفِّفَ عن قومِكَ)) قَالَ: فقولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذٍ يدلُّ عَلَى أنهُ عندَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يفعلُ أحدَ الأمرينِ، إمَّا الصلاةُ معهُ أَوْ بقومِه، وأنه لمْ يكنْ يجمعُهما، لأنَّهُ قَالَ: ((إمَّا أَنْ تصليَ معِي)) أيْ وَلاَ تُصلِّ بقومِكَ ((وإمَّا أَنْ تخفِّفَ بقومِكَ)) أيْ وَلاَ تُصلِّ معي.
الوجْهُ الثَّانِي فِي الاعتذارِ: أنَّ النِّيةَ أمرٌ باطنٌ لاَ يُطَّلعُ عَلَيْهِ إلاَّ بالإِخبارِ منَ النَّاوِي، فجازَ أنْ تكونَ نيتُه مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفرضَ، وجازَ أن تكونَ النَّفْلَ، ولم يَرِدْ عن معاذٍ مَا يدلُّ عَلَى أحدهِمَا، وَإِنَّمَا يُعرفُ ذَلِكَ بإخبارِه.

وأُجيبَ عن ذَلِكَ بوجوهٍ :
أحدُها: أنه قَدْ جاءَ فِي الحديثِ روايةٌ ذكرَها الدارقطنيُّ فيها: ((فهيَ لهمْ فريضةٌ وَلَهُ تطوُّعٌ)).
الثَّانِي: أنَّهُ لاَ يُظنُّ بمعاذٍ أنهُ يتركُ فضيلةَ فرضِهِ خلفَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأتِي بِهَا مَعَ قومِه.
الثالثُ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا أُقيمتِ الصَّلاةُ فَلاَ صلاةَ إلاَّ المكتوبةُ))، فكيفَ يُظنُّ بمعاذٍ - بعدَ سماعِ هَذَا - أنْ يصليَ النافلةَ مَعَ قيامِ المكتوبةِ؟
واعتَرضَ بعضُ المالكيَّةِ عَلَى الوجهِ الأوَّلِ بوجهينِ:
أحدُهما: لاَ يُساوي أنْ يُذكرَ، لشدَّةِ ضعفِه.
والثاني: أنَّ هَذَا الكلامَ - أعني قولهَ: ((فهيَ لهمْ فريضةٌ وَلَهُ تطوُّعٌ)) - لَيْسَ مِن كلامِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيحتملُ أنْ يكونَ مِن كلامِ الرَّاوي، بناءٍ عَلَى ظنٍّ أَوْ اجتهادٍ، وَلاَ يُجزَمُ بِهِ، وذكرَ معنَى هَذَا أَيْضًا بعضُ الحنفيَّةِ ممَّنْ لَهُ شِرْبٌ فِي الحديثِِ، وَقَالَ مَا حاصلُه: إنَّ ابنَ عيينةَ رَوى هَذَا الحديثَ أَيْضًا، ولم يذكرْ هَذِهِ اللفظةَ، وَالَّذِي ذكرَها هُوَ ابنُ جريجٍ، فيَحتملُ أنْ تكونَ مِن قولهِ، أَوْ قولِ مَن روى عَنْهُ، أَوْ قولِ جابرٍ.
وَأَمَّا الجوابُ الثَّانِي: فَفِيْهِ نوعُ ترجيحٍ، ولعلَّ خُصومَهمْ يقولونَ فِيْه:ِ إنَّ هَذَا إِنَّمَا يكونُ عندَ اعتقادهِ الجوازَ لذلكَ، فلمَ قُلتمْ بأنهُ كَانَ يعتقدُه؟
وَأَمَّا الجوابُ الثَّالِثُ : فيُمكنُ أنْ يُقَالَ فِيْهِ: إنَّ المفهومَ أن لا يصلِّيَ نافلةً غيرَ الصَّلاةِ التي تُقامُ، لأنَّ المحذورَ وقوعُ الخلافِ عَلَى الأئمَّةِ، وَهَذَا المحذورُ منتفٍ مَعَ الاتِّفاقِ فِي الصَّلاة المُقامةِ، ويؤيِّدُ هَذَا الاتفاقُ مِن الجمهورِ عَلَى جوازِ صلاةِ المتنفِّلِ خلفَ المُفترضِ، وَلَوْ تناولَهُ النَّهيُ المستفادُ مِنَ النَّفيِ لما جازَ جوازًا مطلقًا.
الوجهُ الثَّالثُ مِنَ الاعتذارِ: ادِّعاءُ النَّسخِ، وَذَلِكَ مِن وجهينِ:
أحدُهما: أنَّه يحتملُ أنْ يكونَ ذَلِكَ حِيْنَ كانتِ الفرائضُ تُقامُ فِي اليومِ مرَّتيِن، حَتَّى نُهيَ عَنْهُ، وَهَذَا الوجهُ منقولُ المعنَى عنِ الطحاويِّ، وَعَلَيْهِ اعتراضٌ منْ وجهينِ: أحدهما: طلبُ الدَّليلِ عَلَى كونِ ذَلِكَ كَانَ واقعًا - أعني صلاةَ الفريضةِ فِي اليومِ مرَّتينِ - فلابدَّ مِن نقلٍ فِيْهِ.
والثاني: أنهُ إثباتٌ للنَّسخِ بالاحتمالِ.
الوجه الثَّانِي: مِمَّا يدلَّ عَلَى النَّسخِ، مَا أشارَ إِلَيْهِ بعضُهم، دونَ تقريرٍ حَسَنٍ لَهُ، ووجهُ تقريرِه أنَّ إسلامَ معاذٍ مُتقدِّمٌ، وَقَدْ صَلَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدهُ سنتينِِ مِنَ الهجرةِِ صلاةَ الخوفِِ غيرَ مرَّةٍ، عَلَى وجهٍ وقعَ فِيْهِ مخالفةٌ ظاهرةٌ بالأفعالِ المنافيةِ للصَّلاةِ فِي غيرِ حالةِ الخوفِ.
فَيُقَالُ: لَوْ جازَ صلاةُ المفترضِ خلفَ المتنفِّلِ لأمكنَ إيقاعُ الصَّلاةِ مرتينِ عَلَى وجهٍ لاَ يقعُ فِيْهِ المنافاةُ والمفسداتُ فِي غيرِ هَذِهِ الحالةِ، وَحَيْثُ صُلِّيَتْ عَلَى هَذَا الوجهِ، مَعَ إمكانِ دفعِ المُفسداتِ - عَلَى تقديرِ جوازِ صلاةِ المفترضِ خلفَ المتنفِّلِ - دلَّ عَلَى أنَّهُ لاَ يجوزُ ذَلِكَ، وبعدَ ثُبوتِ هَذِهِ الملازمةِ يبقَى النَّظرُ فِي التاريخِ، وَقَدْ أُشيرَ بتقدُّم إسلامِ معاذٍ إِلَى ذَلِكَ، وَفِيْهِ مَا تقدَّمتِ الإشارةُ إِلَيْهِ.
الوجهُ الرابعُ مِنْ الاعتذارِ عن الحديثِ: مَا أشارَ إِلَيْهِ بعضُهم مِنْ أنَّ الضَّرورةَ دعتْ إِلَى ذَلِكَ، لقلَّةِ القُرَّاءِ فِي ذَلِكَ الوقتِ، وَلَمْ يكنْ لَهُمْ غنىً عن معاذٍ، وَلَمْ يكنْ لمعاذٍ غنىً عن صلاتهِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يحتملُ أن يُريدَ بِهِ قائلُه معنى النَّسخِ، فيكونُ كَمَا تقدَّمَ. ويحتملُ أنْ يريدَ أنَّه مِمَّا أبيحَ بحالةٍ مخصوصةٍ، فيرتفعُ الحكمُ بزوالِها، وَلاَ يكونُ نسخًا، وَعَلَى كلِّ حالٍ فَهُوَ ضعيفٌ لعدمِ قيامِ الدليلِ عَلَى تعيُّنِ مَا ذَكرَهُ هَذَا القائلُ عِلَّةً لِهَذَا الفعلِ، ولأنَّ القَدْرَ المُجزئَ مِنَ القراءةِ فِي الصلاةِ لَيْسَ حَفَظَتُه بقليلٍ، وَمَا زادَ عَلَى الحاجةِ من زيادةِ القراءةِ، فَلاَ يصلُحُ أَنْ يكونَ سببًا لارتكابِ ممنوعٍ شرعًا، كَمَا يقولهُ هَذَا المانعُ.
فَهَذَا مجامعُ مَا حضرَ مِن كلامِ الفريقينِ، مَعَ تقريرٍ لبعضِه فيمَا يتعلَّقُ بِهَذَا الحديثِ، وَمَا زادَ عَلَى ذَلِكَ مِن الكلامِ عَلَى أحاديثَ أُخرَ، والنظرُ فِي الأقيسةِ، فَلَيْسَ مِنْ شرطِ هَذَا الكتابِ.
***

117 - الحديثُ السَّادسُ:
عَنْ أنسِ بنِ مالكٍ، قَالَ: كُنَّا نُصلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ.

الكلامُ عَلَيْهِ مِنْ وجوهٍ:
أحدُها: أنَّهُ يقتضِي تقديمَ الظُّهرِ فِي أوَّلِ الوقتِ مَعَ الحَرِّ، ويُعارضُهُ مَا قدمناهُ فِي أَمْرِ الإِبرادِ عَلَى مَا قِيلَ، فمَن قَالَ: إِنَّ الإِبرادَ رخصةٌ، فَلاَ إشكالَ عَلَيْهِ، لأنَّ التقديمَ حينئذٍ يكونُ سُنَّةً، والإِبرادُ جائزٌ، وَمَن قَالَ: إنَّ الإِبرادَ سنَّةٌ، فَقَدْ ردَّدَ بعضهُم القولَ فِي أنْ يكونَ منسوخًا، أعنِي التقديمَ فِي شدَّةِ الحرِّ، أَوْ يكونَ عَلَى الرُّخصةِ، ويحتملُ عندِي أنْ لاَ يكونَ ثَمَّةَ تعارُضٌ؛ لأنَّا إنْ جعلنَا الإِبرادَ إِلَى حَيْثُ يبقَى ظِلٌّ يُمشى فِيْهِ إِلَى المسجدِ، أَوْ إِلَى مَا زادَ عَلَى الذِّراعِ، فَلاَ يبعدُ أنْ يبقَى مَعَ ذَلِكَ حَرٌّ يحتاجُ معهُ إِلَى بسطِ الثَّوبِ، فَلاَ تعارضَ.
الثَّانِي: فِيْهِ دليلٌ عَلَى جوازِ استعمالِ الثِّيابِ وغيرهَا فِي الحيلولةِ بَيْنَ المصلِّي وَبَيْنَ الأَرضِ لاتِّقائهِ بِذَلِكَ حرَّ الأَرضِ وبردَها.
الثالثُ: فِيْهِ دليلٌ عَلَى أنَّ مباشرةَ مَا باشرَ الأَرضَ بالجبهةِ واليدينِ هُوَ الأصلُ، فإِنهُ عَلَّقَ بسطَ الثَّوبِ بعدمِ الاستطاعةِ، وَذَلِكَ يُفهمُ مِنْهُ أنَّ الأصلَ والمعتادَ عدمُ بسطِه.
الرَّابعُ: استدلَّ بِهِ بعضُ مَن أجازَ السُّجودَ عَلَى الثَّوبِ المُتَّصلِ بالمُصلِّي، وَهُوَ يحتاجُ إِلَى أمرينِ: أحدُهُما: أنْ تكونَ لفظةُ: ((ثَوْبَهُ)) دالَّةً عَلَى المتَّصلِ بِهِ، إمَّا منْ حَيْثُ اللفظُ أَوْ مِن أمرٍ خارجٍ عَنْهُ، [ونعنِي بالأمرِ الخارجِ قلةَ الثِّيابِ عِنْدَهُمْ، وَمِمَّا يدلُّ عَلَيْهِ مِن جهةِ اللَّفظِ قَولهُ: ((بسطَ ثَوْبَهُ، فسجَدَ عَلَيْهِ)) يدلُّ عَلَى أنَّ البسطَ معقَّبٌ بالسجودِِ، لدلالةِ الفاءِ عَلَى ذَلِكَ ظَاهرًا].
والثَّانِي: أنْ يدلَّ دليلٌ عَلَى تناولِه لمحلِّ النِّزاعِ، إِذْ مَنْ منعَ السُّجودَ عَلَى الثَّوبِ المتَّصلِ بِهِ يَشترطُ فِي المنعِ أن يكونَ متحرِّكًا بحركةِ المصلِّي، وَهَذَا الأمرُ الثَّانِي سهلُ الإِثباتِ، لأنَّ طولَ ثيابِهم إِلَى حَيْثُ لاَ تتحرَّكُ بالحركةِ بعيدٌ.
***

118 - الحديثُ السَّابعُ:
عَنْ أَبِي هُرَيرةَ، رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يُصَلِّي أَحدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقهِ مِنْهُ شَيْءٌ)).

هَذَا النَّهيُ معلَّلٌ بأمرينِ:
أحدُهُما: أنَّ فِي ذَلِكَ تعرِّيَ أعالي البدنِ، ومخالفةَ الزينةِ المسنونةِ فِي الصَّلاةِ.
وَالثَّانِي: أنَّ الَّذِي يفعلُ ذَلِكَ إمَّا أن يَشغلَ يدهُ بإمساكِ الثَّوبِ أَوْ لاَ، فإنْ لَمْ يشغلْ خِيفَ سقوطُ الثَّوبِ وانكشافُ العورةِ، وَإِنْ شغلَ كَانَ فِيْهِ مفسدتانِ:
إِحداهُمَا: أنهُ يمنعُه مِن الإِقبالِ عَلَى صلاتهِ والاشتغالِ بِهَا.
الثانيةُ: أنهُ إِذَا شغلَ يدَهُ فِي الركوعِ والسجودِ لاَ يُؤمنُ مِنْ سقوطِ الثَّوبِ، وانكشافِ العورةِ.
ونُقلَ عَنْ بعضِ العُلماءِ القولُ بظاهرِ هَذَا الحديثِ، وَمنعَ الصَّلاةَ فِي السَّراويلِ، والإِزارِ وحدَهُ، لأنَّهَا صلاةٌ فِي ثوبٍ واحدٍ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مخصوصٌ بغيرِ حالةِ الضَّرورةِ، والأشهرُ عِنْدَ الفُقهاءِ خلافُ هَذَا المذهبِ، وجوازُ الصَّلاةِ بِمَا يستُرُ العورةَ، وعارضُوا هَذَا بِقَولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجابرٍ فِي الثَّوبِِ: ((وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فاتَّزِرْ بِهِ))، وَيُحملُ هَذَا النَّهيُ عَلَى الكراهةِ، واللهُ أعلمُ.
***

119 - الحديثُ الثَّامنُ:
عَنْ جَابرِ بْنِ عبدِ اللهِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ أَكَلَ ثُوْمًا أَوْ بَصَلاً، فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ)) وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيْهِ خُضَرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ؟ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيْهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: ((قَرِّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِي))، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: ((كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي)).

الكلامُ عَلَيْهِ مِنْ وجوهٍ:
أحدُها: هَذَا الحديثُ صريحٌ فِي التخلُّفِ عَنْ الجماعةِ فِي المساجدِ بسببِ أكلِ هَذِهِ الأمورِ، واللازمُ عَنْ ذَلِكَ أحدُ أمرينِ: إمَّا أَنْ يكونَ أكلُ هَذِهِ الأمورِ مباحًا، وَصلاةُ الجماعةِ غيرُ واجبةٍ عَلَى الأعيانِ،
أَوْ تكونَ الجماعةُ واجبةً عَلَى الأعيانِ، ويمتنعُ أكلُ هَذِهِ الأشياءِ إِذَا آذتْ، إِنْ حَملنَا النَّهيَ عَن القُرْبَانِ عَلَى التحريمِ، وجمهورُ الأمَّةِ عَلَى إِباحةِ أكلِهَا، لِقولِه عَلَيْهِ الصلاَةُ والسَّلاَمُ: ((لَيْسَ لِي تحريمُ مَا أحلَّ اللهُ، ولكنِّي أكرهُهُ))، ولأنهُ عُلِّلَ بِشَيْءٍ يَختصُّ بِهِ، وَهُوَ قَولهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلاَمُ: ((فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي))، ويلزمُ مِنْ هَذَا أَنْ لاَ تكونَ الجماعةُ فِي المسجدِ واجبةً عَلَى الأعيانِ.
وتقريرُه أنْ يُقَالَ: أَكْلُ هَذِهِ الأمورِ جائزٌ بِمَا ذكرناهُ، وَمِنْ لوازِمِه تركُ صلاةِ الجماعةِ فِي حقِّ آكلِها للحديثِ، ولازمُ الجائزِ جائزٌ، فتركُ الجماعةِ فِي حقِّ آكلِها جائزٌ، وَذَلِكَ يُنافِي الوجوبَ عَلَيْهِ.
ونُقِلَ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِر - أَوْ بَعضِهم - تحريمُ أكلِ الثَّومِ، بِناءً عَلَى وجوبِ صلاةِ الجماعةِ عَلَى الأعيانِ.
وتقريرُ هَذَا أنْ يُقَالَ: صلاةُ الجماعةِ واجبةٌ عَلَى الأعيانِ، وَلاَ تتمُّ إلاَّ بتركِ أكلِ الثَّومِ لِهَذَا الحديثِ، وَمَا لاَ يتمُّ الواجبُ إلاَّ بِهِ فَهُوَ واجبٌ، فتركُ أكلِ الثَّومِ واجبٌ.
الثَّانِي: قولهُ: ((مسجدَنَا)) تعلَّقَ بِهِ بعضُهمْ فِي أَنَّ هَذَا النَّهيَ مخصوصٌ بِمَسجدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَرُبَمَا يتأكَّدُ ذَلِكَ بِأَنهُ كَانَ مَهْبِطَ المَلَكِ بالوحِي، والصَّحيحُ المشهورُ خلافُ ذَلِكَ، وأنهُ عامٌّ، لِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّواياتِ: ((مسَاجِدَنَا))، وَيكونُ ((مسجدَنَا)) للجنسِ، أَوْ لِضَربِِ المثالِ، فَإِنَّ هَذَا النَّهيَ مُعلَّلٌ إمَّا بتأذِّي الآدميينَ، أَوْ بتأذِّي الملائكةِ الحاضرينَ، وَذَلِكَ يُوجدُ فِي المساجدِ كلِّها.
الثالثُ: قولُهُ: ((وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيْهِ خُضَرَاتٌ))، قِيلَ: إن لفظةَ ((القِدْرِ)) تصحيفٌ، وَأَنَّ الصَّوابَ ((بِبَدْرٍ)) بالباءِ، والبَدْرُ الطَّبَقُ، وَقَدْ وردَ ذَلِكَ مُفسَّرًا فِي موضعٍ آخرَ، وَمِمَّا استُبعدَ بِهِ لفظةُ ((القِدْرِ)) أَنهَا تُشعرُ بالطَّبخِ، وَقَدْ وردَ الإِذنُ بأكلهَا مطبوخةً، وَأَمَّا ((البَدْرُ)) الَّذِي هُوَ الطبقُ، فَلاَ يُشعرُ كونُهَا فِيْهِ بالطَّبخِ، فجازَ أَنْ تكونَ نِيْئةً، فَلاَ يُعارضُ ذَلِكَ الإِذنَ فِي أكلِهَا مطبوخةً، بل رُبَّمَا يُدَّعَى أنَّ ظاهرَ كونِهَا فِي الطَّبقِ أنْ تكونَ نِيئَةً.
الرابعُ: قولُهُ: ((قرِّبوهَا إِلَى بَعْضِ أَصحابِي))، يقتضِي مَا ذكرناهُ مِنْ إِباحةِ أكلِها، وترجيحِ مذهبِ الجمهورِ.
الخامسُ: قَدْ يستدلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ أكلَ هَذِهِ الأمورِ مِنَ الأعذارِ المُرخِّصةِ فِي تركِ حضورِ الجماعةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الكلامَ خرجَ مخرجَ الزَّجرِ عَنْهَا، فَلاَ يقتضِي ذَلِكَ أنْ يكونَ عُذرًا فِي تركِِ الجماعةِ، إلاَّ أنْ تدعوَ إِلَى أكلِها ضرورةٌ، ويبعدُ هَذَا مِن وجهِ تقريبهِ إِلَى بَعْضِ أصحابِه، فَإِنَّ ذَلِكَ يُنافِي الزَّجرَ، وَأَمَّا حديثُ جابرٍ الأخيرُ وَهُوَ:
***

120 - الحديثُ التَّاسعُ:
عَنْ جَابرٍ، أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ أَكَلَ الثُّوْمَ وَالْبَصَلَ وَالكُرَّاثَ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الملائِكة تَتأَذَّى مِمَّا يَتأَذَّى مِنْهُ الإِنْسَانُ)).
وَفِي رِوايةٍ: ((بَنُو آدَمَ)).
فَفِيْهِ زيادةُ ((الكُرَّاثِ)) وَهُوَ فِي مَعنَى الأولِ، إِذْ العلَّةُ تشملُه.
وَقَدْ توسَّعَ القائسونَ فِي هَذَا، حَتَّى ذَهَبَ بَعضُهم إِلَى أَنَّ مَنْ بِهِ بَخرٌ، أَوْ جُرحٌ مِنْهُ ريحٌ يَجرِي هَذَا المجرَى، كَمَا أَنَّهُمْ تَوسَّعُوا، وأجرَوْا حكمَ المَجامِعِ التى لَيْسَتْ بِمَساجدَ - كمُصلَّى العيدِ، ومجمعِ الولائمِ - مَجْرَى المساجدِ لِمُشَاركتهَا فِي تَأذِّي النَّاسِ بِهَا، وَقَولُهُ عَلَيْهِ الصلاَةُ والسَّلاَمُ: ((فَإِنَّ الملائكةَ تَتأَذَّى))، إِشارةٌ إِلَى التعليلِ بِهَذَا، وَقَولُهُ فِي حديثٍ آخرَ: ((يُؤذينَا بِريحِ الثَّومِ)) يقتضِي ظاهرُه التعليلَ بِتَأَذِّي بَنِي آدَمَ، وَلاَ تنافيَ بَيْنَهُما، والظاهرُ أَنَّ كلَّ واحدٍ مِنْهُمَا عِلةٌ مُستقلَّةٌ.


  #7  
قديم 12 ذو القعدة 1429هـ/10-11-2008م, 09:21 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (مفرغ)

المتن:

باب جامع
117- عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).
118- عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
119- عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم).


الشرح:
هذه الأحاديث الثلاثة يتعلق :
الأول منها بتحية المسجد،
والثاني بالكلام في الصلاة،
والثالث بتأخير صلاة الظهر عند شدة الحر.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، وهذا جاء في عدة أحاديث تدل على شرعية وتأكد صلاة ركعتين لمن دخل المسجد وهو على وضوء، وهو طاهر، وهذا محل وفاق بين أهل العلم إذا كان الوقت ليس وقت نهي كالضحى والظهر والليل.
أما إذا كان الوقت وقت نهي كبعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر، فاختلف العلماء في ذلك على قولين: أصحهما وأصوبهما أنه يفعلها ولو في وقت النهي، لأنها من ذوات الأسباب كصلاة الطواف بعد العصر والصبح وكصلاة الكسوف، وكقضاء الفوائت، تفعل في كل وقت، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، وهذا يعم جميع الأوقات، وهكذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما رأى رجلا دخل وهو يخطب يوم الجمعة وجلس قال: (قم فصل ركعتين)، والناس مشغولون بسماع الخطبة، ومع هذا أمره بأن يصلي ركعتين،وقال: (إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فليصل ركعتين وليتجوز فيهما).
وهذا كله إذا كان الداخل للمسجد على وضوء، أما إذا كان ليس على وضوء فإنه يجلس، ولا يجوز له أن يصلي وهو على غير وضوء، لأن من شرط الصلاة الطهارة.

الحديث الثاني: حديث زيد بن أرقم الأنصاري رضي الله عنه قال: كنا نتكلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، يكلم أحدنا صاحبه في حاجته حتى نزل قوله تعالى: (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وهكذا جاء عن ابن مسعود أنهم كانوا يكلمون النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ثم إنه قال: (إن الله قد أحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة)، كانوا يسلمون عليه فيرد عليهم يقول سبحان الله، سبحان الله، حتى ينتبه الذي يريد أن يكلمه أنه في الصلاة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إذا ناب أحدكم شيء في صلاته فليسبح الرجال، ولتصفق النساء). أما الكلام فممنوع في الصلاة حتى يسلم، وهذا مما استقرت عليه الشريعة، وكان ناسخا لما قبله من إباحة الكلام في الحاجة.

والحديث الثالث: حديث ابن عمر وأبي هريرة في شدة الحر، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم). وكان في بعض أسفاره يأمرهم بالإبراد حتى يرى فيء التلول وهم في السفر ثم يصلون صلاة الظهر، هذا هو السنة، في المدن والقرى وكذلك المسافر أيضا، السنة للجميع أن يؤخروا الصلاة بعض الشيء يخف الحر بعض الشيء، ومعلوم أن شدة الحر تتأخر إلى ما بعد صلاة العصر، لكن المقصود أنه يؤخرها بعض الشيء حتى يكثر الظل في الأسوار وحتى يسهل للناس المشي إلى المساجد في ظل الجدران بعد ما تميل الشمس إلى جهة الغرب كثيراً ويتيسر لهم الظل، وينكسر الحر والشدة، ولهذا قال أنس رضي الله عنه: كنا نصلي مع النبي في شدة الحر حتى إذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته في الأرض بسط ثوبه وسجد عليه، فدل على أنهم يصلون وهناك حر شديد، لكن بعد ما ينكسر بعض الشيء، ويؤخر بعض الوقت، مثل نصف ساعة، أو ساعة، أو ما يقارب ذلك.


المتن:
في باب جامع
120- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)، وتلا قوله تعالى: (وأقم الصلاة لذكري)، ولمسلم: (من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها).
121- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة.
122- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.


الشرح:
هذه الأحاديث الثلاثة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه ينبغي للمؤمن إذا فاتته الصلاة أو نام عنها أو نسيها أن يبادر بالقضاء، لقوله تعالى: (وأقم الصلاة لذكري)، ولهذا لما سئل عليه الصلاة والسلام عن ذلك أجاب: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)، إذا عرض للمسلم نسيان أو نوم عن أي صلاة فليبادر بقضائها من حين يتذكر أو من حين يستيقظ، فجرا أو ظهرا أو عصرا أو مغربا أو عشاء، والواجب عليه عند النوم أن يتثبت في الأمر وأن يعمل ما يلزم مما يعينه على الاستيقاظ في الوقت كالساعة، أو تكليف الأهل بأن يوقظوه، حتى لا ينام عنها، سواء كانت الفجر أو غيرها، وليس له التساهل في هذا، بل يجب عليه أن يعمل ما يلزم حتى يتيسر له اليقظة وقت الصلاة، وقد يسر الله الساعات الآن وفيها إعانة على هذا الأمر، إذا جعل المنبه على الوقت، فإن هذا مما يعينه، وكذلك البكرة وعدم السهر، فإنه إذا سهر قد لا يسمع صوت الساعة من شدة النوم، فينبغي أن يبكر حتى يعينه ذلك على اليقظة وأداء الصلاة في وقتها مع المسلمين.

الحديث الثاني –حديث صلاة معاذ بأصحابه- كان يصلي بأصحابه العشاء بعدما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا يدل على أنه لا بأس أن يصلي الإنسان الفريضة مع إمام ثم يصليها بجماعته نافلة له وهي لهم فريضة، وكان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلم ويستفيد، ثم يرجع ويصلي بأصحابه صلاة العشاء، والنبي عليه الصلاة والسلام أقره على هذا، فدل ذلك على أنه لا بأس أن يكون الإمام متنفلا والجماعة مفترضون، لا حرج في ذلك، ومن هذا أنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف صلى بطائفة ركعتين في بعض أسفاره في بعض غزواته، ثم صلى بالآخرين ركعتين، فكانت الأولى له فريضة والثانية له نافلة، ولأصحابه فريضة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذا كله يدل على جواز مثل هذا، والنية هي العمدة، والأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
الصحابة رضي الله عنهم في شدة الحر في الأرض الحارة، فيبسط أحدهم ثوبه فيسجد عليه، فلا حرج في ذلك، سواء كانت الأرض باردة أو حارة، وسواء بسط رداءه أو سجادة، أو أطراف أكمامه، أو عمامته.


المتن:
في باب جامع:
123- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء).
124- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته) وأُتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا، فسأل عنها، فأخبر بما فيها من البقول، فقال: ( قربوها إلى بعض أصحابه) كان معه، فلما رآه كره أكلها قال: (كل، فإني أناجي من لا تناجي).
125- عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل البصل أو الثوم أو الكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان).
وفي رواية: بنو آدم. وفي رواية: الآدميون.


الشرح:
هذه الأحاديث الثلاثة كلها تتعلق بالصلاة.
في الحديث الأول: يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)، وفي رواية أخرى: (ليس على عاتقيه منه شيء).
وهذا يدل على وجوب ستر العاتقين أو أحدهما في الصلاة، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك واجب في الفرض والنفل، وذهب آخرون إلى أنه واجب في الفرض فقط، وذهب الأكثرون إلى أنه سنة، ويجزئه أن يصلي في الإزار فقط، أو السراويل فقط، لأنه ستر العورة المغلظة، ما بين السرة والركبة.
والصواب ما دل عليه الحديث، وأنه لا يجوز له أن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، إن كان واسعا يلتحف به، وإن كان ضيقا يتزر به، ويجعل على عاتقه رداء مستقلا، مع القدرة، أو يلبس قميصا، أو ما أشبه ذلك مما يستر العاتقين أو أحدهما، عملا بهذا الحديث الصحيح، الذي رواه الشيخان في الصحيحين، ولا فرق بين الفرض والنفل لعموم الحديث، لأن قوله: (لا يصلي) عام يعم الفرض والنفل، وهذا القول هو الصواب من الأقوال الثلاثة، أنه يجب ستر العاتقين أو أحدهما في الفرض والنفل لهذا الحديث الصحيح وما جاء في معناه من الأحاديث الدالة على أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الواحد يشتمله كما قال لجابر: إذا كان واسعا فالتحف به، وإذا كان ضيقا فاتزر به، فهذا كله دليل على أنه مع القدرة يستر العاتقين أو أحدهما، ومع العجز يكفي المئزر والسراويل لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
والحديث الثاني والثالث: فيما يتعلق بالثوم والبصل والكراث، وأن من أكل شيئا منها فإن عليه أن يعتزل المساجد، ويعتزل المسلمين، فلا يصلي معهم، لأنه يؤذيهم بذلك، ولهذا قال: (فليعتزلنا، وليقعد في بيته) هذا يدل على أنه لا يجوز له حضور المساجد لأنه يؤذي المسلين، ويؤذي الملائكة، ولهذا قال: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان)، ولا ينبغي له أن يحضر المساجد حتى ولو في غير الجماعة، ولو لمجرد القراءة في المسجد أو نحو ذلك، لأنه يؤذي الملائكة، ولهذا قال: فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، ولا ينبغي له أن يأكله ما دام يعوقه عن الصلاة في الجماعة إلا من حاجة، إذا أكله لحاجة من جوع أو لدواء فلا بأس، وإذا تيسر أن يتعاطى ما يزيل الرائحة من الأدوية التي تزيل الرائحة فذلك كاف، وإذا أماته طبخا جيدا فإنه يزيل الرائحة، وإذا بقي شيء فيتعاطى ما يزيل الباقي من أنواع المزيلات التي يعرفها الأطباء ونحوهم ممن جرب هذه الأمور، وفيه أنه عرض عليه طبق فيه خضرات –وفي رواية قدر فيه خضرات- فوجد لها ريحاً، فقال: (قدموها لبعض أصحابه) فلما رآه لم يأكل منها ذلك الصحابي، كره أن يتعاطاها، فقال: (كل، فإني أناجي من لا تناجي) يعني جبرائيل، عليه الصلاة والسلام.
هذه بقول غير الثوم والبصل، وجد فيها عليه الصلاة والسلام ريحا ما ناسبه فتركها لئلا يتأذى بها جبرائيل عليه الصلاة والسلام، وأذن لأصحابه في أكلها، فالبقول التي ليس فيها رائحة الثوم والبصل والكراث لا بأس أن يأكلها الإنسان كالجرجير والخس وأشباه ذلك مما ليس له رائحة كريهة، فلا حرج في أكله، وإن كره بعض الناس بعض رائحته، لكن ليس مثل الثوم والبصل والكراث، هذه ينبغي تركها إلا في النادر، وإذا أكلها فلا يحضر المساجد ولا يصلي مع الناس، لئلا يؤذيهم بذلك، وفي معنى ذلك كل رائحة كريهة، كرائحة الأسنان. فبعض الأسنان لها رائحة شديدة يؤذي بها الناس، لا يحضر حتى يغسل فمه، ويتنظف ويجاهد، لعله يزول ما معه من هذه الرائحة الكريهة، وهكذا المدخن يجب عليه أن يجتهد حتى لا يؤذي الناس برائحة الدخان يستر على نفسه ويتباعد عن إظهار هذا المنكر، ولا يجمع بين إظهار المنكر وبين إيذاء الناس بالرائحة، والواجب عليه التستر بستر الله، وأن يحرص على ألا تظهر الرائحة لأحد من الناس لا في الصلاة ولا في غيرها.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
باب, جامع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:03 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir