القسم الثاني هو فصاحة الكلام
أي الأسلوب، وهي سلامته من تنافر كلامات مجتمعة، ومن ضعف التأليف ومن التعقيب مع اشتراط فصاحة الكلمات.
إذن هذه أربعة شروط اتفاقية لفصاحة الكلام، ويضاف إليها شرطان آخران خلافيان:
الشرط الأول: أن يكون الكلام خاليا من تنافر الكلمات
نحن ذكرنا في الكلمة الواحدة تنافر الحروف، هنا في الكلام تنافر الكلمات واضح، ففي الفصاحة فصاحة الكلمة الواحدة اشترطنا ألا تكون حروفها متنافرة، مثل هعخع , استشزر، وأما في الكلام فقد تكون الكلمة الواحدة منسجمة لا تنافر بينها , لكن إذا أضيفت إلى كلمة أخرى حصل التنافر ومنه:
(قبر حرب بمكان .......، وليس قرب قبر حرب تبر) فهذه الكلمات كل واحدة منها منسجمة ليس فيها تنافر في حروفها , لكن بجمع الكلمات حصل التنافر ـ واضح؟ ـ إذن هذا الشرط الأول، هو سلامة الكلام من تنافر الكلمات مجتمعات، معناه لا تنافر الحروف، تنافر الحروف ليس (غير مسموع) الفصاحة.
والثاني: سلامة الكلام من ضعف التأليف
وضعف التأليف أي ضعف التركيب؛ فإن كان الكلام ضعيف التركيب فهو غير فصيح، وذلك بأن كان فيه من الإضلال أو التقديم أو التأخير ما يجعله صعب الفهم , مخالفا للقانون المشهور في لغة العرب مثل قول الشاعر:
جفوني ولم أجف الأخلاء إنني ....... لغير جميل من خليلي مهمل
جفوني ولم أجف الأخلاء إنني ...... لغير جميل من خليلي مهمل
جفوني هنا الضمير يعود على متأخر لفظا ورتبة , وهو الأخلاء , فعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة مخالف للغة العرب لقاعدة النحو، فهذا ضعف في اللغة. واضح؟
جفوني ولم أجف الأخلاء إنني ........ لغير جميل من خليلي مهمل
جفوني , من هم (اللي) جفوك؟ الأخلاء.
فتأخر مفسر الضمير، فعاد الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، وهذا مخالف ...... اللغة وقاعدة النحو، فقاعدة النحو أن الضمير لا يعود إلا على مذكور، معروف، فإذا رجع الضمير على شيء لم يسبق له ذكره كان هذا ضعفا في النحو.
الشرط الثالث: خلو الكلام من التعقيد
سلامته من التعقيد , والتعقيد: ما يقتضي صعوبة الفهم بالتقديم والتأخير ونحو ذلك، كقول الفرزدقٍ
وما مثله في الناس إلا مملكاً ....... أبو أمه حي أبوه يقاربه
إذا كتبت هذا البيت لم تجد فيه كلمة غريبة، كله كلمات مفهومة لديك بل لدى الصبيان:
وما مثله في الناس إلا مملكاً ....... أبو أمه حي أبوه يقاربه
لكن إذا أردت تركيبه لم تفهم معناه، كل كلمة منه وحدها مفهومة، لكن بالتركيب لا يفهم؛ لأن فيه تقديما وتأخيراً، فأصل الكلام: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه.
فهو هنا يمدح رجلا من بني مخزوم كان خالا لهشام بن عبد الملك , خال هشام بن عبد الملك الخليفة، فيقول: إن هذا الرجل المخزومي ما مثله في الناس أحد حي يقاربه إلا مملكاً أي إلا هذا الملك الذي هو خاله، إلا مملكاً أبو أمه أبوه، أي أنه خاله، فهذا التعقيد غير فصيح.
الشرط الرابع: سلامته من عدم فصاحة الكلمات
فلابد في الكلام أن تكون كلماته فصيحة حتى يكون فصيحا، إذا كان الكلام فيه كلمة غير فصيحة فهو غير فصيح، وأن الكلمة هي مفردة الكلام , فإذا كان فيه فرد واحد غير فصيح لم يكن هو فصيحا.
إذن هذه الأربعة هي الشروط الاتفاقية، وأهمل هو شرطين خلافيين:
الشرط الأول: ألا يكثر التكرر
ألا يكثر التكرر فيه , إذا كان الكلام ذا تكرر فهذا غير فصيح:(جاء زيد، فقام زيد، جلس زيد) تكرار كلمة زيد هنا غير فصيح، فهذا الكلام بسبب التكرار فيه غير فصيح، لكن يستثنى من ذلك ما إذا كان التكرار لنكتة بلاغية لابد منها، كقول الله تعالى:{وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم} وكذا قال بعد هذا: {قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} في هذه الآيات قال:{فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه} فهذا فيه تكرار، لكن هذا التكرار لا يخرجه عن الفصاحة؛ لأن التكرار بسبب نكتة لابد منها، فلو قال:
فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها منه، أوهم هذا أنه استخرج الصواع من أخيه، وهذا غير أدب، وإذا قيل: ثم استخرجها من وعائه، أوهم ذلك أنه استخرجها من وعاء يوسف نفسه , فيكون هذا خداعاً وهو غير صحيح، فكان لابد من التكرار، فالتكرار إذن لنكتة لابد منها، فهذا النوع فصيح قطعاً.
الشرط الخامس.. أقصد السادس:
خلوه من الإضافات من كثرة الإضافات والضمائر، فالكلام الذي تكثر فيه الإضافات، في الغالب يكون غير فصيح، ولذلك يقال: إن أحد النقاد لقي صديقا له فسأله: من هذا الذي معك؟
قال: غلام امرأة خازن بيت المال , غلام امراة خازن بيت المال.
فقال له أف: لمن لا يعرف إلا بهذا الكلام الطويل، لا يعرف إلا بهذا الكلام الطويل.
فالأصل أن الإضافة يتعرف بها صاحبها، فلو قلت: غلام فلان , عرف، لكن أنت قلت غلام امرأة , فلم يعرفه ذلك، فقلت امرأة خازن , فلم يعرف الخازن أيضا فقلت: خازن بيت , فلم يعرف البيت، فقلت المال؛ حتى عرف، فهذا النوع من كثرة الإضافات يمنع الفصاحة في الغالب، وقد يرد بعض الإضافات قليلا , لكن قد يتخلص منه أيضا في بعض الأساليب في قول الله تعالى: {فأخذت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي} قبضة من أثر الرسول، أصل الكلام من أثر حافر فرس الرسول؛ لأن الأثر ليس للرسول نفسه بل هو لفرسه، والفرس أيضا ليس لكلها، بل لحافرها فقط فهمت , فحذف بعض المتضائفات تخلصاً من هذا المعنى معنى الفصاحة فإنه لو قال: فأخذت قبضة من أثر حافر فرس الرسول لكان هذا كثير الإضافات، فحذف بعض المتضائفات التي لا تفيد فقال: {فأخذت قبضة من أثر الرسول فنبذتها}.
كذلك كثرة الضمائر؛ لأنها تقتضي خفاء كقول أبي الطيب المتنبي:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة ....... سبوح لها منها عليها شواهد
سبوح لها أي: لهذه الفرس لها شواهد، عليها أي: على تفوقها، منها , أي من خلقتها وعملها، فكثرت الضمائر فكان هذا غير فصيح.
قال: فالتنافر وصف في الكلام يوجب ثقله على اللسان وعسر النطق به , نحو (في رفع عرش الشرع مثلك يشرع) هذه الكلمات في حد ذاتها كل واحدة منها فصيحة ليس بها تنافر ولا غرابة , وليست الكلمات في حد ذاتها فيها أي مشكلة مخالفة للغة، لكن بترتيبها هكذا صعبت على اللسان.
في رفع عرش الشرع مثلك يشرع، فصعب النطق بها هكذا , وكذلك: وقبر حرب بمكانٍ قفر وليس قرب قبر حرب قبر. فيصعب أن ينطق به اللسان بسرعة إلا اختل عليه بعض تركيبه، ليس ذلك راجعا إلى عدم فصاحة في الكلمات، لكنه راجع إلى التنافر فيها , الكلمات في ذاتها متنافرة فيما بينها، وكذلك قول أبي تمام:
الكريم متى أمدحه أمدحه والورى ...... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
الكريم متى أمدحه أمدحه والورى ...... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
تكرار كلمة أمدحه أمدحه صعب على اللسان؛ لأن فيها حرفا حلق في كل واحدة منهما، الحاء والهاء، فلو قلت: متى أمدحه مرة واحدة لم يكن في هذا مخالفة للبلاغة والفصاحة، لكن لما تكررت أمدحه أمدحه صعب ذلك , فكان تنافراً. وضعف التأليف كون الكلام غير جارٍ على القانون النحوي المشهور كالإضمار قبل مثل أي عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة قبل ذكر لفظاً ورتبة، في قول الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ...... وحسن فعل كما يجزى سنمار
جزى بنوه: الضمير هنا على ما يعود أبا الغيلان , فالضمير هنا يعود على الأب الذي لم يأت بعد، فكان في هذا عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة وهو ضعيف في اللغة.
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ........ وحسن فعل كما يجزى سنمار
والتعقيد أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد، وقد ذكرنا مثاله في قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا...... أبو أمه حي أبوه يقاربه
والخفاء إما أن يكون من جهة اللفظ , الخفاء إما أن يكون من جهة اللفظ بسبب تقديم أو تأخير أو فصل، ويسمى هذا تعقيدا لفظياً , كقول أبي الطيب المتنبي:
(سبقت (كلام غير مسموع) شيم على الحسب الأغر دلائل)
فأصل الكلام سبقت بهم وهم لا (كلام غير مسموع) بها أي: ارتفعت بهم وهم لا يرتفعون بها، شيم على الحسب الأغر دلائل , فهذا التقديم والتأخير أدى إلى الخفاء؛ فإن تقديره (كلام غير مسموع) بهم شيم دلائل على الحسب الأغر وهم لا يسبقون بها، وإما من جهة المعنى بسبب استعمال مجازات وكنايات لا يفهم المراد بها، ويسمى هذا تعقيدا معنوياً كقولك:
نشر الملك ألسنته في المدينة. هو الكلام المعهود أن يقال: نشر عيونه في المدينة، والمقصود بهم جواسيسه، فإذا قلت: نشر ألسنته في المدينة كان هذا غريباً معقداً؛ لأنه ليس جارياً على المألوف في الكلام، فهو مجاز مريدا جواسيسه، والصواب نشر عيونه، ومثله قول الشاعر:
سأطلب بُعد الدار عنكم لتقربوا ...... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ...... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
هو يقول: إنه سيتسلى عنهم ببعد الدار حتى تقرب قلوبهم لعلهم يرقون له إذا بعد عنهم، (وتسكب عيناي الدموع) أي: أبكي , أصبر على بعدكم فأبكي فيه لتجمدا، أي: ليزول البكاء عندما تقتربون إليّ، لكنه عبر عن عدم البكاء هنا بقوله: لتجمدا , مع أن الجمود في الأصل هو طلب الإنسان البكاء فلا تسعفه عينه.
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ...... عليك بجاري دمعها لجمود
عشية قام النائحات وشققت ....... جيوب بأيدي مأثم وخدود
فهنا قال:
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ....... عليك بجاري دمعها لجمود
يعني: هذا سبب للبكاء , لكن في هذا البيت لتجمد، ليس المقصود أنه يطلب البكاء فلا يبكي، وجمود العين أن تطلب البكاء فلا تبكي، فهذا غير مقصود هنا إنما يقصد لئلا تبكي، وتبكي عيني الآن صبرا على البكاء؛ لئلا تبكي في المستقبل عندما يقع الوصل، واضح؟
هو في هذا البيت يقول لأحبابه: إنه سيتصبر عنهم , فيبتعد عنهم لتقترب قلوبهم منه ويرحموه، ويصبر في بعده على البكاء حتى يصل إلى القرب فيزول البكاء، فالصبر على البكاء سبب لإزالة البكاء عندما يحصل القرب، والصبر على البعد سبب للقرب والمودة ـ صحيح؟ ـ لكنه عبر عن عدم البكاء عند الوصل والالتقاء بالجمود، وهذا التعبير غير معهود، فالجمود إنما يعبر به عن طلب البكاء فلا تساعده عينه ـ واضح؟ ـ هذا المعنى هو نظير قول أبي الطيب المتنبي:
كأن سهاد العين يعشق مقلتي ....... فبينهما في كل هجر لنا وصل
كأن سهاد العين: وهو السهر , يعشق مقلتي أي: عيني , فبينهما أي: السهاد والعين , في كل هجر لنا وصل: إذا لم نلتق نحن التقيا.. التقيت العين وسهادها , وإذا اجتمعنا نحن افترقت العين وسهادها. واضح؟
كأن سهاد العين يعشق مقلتي ....... فبينهما في كل هجر لنا وصل
فكذلك هنا يقول:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ...... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
حيث كنى بالجمود عن السرور , مع أن الجمود يكنى به عن البخل بالدموع وقت البكاء.