لمحات من التاريخ العلمي للكوفة
أوّل ما اختطّت الكوفة في صدر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد فتح المدائن، وكان فتح المدائن في شهر صفر سنة 16هـ بعد القادسية بنحو عامين، وكان سعد بن أبي وقاص قد نزل بمن معه من المسلمين في المدائن؛ فاجتووها، وتغيّرت أمزجتهم وظهر ذلك في أخلاقهم فشكوا ذلك لعمر؛ فذُكر أنّ عمر قال: (إن العرب لا يصلحهم إلا ما يصلح إبلهم).
فارتادوا مكاناً يصلح لإبلهم فوقع اختيارهم على الكوفة، وكانت أرضاً سهلة حسنة التربة يخالط رملها حصباء، ولذلك كانت تسمى "خدّ العذراء" يجري عليها نهر الفرات، وفي وسطها جبل صغير يُسمّى "كوفان".
نزلوا الكوفة وأميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فخطّطها خططاً، وجعل لكل قبيلة من القبائل التي معه خطّة وهي بمعنى "الحيّ" في عصرنا، وذلك لأجل أن يتجاور كل ذوي قربى في منازلهم، ولكل حيّ مسجد.
وكان الذي تولّى تخطيطها أبو الهيّاج الأسدي واسمه حيان بن حصين، وكان تخطيط الكوفة تخطيطاً عسكرياً، لأنها كانت بلدة لسكنى المجاهدين في العراق؛ فبنى وسطها مسجداً كبيراً جامعاً يسع نحو أربعين ألف إنسانٍ على عدّة المجاهدين منهم ذلك الوقت، وجعله من النهر رمية بسهم.
وجعل بين الأحياء مناهج تتصل بالمسجد الجامع، والمناهج هي الطرق الواسعة، عرض كلّ منهاج نحو خمسين ذراعاً، وذلك لأجل أن يتسع الطريق لمرور جماعة كبيرة من الجند.
فكان إذا أراد أن يجهّز جيشاً اجتمع الجنود من أحياء الكوفة حتى يصلوا إلى المسجد الجامع فيخطب فيهم أمير الكوفة ويوصيهم ويعقد الراية لقائد الجيش؛ ثم ينطلقون إلى وجهتهم.
وكان أوّلَ أمير الكوفة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وبقي في الإمارة خمس سنين، ثمّ عزله عمر، وولى عمارَ بن ياسر سنة، ثم المغيرة بن شعبة سنة، وقتل عمر والمغيرة على الكوفة.
وكانت البيوت في أوّل الأمر من الخُصّ؛ إذا أقاموا في الكوفة بنوها، ثم إذا أرادوا الغزو نقضوها، وكانوا يغزون بأهلهم؛ فإذا رجعوا بنوها، ثم اتخذوا أبواب الآجرّ بعد ذلك بسنوات.
ولما ولي عثمان بعث سعد بن أبي وقاص إلى الكوفة فتولى إمارتها سنة، ثم عزله وولى الوليد بن عقبة؛ فمكث خمس سنين، ثم عزله وولى سعيد بن العاص بن العاص بن سعيد الأموي؛ فمكث خمس سنين إلى أن ثار عليه أهل الكوفة وتحزبوا ضده، فلما سافر إلى المدينة ثم أراد الرجوع إلى الكوفة وقفت له سريّة من الكوفة بعث بها الأشتر النخعي وكان زعيماً مطاعاً في الكوفة، وأجبروه على الرجوع إلى المدينة، وأرادوا أن يولوا أبا موسى الأشعري فأبى عليهم إلا أن يجددوا البيعة لعثمان، ويكتب إليه يستأذنه؛ وكان قد عظّم عليهم ما صنعوا؛ فلما ورد على عثمان كتاب أبي موسى أعجبه ما صنع من جمع الكلمة وأقرّ الأشعري عليهم.
وقد قال شاعر أهل الكوفة في قصيدة له:
تصدّق علينا يا ابنَ عفان واحتسب ... وأمّر علينا الأشعريّ لياليا
فروي أن عثمان قال: (نعم وشهوراً وسنين).
وكان هذا أوّل ما اجترئ على عثمان، وقد دفع الله هذه الفتنة الأولى بما يسّر لأبي موسى من جمع الكلمة، وبحلم عثمان رضي الله عنه، وصفحه عنهم، وبقي أبو موسى أميراً على الكوفة إلى أن توفي عثمان رضي الله عنه.
ثم لما آلت الخلافة إلى عليّ ولّى على الكوفة قرظة بن كعب الخزرجي، ثم انتقل عليّ إلى الكوفة.
فهؤلاء أمراء الكوفة في زمن الخلفاء الراشدين، وكلهم من الصحابة رضي الله عنه، وقد وليها في زمن معاوية: المغيرة بن شعبة إلى أن توفي سنة 50هـ، ثم زياد بن أبيه إلى أن توفي سنة 53هـ، ثم النعمان بن بشير بضعة أشهر، ثم الضحاك بن قيس نحو ثلاث سنين، ثمّ عبيد الله بن زياد وفي عهده كان مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما.
ثم تعاقب على الكوفة أمراء في عهد ابن الزبير، وعهد بني أمية وجرت فتن عظيمة إلى أن استقرّ الحكم لعبد الملك بن مروان ودخل الكوفة بعد مقتل مصعب بن الزبير سنة 72هـ، ثم استخلف على العراق أخاه بشر بن مروان؛ فبقي أميراً عليها حتى توفي سنة 75هـ؛ فبعث عبد الملك الحجاج بن يوسف أميراً على العراق؛ فحكم العراق عشرين سنة.
وكانت الكوفة بلداً زاخراً بأهل العلم والفضل والجهاد في الثغور.