فَتَأْوِيلُ الصِّفَاتِ هُوَ الحَقِيقَةُ الَّتِي انْفَرَدَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا، وَهُوَ الكَيْفُ المَجْهُولُ الَّذِي قَالَ فِيهِ السَّلَفُ كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ: (الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ ) فَالاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ ويفسر ويترجم بلغة اخرى، وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ الاسْتِوَاءِ فَهُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ تَعَالَى(1).
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (تَفْسِيرُ القُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ العَرَبُ مِنْ كَلاَمِهَا، وَتَفْسِيرٌ لاَ يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ العُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لاَ يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ مَن ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ ).
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )، وَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ( يَقُولُ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ).
وَكَذَلِكَ عِلْمُ وقتِ السَّاعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِنْ كُنَّا نَفْهَمُ مَعَانِيَ مَا خُوطِبْنَا بِهِ، وَنَفْهَمُ مِنَ الكَلامِ مَا قُصِدَ إِفْهَامُنَا إِيَّاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [مُحَمَّدٌ: 24 ] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ } [الْمُؤْمِنُونَ: 68 ] فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ القُرْآنِ كُلِّهِ لاَ بِتَدَبُّرِ بَعْضِهِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: (حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا القُرْآنَ: عُثْمَانُ بْنُ عفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنَ العِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا القُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا)(2).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (عَرَضْتُ المُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ أَسْأَلُهُ عَنْهَا ). وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (مَا ابْتَدَعَ أَحَدٌ بِدْعَةً إِلاَّ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بَيَانُهَا ). وَقَالَ مَسْرُوقٌ: (مَا سُئلَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ وَعِلْمُهُ فِي القُرْآنِ، وَلَكِنَّ عِلْمَنَا قَصُرَ عَنْهُ).
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.